الذين جابوا الصخر بالواد
( هادي أبو عامرية )
كاتب وباحث سعودي
كاتب وباحث سعودي
في مقالاتي السابقة عن مواطن الجاهليين في جزيرة العرب كتبت عن مملكة حجر ابن عمرو الكندي, وعن أصحاب داحس والغبراء " لم ينشر بعد ", أما هذا المقال فـلـم يــكـن بـحثاً في بـطون الكتب كـسابـقـيه, بل يشمل إلى جانب ذلك جولات ورحلات ميدانية في أشد مناطق جزيرة العرب وعورةً, وأعجبها تضاريس, فهو حقاً مكابدة وعناء بحث ميداني قارب العام, ومعاناتي كانت ذات ثلاث شعب –نفسية وجسدية ومالية- أما المعاناة النفسية فبسبب ما كنت أسمعه من القريب والبعيد, لقد كان يسألني البعض أين ذهبت فأقول إلى جبل القهر للبحث عن مدائن صالح فــيضحك ويلتفت إلى من يكون حاضراً ويقول: ذهب يبحث عن ناقة صالح, وهذا مثل في منطقتنا يضرب لاستحالة الأمر, كأن تسأل من يئس من أمر ما: متى يكون ذلك؟ فيجيب: إذا قامت ناقة صالح, وأما الجسدية فلأني قمت بهذا البحث الميداني وأنا في الستين وأحمل في صدري جهازاً منظماً لضربات القلب, في جبل تكل فيه جوارح الطير, وأما المادية فلأني غير مكلف من جهة علمية, حكومية أو غير حكومية, لقد كنت أصرف على هذا البحث من قوت أولادي, آسف لاستخدام من التبعيضية, فقوت أولادي لا يمكن أن يؤخذ إلا كاملاً, لأنه كما قال الجاحظ جزء لا يتجزأ, ولقد تجلى لطف الله بي في هذا البحث أن أخذ لي بناصية شاب شهم كان يترك عمله ويصحبني يقود بي السيارة في هذا الجبل الوعر, وخبرتي في قيادة السيارة بعمر صاحبي هذا, ولكني تيقنت أني إن قدت السيارة سأرتكب خطأ لا محالة فأنا رجل يشرد ذهني باستمرار, وفي الغالب قد يكون الخطأ مميتاً, لا ادري كيف أشكر الأخ يحيى علي معيض الشمراني على ملازمته لي في كل رحلاتي وتحمله الخصم من راتبه في كل مرة, واحتماله الماء القراح على قطع الكيك الجافة, فهل من المروءة أن لا أذكره في هذا المقال وأشكره, وأول بحثي عن مواطن ثمود كان بالقراءة والإطلاع في كتاب الله أولاً, وفي كتب التاريخ ثانياً, و هآلني أن أجد المفسرين جميعاً في تفسيرهم لقوله تعالى في سـورة الـحـجر: ((وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ)) يـجـمـعـون عـلـى أن الـحـجر المذكور في الآية يقع بين مكة وتبوك أو بين الحجاز والشام, مستشهدين بما قاله الأزهري والطبري أي " حجر وادي القرى " وتتبعت أدلتهم فلم أجد دليلاً واحداً يمكن الأخذ به, والأرجح أن قوم لوط هم أصحاب ذلك الموقع المعذب أهله, والمنحوتات في جبل الحجر أو جباله ما هي إلاّ قبور حفرها الأنباط لموتاهم كما تدل الكتابات التي عليها, وهي غير صالحة للسكنى ولم تكن صالحة قط, ثم إن ما يعرف بالخط الثمودي ما هو إلاّ وهم من قائليه وأحسبه يخص العماليق أو الأنباط, أما ثمود فقد كانوا قــبـل مــعرفة الإنسان بالكتابة, إن القرآن الكريم ذكر لنا أن أول صحف كانت زمن أبينا إبراهيم, وما أنزل الله إليهم صحفاً إلاّ وهم أمة قارئة, ولم يرد مثل هذا في قوم نوح وعاد وثمود, ولا يتسع المقال للرد على أدلة القائلين إن حجر وادي القرى هو موطن ثمود, وجميعها مردود عليه, ويمكن الرد عليها بإيجاز, فجميع الأحاديث الواردة في غزوة تبوك لا تصرح أن أصحاب حجر وادي القرى هـــم ثمود, والذي يصرح منها لا يمكن الأخذ, به فالحديث الذي ورد فيه ذكر أبي رغال أنـه مـن ثـمــود لا يطمئن إليه القلب, فقد ذكر فيه أبو رغال معرفاً وأبو رغال(1) المعروف كان زمن الفيل, وثمود كانت قبل أبينا إبراهيم بما لا يعلم إلاّ الله من القرون, أما الحديث الذي يذكر البئر التي كانت تشرب منها الناقة(2) فيرده العقل والمنطق, فـــــالناقة يجب أن تشرب بنفسها, ولو كانت تشرب من بئر لاحتاجت إلى من يجذب لها الماء من البشر, ولو كان الأمر كذلك لما احتاجت ثمود إلى عقرها, بل يكفيهم أن يمتنعوا عن جذب الماء لها فتهلك عطشاً, وحجر وادي القرى يقع على طريق قوافل - بسبيل مقيم – وقــد قال جـلّ وعلا لثمود: ((أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ )), وهذا يدل على أنهم كانوا في موقع حصين بتضاريسه, يحقق لهم الأمن و العزلة, وأحسب أن كلمة الحجر في الآية جاءت لبيان ما امتن الله به عليهم من نعمة الأمن, بسبب حصانة الموقع, وسبب تفسير المفسرين للحجر بحجر وادي القرى شهرة الاسم وشهرة القبور النبطية في ذلك الموقع, وما ذكر في هذا الشأن من أحاديث لم يتم تتبع رواتها وروايتها, لأن علماء الفقه يتساهلون في أخبار التاريخ, إذ ليست هي من أمور التشريع, فإذا كان رأيي هذا وافق الحق فــحـجــر الـمـديـنـة ليس موطن أصحاب الناقة, ولا أدري هل في حجر المدينة جنات وعيون أم لا, ويغلب على ظني أن أرض ثمود كانت وعرة غير مناسبة لحياة الإبل, لذلك سألوا نبيهم أن يخرج لهم من صخرة ناقة ليجمعوا عليه إعجازين, الأول اسـتـحالـة تـولـد حـــيّ مـــن جــمـاد بـقـدرة الـمـخـلـوق, الثاني ضـمـان عدم الاحتيال في إدخال الحيوان المطلوب في الصخرة وإخراجه مــنــها بأي حـيـلـة كانت, فـالـحـيوان المطلوب لا وجــــــــــود له بأرضهم, وحجر المدينة بانفتاحه على نجد أرض إبل.
زمن ثمود:
أول الأمم أمة نوح عليه السلام, هكذا تسلسل الأمم في القرآن الكريم, فلما أغرقهم الله ونجى من آمن بنوح في السفينة استقرت تلك الأمة في الأحقاف وكانت منهم قبيلة عاد, هذه رواية القرآن الكريم أحسن القصص, قال تعالى في سورة الأحقاف مخاطباً عاداً: (( وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً )), فلما أرسل الله عليهم الريح العقيم نجى هوداً والذين آمنوا معه إلى الأرض التي كانت فيها ثمود قال تعالى في سورة الأعراف على لسان نـبـيـه صـالـح مـخـاطـباً ثـمـود: (( وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْض ِ)), فلما أهلك الله ثمود نجى نبيه صالحاً ومن معه إلى أرض لم يرد لها تعريف في القرآن وإن كان في كتاب الله أن أبينا إبراهيم كان بعد ذلك, ولا صحة لقول من قال إن أبينا إبراهيم أدرك نـبي الله نـوحاً وفي قصة أصحاب الأيكة ما يفيد بتقدم ثمود وتأخر نبي الله إبراهيم عليه السلام, قال تعالى في سورة هود على لسان نبيه شعيب مخاطباً قومه أصحاب الأيكة: (( وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ )), ومن المعلوم أن لوطاً عليه السلام كان معاصراً لأبينا إبراهيم, وهذا يعني أن ثمود أقدم من فراعنة مصر.
آية التمكين لثمود:
يتفضل الله على كل أمة بتمكينهم من أمر ما, فإذا غرتهم قوتهم وانصرفوا عن شكر الخالق الذي هداهم لذلك, ويسره لهم, ذكرهم نعمته, فإذا تمادوا في طغيانهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر, ليكونوا عبرة لمن بعدهم, يعرفون منها أن القوة لله وحده ولقد ذكر لنا القرآن ما مكن الله فيه بعض الأمم, كمدينة إرم, وقطع ثمود الصخور العظام وأهرامات الفراعنة, وسد مأرب.
لقد فكرت كثيراً في قوله تعالى في سورة الفجر: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ )), بعض المفسرين يذهب إلى أن إرم قبيلة لا مدينة, والذي أعتقده أنها مدينة, لأن الله جلّ جلاله ذكر عن كل أمة ما مكنها فيه من عظيم الصنع فثمود قطعوا الجبال ونحتوها, والفراعنة بنوا ما يشبه الجبال, ووجب أن تكون إرم من صنع عاد لا عاداً نفسها, ولقد ترسخ في ذهني أن قطع ثمود للصخور كان عملاً عظيماً قد يكون كالأهرامات, وكنتيجة لهذا الاعتقاد بدأت أفكر في الآثار الموجودة في حجر المدينة, هل هي موافقة لما تحدث به القرآن الكريم عن ثمود, الذي يجعلني أشك في كونها من عمل ثمود أولاً أنها ليست بيوتاً, و لاهي صالحة للسكنى البتة الأمر الثاني أن الكتابات التي عليها كتابات نبطية(1), والقبور حفرها الأنباط لــمــوتاهــم, أضف إلى ذلك أن كثيراً من علماء الآثار زاروا تلك القبور ولم يجدوا فيها ولا فيما حولها ما يدل على ثمود(2), وهذا ما جعلني أقرر زيارة المنطقة التي يدعي أهلها أن الناقة كانت بأرضهم, وأن جـــبــلاً مــشــقــوقاً لديهم يسمع منه صوت بعير, وكان ما سأكشف عنه في هذا المقال,ولكن قبل ذلك أود القول إن معنى قوله تعالى: (( وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ )) أي قطعوا, فالجوب هـو القطع والأسلوب الذي حـفـرت بـه الـقـبـور الـتي فـي الـحـجـر لا يوافق صفة القطع فالقطع يشق المقطوع لا يثقبه, والله جلّ جلاله ذكر عن ثمود نحتهم الجبال للسكنى والمفسرون ذهبوا إلى أن المـراد واحد "القطع والنحت" ولا أحسب هذا صائباً, قــال تــعــالـى فـي سـورة الأعراف: ((وَتَـنْـحِتُونَ الْـجِبَالَ بُيُوتاً )), وقــال عــزّ مـن قــائـل فــي ســــورة الـشـعـراء: (( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً )), لا أظن الذي لم يشاهد الجبال المنحوتة في موطن ثمود في منطقة جيزان يلمس دقة التعبير في الآيتين, أما الذي يشاهد تلك الجبال في جبل القهر يجد دقة المعنى تتجلى في تلك البيوت التي لا تزال مسكونة إلى يومنا هذا, ولعله يقول مثلما خيل إليّ حيث قلت إن قبور حجر المدينة لو جاز أن نقول عن عملها نحتاً فالأولى أن نقول في غير لفظ الآية "في الجبال بيوتاً", فهو أوفق لماهيتها, ولا نقول "من الجبال بيوتاً" والنحت هو البري كفعل النجار في الخشب بالقدوم, قال الـشاعر:
موقع ديار ثمود من منطقة جيزان:
تقع ديار ثمود في جبل القهر شرقي مدينة بيش, على بعد ثمانين كيلومترا على وجه التقريب, وجبل القهر أعظم وأعجب جبال تهامة دون استثناء, ويسمى كذلك زهوان ويعد من جبال الغور " تـهــامـة ", ووجه الغرابة فيه أنه يمتد في شكل دائري, بقطر خمسين كيلاً, تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً, والمساحة داخل الدائرة تتكون من حداب وأودية, وهو حجر حصين لا يستطيع غير سكانه الوصول إليه, فجبل القهر جميع جهاته الخارجية كالجدار, صــخــور مـلـسـاء لا سـبيـل لرقيها, وليس له غير طريق واحدة من جهة الغرب, يتحكم فيها سكان هذا الجبل فيسدونها وقت شاءوا, ولا يعرفها غيرهم, كان هذا إلى عهد قريب, ويقال إن للجبل طريقاً أخرى من ناحية الشرق تتصل بقحطان, أشد وعورة من الطريق الغربية المتصلة بسهل تهامة وليست الوعورة مقصورة على الجهات الخارجية للجبل بل تجد المنحدرات الملساء التي لا يمكن تسلقها أو الانحدار منها داخل الجبل, حول المزارع على وجه الخصوص, ولا تخطئ العـين أثـــر الـقـطع فـي هـذه الـصخور, وسوف نأتي على ذكر ذلك, وسكان هذا الجبل هم قبائل الريث, نسبةً إلى ريث بن غطفان تمازجوا وانصهروا مع أبناء حطيط بن ثقيف "منبه", بضم الحاء, وحلف غطفان وأبناء حطيط بن ثقيف مذكور في كتب التاريخ, كان قبل الإسلام, هذا رأيي, لم أسأل فيه أحداً, وإذا تمعنت في السفح الغربي الخارجي للجبل يتردد في صدرك أنه قُطِع بفعل فاعل حتى صار كالجدار, خاصة الطرف الجنوبي من ذروته الغربية.
ثمود حضرموت وعمان:
شاهدت ذات يوم في التلفزيون خبراً مصوراً يدعي منتجه أن ثمود كانت بأرض عمان, وعرضوا صورة قَبر, قالوا إنه قبر نبي الله صالح, وشاهدت فلماً آخر يتحدث عن آثار حضرموت, يعرض فيه صاحبه قطعة من الأرض جوار جبل وهو يقول هاهنا كانت تبرك ناقة نبي الله صالح, ولم يقدم أي من الفلمين دليلاً أو شبه دليل يمكن أن يؤخذ به, فكل ما عرض في الفلمين مجرد تخرصات وأوهام أميين, ليس لها حظ من المنطق.
ثمود في كتب التاريخ:
تواترت روايات المفسرين والمؤرخين على أن ثمود كانوا أهل أوثان, وفي كتاب الله أنهم كانوا يعبدون غير الله, دون تبيان لمعبودهم أوثان أو كواكب أو شجر وكانوا حسب روايات المؤرخين - وحسب منطوق الآيات الواردة فيهم- في رفاغة عيش وبعض المؤرخين يزعم أن غالب أموالهم الماشية, وورد في القرآن أنه كان لهم جنات و زروع ونخل, وبعث الله إليهم عبده صالحاً يحاجهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده, فسألوه كضرب من التحدي أن يخرج لهم ناقة من صخرة بعينها(1), يذكر ابن الأثير أن هذه الصخرة كانت بموضع تجتمع فيه ثمود في يوم عيدها(2), أي أن خروج الناقة من الصخرة كان في يوم عيدهم وهم مجتمعون في ذلك الموضع, أما الطبري فيقول إن نبي الله صالحاً خرج بهم إلى تلك الصخرة وقد عاهدوه على الإيمان إن أخرج منها ناقة, فدعا الله فتمخضت الصخرة تمخض النفساء, أي أنَّت وتوجعت حتى خرجت منها ناقة عشراء, ما لبثت أن تمخضت ووضعت فصيلها سوف يدهش القارئ من الصور التي ترد لاحقاً ثم لا يجادل في صحة هذه الرواية والذي أنا على يقين منه أن قبائل الريث أو معظمهم لا يعلمون أن الناقة خرجت من صخرة, ولا أنها خرجت عشراء وتمخضت عن سقبها, إنما قادوني إلى موضع لأرى أثر أخفاف توارثوا أنه أثر الناقة, وهم لا يعرفون شيئاً عن الصخرة و الفصيل, وسيدهش القارئ إذا علم أن الصخرة وأثر الفصيل وأثر الناقة مجتمعة في موضع واحد.
عدم وفاء ثمود بما اشترط عليهم:
اشترط الله جلّ جلاله على ثمود أن يذروا ناقته ترعى حيث شاءت من أرض الله ولا يمسوها بسوء, وأن لا يقربوا الماء يوم وردها, وكانت لا ترد في غير يومها وبحكم الطبع البشري, وتأثير الطالح على الصالح, غلب السفهاء على أمر ثمود وتآمر ثلاثة نفر على عقرها, رجلان وصبي, والصبي هو من عقر الناقة, والذي أرجوه من القارئ أن يذكر أن بين المتآمرين صبي صغير, ويرجح أن ثمود كانت راضية سلفاً بما عقدوا العزم عليه من عقر الناقة.
أمر الفصيل:
اختلف المؤرخون في أمر الفصيل, فعند الطبري أن نبي الله صالحاً حين جاءه خبر عقر ثمود الناقة, خرج إليهم فتبرءوا من عقرها, وقالوا إنما عقرها فلان فقال أدركوا الفصيل فإن أدركتموه نجوتم من العذاب, فنفر حتى صعد قارة, فحاولوا اللحاق به فاستطالت القارة حتى بلغت عنان السماء(1), وعند البعض أنهم قتلوه وجمعوا لحمه على لحم أمه, وروى القرطبي أنه دابة الأرض التي تخرج في آخر الزمان(2) بين يدي طلوع الشمس من مغربها تكلم الناس, واستشهد بما رواه أبوا داود الطيالسي عن حذيفة بن أسيد الغفاري في ذكر الدابة " ولم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام" وقال الرغاء إنما يكون للإبل, ثم فسر ذلك فقال " وذلك أن الفصيل لما عقرت أمه هرب فــانــفــتح له حجر فدخل في جوفه, ثم انطبق عليه, فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عزّ وجلّ ", أرجو أن لا تغيب هذه الرواية عن ذهن القارئ.
رحلتي إلى جبل القهر موطن ثمود:
لقد قدمت تعريفاً بجبل القهر وكيف أنه كمحيط الدائرة وفي طرفه الغربي في أعلى قمة منه أرض مستوية أقل من كيلومتر مربع تعرف بالرهوة, وتمثل هامة القهر التي تتفرع منها سائر الطرقات, ولأننا خرجنا من بيش عصراً بتنا ليلتنا في الرهوة وبكرنا في الصباح متجهين إلى الشمال الشرقي, ثم انحدرنا إلى الواديين حيث مزارع محدودة للذرة والدخن, لم أر في خصوبة تربتها, وكنت منقاداً للفريق المرافق, بسبب عدم معرفتي بالمنطقة وآثارها, ولم تكن قد تولدت لدي فكرة ما لذلك لم أنتبه للآثار العظيمة حول مزارع الواديين, التي كانت في الرحـلات الــتـالـية الــكـتـاب الـذي قـرأت مـنـه حـضـارة ثـمـود, وكـأنـمـا قـولـه تـعـالــى: (( وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ )) مسطور على صفحة الجبل, لقد كانت ثمود تقطع الجبال العظام لغايات وليس عبثاً, والذي جعلني لم أتنبه لتلك الآثار في تلك الرحلة مشابهتها لفعل الطبيعة في العين غير الفاحصة, ولأن الفريق كان همه أن يريني قبراً في ذروة من الجبل, لا يصل إليه إنسان أو حيوان, وكانوا مشغولين يبحثون عن جواب السؤال: من قبره في ذلك الموضع؟ ووجدت الجواب في الرحلات التالية في قوله تــعـالى: (( وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ )), لقد كان الجبل أسفل القبر مقطوعاً كالجدار, والظاهر أن القبر سبق القطع, وعبثاً حاولت أن أزيل عن أذهان مرافقي قناعتهم بالأساطير التي تحاك حول القبر, وقد أفلحت فيما بـعـد بعد أن أقنعتهم أن الكهوف التي يسكنونها, والمنحدرات الصعبة التي يرونها, وغـيرها وغيرها, بفعل الإنسان لا بفعل الرياح أو المصادفة, وفي تلك الرحلة لم أجد بداً من السكوت وعدم الرد على أساطير الرجل الخارق الذي صعد ذلك المكان الذي لا يرتقيه إنسان أو حيوان, وهو في الرمق الأخير, ثم تمدد في قبره, ووضع سيفه بجواره, واستقبل ملك الموت, وكان همُّ أصحابي في هذه الرحلة أن أرى ثلاثة مواضع, أثر الناقة ومنحرها, والصخرة التي طبع فيها عاقروها أكفهم, والجبل الصغير المشقوق الذي يسمع غير بعيد عنه صوت الحوار, لقد كانوا يسعون وأنا معهم إلى غاية محدودة, لذلك لم أتنبه في طريقنا إلى منحر الناقة "هكذا اسمه" لأعمال ثمودية, إلاّ في الرحلات التالية, منها عين إنسان مرسومة في الصخر تنظر إلى القادم من الناحية التي كان فيها مسجد نبي الله صالح, وذكرتني هذه العين بقوله تعالى في سورة النمل: ((قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ )), أظن أن تصويرهم العيون كان من قبيل التطير, كذلك لم أتنبه إلى أحواض في ربوة بلقع من الأرض, لاهي قرب وادٍ ولا بئر, وأظنها لاستقبال ماء المطر ولا أدري إن كانت عملت للمسافر أم للحيوان أم للوحش, أم لكل أولئك, ولأي شأن صنعت فهي دليل ترف ولين عيش فبينها وبين الوادي مسير دقائق ليس إلاّ, وفجأة انحدرنا في لصب ضيق تحك مرآتا السيارة في جانبيه, ومن ذلك المضيق نفذنا إلى صخرة الكفوف, وغير بعيد منها منحر الناقة وأثـر أخـفـافـهـا فـــي الصخر, ومن يرى ذلك المضيق والموضعين المذكورين آنفاً, يجزم أن عاقري الناقة كمنوا لها عند فم المضيق, حيث لا تستطيع الهرب, أو الانحراف يميناً أو شمالاً, أو أنهم أشرفوا عليها من شرفتيه.
عين مرسومة في الصخر.
صورة رقم (1)
عينان في الطريق إلى الشرقي تنظران إلى الجبل المربع.
صورة رقم (2)
حوض لتلقي ماء المطر.
صورة رقم (3)
صخرة المعاهدات:
أفضى بنا المضيق إلى وادٍ صغير أوقفنا فيه السيارة وترجلنا عنها حسب طلب المرشد, وصعدنا صخرة ترتفع عن مجرى السيل قليلاً, صلدة بعض الشيء ومعظم صخور جبل القهر غير صلدة, وهذه الصخرة من ثلاثة أجزاء متصلة بعضها ببعض, جزء منها كالسقف في غير استواء, يتدرج من أعلى إلى أسفل في البعد عن المحور, وجزء كالمصطبة وقفنا عليه خمستنا ويتسع لأكثر من ذلك, أما الجزء الثالث فأمامنا كلوحة الدرس, وعلى الجزء الذي نقف عليه قبران أسطوانيا الشكل مبنيان من الحجارة والخلب, ومغطاة بجذوع العرعر والصفا.
نبهني أحد المرافقين وأنا أنظر لجزء الصخرة الذي كالسبورة أمامي قائلاً: ما رأيك في هذه الكفوف المرسومة؟, لم أكن أرى في الصخرة أي شيء قبل أن ينبهني صاحبي, وبعد ثوان معدودة, ظهرت لي أكف مطبوعة في تلك الصخرة, كأنما جاءتني من الغيب, منها أكف غير واضحة,ومنها ما هو في غاية الوضوح, والذي أثار انتباهي أن تسعة أكف طبعها أصحابها في مكان واحد, وبأسلوب أرادوا به التدليل أنهم فريق واحد, إنهم لاشك يتعاهدون على أمر, ويغلب على الظن أن طبع الأكف على الصخر كان أسلوب التقاسم والتعاهد لدى ثمود, وبين تلك الأكف كف غلام, وهذا ما أثار دهشتي, فطلبت من أحد المرافقين أن يكشف عن القبرين ويعد الجماجم, فالعظام قد رمت, فوجدها تسعا إحداها لغلام, لقد تعاهد التسعة على أمر وهلكوا عليه, وقبل هذا تنبهت إلى الصخرة, إذ لم تكن على تلك الهيئة دون تدخل الإنسان, بل أنها مقطوعة من الأعلى إلى الأسفل, بأسلوب هندسي يحقق للوحة إضاءة تامة, ويمنع المطر من الوصول إلى الأكف والقبرين, بل وأظنه يمنع الرطوبة أيضاً لأن الخشب الذي يغطي القبرين سليم لم يتعفن أو يتحلل, ولم تمسه الأرضة والعثة,إن الميول المتخذة في قطع الصخرة تدل على حساب دقيق, ومعرفة جيدة فاللوحة تبدوا مكشوفة ولكنها محمية من المطر!, ولقد رأيت رمة أحدهم مكفنة الصدر والبطن بنطع مهترئ, وقد ذر على تلك الرمم النؤرة أو شيء يشبهها وأحسب ذلك ساعة قبروا, و الأكف مطبوعة بأسلوب التفريغ, كأنهم وضعوا أكفهم على الصخرة وقام آخر برش مسحوق أكسيد الحديد على أكفهم والصخرة, فلما نزعوها بقي أثر الأكف مطبوعاً على الصخرة, سواء فعلوا ذلك دفعة واحدة أو واحد بعد الآخر, والذي يتتبع الصخرة من اليمين إلى اليسار يجزم أنهم تتابعوا على ذلك الموضع, ولم يحضروا دفعة واحدة, وأحسب أن أول من حضر منهم ثلاثة لا أظن الغلام منهم, ثم اكتملوا تسعة, والغريب أننا حين أردنا أن نصور رفات تلك الرمم وجدنا بطاريات الفلاش فارغة من الكهرباء "لا أعرف للفلاش تعريباً" واضطررنا أن نصور دون إضاءة والجو شبه غائم, على أن نعود لتلك الصخرة مرة أخرى ولقد جاءت الصور أفضل مما لو أننا استعملنا الفلاش, سواء في تصوير الأكف, أو في تصويرنا لإحدى الجماجم, لا أدري هل سبب ذلك يعود لأسلوب قطع الصخرة أو للمادة التي دفن فيها أولئك الرهط, وحتى الجزء الذي طبعت عليه الأكف من الصخرة, كأنه مُطين بخليط من مسحوق حجر أسود ورمل أبيض, ولا شك أن الصخرة كانت مقطوعة قبل طبع الأكف, والحقيقة التي أود الإشارة إليها أني لم أعد الجماجم بنفسي وحاولت فلم أفلح, ولكن وجدنا لوحة أخرى في موضع بعيد, رسم فيها كفان وعدد الرفات لشخصين, فوثقت بعد صاحبي للجماجم, ولقد ذكرني هذا العدد بالرهط التسعة الذين أرادوا قتل نبي الله صالح فرضختهم الملائكة بالحجارة وهم تحت صخرة, غير بعيد من مسجد نبي الله صالح, وفي هذه الصخرة "أقصد صخرة المعاهدات" سهم يشير إلى أسفل, كأنه يشير إلى حيث هلك أصحاب القبرين يضاف إلى ذلك أن ما بقي من رفات لأولئك التسعة يدل على أنهم ماتوا ما بين مقرفص ومقرفط ومتكور, وكأنهم يتقون رجماً, أما أنا فعلى اقتناع تام أنهم من قال الله فيهم في ســورة الـنـمـل: (( وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ {48} قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ )), يغلب على ظني ومن فهمي لروايات المؤرخين ومن مشاهداتي لصخرة المعاهدات أن أول ما وصل إلى الصخرة ثلاثة عقروا الناقة ثم تبعهم ستة, فتأمروا "جميعهم" على تبييت نبي الله صالح وطبعوا أكفهم كنوع من العهد.
تسعة أكف, الكف الأخير الأسفل الذي على يسار المشاهد كف غلام.
صورة رقم (4)
جمجمة أحد التسعة.
صورة رقم (5)
أحد القبرين اللذين تحت صخرة المعاهدات.
صورة رقم (6)
القبر الآخر الذي تحت صخرة المعاهدات.
صورة رقم (7)
أخفاف الناقة و الفصيل:
بعد فراغنا من صخرة المعاهدات توجهنا إلى موضع غير بعيد ليريني الاخوة رفقاء الرحلة أثر أخفاف ناقة مطبوعاً في الصخر, يظهر تارة ويختفي أخرى, وعدد المرات التي ظهر فيها في تلك الأرض الصلبة محدود, وبعد خطوة أو خطوتين ظهر إلى جوار أثر الناقة أثر فصيل, يسير بجوارها, يخيل لمن يعاينه أن جسمه أحياناً يحتك بجسدها, فعل الفصلان مع أمهاتها, وأثر الناقة يسير مبتعداً عن أكمة مجوفة كأنها قوس منصوب, لم يهتم الفريق المرافق بتلك الأكمة, ولا بوجود الأثر وكأنه يخرج منها متجهاً جنوباً إلى شعب صغير, لأنهم لم يسمعوا أن الناقة خرجت من أكمة, فقد كانت الأمية والعزلة غالبة على سكان جبل القهر إلى عهد قريب, وقد توارثوا أن ذلك الأثر لناقة نبي الله صالح, وأن تلك الكفوف المرسومة لعاقريها يغمسون أيديهم في دمها ويطبعونها في تلك الصخرة ويتضاحكون, هذا حدود علمهم بخبر ثمود والناقة, لقد كانت الكتاتيب تنتشر في قرى جيزان عموماً إلاّ القهر فلم يعرف الكتاتيب فيما أعلم, ولم يعرف المدارس إلاّ في أواخر عهد الملك سعود رحمه الله, حيث افتتحت أول مدرسة ابتدائية, وأقول هذا لأبين للقارئ أن ادعاءهم عن ناقة نبي الله صالح وعاقريها ليس عن قراءة في كتاب, بل هي أساطير متوارثة حول تلك الآثار, وعلى العارفين عبء إثبات صحة ذلك الإدعاء من عدمه, والذي أثر فيّ وأشدهني حال رؤيتي الأثر ثلاث ملاحظات, أولاها تلك الأكمة المجوفة, فمهما غالطت عقلك وحاولت أن تنسب ذلك التجويف للزلازل أو للرياح أو الأمطار فلن تستطيع ولن يقبل ذلك عقلك, فذلك التجويف نتج عن جسم خرج منه لا ريب, ولا يزال الكثير من القلع على جانبي التجويف, والتجويف يتسع في الأسفل ويضيق في الأعلى, وثانية الملاحظات أن أخفاف الناقة تبدأ في الظهور, ثم تختفي ثلاثة أمتار على وجه التقدير, ثم يعود الأثر وبجانبه أثر فصيل صغير, وهذا يوافق رواية أن الناقة خرجت عشراء ثم تمخضت وولدت فصيلها, واثر الناقة يبدو مغادراً الأكمة وليس متجهاً إليها, فكأنما خرجت منها, أما الملاحظة الثالثة فإنه تلي الأكمة منطقة تنفرج عنها الجبال فسيحة, ورواية ابن الأثير أن الناقة خرجت من الصخرة وقد اجتمعوا في يوم عيدهم(1) فذلك المكان صالح لأن تجتمع فيه القبيلة وتعيد فيه والمناطق الفسيحة في الجبال نادرة, والذي أرجوه من القارئ أن لا يتخيل أثر الناقة و فصيلها يمتد عشرات الأمتار, فالأرض صخرية صلدة, وعدد الأخفاف محدود ولكنه يُقنع كل عاقل, وهو دليل يضاف إلى أدلة, وما يدريك أن الله أبقاه آية للناس.
صورة من الأمام للصخرة التي تمخضت عن الناقة.
صورة رقم (8)
صورة من الخلف للصخرة التي تمخضت عن الناقة.
صورة رقم (9)
أثر خف في عرصة الصخرة التي تمخضت عن الناقة.
صورة رقم (10)
أحد أخفاف الناقة واضح فيه أثر زمعيه الخلفيين.
صورة رقم (11)
أثر أخفاف الناقة.
صورة رقم (12)
منحر الناقة:
بعد أن فرغت من تصوير أثر الناقة والفصيل طلب مني أحد الأدلاء وهو أعرفهم أن أتقدم إليه, وكان يقف مني على بعد خطوات, وهو ينظر إلى ربوة شرقينا تنحدر صوب شعب صغير شرقي الأكمة, وحين وقفت بجانبه ونظرت إلى تلك الربوة رأيت عجباً, إن جزأها الغربي بني يضرب إلى حمرة يسيرة, وأعلاها وطرفاها الجنوبي والشمالي ما بين رملي أبيض وصخور فاتحة اللون, فأشار لي صاحبي إلى الجانب المحمر من الربوة وقال: هنا نحرت الناقة فيما يقال والله أعلم وهذا أثر دمها, وقبائل الريث حريصون في الرواية لا يقطعون للزائر في هذه الآثار برأي رغم قناعتهم أنها ثمودية, بعد أن صورت منحر الناقة تحرك صاحبي وطلب مني أن أتبعه وهو يقول: تعال أريك لبن الناقة, فـقـلـت لــه لا أريد شاهداً بعد لون المنحر فألح علي ولكني لم أطعه, لأني كنت مجهداً, وإذا صحت ظنونهم في لبن الناقة فإنها كانت تحلب في فم ذلك الشعب الصغير, ولم أندم ندمي على عدم رؤية ما يزعم أنه لبن الناقة, والسبب أن الصور التي التقطتها لمنحر الناقة, عند طبعها لم توافق ما رأته عيني من لون الربوة, لأن أشعة الشمس كانت متوهجة عند التصوير وآلة التصوير لدي ليست بتلك, ولا هي مزودة بمكثف ضوئي يمتص جزءاً من أشعة الشمس عند توقد الحجارة.
لا يمكن لمثلي أن يفتي في حمرة تلك الصخور, والأمر بحاجة إلى تحـليل مخبري أما أنا فأظن الأمر لا يعدوا أن تكون تلك الحجارة تحمل قدراً من أكسيد الحديد, لأن الأرض لا تمتص الدم حسب علمي, ولو فرضنا أن ذلك اللون كان دماً فهل كان ذلك الموضع منسكاً وثنياً, أم هو دم الناقة أبقاه الله آية, فكم من منسك وثني كان بجزيرة العرب لم يبق له أثر.
مـنـحــــر الــنـــاقـــــة.
صورة رقم (13)
نادينا الحوار فحن كما تحن الإبل:
ترددت كثيراً في رواية ما حدث بيننا وبين الحوار من نداء وإجابة, و أحسبني تأثرت بقبائل الريث, لقد وجدت حتى صغارهم لا يروون لك الخبر الصادق إذا خافوا أن ترتاب فيه, ولكن لم لا أذكر ما حدث مادمت صادقاً فوالله لم أكذب, مع أول مدرسة ابتدائية افتتحت في رخية وأظن ذلك في الثمانينات, التحق بالتدريس فيها بعض أبناء قريتنا فبدأنا نسمع عن جبل مشقوق داخل جبل القهر, يسمع منه صوت بعير أو حوار ورخية هي قرية قبائل الريث, تقع في السفح الغربي لجبل القهر وتصلهم بقرى السهل, ولكن في عسر ومشقة, حتى منّ الله عليها مؤخراً بطريق مزفتة, وأحسب أن كل وعر في منطقة جيزان سوف يذلل بعد الآن بهمة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن ناصر مع توفيق الله دون شك.
حين كنت أسمع في الثمانينات عن ذلك الجبل المشقوق وصوت البعير الذي يسمع منه, تمنيت أن أراه حتى أخرج برأي في ذلك الصوت, وكانت الأخبار عنه تصلنا مغلوطة, من أناس لم يقفوا على حقيقة الأمر وجليته, فقد قيل لي إنك إذا وضعت أذنك على الشق سمعت صوت البعير, وقيل إذا سال الوادي ظهر الزبد من الشق من أعلى الجبل, وقيل إن بعثة من وزارة الزراعة توجهت إلى ذلك الجبل لدراسة تلك الظاهرة وخرجت بنتيجة أن تحت الجبل بحيرة فإذا سال الوادي تسرب إليها الماء فكان لها خرير يشبه صوت البعير, ومنهم من قال: بل توصلوا إلى رأي مفاده أن الصوت متولد عن تسرب الريح إلى ذلك الشق في موضع ما من الوادي وبسبب تلك الروايات تخيلت الجبل المشقوق طوداً عظيماً شامخاً, و الوادي عند سفحه البعيد وصادف أ ن تعرفت على شاب من أبناء الريث قبل عامين, سألته عن الجبل المشقوق الذي تضع أذنك على الشق الذي فيه فتسمع صوت بعير, فقال لي: تسمعه دون أن تضع أذنك على الشق, وتسمعه من الوادي لا من الجبل, وفي أيام الربيع وخاصة بعد المطر تسمعه كل مرة من ناحية مختلفة, كأنه يتتبع المرعى, ثم سألني هل سمعت عن الكف الأحمر المرسوم في الصخرة, فأجبته بلا, وبسبب هذا الحديث قررت زيارة جبل القهر, ولازلت ألتمس الرفيق حتى وجدته, وكانت رحلات لا رحلة, وكان هذا المقال الذي بين يديك.
لقد كانت وجهتنا بعد منحر الناقة إلى الجبل المشقوق نزوره ونسمع صوت الحوار فانكفأنا غرباً وكأننا عائدون أدراجنا, وفي الطريق ونحن لا نزال على مقربة من منحر الناقة, شاهدت في ذروة جبل رسماً يشبه السهم يشير إلى ناحية من الوادي مرسوم بنفس اللون الزهري الذي رسمت به معظم اللوحات الثمودية, وأخبرني أحد المرافقين عن وجود أسهم تتتابع حتى تشير إلى ناحية الجبل المشقوق, وقد غلب على ظن كثير منهم أن تلك الرسومات والأسهم تشير إلى كنز أو كنوز, وهم محقون في ذلك, فجبل القهر كنز سياحي كبير, ولما وصلنا إلى الجبل المشقوق وجدته صخرة مكورة كأنها الربوة, ثلثها الشمالي مشقوق من أول الجبل إلى آخره, وقيل لي إن الشق أو ذلك الصدع الضيق يمتد في القف الذي يليه إلى الوادي, وفي الجانب الغربي لتلك القارة أو الجبل حجران أملسان كأنهما ليسا منه بل غرسا فيه, ولما صعدت إليهما وجدتهما كأنما حرقا بالنار حتى صارا أملسين, وهما كعينين للجبل ينظر بهما إلى الغرب وأحسب ذلك من عادة ثمود في التطير, وإن لتلك القارة عندهم شأناً وصعدنا الجبل نبحث عن أي أثر للحوار, فوجدنا ما يشبه أثر حوار مضطرب, يتجه هنا وهناك وإن كان في غير وضوح لا يستطيع المرء أن يجزم انه أثر حوار ولا أن ينسبه لحيوان بعينه, ولقد صورته حتى يراه القارئ ويحكم عليه بنفسه, ثم انحدرنا إلى أسفل الشق من الناحية الغربية, والشق في عمومه ضيق لا يمكن إدخال كف الإنسان العادي فيه, إلاّ عند ملامسته للأرض من الناحية الغربية فإن بجانبه كسر في الصخرة وليس في الصدع نفسه, ومن عجيب صنع الله أنه يخرج من الصدع من باطن الأرض تيار هوائي لا ينقطع, ويروون كــابـراً عــن كـابـر أنه أزلي لا يتوقف لحظة, وبرغم أنه من باطن الأرض, لا يـــختلف فــــي حــرارتـه عـن الـهـواء الـمــحـيـط إلاّ بنصف درجة أو درجة هـــو أدفـأ, وإذا عــرضـت له كوباً من الزجاج مقلوباً, تلاحظ تكون قطرات خفيفة من الماء على جدران الكوب, أظنه بسبب اختلاف درجة الحرارة, وهذا التيار الهوائي كأنما تنفثه مروحة كهربائية سواء كانت الريح راكدة أو مـــتحركة, وسواء كــانت فـي اتجاهه أو مـعاكـسـة له, فإذا كان متولداً عن الهواء الخارجي فلماذا لا يتوقف إذا ركدت الريح؟!.
بعدما تلمست بيدي ذلك التيار الهوائي تنحيت جانباً وقلت في نفسي: إذا كان حوار ناقة صالح في باطن هذه الصخرة, قد ضرب الله على أذنيه كما ضرب على آذان أهل الكهف, فهذا الهواء يحفظ حياته في رقدته بإذن الله, واستغرب أصحابي أن الحوار لم يحنَّ, وهو الذي ما أن يقترب أحد من الجبل إلا ويحن كفصيل يطلب أمه وبسبب ذلك الصمت منه, أخذ أحد المرافقين يناديه من أسفل الشق قرب التيار الهوائي بنداء الرعاة للإبل, فسمعنا بعد ثوانٍ صوت حاشي يحن من الوادي, والوادي منا على بعد ما يقارب الكيلومتر, فقال صاحبي هل سمعت؟ ثم استدرك: لا أدري إن كان في الوادي إبل أم لا, حال سماعي الصوت استشعرت أنه مشابه كثيراً لصوت الإبل, وصـمـت صاحبي وصـمـت البعير, فــقـلت له ادعه أخرى, فناداه بنداء الرعاة إبلهم, فعاود الحنين هذه المرة فيما يشبه صوت الناقة, ولا أدري كيف استرجع عقلي في أجزاء من الثانية حنين النوق الذي كنت أسمعه وأنا في الخامسة من عمري تنادي صغارها, ولا أدري كيف تيقنت أن الصوت تقليد وليس حقيقياً, فاستشعر قلبي أنه شيطان يضلل الناس, فأخذت أردد آية الكرسي في سري وطلبت من صاحبي أن يناديه فناداه فلم يجب,وأعدنا النداء المرة تلو الأخرى, ولم يجب في أي مرة, بل لم يحن بعد ذلك في أي زيارة من زياراتي اللاحقة, لا أدري إن كانت قراءتي صادفت انقطاع المسبب الطبيعي المولد لذلك الصوت, أم أنه شيطان, وقلبي إلى أنه شيطان أميل,وما يقال عن أنه ناتج عن الرياح أو السيل مما كنت سمعته عنه قبل هذه الزيارة لا يمكن الاقتناع به, فهو يكون مع وجود المطر ومع صحو السماء وحال الريح وحال ركود الهواء وليس هو صدى مناداتنا, فقد نادينا ولم يرتد إلينا صدى, فكل تعليل سمعته عنه لا أجده مقنعاً.
الجــبــل الـمـشـقـــوق.
صورة رقم (14)
ربما يكون الفصيل دخل من هذا الموضع والأثر أثر أخفافه.
صورة رقم (15)
الرحلات اللاحقة:
انفض عني ذلك الفريق الطيب, ولم يبق غير يحيى علي معيض, ولو لم يكن معي لتعذر علي إكمال هذا الجهد, ولكنه سامحه الله كان يهمه ما يعتقد لا ما أراه أنا ذلك أن أحد الأصدقاء قال لنا: إنكم إن وجدتم أثراً مكتوباً حل لكم لغز تلك الحضارة إن كانت لثمود أو لأمة أخرى, فجشمنا يحيى كل صعب, وسلك بنا كل وعر, نمر بالآثار التي تنطق بأفصح لسان أنها ثمودية دون أن يتوقف, ولا يمر بأحد إلاّ وسأله إن كان يعلم عن نقوش أو كتابات, فيجد جواباً واحداً في كل مرة " هناك صور حيوانات" وخرجنا من ذلك البحث المرهق بزيارة ثلاث لوحات, لوحة لصور غزلان في الجبل الشرقي, وأخرى في الشرقي كذلك, للصوص سرقوا بعض المواشي ولحق بهم الطلب من شخصين بسيفيهما, واستنقذا المواشي من الأبقار والأغنام, أما اللوحة الثالثة فإنها تؤرخ لمعركة ذات أهمية في ذلك الزمن, فقد أبدع الفنان رسمها رغم بدائية الرسم, وهي مرسومة في صخرة مقطوعة بنفس ميول لوحات الرسم الأخرى, وتحت الصخرة قبران فيهما جمجمتان لرجلين, وفي الرسمة صورة كفين, إحداهما لظاهر كف والأخرى لباطن كف أخرى, وأظنهما للتدليل على أن صاحبي القبرين تعاهدا على الموت, أو أنهما أبليا بلاءً حسناً, وفي اللوحة صورة ثلاث سلاسل جبلية تدل على مكان المعركة, وفيها رسم للبيوت, مما يدل على أنها وقعت في الحمى, وفيها صورة أحسبها لامرأة سبيت واستنقذت, أو أنها سبية, وفيها صور حيوانات غنمت أو اســتـنـقـذت, وأحــســب أن الحـمار كــان له قيمة عند ثمود فوعورة الجبل ومنحدراته ومزالقه, لا تصلح للخيل ولا للمطايا, وافضل مركوب فيها الحمير, ولم نجد في أي لوحة صورة للإبل أو للخيل, وفي اللوحة صورة جوارح الطير تتبعهم, وطالما فخر الشعراء أنهم إذا ساروا تبعتهم الطيور الجارحة كما أن صور المحاربين توحي بخطة الحرب, من تقديم حملة الرماح والسيوف وتأخير الرماة, وترى المحاربين يتجالدون في صورة ناطقة, إنها لوحة معبرة رغم بدائية الرسم, وحـيـن وقـفـت أمـامـهـا أنا وصاحبي قلت له: أتدري ماذا تقول هذه الصورة؟ فالتفت إليّ, فقلت: إن أمة تؤرخ لأيامها بالرسم أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة فلا تشغلنا بالبحث عن كتابات وحروف.
فارس الجبل الشرقي الذي استنقذ المواشي.
صورة رقم (16)
قطعت ذراع اللص "الجبل الشرقي".
صورة رقم (17)
معركة الشاميّة- الرجل قرب الكف أطلق سهماً "لوحة الشامية".
صورة رقم (18)
المحاربون يتجالدون " لوحة الشامية ".
صورة رقم (19)
حملة السيوف يتجالدون.
صورة رقم (20)
حملة السيوف يتجالدون.
صورة رقم (21)
شخص يهم بركوب حماره للهرب "لوحة الشامية".
صورة رقم (22)
واحدة من الغنائم (تيس) "لوحة الشامية".
صورة رقم (23)
ثلاث سلاسل جبلية تدل على موقع المعركة "الشامية".
صورة رقم (24)
بيوت الحي (الشامية).
صورة رقم (25)
صورة كواسر الطير وهي تتبع المحاربين كما تغنى بها شعراء العرب (الشامية).
صورة رقم (26)
الأطفال يقذفون اللوحات بضفع البقر, لطالما طالبت الجهة المختصة بحماية هذه الآثار أو زيارتها على الأقل وكانت صرخة في واد.
صورة رقم (27) صورة رقم (28)
تعليق