الإتنولوجية النباتية ethnobotany علم يدرس خبرة شعب من الشعوب في نطاق النباتات، وهي مجموعة المعارف والتقاليد والمعتقدات المرتبطة بالعالم النباتي. ويرتبط علم الإتنولوجية النباتية بعلم الإتنولوجية الحيوانية ليؤلفا علماً واحداً يعرف بالإتنوبيولوجية، وهي تعالج خبرات الشعوب وتقاليدها وعاداتها في التعامل مع وسطها، من جماد ونبات وحيوان. (والكلمة اليونانية «Ethnos» تعني الأُمة أو الشعب).
التطور التاريخي لمفهوم علم الإتنولوجية النباتية
يمكن إيجاز التطور التاريخي لمفهوم علم الإتنولوجية النباتية في ست حقب هي: التاريخ القديم -العصر الروماني -العصر الإسلامي -العصر الأندلسي -مطلع القرن الثامن عشر ثم القرن العشرين.
1- الإتنولوجية النباتية في التاريخ القديم:
تتلخص أفكار علم الإتنولوجية النباتية في التاريخ القديم بوجود ارتباط وثيق بين الإنسان والطبيعة. ففي هذه المرحلة الطويلة التي امتدت 10 آلاف سنة ونيفاً، كان هذا الارتباط واضحاً في مفاهيم الحضارات القديمة، كالسومرية والكنعانية واليونانية والرومانية. ففيما يتصل بالحضارة السومرية في جنوب الرافدين -ما بين النهرين - وجدت قوائم خاصة باستعمال النبات والحيوان، كشفها الأب شيل Schell، بعد دراسته الرقم (الألواح الطينية) الأثرية التي عُثر عليها في مدينة لارسا Larsa السومرية، ويرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد. وقد صُنفت تلك الكائنات تصنيفاً نفعياً، فقسم عالم الحيوان إلى أسماك ومفصليات وأفاع وطيور وذوات أربع. كما قسم عالم النبات إلى أشجار وبقول وبهارات وعقاقير وحبوب. وجعلت الأشجار المثمرة كالتين والتفاح والرمان في مجموعة واحدة. ومن أبرز هذه الرقم الأثرية رقيم بالخط المسماري وجد في مدينة نيبور Nippur (نُفَّرْ)، يرجع إلى القرن السابع عشر قبل الميلاد، درسه عالم السومريات الشهير صموئيل نوح كرامر S. N. Kramer، وبين أنه مؤلف من 108 أسطر، تشرح الأعمال الزراعية، المعتمدة في ذلك العهد في بلاد الرافدين. كما وجد العالم كامبل طُمسُن Campel Thomson نحو 600 رقيم دُون فيها أكثر من 250 اسماً لنباتات طبية، كان يستعملها أهل سومر وبابل وآشور في مداواة المرضى.
وفي الحضارة الكنعانية (الفينيقية)، التي انتشرت في حوض البحر المتوسط في الألف الأول قبل الميلاد، تمثل علم الإتنولوجية النباتية في رسالة في الزراعة دونها في تاريخ غير معلوم عالم قرطاجي يُدعى ماغو Mago، وترجمها إلى اللاتينية الكاتب الروماني ماركوس فارون M. Varron (116-27ق.م) الذي عدّ ماغو القرطاجي أبا الزراعة.
وفي الحضارة اليونانية تمثل علم الإتنولوجية النباتية في قصيدة «الأعمال والأيام» التي نظمها الشاعر اليوناني هزيودس Hesiodes في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، وهي تُمثل التقويم الزراعي الذي شاع استعماله في تلك الأيام؛ كما ترجم كاسيوس ديونيسيوس Cassius Dionysios كتاب ماغو إلى اليونانية في مطلع القرن الأول للميلاد.
2- الإتنولوجية النباتية في العصر الروماني:
ومن أشهر المؤلفات التي ظهرت في هذا العصر كتاب في علم الأعشاب الطبية أو الأدوية المفردة، ألفه طبيب يوناني الأصل، يدعى بيدانيوس ديوسقوريدس Pedanius Dioscorides، عاش في القرن الأول للميلاد، وهو من مدينة عين زربة شمال حلب، وعمل جراحاً في الجيش الروماني في عهد الإمبراطور نيرون (54-68م). وكان يجمع في أثناء تنقله النباتات الطبية، ويدرس خصائصها الدوائية وصفاتها، ومكان انتشارها، ويصنع منها أدوية مركبة. ثم قام بعدئذ بتصنيف كتاب «الحشائش» ضمنه خمس مقالات وهي:
المقالة الأولى: ذكر فيها أنواعاً من العطور والتوابل والصموغ والأدهان.
المقالة الثانية: وفيها مجموعة من العقاقير الحيوانية المنشأ، إلى جانب حبوب وبقول وأعشاب حريفة.
المقالة الثالثة: جمع فيها النباتات التي تستعمل جذورها أو بذورها.
المقالة الرابعة: وتشتمل على أعشاب باردة، وأخرى حارة أو مسهلة أو مقيئة، أو مضادة لتأثير السموم.
المقالة الخامسة: وخصصها المؤلف للكلام عن شجرة الكرمة، وأنواع الأشربة والأدوية المعدنية.
وأُلحق بكتاب ديوسقوريدس مقالتان نسبتا إليه، جاء في الأولى منهما وصف لأنواع الطيور، وبعض الأسماك والحيوانات البحرية والبرية، وما يستفاد من ألبانها وأصوافها وشحومها ومراراتها وأزبالها وأبوالها. وفي الثانية كلام عن السموم والاحتراز من تناولها وعلاج الضرر إذا وقع فيها، وقد بلغ عدد العقاقير والأدوية التي جاء ذكرها في كتاب الحشائش لديوسقوريدس نحو 950 عقاراً، أما النباتات الطبية فبلغ عددها نحو 550 نباتاً.
ويقول سليمان بن حسان، المعروف بابن جلجل، في كتابه «طبقات الأطباء والحكماء»: «إن كتاب ديوسقوريدس ترجم بمدينة السلام (بغداد) في أيام الخليفة جعفر المتوكل. وكان المترجم له اصطفن بن باسيل، نقله من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي. وتصفحه حنين بن اسحاق، فصحح الترجمة وأجازها. فما علم اصطفن من تلك الأسماء اليونانية في وقته له اسماً في اللسان العربي فسره بالعربية، وما لم يعلم له اسماً تركه في الكتاب على اسمه اليوناني».
وثمة نموذج ثانٍ من كتب الأشياء عنوانه «التاريخ الطبيعي» Historia Naturalis، وهو موسوعــة تقع في 37 مجلداً، ألفها كايوس بلينيوس الأكبر [ر.بليني الأكبر] Plinius Caius (23-79م) وتشمل موضوعاتها المفردات والمركبات والطب والسحر والفلك والعقائد والتقاليد والطقوس والتعاويذ والتمائم والأعشاب والأشجار والسموم والحيوانات والأحجار والجواهر والإلهام والشعوذة. وقد ذكر بلينيوس كل المراجع التي اقتبس منها، وقضى نحبه اختناقاً قرب بركان فيزوف Vesuvio عام 79 للميلاد.
والنموذج الثالث من كتب الأشياء التي صنفت في العصر الروماني ما جاء في كتاب هرمس Hermes «مثلث الحكمة» Trimegist الذي وصف فيه 36 نباتاً شجرياً تمثل العلاقة بين السماء والأرض، وهما اللتان توجهان الوظائف الحيوية الإنسانية.
3- الإتنولوجية النباتية في العصر الإسلامي:
كانت قبائل الجزيرة العربية تعيش على صلة مباشرة بالنباتات والحيوانات التي اعتمدت عليها للحصول على غذائها ودوائها، وعلى العلف لمواشيها. وكانت خبراتهم في هذا المجال تنتقل وتتطور بالممارسة من جيل إلى آخر من غير تدوين. واشتمل القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، على كثير من الإشارات إلى فوائد بعض النباتات والمنتجات الحيوانية. وفي القرن الثاني للهجرة بدأ بعض علماء العربية يهتمون بتسجيل أسماء الكائنات الحية وضبط صفاتها، ومن أشهرهم عبد الملك بن قريب، المشهور بالأصمعي الباهلي (122ـ216هـ/740ـ831م) [ر] وهو من مواليد مدينة البصرة، كان إماماً في الأخبار والملح والغرائب. قدم بغداد في زمن الرشيد، ثم عاد إلى البصرة، وتوفي فيها. صنف الأصمعي أكثر من ثلاثين كتاباً، بعضها في علوم العربية، وبعضها في وصف أحياء البيئة الطبيعية التي عاش فيها. ومن تلك المؤلفات:
كتاب النبات والشجر، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الأجناس، وكتاب الخيل، وكتاب الإبل، وكتاب الوحوش وصفاتها، وكتاب مياه العرب، وكتاب الأنواء، وكتاب الأخبية والبيوت.
وقد حقق كتاب النبات والشجر أوغست هفنر A. Haffner والأب لويس شيخو، ونشراه في بيروت عام 1908م. وأعاد تحقيقه ودراسته الدكتور عبد الله يوسف الغنيم، ونشره في القاهرة عام 1947م.
تحدث الأصمعي في مقدمة هذا الكتاب عن أسماء الأرض وصفاتها، وما يصلح للزرع فيها من نبات وٍشجر. ثم ذكر أدوار النمو التي تمر فيها النباتات، وقسمها بعد ذلك إلى أحرار وذكور. فأحرار البقول ما رق منها وحسن، وذكورها ما غلظ منها وخشن. ثم قسمها بحسب طعمها إلى حمض وخُلَّة فالحمض ما كان طعمه مالحاً، والخلة ما كان طعمها مائلاً للحلاوة. وقسمها بحسب الأمكنة التي تنمو فيها إلى سهلية ورملية وجبلية، وبلغ عددها 280 نباتاً.
توالى بعد ذلك ظهور عدد من المصنفين في علم النبات عند العرب، وكان من أشهرهم أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (ت282هـ/895م) [ر]. كان تلميذاً لابن السكيت، كما كان ابن السكيت تلميذاً للأصمعي. وقد صنف أبو حنيفة ثلاثة علوم مختلفة: علم الأنواء -وعلم القرآن -وعلم النبات. ويعد كتابه في النبات موسوعة جمع فيها أسماء كثير من الأعشاب والجنبات والأشجار، التي تنمو في الجزيرة العربية، وجعلها في خمسة أجزاء. وبقيت هذه الموسوعة بكامل أجزائها حتى زمن الطبيب موفق الدين البغدادي (ت629هـ/1231م)، الذي كان يملك نسخة مخطوطة منها. ثم فُقدت بعض أجزاء تلك الموسوعة، ولم يعثر إلا على الجزء الثالث والنصف الأول مـن الجـزء الخامـس. وقام المستشرق الألماني برنهاردلفين B. Lewin بتحقيق ما بقي من كتاب النبات لأبي حنيفة، وشرحه (طبع في بيروت 1974م).
ولم يكن أبو حنيفة، في موسوعته بعلم النبات، مجرد جامع لمفردات هذا العلم، أو باحث عنها بين أبيات الشعر وأخبار الرواة، بل تجاوز التعريف الموجز لكل نبات، كما سار عليه من سبقه من علماء اللغة، وقدم وصفاً دقيقاً لجميع أعضاء النبات، وخاصة تلك التي تعرفها عن قرب، وهو يجوب أنحاء الجزيرة العربية، ثم قام بتصنيفها بحسب فائدتها العملية، ذاكراً الجزء المستعمل منها، وتأثيره الدوائي في الإنسان أو الحيوان أحياناً.
لذا يمكن أن يقال بأن أبا حنيفة الدينوري هو أول من وضع أساس علم الإتنولوجية النباتية في البلاد العربية، بالاعتماد على ما ورد في كتابه الذي قسمه إلى اثني عشر باباً وهي:
- باب الرعي والمراعي، وخصصه للكلام عن الإبل، وصفاتها وأمراضها، وما يسقط عليها من الحشرات، وما تستطيبه من النباتات، وما يحصل لديها من فائدة أو ضرر عند أكلها، ومنها الخلة والنجيل والأراك والطلح والغضا والقتاد والسُمُر والعُرْفُط والرَمَث والصليّان والحلى والسعدان والسخبر.
- باب الكمأة والجبأة: وقسمه إلى عراجين وأفاتيج وضغابيث وذآنين وطراثيث وبنات أوبر.
- باب الصموغ: وتكلم فيه عن النباتات التي تعطي: العلوك واللثا والمغافير والقطران، ومن أشجارها: الطلح والمقل والدوم والسمرة والأيدع.
- باب الدباغ: ويشمل النباتات المستعملة في دبغ الجلود، وأهمها: القرظ والأرطى والسلم والألاء.
- باب الزناد: تكلم فيه عن الأشجار التي يستعمل خشبها أو أعوادها في قدح الزناد، ومنها المَرْخ والدفلى والأثأب والبان والقطن وغيرها.
- باب ألوان النيران والأرمدة والأدخنة: يستعمل فيها نبات العرفج والرمث والتنضب.
- باب ما يصبغ به: ومنها نبات الورس والعصفر والكركم، وقرف الأرطي، وقرف السدر، وعروق الفوة.
- باب الروائح، ومنها الطيبة ومنها النتنة: فالطرفاء والقرنفل والحوذان والخزامى والشيح والقيصوم، من النباتات الطيبة الرائحة. أما النباتات الكريهة الرائحة فقليلة العدد ذكر منها السَنَعْبق وأم كلب.
- باب المساويك: وهي تصنع من الأراك أو البشام أو الإسحل أو الرند أو عراجين النخل.
- باب الحبال: وهي تصنع غالباً من لحاء الشجر أو من أليافها وسوقها. وأجودها ما تصنع منها الأرشية التي يستقى بها وهي: الطلح والسلم والعرفط والسمر. وذكر الأصمعي سوى هذا الكراث والكنب. كما تتخذ الحبال أيضاً من كرب النخل أو القطن أو الكتان.
- باب العسل والنحل: ذكر فيه أبو حنيفة صفات العسل وأسماءه، وقال عنه أنه لعاب النحل أو ريقه أو مُجاجه. ثم عدد النباتات التي يجرسها النحل ومنها: الندغ والسحاء، وعسلهما أبيض. وعسل الضرم لونه كلون الماء. وأشد العسل حرافة وأرقه عسل الصعتر، وعسل الإفسنتين مر الطعم.
- باب القسي والسهام: وهو من أبواب الجزء الخامس من كتاب النبات. لقد أطنب أبو حنيفة في وصف القسي وأوتارها والسهام والنبل وطرق تحضيرها وكيفية استعمالها، حتى تجاوز عدد صفحات هذا الباب المئة صفحة.
التطور التاريخي لمفهوم علم الإتنولوجية النباتية
يمكن إيجاز التطور التاريخي لمفهوم علم الإتنولوجية النباتية في ست حقب هي: التاريخ القديم -العصر الروماني -العصر الإسلامي -العصر الأندلسي -مطلع القرن الثامن عشر ثم القرن العشرين.
1- الإتنولوجية النباتية في التاريخ القديم:
تتلخص أفكار علم الإتنولوجية النباتية في التاريخ القديم بوجود ارتباط وثيق بين الإنسان والطبيعة. ففي هذه المرحلة الطويلة التي امتدت 10 آلاف سنة ونيفاً، كان هذا الارتباط واضحاً في مفاهيم الحضارات القديمة، كالسومرية والكنعانية واليونانية والرومانية. ففيما يتصل بالحضارة السومرية في جنوب الرافدين -ما بين النهرين - وجدت قوائم خاصة باستعمال النبات والحيوان، كشفها الأب شيل Schell، بعد دراسته الرقم (الألواح الطينية) الأثرية التي عُثر عليها في مدينة لارسا Larsa السومرية، ويرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد. وقد صُنفت تلك الكائنات تصنيفاً نفعياً، فقسم عالم الحيوان إلى أسماك ومفصليات وأفاع وطيور وذوات أربع. كما قسم عالم النبات إلى أشجار وبقول وبهارات وعقاقير وحبوب. وجعلت الأشجار المثمرة كالتين والتفاح والرمان في مجموعة واحدة. ومن أبرز هذه الرقم الأثرية رقيم بالخط المسماري وجد في مدينة نيبور Nippur (نُفَّرْ)، يرجع إلى القرن السابع عشر قبل الميلاد، درسه عالم السومريات الشهير صموئيل نوح كرامر S. N. Kramer، وبين أنه مؤلف من 108 أسطر، تشرح الأعمال الزراعية، المعتمدة في ذلك العهد في بلاد الرافدين. كما وجد العالم كامبل طُمسُن Campel Thomson نحو 600 رقيم دُون فيها أكثر من 250 اسماً لنباتات طبية، كان يستعملها أهل سومر وبابل وآشور في مداواة المرضى.
وفي الحضارة الكنعانية (الفينيقية)، التي انتشرت في حوض البحر المتوسط في الألف الأول قبل الميلاد، تمثل علم الإتنولوجية النباتية في رسالة في الزراعة دونها في تاريخ غير معلوم عالم قرطاجي يُدعى ماغو Mago، وترجمها إلى اللاتينية الكاتب الروماني ماركوس فارون M. Varron (116-27ق.م) الذي عدّ ماغو القرطاجي أبا الزراعة.
وفي الحضارة اليونانية تمثل علم الإتنولوجية النباتية في قصيدة «الأعمال والأيام» التي نظمها الشاعر اليوناني هزيودس Hesiodes في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، وهي تُمثل التقويم الزراعي الذي شاع استعماله في تلك الأيام؛ كما ترجم كاسيوس ديونيسيوس Cassius Dionysios كتاب ماغو إلى اليونانية في مطلع القرن الأول للميلاد.
2- الإتنولوجية النباتية في العصر الروماني:
ومن أشهر المؤلفات التي ظهرت في هذا العصر كتاب في علم الأعشاب الطبية أو الأدوية المفردة، ألفه طبيب يوناني الأصل، يدعى بيدانيوس ديوسقوريدس Pedanius Dioscorides، عاش في القرن الأول للميلاد، وهو من مدينة عين زربة شمال حلب، وعمل جراحاً في الجيش الروماني في عهد الإمبراطور نيرون (54-68م). وكان يجمع في أثناء تنقله النباتات الطبية، ويدرس خصائصها الدوائية وصفاتها، ومكان انتشارها، ويصنع منها أدوية مركبة. ثم قام بعدئذ بتصنيف كتاب «الحشائش» ضمنه خمس مقالات وهي:
المقالة الأولى: ذكر فيها أنواعاً من العطور والتوابل والصموغ والأدهان.
المقالة الثانية: وفيها مجموعة من العقاقير الحيوانية المنشأ، إلى جانب حبوب وبقول وأعشاب حريفة.
المقالة الثالثة: جمع فيها النباتات التي تستعمل جذورها أو بذورها.
المقالة الرابعة: وتشتمل على أعشاب باردة، وأخرى حارة أو مسهلة أو مقيئة، أو مضادة لتأثير السموم.
المقالة الخامسة: وخصصها المؤلف للكلام عن شجرة الكرمة، وأنواع الأشربة والأدوية المعدنية.
وأُلحق بكتاب ديوسقوريدس مقالتان نسبتا إليه، جاء في الأولى منهما وصف لأنواع الطيور، وبعض الأسماك والحيوانات البحرية والبرية، وما يستفاد من ألبانها وأصوافها وشحومها ومراراتها وأزبالها وأبوالها. وفي الثانية كلام عن السموم والاحتراز من تناولها وعلاج الضرر إذا وقع فيها، وقد بلغ عدد العقاقير والأدوية التي جاء ذكرها في كتاب الحشائش لديوسقوريدس نحو 950 عقاراً، أما النباتات الطبية فبلغ عددها نحو 550 نباتاً.
ويقول سليمان بن حسان، المعروف بابن جلجل، في كتابه «طبقات الأطباء والحكماء»: «إن كتاب ديوسقوريدس ترجم بمدينة السلام (بغداد) في أيام الخليفة جعفر المتوكل. وكان المترجم له اصطفن بن باسيل، نقله من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي. وتصفحه حنين بن اسحاق، فصحح الترجمة وأجازها. فما علم اصطفن من تلك الأسماء اليونانية في وقته له اسماً في اللسان العربي فسره بالعربية، وما لم يعلم له اسماً تركه في الكتاب على اسمه اليوناني».
وثمة نموذج ثانٍ من كتب الأشياء عنوانه «التاريخ الطبيعي» Historia Naturalis، وهو موسوعــة تقع في 37 مجلداً، ألفها كايوس بلينيوس الأكبر [ر.بليني الأكبر] Plinius Caius (23-79م) وتشمل موضوعاتها المفردات والمركبات والطب والسحر والفلك والعقائد والتقاليد والطقوس والتعاويذ والتمائم والأعشاب والأشجار والسموم والحيوانات والأحجار والجواهر والإلهام والشعوذة. وقد ذكر بلينيوس كل المراجع التي اقتبس منها، وقضى نحبه اختناقاً قرب بركان فيزوف Vesuvio عام 79 للميلاد.
والنموذج الثالث من كتب الأشياء التي صنفت في العصر الروماني ما جاء في كتاب هرمس Hermes «مثلث الحكمة» Trimegist الذي وصف فيه 36 نباتاً شجرياً تمثل العلاقة بين السماء والأرض، وهما اللتان توجهان الوظائف الحيوية الإنسانية.
3- الإتنولوجية النباتية في العصر الإسلامي:
كانت قبائل الجزيرة العربية تعيش على صلة مباشرة بالنباتات والحيوانات التي اعتمدت عليها للحصول على غذائها ودوائها، وعلى العلف لمواشيها. وكانت خبراتهم في هذا المجال تنتقل وتتطور بالممارسة من جيل إلى آخر من غير تدوين. واشتمل القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، على كثير من الإشارات إلى فوائد بعض النباتات والمنتجات الحيوانية. وفي القرن الثاني للهجرة بدأ بعض علماء العربية يهتمون بتسجيل أسماء الكائنات الحية وضبط صفاتها، ومن أشهرهم عبد الملك بن قريب، المشهور بالأصمعي الباهلي (122ـ216هـ/740ـ831م) [ر] وهو من مواليد مدينة البصرة، كان إماماً في الأخبار والملح والغرائب. قدم بغداد في زمن الرشيد، ثم عاد إلى البصرة، وتوفي فيها. صنف الأصمعي أكثر من ثلاثين كتاباً، بعضها في علوم العربية، وبعضها في وصف أحياء البيئة الطبيعية التي عاش فيها. ومن تلك المؤلفات:
كتاب النبات والشجر، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الأجناس، وكتاب الخيل، وكتاب الإبل، وكتاب الوحوش وصفاتها، وكتاب مياه العرب، وكتاب الأنواء، وكتاب الأخبية والبيوت.
وقد حقق كتاب النبات والشجر أوغست هفنر A. Haffner والأب لويس شيخو، ونشراه في بيروت عام 1908م. وأعاد تحقيقه ودراسته الدكتور عبد الله يوسف الغنيم، ونشره في القاهرة عام 1947م.
تحدث الأصمعي في مقدمة هذا الكتاب عن أسماء الأرض وصفاتها، وما يصلح للزرع فيها من نبات وٍشجر. ثم ذكر أدوار النمو التي تمر فيها النباتات، وقسمها بعد ذلك إلى أحرار وذكور. فأحرار البقول ما رق منها وحسن، وذكورها ما غلظ منها وخشن. ثم قسمها بحسب طعمها إلى حمض وخُلَّة فالحمض ما كان طعمه مالحاً، والخلة ما كان طعمها مائلاً للحلاوة. وقسمها بحسب الأمكنة التي تنمو فيها إلى سهلية ورملية وجبلية، وبلغ عددها 280 نباتاً.
توالى بعد ذلك ظهور عدد من المصنفين في علم النبات عند العرب، وكان من أشهرهم أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (ت282هـ/895م) [ر]. كان تلميذاً لابن السكيت، كما كان ابن السكيت تلميذاً للأصمعي. وقد صنف أبو حنيفة ثلاثة علوم مختلفة: علم الأنواء -وعلم القرآن -وعلم النبات. ويعد كتابه في النبات موسوعة جمع فيها أسماء كثير من الأعشاب والجنبات والأشجار، التي تنمو في الجزيرة العربية، وجعلها في خمسة أجزاء. وبقيت هذه الموسوعة بكامل أجزائها حتى زمن الطبيب موفق الدين البغدادي (ت629هـ/1231م)، الذي كان يملك نسخة مخطوطة منها. ثم فُقدت بعض أجزاء تلك الموسوعة، ولم يعثر إلا على الجزء الثالث والنصف الأول مـن الجـزء الخامـس. وقام المستشرق الألماني برنهاردلفين B. Lewin بتحقيق ما بقي من كتاب النبات لأبي حنيفة، وشرحه (طبع في بيروت 1974م).
ولم يكن أبو حنيفة، في موسوعته بعلم النبات، مجرد جامع لمفردات هذا العلم، أو باحث عنها بين أبيات الشعر وأخبار الرواة، بل تجاوز التعريف الموجز لكل نبات، كما سار عليه من سبقه من علماء اللغة، وقدم وصفاً دقيقاً لجميع أعضاء النبات، وخاصة تلك التي تعرفها عن قرب، وهو يجوب أنحاء الجزيرة العربية، ثم قام بتصنيفها بحسب فائدتها العملية، ذاكراً الجزء المستعمل منها، وتأثيره الدوائي في الإنسان أو الحيوان أحياناً.
لذا يمكن أن يقال بأن أبا حنيفة الدينوري هو أول من وضع أساس علم الإتنولوجية النباتية في البلاد العربية، بالاعتماد على ما ورد في كتابه الذي قسمه إلى اثني عشر باباً وهي:
- باب الرعي والمراعي، وخصصه للكلام عن الإبل، وصفاتها وأمراضها، وما يسقط عليها من الحشرات، وما تستطيبه من النباتات، وما يحصل لديها من فائدة أو ضرر عند أكلها، ومنها الخلة والنجيل والأراك والطلح والغضا والقتاد والسُمُر والعُرْفُط والرَمَث والصليّان والحلى والسعدان والسخبر.
- باب الكمأة والجبأة: وقسمه إلى عراجين وأفاتيج وضغابيث وذآنين وطراثيث وبنات أوبر.
- باب الصموغ: وتكلم فيه عن النباتات التي تعطي: العلوك واللثا والمغافير والقطران، ومن أشجارها: الطلح والمقل والدوم والسمرة والأيدع.
- باب الدباغ: ويشمل النباتات المستعملة في دبغ الجلود، وأهمها: القرظ والأرطى والسلم والألاء.
- باب الزناد: تكلم فيه عن الأشجار التي يستعمل خشبها أو أعوادها في قدح الزناد، ومنها المَرْخ والدفلى والأثأب والبان والقطن وغيرها.
- باب ألوان النيران والأرمدة والأدخنة: يستعمل فيها نبات العرفج والرمث والتنضب.
- باب ما يصبغ به: ومنها نبات الورس والعصفر والكركم، وقرف الأرطي، وقرف السدر، وعروق الفوة.
- باب الروائح، ومنها الطيبة ومنها النتنة: فالطرفاء والقرنفل والحوذان والخزامى والشيح والقيصوم، من النباتات الطيبة الرائحة. أما النباتات الكريهة الرائحة فقليلة العدد ذكر منها السَنَعْبق وأم كلب.
- باب المساويك: وهي تصنع من الأراك أو البشام أو الإسحل أو الرند أو عراجين النخل.
- باب الحبال: وهي تصنع غالباً من لحاء الشجر أو من أليافها وسوقها. وأجودها ما تصنع منها الأرشية التي يستقى بها وهي: الطلح والسلم والعرفط والسمر. وذكر الأصمعي سوى هذا الكراث والكنب. كما تتخذ الحبال أيضاً من كرب النخل أو القطن أو الكتان.
- باب العسل والنحل: ذكر فيه أبو حنيفة صفات العسل وأسماءه، وقال عنه أنه لعاب النحل أو ريقه أو مُجاجه. ثم عدد النباتات التي يجرسها النحل ومنها: الندغ والسحاء، وعسلهما أبيض. وعسل الضرم لونه كلون الماء. وأشد العسل حرافة وأرقه عسل الصعتر، وعسل الإفسنتين مر الطعم.
- باب القسي والسهام: وهو من أبواب الجزء الخامس من كتاب النبات. لقد أطنب أبو حنيفة في وصف القسي وأوتارها والسهام والنبل وطرق تحضيرها وكيفية استعمالها، حتى تجاوز عدد صفحات هذا الباب المئة صفحة.
تعليق