« تقـديـم فضيلةِ الشَّيخِ العلاَّمةِ عبدِ اللَّـهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ جِبرينٍ »
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، أحمده وأشكره على نعم لا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحمن على العرش استوى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المجتبى، صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وأصحابه نجوم الهدى ومصابيح الدجى ... وبعد:
فقد ألقيت في أحد مساجد الرياض محاضرة عن الأمانة المذكورة في القرآن وما يدخل فيها من حقوق الله ـ تعالىـ وحقوق العباد، ولم أكن كتبتها من قبل، وقد سجلها بعض الإخوان من الإلقاء، ثم نسخها بعضهم ورغب في نشرها، فأنا آذن في نشرها على ما هي عليه من عدم التناسب والتركيز كحال ما يُلقَى ارتجالًا، ولكن لا تخلو من فائدة لمن أراد الله به خيرًا.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
قاله وكتبه :
عبد اللَّـه بن عبد الرَّحمن بن جِبرينٍ
عضو الإفتاء سابقًا
« المُقدِّمة » :
أما بعد([1]):
فإن الحديث عن الأمانة له أهميته؛ لأنه يتعلق بما بين العبد وبين ربه من ناحية، وبما بين العبد وبين غيره من ناحية أخرى.
وعلى هذا النحو سوف يكون تناولنا لهذا الموضوع الهام مبيِّنين الأسباب التي تحمل العبد على أن يؤدي هذه الأمانة.
نسأل الله أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه ـ تعالىـ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
« المقصود بالأمانة » :
فقد عرض الله هذه الأمانة على أعظم مخلوقاته: على السماوات مع عِظم خلقها، وعلى الأرض ـ أي جنس الأرضـ مع عظمها، وعلى الجبال مع قوة خلقها وصلابتها؛ فأشفقت وتبرأت منها ولم تتحملها، مع أن هذه المخلوقات مذللة لأمر الله، لا تستعصي ولا تخرج عن الطاعة التي كُلِّفت بها!
وقد ذكر الله أن هذه المخلوقات مطيعة لربها، مسخرة لما كُلِّفت به، قال ـ تعالىـ :﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾
[ سورة فصلت، الآية : 11 ] .
وهذا يعني أن السماوات والأرض استسلمت لربها، وأذعنت وانقادت، وأطاعت ما أُمرت به، فهي مع كونها جمادًا لا تخرج عن الطاعة، وتمتثل أمر الله حسبما يريده الله، وفيما يريده بها، فإذا أمرها بالحركة أو السكون امتثلت ذلك بدون توقف؛ إلا أنها مطيعة لأمر الله: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُإِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[ سورة يس، الآية : 82 ] .
وجعل الله للسماوات والأرض ولسائر المخلوقات قوة إدراك ومعرفة! فتحس بما تؤمر به، فتسجد إذا أُمرت بذلك! وتسبح الخالق ـ سبحانه وتعالىـ وتدخل في قول الله ـ تعالىـ: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [ سورة الإسراء، الآية : 44 ].
وتدخل في قول الله ـ تعالىـ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾[ سورة الحج، الآية : 18 ] .
فكل ما في السماوات وما في الأرض يسجد لله ـ سبحانه وتعالىـ ومنها الجبال والشجر والنجوم والدواب وغيرها من الجمادات، فقد خلق الله فيها شعورًا وإدراكًا مناسبًا، فتسجد وتخشى وتخشع لله ـ تعالىـ كما في قوله ـ تعالىـ ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [ سورة
البقرة، الآية : 74 ] فدل على أن الجبال تخاف الله وتخشاه، وكما في قوله ـ تعالىـ ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾[ سورة الحشر، الآية : 21 ] .
فهذه المخلوقات من الجبال وغيرها قد تبرَّأت من هذه الأمانة وأشفقت منها، وامتنعت من تحملها على خشيتها وطاعتها لله ـ تعالىـ وقد تحملها الإنسان على ضعفه!
تحمّلها الإنسان والتزم بها، فلا بد أن يؤديها، ويقوم بها حق القيام، وإذا لم يقم بها وفرّط فيها فإنه مسئول عنها أمام الله، مستحق للعقوبة بتركها وخيانتها.
وبعد ذلك نتساءل:
فما هذه الأمانة التي تحملها الإنسان؟
« الأمانة ضالة المؤمن » :
والأمانة من الأمن أو الإيمان؛ فهو مؤمن ومؤتمَن، ولأجل هذا وُصف بأنه من أهل الأمن والإيمان الذين يؤدون الأمانة حق الأداء، وذلك في قوله ـ تعالىـ : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾[ سورة المؤمنون، الآية : 8 ].
والأمانة هنا عامة فيما يتعلق بالعبد من حقوق ربه، ومن حقوق عباد الله. وصف الله المؤمنين بأنهم يرعونها، أي يقومون بها حق القيام، ويؤدونها حق الأداء، فإذا كانوا كذلك فإنهم من عباده المفلحين الذين ذكرهم الله في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [ سورة المؤمنون، الآية : 1 ].
ويجب على العبد أن يكون قائمًا بهذه الأمانة في كل حالاته ؛ لأنها من الحقوق التي أمرهم بها، وهي العهد المذكور في هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾[ سورة المؤمنون، الآية : 8 ].
ويدخل في هذا العهد المعاهدات والعقود التي بين العبد وبين ربه، وبينه وبين العباد، وقد أكد الله أمر العهود بقوله: ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾[ سورة الإسراء، الآية : 34 ] يعني: الوفاء به.
ولكن أهمها عهد الله، قال ـ تعالىـ : ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾[ سورة النّحل، الآية : 91 ] .
فعهد الله من أكبر الأمانات التي ائتُمِن عليها العباد، فمن كان مؤمنًا حق الإيمان فإنه يراعي هذه الأمانة في كل حالاته.
أما مَنْ خَفَّ إيمانه فإنك تجده يتهاون في شأنها، ولا يقوم بها، ولا يرعاها حق رعايتها، وهذا في الحقيقة نقص في إيمان العبد، فالعبد ما سماه الله مؤمنًا إلا لأنه المسلم الأمين الذي ائتمن على حقوق ربه وحقوق عباده، وثق من نفسه بها، وقام بها كما ينبغي، هذا هو المؤمن والأمين.
« الأمانة فيما بين العبد وربه » :
إن الأمانة هي العبادات والشرائع التي كلفنا الله بها ـ سبحانه وتعالىـ وما أعظم هذا التكليف!
ولكن متى عرفنا أننا إذا قمنا بأداء هذه الأمانة حَقَّ قيام، حصل لنا الأجر وحصل لنا الثواب العظيم؛ فإنه يلزم وينبغي أن نقوم بها، فلا يجوز التكاسل والتأخر في أدائها!!
وهذه الشرائع والعبادات من الأمانة، وكل إنسان مؤتمن فيما بينه وبين ربه على هذه الحقوق التي لا يطلع عليها إلا رب العباد، فلا أحد يراقبك سوى ربك الذي ائتمنك على هذه العبادات:
* ائتمنك على الطهارة والصلاة.
* ائتمنك على الأذكار، وعلى القراءات التي في الصلاة.
* ائتمنك على الصيام.
* ائتمنك على أداء الحقوق المالية والزكاة، والكفارات.
* ائتمنك على ترك الذنوب وتجنب المعاصي التي حرمها عليك.
ووكّل كل ذلك إلى قلبك ومعتقدك، ولا يطّلع عليه أحد سوى الله ـ تعالىـ فالناس لا يعرفون، ولكنك تعرف من نفسك أن ربك لا يخفى عليه شيء.
* فلو صليت بلا وضوء لم يشعر بك أحد من الناس، لكن الله هو الذي يشعر بك، فالوضوء هو الطهارة، وهو أمانة بينك وبين ربك.
* ولو صففت في الصلاة، وأخذت تنحني مع الناس وترفع، وأنت لا تسبح، ولا تقرأ، ولا تذكر، ولا تأتي بشيء من واجبات الصلاة السرية ولا أركانها؛ فإن الناس لا يدرون عنك، ولكن الله يدري، فهذه الأذكار التي في الصلاة أمانة بينك وبين ربك.
* ولو أكلت في رمضان سرًّا، لم يشعر بك أحد؛ لأن الناس لا يراقبونك في كل حال، ولكن الله -تعالى- هو الذي يطلع عليك، فهذا الصيام أمانة بينك وبين ربك.
* ولو بخست الحقوق الواجبة لله من الزكاة ونحوها، ولم تؤدِّ زكاة المال السرية، لم يطّلع عليك إلا ربك، فالناس ليس لهم إلا الظاهر، فهذه أمانة مالية بينك وبين ربك.
* وكذلك لو خلوت بالمعاصي والذنوب، لم يطلع عليك إلا ربك.
* ولو أكلت الحقوق المالية للناس مثلًا لم يطلع عليك أحد من الناس.
* ولو أضمرت في نفسك أي شيء من الشك، أو من الشرك، أو من الكفر، أو من الوسوسة، لكان ذلك فيما بينك وبين الله، ولن يطلع الناس عليك إلا أن تخبرهم، فالله هو الذي ائتمنك على هذا.
وبهذا نعرف أن الأمانة عامة لكل العبادات التي فرضها الله على الناس، وإنما كانت تلك أمثلة، وهي على سبيل الاختصار وليست على سبيل الحصر.
ومن الأمانة أيضًا الإخلاص في الأعمال ـ وهذا من أهم الأمانات التي يجب على العبد مراعاتها ـ فمثلًا: إذا أراد الإنسان الصلاة أو الحج أو الجهاد، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل ذلك أمام الناس، فإن الناس يمدحونه على ما ظهر منه، ويعتقدون أنه رجل صالح، لأجل هذه الأعمال الصالحة، ولكن إذا كان قلبه مُصِرًّا على شك، أو على رياء أو سمعة، أو طلب مدح الناس له، أو نحو ذلك، كان هذا العمل باطلا ولا يطلع على بطلانه سوى ربه.
فالإخلاص أمانة يفسده الرياء، وكذلك العبادة تبطل بتأخير عملها، أو بالإخلال بشيء من شروطها. وقد ذكّر الله عباده باطّلاعه عليهم حتى يراقبوه، و يراعوه فيما بينهم وبينه، فإذا خلا أحدهم عرف أنه لا يغيب عن ربه طرفة عين؛ لذلك أكّد الله تذكير الإنسان باطلاعه عليه، كما في قوله ـ تعالىـ : ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ *إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[سورة الشعراء : 218 ـ 220 ] .
فكأنه يقول: أنت أيها العبد مأمور بأن تؤدي هذه الحقوق فيما بينك وبين ربك، لا تخشى إلا الله، وإذا خلوت فلا تعتقـد أنك خالٍ، بل إنك بمرأى من ربِّك، فإن ربك يعلم ما تسره ويعلم ما تكنه، كما قال ـ تعالىـ : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[ سورة ق، الآية : 16 ] .
تعليق