بسم الله الرحمن الرحيم
((إِنَّا))
ما أجمل كلمة ((إِنَّا)) هنا، ما أحسن موقعها، ما أجل إيحاءها، وما أعذب إيرادها هنا.
((إِنَّا)) هكذا ضمير المتكلم تأتي أول السورة بلا مقدمات ولا تمهيد، فهي في موضعها أجمل من التاج على الرأس، ومن البسمة على الفم، ومن الفجر على رؤوس الجبال، ولك أن تتصور أثر ضمير ((إِنَّا)) الذي يعني: الله جل في علاه، يوم يأتي في زوال الكلام هكذا، ولا تدري ماذا سوف يأتي بعده.
اقرأ ((إِنَّا)) ثم اسكت قليلاً لترى العظمة، فهو ضمير الجماعة، ولكن عن الله الواحد الأحد القهار الجبار.
((إِنَّا)) وتفكر في مدلولها، وما وراءها، فإذا هي تحمل في طياتها هذا الاسم المحبب إلى القلوب المحبذ لدى الأرواح (الله).
و((إِنَّا)) يقولها ملوك الأرض ليعظموا أنفسهم، فإذا قالوها انتظر رعاياهم ومواليهم ما بعدها، فإما تكريم يفوق الوصف، أو عقوبة ونكال تتجاوز الحدود، لأنهم لا يقولون ((إِنَّا)) إلا إذا استجمعوا قواهم وكيانهم وهيبتهم.
وهنا يقول الله عز وجل: ((إِنَّا)) بصيغة الجمع تعظيماً، وبلفظ الكل تفخيماً؛ ليأتي بعدها عطاء مدرار، وفيض منهمر، وهبة جسيمة، ونعمة عظيمة فوق ما يعطيه الملوك، وأحسن ما يمنحه القادة؛ لأن ما يعطونه هو ذرة من عطائه، ونقطة من بحر جوده وكرمه.
وقال: ((إِنَّا)) لأن ما يأتي بعدها يستحق الاحتفاء، وهذا يقع في كل أمر هام، ففي الخلق قال تعالى: ((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ)).
وفي الرسالة قال: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)).
وفي الإحياء قال: ((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى)).
وفي العلم قال: ((إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)). ونحو ذلك.
وبدأ بـ ((إِنَّا)) في أول الكلام؛ لأنها تشير لذاته المقدسة سبحانه، فهو الأول سبحانه فليس قبله شيء، ثم إنها أكسبت الكلام تشريفاً فهو أعظم من: ((أَعْطَيْنَاكَ)) بدون ((إِنَّا)) أو (لقد أعطيناك) فلما قال: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ)) حصل الجمال اللفظي، وعظمة العطاء والاحتفاء به صلى الله عليه وسلم.
((أَعْطَيْنَاكَ))
الخطاب لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أن تتذكر حاله وهو يستمع للعطية، وينتظر الهبة من المعطي الكريم، جل في علاه، وهنا قال: ((أَعْطَيْنَاكَ)) ولم يقل: (أعطيتك)؛ لأن المقام مقام عطاء، وبذل وجود وكرم، فهو مقام عظيم، وموقف شريف مهيب، يستحق التعظيم والتبجيل، ولأن العطية هائلة مباركة عامرة دائمة، تستحق الاحتفاء والاهتمام، ولفت النظر وجلب الانتباه.
((أَعْطَيْنَاكَ)) ولم يقل (آتيناك)، والعطاء شيء والإيتاء شيء آخر، وقد ورد ((وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي))، وورد: ((وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ))، وورد: ((وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا))، وغيرها من الآيات، ولكن (أعطى) أعظم أثراً، وأوقع خبراً؛ لأن العطاء يشمل المعاني والمحسوسات، عطاء الدنيا والآخرة، البذل العاجل والآجل، ما يصلح للروح والجسد، فصارت كلمة ((أَعْطَيْنَاكَ)) تملأ المكان حضوراً، وتفعم القلب نداوة، وتروق في الفم عذوبة، ثم إن العطاء من الله، وليس من البشر، فلذلك قصره بالضمير ((إِنَّا)) والفعل ((أَعْطَيْنَاكَ)) فهذا العطاء من الله لا من البشر، من السماء لا من الأرض، من الجود والغنى والسعة، لا من البخل والفقر والضيق.
عطاء يباركه معطيه، ويتعاهده مسديه، ويثمره مبديه، عطاء ليس فيه منة البشر، وأذى المخلوق، وتبعة النفس اللوامة، وجشع القلب الشحيح.
وقال: ((أَعْطَيْنَاكَ)) ولم يقل: (أعطيناكم)، فالعطاء هنا لمحمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً وتعريفاً؛ فهو أمة في رجل، وتاريخ في إنسان، وهو أهل لأن يعطى هذا العطاء بلا حدود؛ لأنه عبد شكور، اختير بعناية، واصطفى برعاية، وبعث برسالة، ونبئ بملة.
فإذا أعطي وصلت بركة هذه العطية إلى أمته علماً وحكمة، صلاحاً وتقوى، شريعة ومنهاجاً، نصراً وفتحاً.
ولم يذكر العطية بالجمع فلم يقل: (أعطيناكم) بل قال: ((أَعْطَيْنَاكَ)) ليحصل التفرد والتشريف، والاختصاص؛ فالتفرد تفرد الله عز وجل بهذه العطية وحده؛ والتشريف له صلى الله عليه وسلم لأن الله كرمه واصطفاه، والاختصاص؛ لأن الله خصه بهذا من بين الناس.
وللرسول صلى الله عليه وسلم أن يفرح بهذا العطاء المبارك من الله، ويعتز به عن كل مفقود، ويغنيه عن كل موجود إلا الواحد المعبود.
هذا العطاء يسليه إذا ذهب أعداؤه بالحطام، وتوزعوا الأموال كالأكوام.
هذا العطاء يبرد غليله، ويشفي عليله، فإذا أعطي الناس الفلك فعنده عطاء أعظم وأجل، وإذا كنزوا الكنوز، وعبؤوا القناطير المقنطرة فعنده هذا العطاء الدائم المبارك، ولذلك نجده صلى الله عليه وسلم أشرح الناس صدراً، وهو لا يملك من الدنيا درهماً ولا ديناراً؛ لأن عنده عطاءً آخر من عند مولاه، وهبة أخرى من عند ربه، جل في علاه، يقسم صلى الله عليه وسلم الأموال، والإبل والبقر والغنم، والثياب والطعام، على الناس فلا يأخذ منها درهماً، ولا ناقة ولا بقرة ولا شاة، ولا ثوباً، ولا حبة ولا تمرة، ثم هو سعيد مغتبط قرير العين، ساكن الفؤاد مطمئن النفس.
وهذا العطاء من الله هو: الكوثر، وهو نهر في الجنة، له صلى الله عليه وسلم، أو هو الخير الكثير الذي أعطيه، عليه الصلاة والسلام، ومن هذا الخير الطيب المبارك: نهر الكوثر، وهنا يلحظ المؤمن بعين بصيرته تفاهة الدنيا وحقارتها، وخستها ولؤمها، فهي ليست أهلاً لأن تكون عطية لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقدره أشرف، ومكانته أطهر وأعظم، ومنزلته أسمى وأنبل.
ولم يقل: (إنا أعطيناك ملكاً)؛ لأن ملك الدنيا عطاء يزول، وحال يحول، وظل منتقل، ومجد منقطع، ولكن ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) لأنه عطاء دائم مبارك متصل خالد سرمدي.
ولو قال: (إنا أعطيناك الملك)، لم يتغير شيء، ولم تحصل مفاجأة، فها هم الملوك ملؤوا الأرض عرباً وعجماً، بيضاً وسوداً، ومسلمين وكافرين، ولو قال: (إنا أعطيناك ملكاً) لكان محمداً صلى الله عليه وسلم ضمن تلك القائمة الطويلة من ملوك اليمن و الجزيرة و العراق وفارس والروم و الحبشة ، فما هو الغريب إذاً؟
والعجيب حقاً، والملفت للنظر صدقاً، إنه هذا العطاء من الله الذي اختص به محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يشركه مع أحد من الناس في هذا العطاء، فهو التفرد من المعطي سبحانه الذي لا يشابهه في عطائه أحد، كما أنه لا يشابهه في أفعاله وأسمائه وصفاته وذاته أحد ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)).
وهو التفرد للمعطى، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل من ملوك الأرض، بل لا يقارن به الملوك أبداً، فهو أجل وأعظم وأشرف.
دع سيف ذي يزن صفحاً ومادحه وتبعاً وبني شداد في إرم
ولا تعرج على كسرى ودولته وكل أصيد أو ذي هالة وكمي
وهو التفرد في العطية؛ لأنها ليست ملكاً، ولا داراً، ولا قصراً، ولا ذهباً، ولا فضة، بل نعيم دائم، ومقام صدق عند مليك مقتدر، مع فتح ونصر، وعلم وعمل، وهدى ونور، وسرور وحبور.
فإذا أعطيناك الكوثر، فلا تأسف على ما فاتك من هذه الدار، فقد أكرمناك عنها، وأنقذناك منها، ولا تحزن على ما لم تنله من متاع زائل، وعطاء قليل منغص.
وقال: ((أَعْطَيْنَاكَ)) ولم يقل: (نعطيك) أو (سوف نعطيك) لتحقق العطية فكأنها وقعت لصدق المخبر جل في علاه، ولأنها واقعة لا محالة.
وفي سورة الضحى قال: ((وَلَسَوْفَ يَرْضَى)) لأنه لم يخبر بالعطية فكان الأحسن عند وعده بها: أن لا تسمى لتبقى مبهمة لجلالتها وعظمتها، ولما سمى هنا العطية بالكوثر ذكرها بالماضي كأنها حصلت، وذكر هنا الكوثر، وهو صفة النهر ولم يذكر الموصوف تفخيماً للعطية؛ كقولك: جاءني العالم والكريم، أي: الذي لا أعلم منه، ولا أكرم، وهو أبلغ في اللغة من قولك: جاءني الرجل العالم والرجل الكريم.
وقد صح عنه، عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (الكوثر نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه مسك، أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر كلها أنعم منها) (1) .
وصح عنه، عليه السلام، قوله: (الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من الثلج). (1) .
وعرف الله الكوثر بأل، ولم يقل كوثراً؛ لأن المعرفة أبلغ وأجل، فكأن المعنى: أعطيناك الكوثر المعروف العظيم المتميز عن كل نهر.
((فَصَلِّ لِرَبِّكَ))
ما دام أن العطاء من ربك وحده، لا من غيره، فاعبده وحده لا سواه، فلا إله إلا هو، صل لربك الذي أعطاك، فبالصلاة والعبادة والذكر والشكر يستمر العطاء وينمو، ويزيد ويدوم ((لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ))، ((وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) وأعظم الشكر الصلاة ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)).
وإنما ذكر الصلاة هنا وحدها، وسماها وخصها؛ لأنها عمود الإسلام، وأجل الطاعات بعد الشهادة، وهي الفارق بين المسلم والكافر، وهو العهد الذي بين عباد الله وأعداء الله، وهي أول ما يحاسب عليها العبد، وآخر وصاياه صلى الله عليه وسلم من الدنيا.
وقال هنا: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ)) فذكر الربوبية؛ لأن المقام مقام إعطاء ونعمة وهبة، والرب هو الذي يربي عباده بنعمه الجزيلة، وأياديه الجميلة، فحسن ذكر الرب هنا، وفي ذكر الصلاة: إشارة إلى عبودية الله وحده التي هي متضمنة توحيد الألوهية، فاجتمع ضمناً في قوله: ( فصل ) توحيد الألوهية، وفي قوله: ( لربك ) توحيد الربوبية.
وفي الآية: إشارة إلى أن أعظم ما يفتح به على العبد من الفتوحات الدينية والدنيوية إنما يكون بالصلاة، فـزكريا بشر بـيحيى وهو قائم يصلي في المحراب، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وإذا جاءه أمر يسره خر ساجداً لربه.
فبالصلاة يحافظ على النعمة أن تفر، ويقيد الخير بها أن يهرب، فهي حرز للنعم، وحصن مانع من النقم، يستجلب بها المزيد، ويستمطر بها الرزق، ويستدر بها العطاء.
((وَانْحَرْ))
وقوله: ( وانحر ) أمر بجعل الذبح والنحر لله، فلا يشرك معه فيه أحد، فإن المشركين يذبحون لغير الله من الأوثان والأصنام والجن، فأمر أهل الإيمان بصرف هذه العبادة لله وحده، فالتقوى فيها قصد الله بها، وعدم إشراك سواه سبحانه ((لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ))، فالصلاة والنحر عبادة ونسك يجب صرفها لله وحده ((قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)).
والصلاة والنحر صلة وقربى بين العبد وربه، وعبادة بدنية ومالية يقصد بها الله وحده، والصلاة نفع لازم للعبد، والنحر نفع متعدي فوجب الإخلاص في كل عبادة ليكون العبد مخلصاً لله ((أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ))، وبعضهم قال: الصلاة هنا صلاة عيد الأضحى، والنحر هو نحر الهدي، والأضحية بعد الصلاة، والظاهر العموم، وهنا يظهر تميز أهل الإيمان عن أهل الأوثان، فإن المشركين سجدوا للصنم وذبحوا للوثن، فجاء الأمر هنا بالسجود للواحد المعبود، والنحر للملك الحق، وأعظم شرك فعله الوثنيون هو تمريغ الأنف للحجارة، وإسالة الدم للأنداد والأضداد، وأرفع عمل للموحدين بعد التوحيد هو وضع الجبين على الطين لرب العالمين، وإسالة الدماء تقرباً لرب الأرض والسماء.
((إِنَّ شَانِئَكَ))
وقوله: ( إن شانئك ) هجوم أدبي كاسح، وتهديد رباني ماحق ساحق لأعداء محمد صلى الله عليه وسلم وخصومه ومبغضيه، وهذا ذب عن شخصه الكريم، ودفاع عن مقامه العظيم، فإذا كان المدافع والحامي والناصر هو الله فيا لقرة عينه صلى الله عليه وسلم بهذا النصر والدفاع والولاية، وشانؤه صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا كافراً مارداً حقيراً خسيساً؛ لأنه ما أبغضه إلا بعدما أصابه الله بخذلان، وكتب عليه الخسران، وأراد له الهوان، وإلا فإن إنساناً مثل الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب النقل والعقل حبه، إذ لو كان الطهر جسداً لكان جسده صلى الله عليه وسلم، ولو كان النبل والسمو صورة لكان صورته، بأبي هو وأمي، فهو منتهى الفضيلة، وغاية الخصال الجميلة، والمستحق للوسيلة، وصاحب الدرجة العالية الرفيعة الجليلة، فكان الواجب على من عنده ذرة رأي، وبصيص من نور، إذا كان يحترم عقله أن يحب هذا الإمام العظيم لما جمع الله فيه من فضائل، ولما حازه من مناقب، ولكن واحسرتاه على تلك العقول العفنة، والنفوس المندثرة بجلباب الخزي، القابعة في سراديب البغي، الراتعة في مراتع الرذيلة، كيف عادته مع كماله البشري، ومقامه السامي، فكأنه المقصود بقول الشاعر:
أعادى على ما يوجب للحب للفتى وأهدأ والأفكار في تجول
وقول الآخر:
إذا محاسني اللائي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
((هُوَ الأَبْتَرُ))
وقوله: ((هُوَ الأَبْتَرُ)) أي: مقطوع البركة والنفع والأثر، فكل من عاداك لا خير فيه، ولا منفعة من ورائه، أما أنت فأنت المبارك أينما كنت، اليمن معك، السعادة موكبك، الرضا راحلتك، البركة تحفك، السكينة تغشاك، الرحمة تتنزل عليك، الهدى حيثما كنت، النور أينما يممت، وأعداؤه صلى الله عليه وسلم قالوا عنه: أنه أبتر، لا نسل له، ولا ولد، فجاء الجواب مرغماً لتلك الأنوف، دافعاً لتلك الرؤوس، محبطاً لتلك النفوس.
فكأنه يقول لهم:
كيف يكون أبتر وقد أصلح الله على يديه الأمم، وهدى بنوره الشعوب، وأخرج برسالته الناس من الظلمات إلى النور؟
كيف يكون أبتر والعلم أشرق على أنواره، والكون استيقظ على دعوته، والدنيا استبشرت بقدومه؟
كيف يكون أبتر والمساجد تردد الوحي الذي جاء به، والحديث الذي تكلم به، والمآذن تعلن مبادءه، والمنابر تذيع تعاليمه، والجامعات تدرس وثيقته الربانية؟
كيف يكون أبتر والخلفاء الراشدون نهلوا من علمه، والشهداء اقتبسوا من شجاعته، والعلماء شربوا من معين نبوته، والأولياء استضاؤوا بنور ولايته؟
كيف يكون أبتر وقد طبق ميراثه المعمورة، وهزت دعوته الأرض، ودخلت كلمته كل بيت؟
فذكره مرفوع، وفضله غير مدفوع، ووزره موضوع.
كيف يكون أبتر وكلما قرأ قارئ كتاب الله فلمحمد صلى الله عليه وسلم مثل أجره؛ لأنه هو الذي دله على الخير، وكلما صلى مصلي فله مثل أجر صلاته؛ لأنه هو الذي علمنا الصلاة: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) ، وكلما حج حاج فله صلى الله عليه وسلم مثل حجه؛ لأنه الذي عرفنا تلك المناسك (لتأخذوا عني مناسككم) (1) .
بل الأبتر الذي عاداه وحاربه، وهجر سنته، وأعرض عن هداه.
فهذا الذي قطع الله من الأرض بركته، وعطل نفعه، وأطفأ نوره، وطبع على قلبه، وشتت شمله، وهتك ستره، فكلامه لغو من القول، وزور من الحديث، وعلمه رجس مردود عليه، وأثره فاسد، وسعيه في تباب.
وانظر لكل من ناصب هذا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم العداء، أو أعرض عن شرعه أو شيء مما بعث به، كيف يصيبه من الخذلان والمقت والسخط والهوان بقدر إعراضه ومحاربته وعداءه.
فالملحد مقلوب الإرادة، مطموس البصيرة، مخذول تائه منبوذ، والمبتدع زائغ ضال منحرف، والفاسق مظلم القلب في حجب المعصية، وفي أقبية الانحراف.
ولك أن ثرى سموه صلى الله عليه وسلم وعلو قدره، ومن تبعه يوم ترى أهل السنة وحملة حديثه وآثاره، وهم في مجد خالد من الأثر الطيب، والذكر الحسن، والثناء العاطر من حسن المصير، وجميل المنقلب، وطيب الإقامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ثم انظر للفلاسفة المعرضين عن السنة مع ما هم فيه من الشبه والقلق والحيرة والاضطراب والندم والأسف على تصرم العمر في الضياع، وذهاب الزمن في اللغو، وشتات القلب في أودية الأوهام.
فهذا الإمام المعصوم صلى الله عليه وسلم معه النجاة، وسنته سفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها هلك، وهو الذي يدور معه الحق حيثما دار، وكلامه حجة على كل متكلم من البشر من بعده، وليس لأحد من الناس حجة على كلامه، وكلنا راد ومردود عليه إلا هو صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، زكى الله سمعه وبصره وقلبه، ونفى عنه الضلال وحصنه من الغي، وسلمه من الهوى، وحماه من الزيغ، وصانه من الانحراف، وعصمه من الفتنة، فكل قلب لم يبصر نوره فهو قلب مغضوب عليه، وكل أرض لم تشرق عليها شمسه فهي أرض مشؤومة، فهو المعصوم من الخطأ المبرأ من العيب، السليم من الحيف، النقي من الدنس، المنزه عن موارد التهم، على قوله توزن الأقوال، وعلى فعله تقاس الأفعال، وعلى حاله تعرض الأحوال.
وقد قصد الكفار بقولهم: أنه أبتر، عليه الصلاة والسلام، أنه لا ولد له فإذا مات انقطع عقبه، والأبتر عند العرب هو من لا نسل له، ولا عقب فرد الله عليهم وأخبر أن من أبغضه وعاداه هو الأبتر حقيقة.
وفي هذه السورة ثلاث آيات، فالأولى عن الله عز وجل وعطائه لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والثانية للرسول صلى الله عليه وسلم والواجب عليه في مقابلة هذا العطاء وهي الصلاة والنحر.
والثالثة لأعدائه صلى الله عليه وسلم وهو البتر والقطع من الخير والبركة والنفع، فالأولى عطية له، والثانية واجب عليه، والثالثة دفاع عنه.
وفي السورة: تكريم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، واثبات الكوثر له كما صحت به الأحاديث أيضاً، والدفاع عنه، وجواز سب الكافر وشتمه وزجره ليرتاع.
فصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ما نطق لسان، وخفق جنان، وتنفس صباح، وعسعس ليل، ورمش جفن، ودمعت عين، وتجدد لقاء، وحل صفاء، وقام ضياء، وبرق سناء، وهب هواء، وعلى آله وصحبه الكرام البررة.
تعليق