فإنه من الملاحظ عند المتأخرين، أو عند كثير منهم، أن موضوع التصحيح والتضعيف ليس كمثله عند بعض المتقدمين، فإنه يلاحظ أن كثيراً من المتأخرين تشاغل بالتصحيح والتضعيف حتى كان جل اهتمامه أن يصحح، أو أن يضعف، ولم يهتم بالمتن ولا باستنباطه، ولا بالوقوف عنده، بل كان أكثر ثقافة بعضهم أن يؤلف بالتصحيح والتضعيف فحسب، وهذا مأجور ومشكور، ولكن أن يتحول كثير من طلبة العلم إلى هذا، أعني إلى التصحيح والتضعيف، ودراسة السند فحسب دون النظر إلى المتن فإن هذا من تحويل الطاقات الفكرية والعقلية إلى الوسائل دون المقاصد.
والسند في حد ذاته إنما هو وسيلة إلى المتن الذي هو المقصود في الشريعة ليستنبط منه، والبعض يكرس الجهد والوقت في التصحيح والتضعيف حتى أصبح ذلك وسوسة، فيتحامل إلى أن يضعف الحديث الصحيح إذا أراد بأدنى علة، ويحاول بجهده وطاقته أن يجمع من القوادح، ومن النقد لهذا السند ليضعف هذا الحديث تفيهقاً وتعمقاً، وهذا لا ينبغي.
وقد رأيت كثيراً من المحدثين والمتأخرين يضعفون كثيراً من الأحاديث التي بني عليها كثير من الأحكام، وكان كثير من علماء الأمة كـابن القيم ، وقبله شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكثير وكثير، يبنون الأحكام على أحاديث ومنها ما فيه ضعف، كأحاديث كثيرة في سنن الترمذي و أبي داود و النسائي و ابن ماجة ، فجاء بعض المتأخرين فضعف مجلدات من هذه الكتب المصنفة التي عليها مدار رحى الإسلام، والتي بنيت عليها أحكام، والتي أخذت منها استنباطات عجيبة، فقالوا: هذه الأحاديث الضعيفة لا يستدل بها في الأحكام، ولا في الفضائل، ولا في الرقائق، ولا غير ذلك، أي أن وجود هذه الأحاديث والمجلدات التي ضعفوها وعدمه سواء، وسواء وجدت في هذه الكتب أو لم توجد فليس لها قيمة أبداً، وهذا خلاف ما عليه السلف فيما رأيت بالاستقراء والمطالعة، فإن كثيراً من العلماء القدماء يقولون: رواه الترمذي ، ويبنون عليه حكماً، ولو أن في الحديث ضعفاً، ولكن له شواهد واعتبارات، وله أصول تؤيده، ومثل هذا خير من آراء الرجال.
وهؤلاء أيضاً يعتنون بالسند أكثر من اعتنائهم بالمتن ومقاصده وأهدافه، فإذا ضعف عندهم السند ضغفوا الحديث ولم يعتنوا به، وإذا قوي السند قبلوا الحديث، ولو كان في متنه غرابة، فليت الجهد هذا يوزع بين السند والمتن، حتى يكون التصحيح والتضعيف على قواعد مقبولة.
تعليق