الأنباط
حضارة الأنباط
حضارة أمة نحتت الصخر وأبدعت البناء
تعددت جوانب الإثارة في تاريخ الأنباط وحضارتهم مثلما تعددت جوانب الغموض أيضا، وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على اكتشاف هذه الحضارة على يد "بيركهارت" وتوالي البحوث منذ ذلك الوقت، إلا أن صورة الحضارة النبطية لا تزال بحاجة للمزيد من المقاربات التي تجلي الجوانب الغامضة وتستكمل الأجزاء الناقصة لهذه الحضارة الفريدة وسماتها المثيرة.
ويحاول هذا الجهد المتواضع التوجه إلى القارئ المثقف بمستوياته المتعددة، إذ أن جل ما كتب عن حضارة الأنباط (وخصوصا بالعربية) إما أنه جاء جافا قاسيا تحت وطأة "تقاليد التخصص الآثاري" مما سيرهق القارئ العادي ويحرمه تمثل تجربة الأنباط الكلية. أو أنه جاء استعراضيا- مسطحا- تقريريا – مما سيفقد تجربة الأنباط الحضارية من روايتها الإنسانية التي لا غنى عنها لتمثل جوهر تلك الحضارة. أو أنه جاء "جزئيا" لدواعي الأعراف والشروط الأكاديمية. وهذه الملاحظات لا تقلل من شأن تلك الأبحاث العلمية، بل على العكس، فهي التي شكلت قاعدة البيانات الضرورية لهذا الكتاب الذي سعى لتحقيق قدر معقول من التوازن بين دقة المعلومة وبين " ترابط الرواية الحضارية " وكليتها، فلا هو أهمل دقة المعلومة وسبر أغوارها وتقليب معانيها المحتملة، ولا هو ركن إلى التقريرات المتسامحة المختزلة بقصد التسويق السياحي الإعلاني محترما ثقافة القارئ وأحقيته في المعرفة التاريخية التي تمثل حقيقة التجارب الحضارية الإنسانية بكل ما فيها من عبر وحكم ودروس.
في الفصل الأول من الكتاب: حاولنا البحث في الجذور الأولى لهذه الحضارة بأصولها السكانية، وبحثنا في نشأة وتطور نظامها السياسي في خضم الأحوال السياسية السائدة آنذاك. ثم استعرضنا بإسهاب المنطقة الجغرافية التي نشأت فيها وترعرت هذه الحضارة المثيرة لننتهي إلى سلسلة ملوك دولة الأنباط، وذلك كي يتمكن القارئ من التأسيس لمزيد من فهم جوانب هذه الحضارة في الفصول اللاحقة.
وفيما يلي الجزء مستلاً من الفصل الأول من الكتاب، على أمل متابعة الأجزاء الأخرى تباعا في هذا المنبر. أملا كل الأمل أن يحقق الفائدة المرجوة لكل مهتم بهذا الحقل التاريخي/ الثقافي الذي شكل رافدا أساسيا من حضارة المنطقة وثقافتها.
تاريخ الأنباط وتأسيس دولتهم:
حضارة الأنباط
حضارة أمة نحتت الصخر وأبدعت البناء
تعددت جوانب الإثارة في تاريخ الأنباط وحضارتهم مثلما تعددت جوانب الغموض أيضا، وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على اكتشاف هذه الحضارة على يد "بيركهارت" وتوالي البحوث منذ ذلك الوقت، إلا أن صورة الحضارة النبطية لا تزال بحاجة للمزيد من المقاربات التي تجلي الجوانب الغامضة وتستكمل الأجزاء الناقصة لهذه الحضارة الفريدة وسماتها المثيرة.
ويحاول هذا الجهد المتواضع التوجه إلى القارئ المثقف بمستوياته المتعددة، إذ أن جل ما كتب عن حضارة الأنباط (وخصوصا بالعربية) إما أنه جاء جافا قاسيا تحت وطأة "تقاليد التخصص الآثاري" مما سيرهق القارئ العادي ويحرمه تمثل تجربة الأنباط الكلية. أو أنه جاء استعراضيا- مسطحا- تقريريا – مما سيفقد تجربة الأنباط الحضارية من روايتها الإنسانية التي لا غنى عنها لتمثل جوهر تلك الحضارة. أو أنه جاء "جزئيا" لدواعي الأعراف والشروط الأكاديمية. وهذه الملاحظات لا تقلل من شأن تلك الأبحاث العلمية، بل على العكس، فهي التي شكلت قاعدة البيانات الضرورية لهذا الكتاب الذي سعى لتحقيق قدر معقول من التوازن بين دقة المعلومة وبين " ترابط الرواية الحضارية " وكليتها، فلا هو أهمل دقة المعلومة وسبر أغوارها وتقليب معانيها المحتملة، ولا هو ركن إلى التقريرات المتسامحة المختزلة بقصد التسويق السياحي الإعلاني محترما ثقافة القارئ وأحقيته في المعرفة التاريخية التي تمثل حقيقة التجارب الحضارية الإنسانية بكل ما فيها من عبر وحكم ودروس.
في الفصل الأول من الكتاب: حاولنا البحث في الجذور الأولى لهذه الحضارة بأصولها السكانية، وبحثنا في نشأة وتطور نظامها السياسي في خضم الأحوال السياسية السائدة آنذاك. ثم استعرضنا بإسهاب المنطقة الجغرافية التي نشأت فيها وترعرت هذه الحضارة المثيرة لننتهي إلى سلسلة ملوك دولة الأنباط، وذلك كي يتمكن القارئ من التأسيس لمزيد من فهم جوانب هذه الحضارة في الفصول اللاحقة.
وفيما يلي الجزء مستلاً من الفصل الأول من الكتاب، على أمل متابعة الأجزاء الأخرى تباعا في هذا المنبر. أملا كل الأمل أن يحقق الفائدة المرجوة لكل مهتم بهذا الحقل التاريخي/ الثقافي الذي شكل رافدا أساسيا من حضارة المنطقة وثقافتها.
تاريخ الأنباط وتأسيس دولتهم:
1- من هم الأنباط ومن أين جاؤوا..؟ هل هم عرب أم غير ذلك ؟
2- نشوء الدولة وتطورها والنظام السياسي /الاقتصادي.
3- الوضع السياسي الإقليمي في أثناء فترة الأنباط (التأثيرات السياسية الخارجية).
4- حدود الدولة النبطية ومناطق نفوذها وجغرافيتها ومناخها.
5- الملوك الذين حكموا الدولة النبطية.
أولا: من الأنباط ؟ أهم عرب أم غير ذلك ؟
ظل أصل الأنباط موضوعا للنقاشات والاجتهادات بين الباحثين والمختصين الغربيين خصوصا بشكل مبالغ فيه، ظنا منهم أن حضارة الأنباط المتقدمة قد تكون نتاجا لبعض الشعوب القادمة من خارج الجزيرة العربية التي تمتاز بحضارة بدوية – رعوية أو زراعية يستبعد ان تكون حضارة الأنباط نتاجا لها، بعد أن كشفت الآثار المعمارية في المدن النبطية عن حضارة تمتاز بالرقي في العديد من المجالات خاصة العمرانية منها التي تبرز في الأبنية المنحوتة في الصخر والقصور والفلل المبنية من الحجر المشذب وفي أنظمة الري المتقدمة التي تعبر عن عبقرية هندسية بالغة.
الاسم: ويرد حول اسم الأنباط و اشتقاقه أكثر من رأي: فيقول ابن منظور أن "النبط" هو الماء الذي ينبط من البئر. و أيضا النبط هو ما يتجلّب من الجبل كأنه عرق من عروق الصخر. كما جاء في تاج العروس أن "النبط" جيل ينزل بالبطائح في بلاد الرافدين.
والموطن الأصلي للأنباط والزمن الذي هاجروا فيه غير معروفين على وجه الدقةوذهب بعض الباحثين إلى أن أصل الأنباط جاء من "نبايوت" الوارد في التوراة (سفر التكوين – 13:25و 9:28)، ونبايوت هذا هو بكر اسماعيل حسب التوراة، فيما ربط البعض الآخر الأنباط باسم "نبيت" الوارد في سجلات الملك الأشوري تجلات بلاسر (727-745 ق.م) التي تشير إلى الحروب التي كانت تقع بين قبائل متعددة من شمال شرقي الجزيرة العربية والقوات الأشورية. غير أن ثمة مؤشرات لغوية تدحض أي رابطة بين "نبيت " ونبطو، إذ أن الأنباط عرفوا أنفسهم "بنبطو" من خلال نقوشهم، وبذلك فإن الاسم الأشوري لا يمكن مقاربته لاسم الأنباط في ضوء اختلاف حرفين أساسيين بين الاسمين وعلاوة على ذلك، فإن ورود الاسم في سجلات تجلات بلاسر كان أسبق بكثير على ظهور الأنباط المعروف في القرن الرابع قبل الميلاد. أي بفارق أربعة قرون مديدة من السنوات.
وأشارت بعض الاجتهادات إلى أن الأنباط قدموا من الساحل الغربي للخليج العربي، فيما أشارت اجتهادات أخرى لكونهم قدموا من جنوب بلاد الرافدين لورود اسم الأنباط من بين القبائل الرافدية "النبطيين" وخصوصا في كتب الإخباريين المسلمين، وهؤلاء النبط غير أنباط العرب، لأنهم أعاجم مع أنهم تكلموا اللغة الآرامية، واشتبه الاسم على الإخباريين المسلمين لاشتهار هؤلاء بالزراعة واستنباط الماء من الأرض. وبعض النصوص التاريخية مثل (Pliny) أشارت إلى أنهم كانوا قد استوطنوا جزيرة في البحر الأحمر قبل أن يدحرهم أو يطردهم الأسطول المصري، وهذا مدهش ونحن نعرف أن الأنباط إنما هم الأكثر ارتباطا بالصحراء والقوافل التجارية، غير أن آراء جميع الباحثين في تعيين الموطن الأصلي للأنباط متفقة على شيء واحد هو تحديدهم للمنطقة الكبرى التي كانت منبتهم أي الجزيرة العربية، غير أن آراءهم تفترق حول تحديد الناحية المعنية من تلك الجزيرة، هل هي الحجاز، أم جنوبي منطقة الجوف، أم منطقة الخليج أم جنوبي الجزيرة العربية؟ وسنظل نجهل متى احتلوا منطقة الصخرة (أي بتراء) ما دام أقدم أخبارهم لا تتجاوز أواخر القرن الرابع إلى ما قبله. لكن هذا الحدث جرى بالتأكيد عقب أفول دولة الأدوميين سكان البتراء السابقين على الأنباط، وذلك إما عقب حملة نابونئيد الأشوري (552 ق.م) الشهيرة أو عقب ذلك بقليل إثر حملة قمبيز الفارسي (525 ق.م) التي ربما أجهزت على الأدوميين أو ما تبقى لهم من كيان سياسي، لكن دون القضاء على البنى الاجتماعية والعشائرية لهم، حيث سيظهر الأدوميين مرة أخرى بأشكال متنوعة في تاريخ المنطقة، وقد توجوا هذا الظهور السياسي في العهد الروماني ببناء أسرة حاكمة استطاعت نزع الحكم من المكابيين اليهود في فلسطين وتمكنت أيضا من توسيع حدود ولايتهم كما لم تكن من قبل. وسنعود للحديث عن الأدوميين في الصفحات القادمة نظرا لما لذلك من علاقة وثيقة بتاريخ المنطقة، خصوصا ما قبل الأنباط.
ظل أصل الأنباط موضوعا للنقاشات والاجتهادات بين الباحثين والمختصين الغربيين خصوصا بشكل مبالغ فيه، ظنا منهم أن حضارة الأنباط المتقدمة قد تكون نتاجا لبعض الشعوب القادمة من خارج الجزيرة العربية التي تمتاز بحضارة بدوية – رعوية أو زراعية يستبعد ان تكون حضارة الأنباط نتاجا لها، بعد أن كشفت الآثار المعمارية في المدن النبطية عن حضارة تمتاز بالرقي في العديد من المجالات خاصة العمرانية منها التي تبرز في الأبنية المنحوتة في الصخر والقصور والفلل المبنية من الحجر المشذب وفي أنظمة الري المتقدمة التي تعبر عن عبقرية هندسية بالغة.
الاسم: ويرد حول اسم الأنباط و اشتقاقه أكثر من رأي: فيقول ابن منظور أن "النبط" هو الماء الذي ينبط من البئر. و أيضا النبط هو ما يتجلّب من الجبل كأنه عرق من عروق الصخر. كما جاء في تاج العروس أن "النبط" جيل ينزل بالبطائح في بلاد الرافدين.
والموطن الأصلي للأنباط والزمن الذي هاجروا فيه غير معروفين على وجه الدقةوذهب بعض الباحثين إلى أن أصل الأنباط جاء من "نبايوت" الوارد في التوراة (سفر التكوين – 13:25و 9:28)، ونبايوت هذا هو بكر اسماعيل حسب التوراة، فيما ربط البعض الآخر الأنباط باسم "نبيت" الوارد في سجلات الملك الأشوري تجلات بلاسر (727-745 ق.م) التي تشير إلى الحروب التي كانت تقع بين قبائل متعددة من شمال شرقي الجزيرة العربية والقوات الأشورية. غير أن ثمة مؤشرات لغوية تدحض أي رابطة بين "نبيت " ونبطو، إذ أن الأنباط عرفوا أنفسهم "بنبطو" من خلال نقوشهم، وبذلك فإن الاسم الأشوري لا يمكن مقاربته لاسم الأنباط في ضوء اختلاف حرفين أساسيين بين الاسمين وعلاوة على ذلك، فإن ورود الاسم في سجلات تجلات بلاسر كان أسبق بكثير على ظهور الأنباط المعروف في القرن الرابع قبل الميلاد. أي بفارق أربعة قرون مديدة من السنوات.
وأشارت بعض الاجتهادات إلى أن الأنباط قدموا من الساحل الغربي للخليج العربي، فيما أشارت اجتهادات أخرى لكونهم قدموا من جنوب بلاد الرافدين لورود اسم الأنباط من بين القبائل الرافدية "النبطيين" وخصوصا في كتب الإخباريين المسلمين، وهؤلاء النبط غير أنباط العرب، لأنهم أعاجم مع أنهم تكلموا اللغة الآرامية، واشتبه الاسم على الإخباريين المسلمين لاشتهار هؤلاء بالزراعة واستنباط الماء من الأرض. وبعض النصوص التاريخية مثل (Pliny) أشارت إلى أنهم كانوا قد استوطنوا جزيرة في البحر الأحمر قبل أن يدحرهم أو يطردهم الأسطول المصري، وهذا مدهش ونحن نعرف أن الأنباط إنما هم الأكثر ارتباطا بالصحراء والقوافل التجارية، غير أن آراء جميع الباحثين في تعيين الموطن الأصلي للأنباط متفقة على شيء واحد هو تحديدهم للمنطقة الكبرى التي كانت منبتهم أي الجزيرة العربية، غير أن آراءهم تفترق حول تحديد الناحية المعنية من تلك الجزيرة، هل هي الحجاز، أم جنوبي منطقة الجوف، أم منطقة الخليج أم جنوبي الجزيرة العربية؟ وسنظل نجهل متى احتلوا منطقة الصخرة (أي بتراء) ما دام أقدم أخبارهم لا تتجاوز أواخر القرن الرابع إلى ما قبله. لكن هذا الحدث جرى بالتأكيد عقب أفول دولة الأدوميين سكان البتراء السابقين على الأنباط، وذلك إما عقب حملة نابونئيد الأشوري (552 ق.م) الشهيرة أو عقب ذلك بقليل إثر حملة قمبيز الفارسي (525 ق.م) التي ربما أجهزت على الأدوميين أو ما تبقى لهم من كيان سياسي، لكن دون القضاء على البنى الاجتماعية والعشائرية لهم، حيث سيظهر الأدوميين مرة أخرى بأشكال متنوعة في تاريخ المنطقة، وقد توجوا هذا الظهور السياسي في العهد الروماني ببناء أسرة حاكمة استطاعت نزع الحكم من المكابيين اليهود في فلسطين وتمكنت أيضا من توسيع حدود ولايتهم كما لم تكن من قبل. وسنعود للحديث عن الأدوميين في الصفحات القادمة نظرا لما لذلك من علاقة وثيقة بتاريخ المنطقة، خصوصا ما قبل الأنباط.
تعليق