بسم الله الرحمن الرحيم
((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ))
هذا هجوم ساحق ماحق على أبي لهب .
وأبو لهب هو: عم محمد صلى الله عليه وسلم من النسب، لكن المسألة مسألة مبدأ وإيمان ومعتقد، أبو لهب هذا قطع أواصر القرابة بالكفر، ورابطة النسب بالإلحاد، وصلة المودة بالإعراض.
أبو لهب : اسم في قائمة المنبوذين الخاسرين، لم ينفعه نسبه، لم يدافع عنه حسبه، لم تنقذه قرابته، لم يمنعه ماله، لم يذب عنه جاهه.
((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))
خسرت يداه الاثنتان، هلكت كفاه، وخابت يمينه وشماله.
يداه حيث البخل والإمساك، والشح والإيذاء.
هكذا بلا مقدمات، ولا ديباجة، ولا تعريف، ولا تدرج في الخطاب، بل دفع مباشر، وفتك سريع، وانتقام خاطف.
((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))
إعلان حرب ضروس على رجل تافه، زائغ الرشد، ضال البصيرة، شارد الإدراك.
وهذه السورة نصيب لـأبي لهب وامرأته، لا يشاركهما أحد، تنزل على هذا البيت صاعقة محاقة؛ لتزلزل أركانه، وتنسف كيانه، وهي دفاع عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، وقد أوذي من عمه الجلف الجبار الجاهل؛ الذي لم يحفظ القرابة، ولم يرع النسب، ولم يصن أبسط حقوق المروءة، إنه القاطع الآثم المحارب، الذي وقف في وجه النور لئلا يصل إلى العيون، ووقف أمام الفجر لئلا يزحف على الظلام.
إنه رجل جهم المحيا، خاوي الضمير، عابس الوجه، صاخب الصوت، فاحش اللفظ، مقذع السباب.
فليس له إلا قذيفة تحمل اسمه، وتحطم مشاعره، وترغم أنفه، وتذله وتصغره؛ ليعرف قدره الضئيل الحقير، وهذه السورة قصيرة الفواصل، سريعة الإيقاع، بائية؛ حيث القلقلة والزلزال والأخذ، فيه تلتهب وتضطرب وتتحرك في غضب وفتك.
( تبت ) فهي تتماوج من أول كلمة، وهي تعلن اسمه في أول سطر، وتذيع كنيته في أول جملة؛ ليعرف أنه المقصود، ولتسير هذه السورة من شوارد القوارع الخطابية؛ التي تبقى أبد الدهر لكل من هذا صنيعه، ولكل من هذا منهجه عبرة لمعتبر، وعظة لمتعظ، وخزي لكل مفتر آثم.
((مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ))
مال أبي لهب : زاده إلى النار.
مال أبي لهب : سم يتجرعه، علقم يحتسيه، زقوم يلتقمه.
مال أبي لهب لا بركة فيه، ولا نفع؛ لأنه أداة للتخريب، ووسيلة للإيذاء، والصد عن سبيل الله، مال ينصر به الحق، ولا يطعم به المساكين، ولا يقرى به الضيف، ولا يؤيد به الفضيلة.
مال جمع لمحاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مال رصد للمعصية، فلا بارك الله فيه، ولا ثمره، ولا زكاه.
عسى ماله زاد إلى النار حاضر ومركب خزي للدمار سريع
فما كان إلا البخل والشح والخنا يدبره نذل الطباع رقيع
وماذا ينفع أبا لهب ماله، فلم يتصدق بصدقة، ولم يصطنع به معروفاً، ولم يبن به مكرمة، ولم يشيد به فضيلة.
وعلى هذا فقس كل مال حورب به الإسلام، وكل كسب عورض به الحق، فمصيره: الخسار والتباب والخزي والعار. ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)).
إن المال الحرام لن يدافع عن صاحبه بل هو وقود له في جهنم.
((سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ))
اسمع جزاءه وجائزته، تأمل مرده ومصيره، انظر نهايته وخاتمته.
إنها نار ذات لهب؛ لأنه أبو لهب :
كتبت في رأسه بالسيف ملحمة من اسمه فغدا يدعى بلا نسب
عرفته بالدم القاني فلو قطرت دماؤه كتبت هذا أبو لهب
والله، ليحترقن هذا الفاجر بلظى جهنم تضطرم عليه، تتلظى في جسده، تحرق كيانه، يذوق لظاها، يتقلب فيها، يتمرغ على لهبها وشظاياها.
((وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ))
وجاء دور شريكة الحياة، والمشاركة في محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، جاء ذكرها هنا؛ لأنها تميزت بالإيذاء، ولم يذكر اسمها ونسبها فيه، مشهورة بحمالة الحطب فقط، إنها تعرف فحسب بواضعة الشوك في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبؤساً لحمالة الحطب هذا المصير المأساوي.
إن حمالة الحطب حاربت وآذت وأساءت وخانت.
إن حمالة الحطب بذلت جهدها في الإساءة، واستفرغت قواها في الإيذاء.
وكل امرأة تحارب الملة، وتستهـزئ بالدين، وتبغض الشريعة فهي حمالة الحطب.
وكل امرأة تصد عن سبيل الله بفعلها، أو كلامها، أو قلمها، أو علمها، أو أدبها فهي حمالة الحطب.
حي التي هي أغلى منتهى طلبي يا مضرب المثل الأسمى لدى العرب
هي العفاف وفي أفيائه نبغت حمالة الورد لا حمالة الحطب
وهنا لم يذكر كنيتها، وذكر كنية زوجها أبي لهب ؛ لأن أبا لهب له مناسبة بنار ذات لهب، وهي أم جميل ، وليس لها من الجمال نصيب، فلم تذكر بـأم جميل ، بل بحمالة الحطب.
قال بعض المفسرين: معنى حمالة الحطب، أي: أنها تنقل النميمة، فكل امرأة نمامة مفسدة خائنة، فهي حمالة الحطب.
وكل امرأة تتبرج وتتبهرج، وتخطف أضواء الفتنة والإغراء، فهي حمالة حطب.
وكل امرأة تهيم في المسرح، وتوزع الرذيلة، وتسلب الألباب، وتدوس القيم فهي حمالة الحطب.
وكل امرأة تلغي الستر، وتحارب العفاف، وتهون الفاحشة، وتزرع الرجس فهي حمالة الحطب.
وكل امرأة تقيم حفلات الغواية؛ لتفتن الخليقة، وتضل الجيل، وتفتك بالمشاعر، وتقتل الفضيلة فهي حمالة الحطب.
حمالة الحطب قد تكون ممثلة سائبة فاتنة مغرية، خلعت جلباب التقى، ونزعت حجاب الصيانة، وخرجت على تعاليم الإسلام.
حمالة الحطاب قد تكون مغنية مائسة، سافرة تفعل بصورتها في القلوب فعل السحر، وتميل بحركاتها ورقصاتها عقول مشاهديها.
حمالة الحطب قد تكون شاعرة كفارة بالمبدأ، خاوية الضمير، عابثة الأخلاق والأعراف، وقد تكون ممثلة مهرجة سخيفة، عفت بيتها، وعافت دينها، وتبرأت من شرفها، وهجرت قيمها.
إن حمالة الحطب من النساء فعلت بالأمة ما لم تفعله الجيوش الغازية، والقنابل الحارقة، والصواريخ العابرة.
إن حمالة الحطب عرضت في المسرح هكذا كاسية عارية، فاتنة متبرجة متبهرجة، مائلة مميلة، فسلبت قلوب اللاهين، وأذهبت عقول الغافلين، فأضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً، قدمت المرأة لحماً على وضم، فطاف بها ذئاب الشر، ينظرون ويتلذذون ويعشقون ويذوبون ويهيمون.
خدريهم يا كوكب الشرق، اسقيهم بكأس الفتون والإغراء، عذبي كل مهجة بهيام سال من مقلتيك في الأحشاء.
((فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ))
هذه هي حليتها في النار، هذا ذهبها وفضتها.
والمرأة تهتم بالجمال، وتتظاهر بالحسن، وترصع جيدها بالزاهي من الحلي، والمبهج من الزينة، فكان جزاء هذه المرأة المحاربة الكافرة: أن تشد عنقها بحبل من مسد، يلتهب عليها ناراً.
يا له من طوق رهيب يشتعل ناراً، ويقدح شراراً، ويذوب حرارة وانصهاراً.
هذا النكال ينتظر هذه المرأة الكافرة ومثيلاتها من كل مفلسة من القيم، صادة عن الخير محاربة للملة.
إن على كل امرأة تحرص على روعة الحلي، وجمال المظهر، وحسن العرض: أن تتحلى بزينة الإيمان، وحلي العفاف، ولباس التقوى؛ ليحليها الله بأجمل حلة، وأبهى زينة، وأبهج مظهر، وأحسن نضرة في جنات النعيم.
حور حرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
حلى التقى زان الصدور بعفة ويصدهن عن الخنا الإسلام
عد الآن إلى مشهد حمالة الحطب في النار، وانظر لتلك الصورة البائسة القاتمة المزعجة، امرأة تعذب في النار، في عنقها حبل من النار، لا يفارقها تجرجره في النار، وتكتوي بلظاه، وتصطلي بسعاره جزاءاً وفاقاً لما فعلته بصاحب الرسالة من تربص وأذى ونكاية وملاحقة.
وهذا مصير ينتظر كل من فعلت فعلتها، وسارت مسيرتها في الغي والضلال والانحراف والعدوان.
وسبب نزول السورة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع الناس فلما اجتمعوا قال: (أيها الناس! قولوا لا اله إلا الله تفلحوا) (1) فقال أبو لهب : تباً لك ألهذا دعوتنا؛ فنزلت السورة.
والله، لا يتب محمد صلى الله عليه وسلم أبداً، ولا يخسر مطلقاً، بل هو المظفر سرمداً، المحفوظ دائماً، المحفوف بالعناية، المحوط بالرعاية.
لن يخسر، وهو رمز الصدق، علم البر، وتاج الصلاح، وهو الواصل إذا قطعت الرحم، وحافظ العهد إذا نقضت الذمم، وحامل الكل إذا كلت العزائم، والمعين على نوائب الحق إذا ادلهمت الخطوب، ومكسب المعدوم إذا شحت النفوس، وانكمشت الأيدي عن البر، فوالله، لا يخزيه الله أبداً.
ويا لها من عزة للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتولى الله الدفاع عنه، والذب عن شخصه الكريم.
والسورة لم تذكر السبب والتفصيل، وكلام أبي لهب ، وما حدث، وما صار، بل نزلت كالرعد على رأس هذا الرعديد، تذله وتحقره وتصغره، وأول هذه الضربة القاتلة ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) وهكذا مثل البرق الخاطف، أو السيل الزاحف، أو الصاعقة المدمرة في لمح البصر، وومض العين، ورجفة القلب في بلاغة وإيجاز، ومخافة وقوة؛ لتشفي كل قلب جرحه هذا الآثم، وترضي كل نفس آذاها هذا الفتان أبو لهب .
ما لهذا الكافر المعاند وأمثاله إلا الخطاب الناري، واللهجة المرعبة، والرد الحاسم؛ ليكشف زيفهم، ويظهر عوارهم ويعرف مكرهم، وهذا الفرق بين الحوار الوديع الهادي، وبين الرد الحاسم الجازم، فالذي يحارب الحق على عمد، ويؤذي الصالحين بقصد، ويناصب الملة العداء بترصد وسابق إصرار، ليس له أن يدغدغ بكلام لين، ويتألف بحديث معسول، ويشاجى بقول جميل، بل يمرغ تمريغاً، ويمزق تمزيقاً، ليبطل كيده، وينسف فكره، ويعلم حاله.
إنما الحزم أن تري النذل حزما بثبات أمضى من السيف حسما
إن من يأفك في المنهج، ويستهزئ بالدين، ويستهتر بالحق، ليس لك أن تفاوضه بلطيف الجمل، وندي الحديث، ليس لهذا المارد إلا فتح النار على رأسه؛ لتكسر شوكته، ويمرغ أنفه، وإلا فما فائدة البيان الشافي الكافي، وما قيامة الفصاحة الناصعة الساطعة، وما قدر الكلمة الآسرة النافذة إذا لم ينصر بها حق، ويرغم بها كفر، ويزهق بها باطل، نعم هناك حوار هادئ، وموعظة حسنة، وجدال بالتي هي أحسن، لكن في موطنه ومكانه ومقامه:
فوضع الندى في موضع السيف في العلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
أما إذا وصل الحال إلى استكبار وإصرار، وتبجح وتمرد، فليس هناك إلا قوارع كبروق تهامة، وصواعق كسكرات الموت، ليبقى الحق مهاب الجانب، مقدس العتبات، وصون الحرمات محترم الكيان، نعم.
لن يزرع الحق في الأرض إلا بقدرة من الله حاصدة للباطل.
ولن يشاد قصر الفضيلة إلا بمعول من الله يهدم أوكار الرذيلة.
ولن يحفظ ميثاق الوحي ودستور الشرع إلا بكلمات خطابية يذهل كل مرضعة عما أرضعت؛ لتحطم بها أنوف المردة، وتكسر بها جماجم الطغاة.
إن من يرد شبهة الباطل بكلام متهافت ميت، يزيد من قوة هذا الباطل وجماحه وهياجه، ولهذا كان البيان سحراً، واللسان البليغ سلاحاً فتاكاً، والكلمة النافذة قذيفة ماحقة، ولمثل هذا يمدح البيان، وتحبذ البلاغة، ويعشق الأدب، وتبت يدا أبي لهب .
تعليق