عمر منحوتة "حسناء نمرود" العاجية أطول من أن يُقاس بالتقويم الميلادي. ففي
عام 612 قبل الميلاد ألقاها الغزاة بالبئر، إشارة إلى تدميرهم واحدة من أول
الإمبراطوريات في التاريخ. وفي عام 1988 بعد الميلاد عثر عليها علماء الآثار
العراقيون سليمة مع كنز من المجوهرات قرب مدينة الموصل.
واكتشف العالم أن فناني العراق القديم لم يقتصروا على رسم ونحت مشاهد الحروب
وصيد الأسود، بل أبدعوا مجوهرات أنثوية تماثل في الرقة والجمال زينة ملوك مصر
الفرعونية. وعند احتلال العراق عام 2003 اختفت "حسناء نمرود"، ولم يُعثر
عليها إلاّ بعد شهور مغمورة بأكثر من مليوني لتر من المياه التي أغرقت سراديب
"المصرف المركزي" ببغداد.
كان العراقيون قد أخفوها عند اندلاع حرب عام 1991 في خزانات المصرف مع أثمن
كنوزهم الأثرية. وها هي تشرق بابتسامة عذبة تضاهي ابتسامة "موناليزا" في
اللوحة المشهورة للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي. الحزوز التي أحدثها الغرق
في وجهها تمتد من مآقيها على طول خدودها، كآثار دموع تجعل ابتسامتها أكثر
إشراقاً.
"حسناء نمرود" رمز جميل لنساء العراق اللواتي عجزت عشرات الملايين من دولارات
الاحتلال عن تعمية صورتهن وتشويهها. فيوم أباح المحتلون "المتحف العراقي"
للنهب كان عدد نساء علم الآثار فيه 47 من مجموع 53 موظفا. وكان بين مدراء
المتحف ثلاث عالمات مرموقات: بهيجة خليل، وهناء عبد الخالق، التي شغلت منصب
مدير عمليات التنقيب، ونواله المتولي، وهي معروفة بفك رموز مئات النصوص
المسمارية في الألواح السومرية التي تؤرخ لميلاد الكتابة. يذكرُ ذلك كتاب
"نهب المتحف العراقي في بغداد" الصادر بالإنجليزية في نيويورك. شارك في تأليف
الكتاب 22 مختصاً عالمياً بآثار العراق، منهم 12 امرأة، عمل كثير منهن في
التنقيب داخل العراق، وبينهن ثلاث عراقيات معروفات على الصعيد العالمي.
وتمنيتُ لو كنت روائياً لأكتب قصة العراقيات الثلاث. مساهماتهن في الكتاب
تشّفُ عن تعدد حياة علماء الآثار بين المختبرات، والمكتبات، ومراكز الوثائق،
ومواقع التنقيب. اثنتان منهن خريجتا "كمبردج" التي تُعدّ أرقى الجامعات
الإنجليزية: لمياء الكيلاني، أول مختصة بالآثار وقد عملت في "المتحف العراقي"
عام 1961، وسلمى الراضي التي تبعتها عام 1962. الثالثة زينب البحراني، أستاذة
كرسي علم الآثار وتاريخ الفن في "كولومبيا" التي تُعتبر من أرقى الجامعات
الأميركية. تجمع العالمات الثلاث بين هوس الباحث، وحذق المحقق البوليسي،
وجَلَد المجندين في العيش بالمعسكرات في العراء.
كيف نصور المزيج العراقي الفريد... ونفهم شغف الفتيات البغداديات بألواح
طينية منقوشة بالمسمارية التي تعد أقدم كتابة في التاريخ!
كيف يمكن تصوير هذا المزيج الفريد المطبوخ على سعير النار العراقية؟.. شغف
فتيات من أعرق الأسر البغدادية بألواح طينية منقوشة بالمسمارية التي تُعتبر
أقدم كتابة بالتاريخ! بعض الألواح التي غسلتها وصنفتها لمياء
الكيلاني وسلمى الراضي، تضمنت معلومات أعادت كتابة تاريخ العالم، كتلك التي
كشفت أن ما تُسمى "فرضية فيثاغورس" الرياضية ابتكرها السومريون قبل الإغريق
بألفي عام. ولعل أحد مخرجي هوليوود، الذين يجرؤون الآن على النظر في الحرب
التعيسة ضد العراق يضع يده على المشهد التالي: زينب البحراني، وزميلتها مريم
موسى تغامران في عز الحرب بالذهاب إلى بابل لتحذير قائد الوحدة العسكرية من
استخدام تلال الموقع الأثري مدرجات للطائرات المروحية. كيف تحمل العسكري
الأميركي التفاصيل التقنية التي شرحتها البحراني عن الأضرار التي تحدثها
المروحيات المحلقة فوق سطح معبدي "نابو" و"نينما" اللذين يعود تاريخهما إلى
القرن السادس قبل الميلاد؟..
وهل يعرف المجند القادم من تكساس من هو الإسكندر ذي القرنين، والذي أقيم في
عصره مسرح صالح كموقف لعرباته العسكرية؟!وهذا مشهد من الكتاب قد يلهم مسرحيين
وسينمائيين عراقيين شبابا شاهد الجمهور أخيراً أعمالهم في لندن:
سلمى الراضي، القادمة حديثاً من "كمبردج" تندفع في فورة بهجتها باكتشاف جمال
تاريخ بلادها، إلى ارتداء قلادة ملكية عمرها خمسة آلاف عام، وتضع تاج الملكة
فوق رأسها... وهي تدرك أن سلوكها قد يثير استهجان زملائها الأكاديميين، لكن
"في تلك اللحظات الخاطفة شعرتُ بأنني ملكة العالم القديم كله"!ويدخلنا الكتاب
الذي يضم 190 صورة في ذلك العالم السحري. فهو يبدو كمتحف "افتراضي" عن
"المتحف العراقي" الذي يُعتبر واحداً من "أعظم مستودعات الحضارة الإنسانية".
يحتوي المتحف الذي أنشئ عام 1923 على سجل لأكثر من 60 ألف عام، ليس من تاريخ
العراق فحسب، بل تاريخ البشرية". وهو من المتاحف العالمية النادرة التي تعرض
مقتنيات محلية تمتد من الإنسان القديم، المعروف باسم "إنسان النياندرتال"
الذي عُثر على بقاياه في كهف شايندر شمال العراق، وحتى عصر النهضة العربية
الإسلامية التي أنشأت في بغداد واحدة من أعظم الحضارات في التاريخ. والعراق
الذي يضم أول الأرشيفات الحكومية في التاريخ "بلد الأوائل: أول القرى،
والمدن، وأول الكتابة، والشعر، والأدب الملحمي، وأول المعابد، والديانات
المدّونة، وأول الحروب، والاقتصاد العالمي، وأول إمبراطورية". تذكر هذه
المعلومات مقدمة الكتاب الذي يمثل بالنسبة لمؤلفيه عملاً من أعمال الحب
"يحاكون فيه هوى العراقيين بإقامة صروح الحضارة الإنسانية"، حسب عالم الآثار
الأميركي وليام بولك. "إنه كالقدّاس الأخير على رفيق سنوات عدة عزيزة، وتحية
وداع لذكرى خسارتنا المهوّلة". ويتقصّى "بولك" الذي عمل أستاذاً للتاريخ في
جامعة "شيكاغو" نهب كنوز العراق الأثرية منذ حرب الخليج عام 1991. ويذكر أن 4
آلاف تحفة أثرية من المنحوتات، والأختام السومرية، والمسكوكات المعدنية،
والقطع الخزفية سُرقت خلال الاضطرابات التي أعقبت الحرب.
ولم تُسترد لحد الآن سوى ثلاث قطع من تلك الآثار التي كانت محفوظة في متاحف
محافظات البصرة، والعمارة، والديوانية، والكوفة، والكوت، وبابل، وكركوك،
ودهوك، والسليمانية. ويقدم البروفيسور "بولك" شهادة شخصية عن تحذيره
العسكريين الأميركيين من الكارثة المتوقعة قبل بدء العمليات الحربية ربيع عام
2003. ويذكر أنه اتصل بالمسؤول العسكري عن المتاحف قبل وقوع الحرب بأيام،
وسأله عن الإجراءات الاحترازية لحماية هذه الكنوز الأثرية؟.. "فرد العسكري
يديه ورفع حاجبيه، قائلاً: ماذا أستطيع أن أفعل؟". هل فكر "بولك" الذي شغل
مناصب رسمية خلال عهد الرئيس الأسبق جون كنيدي أن هذا العسكري يتحمل، وفق
اتفاقيات جنيف ولاهاي المسؤولية الشخصية عن جرائم الحرب التي شارك فيها عن
وعي ومعرفة مسبقين؟ ولماذا لا يطالب الدول المشاركة في الاحتلال تعويض
العراقيين عن سرقة وتدمير 15 ألف قطعة من مقتنيات "المتحف العراقي" الذي كان
يضم قبل الغزو 200 ألف قطعة "تشكل واحدة من أعظم مجموعات الكنوز الثقافية في
عالمنا"؟ وكيف يستمر استقطاع لقمة الخبز من العراقيين لدفع تعويضات عن غزو
الكويت عام 1990؟
الكتاب يذكر أن مسؤولي الآثار العراقيين آنذاك أعدوا قوائم بالقطع التي نقلت
من "متحف الكويت"، وحُفظت في مستودعات "المتحف العراقي" ببغداد. وسُلّمت
القوائم رسمياً لمسؤولي "اليونسكو" في باريس، وأعيدت المقتنيات كاملة في
العام التالي!
المصدر: الاتحاد - الامارات
تعليق