الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}} [فصلت: 39] أي: اهتزت بأشجارها وعشبها، وربت أي: زادت، وليس المراد الأرض نفسها، بل المراد ما ينبت فيها.
وأما شرعاً فهو زيادة في أشياء ونسأ في أشياء، ولو قيل: إن ربا الفضل هو التفاضل في بيع كل جنس بجنسه مما يجري فيه الربا، وربا النسيئة تأخير القبض فيما يجري فيه الربا.
فليس كل زيادة ربا في الشرع، وليس كل زيادة في بيع ربا، إذا كان المبيعان مما تجوز فيهما الزيادة، فلو بعت سيارة بسيارتين فلا بأس، وكتاباً بكتابين فلا بأس؛ لأنه ليس كل زيادة تكون ربا، بل الزيادة التي تكون ربا هي ما إذا وقع العقد بين شيئين يحرم بينهما التفاضل، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ذلك، وأما الصرف فسيأتي تعريفه.
والربا محرم بالقرآن، والسنة، وإجماع المسلمين، ومرتبته أنه من كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى قال: {{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}} [البقرة: 275] ، وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *}{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [البقرة: 278، 279] ، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال: هم سواء»[(272)] ، فهو من أعظم الكبائر. وقد ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في كتابه «إبطال التحليل»، أنه جاء من الوعيد في الربا ما لم يأت في أي ذنب آخر سوى الشرك والكفر.
وهو مُجْمَعٌ على تحريمه، ولهذا من أنكر تحريمه ممن عاش في بيئة مسلمة فإنه مرتد؛ لأن هذا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها.
ولكن إذا قلنا هذا، هل معناه أن العلماء أجمعوا على كل صورة؟
الجواب: لا، فقد وقع خلاف في بعض الصور، وهذا مثل ما قلنا في أن الزكاة واجبة بالإجماع، ومع ذلك ليس الإجماع على كل صورة، فاختلفوا في الإبل والبقر العوامل، واختلفوا في الحلي وما أشبه ذلك، لكن في الجملة العلماء مجمعون على أن الربا حرام، بل من كبائر الذنوب.
والربا ينقسم إلى قسمين، ربا الفضل، ربا النسيئة، ربا الفضل هو الزيادة، يعني أن يكون الربا بالزيادة كما لو بعت عليك صاعين من البر بثلاثة أصواع من البر.
وربا النسيئة هو أن أبيع عليك شيئاً ربوياً بشيء ربوي مع تأخير القبض فيهما، مثل أن أبيع عليك صاعاً من البر بصاع من الشعير مع تأخير القبض، واعلم أن هذين القسمين قد ينفردان وقد يجتمعان وقد يرتفعان، فإذا بعت عليك عشرة دراهم بدينار مع تأخير القبض فهذا ربا نسيئة، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاعين من البر مع القبض في مجلس العقد فهذا ربا فضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاعين منه مع تأخير القبض، اجتمع فيه ربا النسيئة وربا الفضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاع من البر مع التسليم انتفى ربا الفضل وربا النسيئة.
مسألة: ما هي الأشياء الربوية؟.
الجواب: حددها النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعد، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»[(273)] .
وهذه الأشياء الستة مجمع عليها على حسب ما جاء في الحديث، أي مجمع على أنها هي الأموال الربوية، وأن الربا يجري فيها، واختلف العلماء في سواها، هل يلحق بها بالقياس أو لا يلحق؟
فأما أهل الظاهر فقالوا: لا يلحق بها شيء، والربا خاص بهذه الأشياء الستة؛ لأن أهل الظاهر يمنعون القياس.
وقال أهل المعاني: بل يقاس عليها ما يماثلها، ووافق بعض أهل المعاني ـ أعني القياسيين ـ أهل الظاهر، وأنه لا يجري الربا إلا في هذه الستة فقط لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حصره، وقد أعطي ـ عليه الصلاة والسلام ـ جوامع الكلم[(274)] واختصر له الكلام اختصاراً[(275)]، ولو كان الربا يجري في كل مكيل أو موزون لقال: المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون؛ لأن هذا أعم وأخصر وأوضح، فلما عيَّن لا نتعدى ما قال ولا نتجاوز ما جاءت به السنة، وهذا استدلال قوي في الواقع.
وقال ابن عقيل وهو من أصحاب الإمام أحمد وهو ليس من أهل الظاهر بل من أهل المعاني والقياس، قال: إنه لا يجري الربا إلا في الأصناف الستة؛ لأن العلماء اختلفوا في العلة، فلما اختلفوا تساقطت أقوالهم، فنرجع إلى القول الفصل وهو تخصيص الربا بهذه الأصناف الستة، وعلى هذا فهو يرى أن الربا لا يجري إلا في الأصناف الستة، لكن مأخذه غير مأخذ الظاهرية.
ولكن الراجح أن الشريعة عموماً لا يمكن أن تفرق بين متماثلين؛ لأن الشريعة محكمة من لدن حكيم خبير، والقياس فيها ثابت، فأي فرق بين بر ببر وأرز بأرز؟ فقد يكون الأرز في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن موجوداً فالشارع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، لكننا نحصر العلة على أضيق نطاق لأن الأصل الحل، وكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذه الأشياء فعلى سبيل التمثيل؛ لأنه هو الذي كان موجوداً، مثل صدقة الفطر قال: «صاعاً من بر وصاعاً من شعير» [(276)]، مع أنه يوجد أشياء أخرى، ولكن ما هو مناط الحكم، أي: ما هي العلة الدقيقة التي يمكن أن نلحق بها ما سوى هذه الأصناف الستة؟ هذا ـ أيضاً ـ محل نزاع.
فقال بعض العلماء: العلة الكيل والوزن؛ لأن هذه الأشياء إما مكيلة أو موزونة، فالكيل في الأصناف الأربعة، والوزن في الذهب والفضة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وبناءً على هذا نقول يجري الربا في كل مكيل قياساً على الأصناف الأربعة، وفي كل موزون قياساً على الصنفين الآخرين الذهب والفضة، ولا يجري الربا في غير المكيل والموزون، ولا يشترط أن يكون مطعوماً حتى ولو كان لا يؤكل، وعلى هذا فالإشنان يكال ولا يؤكل فيجري فيه الربا لأنه يكال.
ولو أبدل برتقالة ببرتقالتين فهذا يجوز، إذ ليس مكيلاً ولا موزوناً، ويعتبر من المعدود، والدليل حديث الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر، ولننظر هل الدليل يطابق المدلول أم المدلول أعم؟ ومعلوم أنه إذا كان المدلول أعم فإنه لا يصح الاستدلال؛ لأنه الدليل الأخص يخرج ما عدا المخصوص، وإذا كان الدليل أعم واستدللنا به على أخص يجوز؛ لأن الأخص فرد من أفراد العموم، فهذه قاعدة في الاستدلال أنه متى كان الدليل أخص فإنه لا يصح الاستدلال به على الأعم والعكس بالعكس، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم عين أشياء ولم يذكر أشياء، فإذا استدللنا بالحديث على كل مكيل أو موزون فقد استدللنا بالأخص على الأعم.
وقال بعض العلماء: العلة الطعم في الأصناف الأربعة، والثمنية في الذهب والفضة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي، وبناءً على هذا إذا أبدل برتقالة ببرتقالتين فإنه لا يجوز؛ لأنها مطعومة، وأيضاً إذا أبدل طناً من الحديد بطنين من الحديد فهذا يجوز، وعلى القول الأول لا يجوز.
وأقرب شيء أن يقال: إن العلة في الذهب والفضة كونهما ذهباً وفضة، سواء كانا نقدين أو غير نقدين، والدليل على أن الربا يجري في الذهب والفضة، وإن كانا غير نقدين، حديث القلادة الذي رواه فضالة بن عبيد ـ رضي الله عنه ـ: «أنه اشترى قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر ديناراً ففصلها فوجد فيها أكثر، فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تباع حتى تفصل» [(277)]. ومعلوم أن القلادة خرجت عن كونها نقداً، وعلى هذا فيجري الربا في الذهب والفضة مطلقاً سواء كانا نقداً أم تبراً أم حليّاً، على أي حال كانا، ولا يجري الربا في الحديد والرصاص والصفر والماس وغيرها من أنواع المعادن.
أما العلة في الأربعة فكونها مكيلة مطعومة، يعني أن العلة مركبة من شيئين الكيل والطعم، إذ هذا هو الواقع، فهي مكيلة مطعومة، ويظهر أثر الخلاف في الأمثلة:
فإذا باع صاعاً من الإشنان بصاعين، منه، فإذا قلنا: إن العلة الكيل فلا يجوز، وإن قلنا: إن العلة الطعم جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز أيضاً.
وإذا باع فاكهة بجنسها متفاضلة، فإن قلنا: العلة الطعم فلا يجوز، وإن قلنا: العلة الكيل جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز، فالأمثلة تبنى على الخلاف في تحديد العلة.
فإن قال قائل: سلمنا أنها مطعومة في البر والشعير والتمر، لكن ما القول في الملح؟ أجاب عنه شيخ الإسلام بأن الملح يصلح به الطعام فهو تابع له، ولهذا يقال: «النحو في الكلام كالملح في الطعام»، فالملح من توابع الطعام، وبناءً على هذا التعليل يجري الربا في التوابل التي يصلح بها الطعام؛ لأنها تابعة له.
فإذا تأملنا هذه الأقوال الثلاثة وجدنا:
أولاً: أقربها إلى الصواب هذا القول؛ ووجه ذلك أننا إذا تأملنا الأصناف الستة التي بينها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجدنا أنها مطعومة مكيلة.
ثانياً: أن الأصل في البيع والشراء الحل فلا يمكن أن نحرم على الناس ما الأصل فيه الحل، حتى يتبين لنا ذلك على وجه بيَّن، فما دام لم يتبين إلا ما اجتمع فيه العلتان الكيل والطعم، فإننا نقول: ما عدا ذلك باقٍ على الأصل، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
يَحْرُمُ رِبَا الفَضْلِ فِي كُلِّ مَكِيْلٍ وَمَوْزُونٍ بِيْعَ بِجِنْسِهِ، وَيَجِبُ فِيْهِ الحُلُولُ والقَبْضُ وَلاَ يُبَاعُ مَكِيْلٌ بِجِنْسِهِ إِلاّ كَيْلاً، وَلاَ مَوْزُونٌ بِجِنْسِهِ إِلاّ وَزْناً وَلاَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ جُزَافاً، فَإنْ اخْتَلَفَ الجِنْسُ جَازَت الثَّلاَثَةُ.
قوله: «يحرم ربا الفضل في كل مكيل وموزون بيع بجنسه» بناءً على أن العلة الكيل والوزن، الكيل في الأربعة، والوزن في الذهب والفضة، فيحرم في كل مكيل وموزون بيع بجنسه.
وقوله: «ربا الفضل» أي: ربا الزيادة في كل مكيل بيع بجنسه بر ببر يحرم فيهما ربا الفضل، شعير بشعير يحرم، تمر بتمر يحرم، ملح بملح يحرم، ذهب بذهب يحرم، فضة بفضة يحرم، حديد بحديد يحرم على كلام المؤلف؛ لأنه موزون.
وقوله: «في كل مكيل وموزون بيع بجنسه» فبر بشعير لا يحرم؛ لأن المؤلف قيده فقال: «بجنسه» ، والشعير ليس جنساً للبر.
وكل شيء حرم فيه ربا الفضل فإنه يحرم فيه ربا النسيئة، لا العكس، ولهذا لم يقل المؤلف في «ربا الفضل والنسيئة»؛ لأن هذا معلوم أنه متى حرم ربا الفضل حرم ربا النسيئة.
قوله: «ويجب فيه الحلول» أي: في مكيل أو موزون بيع بجنسه «الحلول والقبض» يعني أن يكون البيع حالًّا، وأن يقبض، فلو باع ذهباً بذهب مؤجلاً فهذا يحرم؛ لأنه يجب فيه الحلول، وإنما وجب فيه الحلول؛ لئلا يَدْخُلَهُ ربا النسيئة.
قوله: «والقبض» إذا قال قائل: أليس القبض يغني عن الحلول؟ يعني لو قال: يشترط فيه القبض، كما جاء في الحديث لقوله: «يداً بيد»[(278)] ، في الواقع أنه يغني، لكن قد تأتي صورة يكون فيها القبض، ولا يكون فيها الحلول، مثل: أن يبيع عليه ذهباً بذهب مؤجلاً لشهر، ويقول: خذ هذا عندك وديعة، وإذا جاء الشهر فاقبضه، فهذا يمكن، ففيه قبض وليس فيه الحلول، ولهذا بيّن المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يشترط الحلول والقبض.
فإذا قال قائل: الحديث ليس فيه إلا القبض، وكلام الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا شك أنه أبلغ من كلام المؤلف.
قلنا: ليس في كلام المؤلف إلا زيادة الإيضاح فقط، فهو للحديث بمنزلة الشرح، وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما يحمل على المعهود، والمعهود أنه إذا تقابض الرجلان في البيع فالبيع حال؛ لأنه ما معنى أن يقول: اشتريت منك كيلو من الذهب بكيلو من الذهب، وخذ هذا الكيلو عندك وديعة لمدة شهر، ثم بعد ذلك اقبضه لنفسك، فهي صورة نادرة أو لا توجد أيضاً، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إنما يتكلم في الأمور الدائمة المعروفة والغالبة.
فالقاعدة: «أنه إذا بيع مكيل بجنسه وجب شيئان التساوي والقبض قبل التفرق».
لما بيّن المؤلف ـ رحمه الله ـ الضابط فيما يحرم فيه الربا، بيّن الطريق الذي نصل به إلى المساواة؛ لأن بيع الشيء بجنسه من الأموال الربوية يشترط فيه الحلول والقبض، فبأي شيء يكون القبض؟ وأي شيء نعرف به المساواة؟
بيّنه بقوله: «ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلاً ولا موزون بجنسه إلا وزناً» وعلى هذا فالتساوي في المكيل عن طريق الكيل، وفي الموزون عن طريق الوزن، فيضاف للتساوي قيد بناء على ما ذكره المؤلف وهو التساوي بالمعيار الشرعي، وهو كيلاً فيما يكال ووزناً فيما يوزن، والفرق بينهما أن المكيل تقدير الشيء بالحجم، والوزن تقديره بالثقل والخفة، فالبر مكيل، فإذا بيع ببر فلا بد من أن يكون طريق التساوي هو الكيل، فلو بيع بجنسه وزناً فإنه لا يصح ولا يعتبر ذلك تساوياً، حتى فيما لا يختلف بالوزن والكيل كالأدهان والألبان، فإنهما من قسم المكيل؛ لأن كل مائع يجري فيه الربا فهو مكيل، فعلى هذا تكون الألبان من المكيلات، ولا يختلف فيها الوزن والكيل، ومع ذلك لو بيعت وزناً فإنها على كلام المؤلف لا يصح، فلو بعت لبناً بلبن من جنسه وزناً فإنه لا يصح مع أنه لو كيل لكان متساوياً.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنه إذا كان الكيل والوزن يتساويان فلا بأس أن يباع المكيل بجنسه كيلاً أو وزناً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثلاً بمثل»[(279)] ، والمثلية هنا متحققة، أما ما يختلف بالكيل والوزن فلا بد أن يباع المكيل كيلاً، والموزون يباع وزناً.
وقوله: «ولا موزون بجنسه إلا وزناً» مثل اللحم، فلو باع الإنسان لحماً من خروف بلحم من خروف آخر فهذا موزون، فلو أراد أن يقطع اللحم قطعاً صغيرة ويضعه في إناء ويبيعه بجنسه كيلاً فإنه لا يصح؛ لأن معيار اللحم هو الوزن.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يباع المكيل وزناً فيعتبر بالوزن، ولا العكس، يعني فلا يباع الموزون كيلاً، لكن الاحتياط ألاّ يباع المكيل إلا كيلاً، ولا يباع الموزون بمثله إلا وزناً، إلا ما يتساوى فيه الكيل والوزن فلا شك في أن بيعه كيلاً أو وزناً جائز.
وقول المؤلف: «ولا يباع مكيل» كلمة «مكيل» نكرة في سياق النفي تشمل القليل والكثير والمساوي في الجودة والمخالف، فلو باع الإنسان تمرة بتمرة فالتساوي بالكيل، فلا بد من أن يتساويا كيلاً، لكن كيف تكال التمرة؟.
الجواب: يؤتى بإناء صغير كملعقة مثلاً، توضع التمرة في هذه الملعقة وتوضع التمرة الأخرى فيها.
وقال بعض أهل العلم: ما لا يكال لقلته وحقارته فإنه لا يعتبر فيه التماثل، كتمرة بتمرتين ـ مثلاً ـ فلا بأس، فمن أخذ بعموم الحديث: التمر بالتمر، مثلاً بمثل»[(280)] ، قال: هذا يشمل التمر القليل والكثير، ومن أخذ بما تعارف عليه الناس، وقال: لا يمكن أن تكال التمرة، قال: هذا محمول على ما يعرفه الناس مما يمكن فيه الكيل، لكن ظاهر كلام المؤلف: «ولا يباع مكيل» أنه يشمل القليل والكثير.
قوله: «ولا بعضه ببعض جزافاً» يقال: جُزافاً، جِزافاً وجَزافاً، فهي مثلثة، أحياناً يقولون: مثلث اللام أو مثلث العين وأحياناً يقولون: بالمثلثة، والفرق بينهما أنهم إذا قالوا بالمثلثة أي: بالثاء، وإذا قالوا: مثلث الفاء يعنون الحركات.
ومعنى الجزاف: أي الذي يكون بدون تقدير، أي: ولا يباع بعض المكيل بالمكيل جزافاً، ولا بعض الموزون بالموزون جزافاً؛ لأنه لا بد فيه من العلم بالتساوي، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، يعني حتى لو فرض أننا أتينا بخارص حاذق، وقال: هذه الكومة من البر تساوي هذه الكومة من البر، فإنه لا يجوز تبايعهما؛ لأنه لا بد من العلم بالتساوي عن طريق الكيل، إلا أنه يستثنى مسألة واحدة تأتينا ـ إن شاء الله ـ، وهي العرايا، فإن العرايا يجوز أن تباع خرصاً.
وقوله: «ولا بعضه ببعض جزافاً» فلو باع بعضه ببعض جزافاً، وقبل التقابض كال كل منهما ما آل إليه فوجده مساوياً للآخر فيصح العقد؛ لأن المحظور قد زال وليس هناك جهل، فالمبيع معلوم من الطرفين، وإنما العلة هي معياره، وقد علمنا الآن أنهما سواء في المعيار الشرعي.
قوله: «فإن اختلف الجنس جازت الثلاثة» إن اختلف الجنس أي: بين المبيعين بأن يباع بر بشعير، فإنها تجوز الثلاثة وهي: أن يباع كيلاً، أو يباع وزناً، أو يباع جزافاً.
ووجه الجواز أنه إذا بيع الربوي بغير جنسه جاز فيه التفاضل.
مثال ذلك: اشترى شعيراً ببر، أي: كيلو بر بكيلو شعير فهذا جائز؛ لأنه من غير جنسه وإذا اختلف الجنس، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»[(281)] ، وإذا باع شعيراً بتمر وزناً، كيلو من هذا بكيلو من هذا، فهذا جائز؛ لاختلاف الجنس، وإذا اختلف الجنس لم يشترط التساوي.
وإذا باع تمراً ببر من غير تقدير لا بالوزن ولا بالكيل، فهذا جائز أيضاً؛ وذلك أنه لا يشترط فيه التساوي.
وخلاصة الكلام أنه إذا بيع الربوي بجنسه يشترط فيه شرطان:
الأول: التقابض من الطرفين.
الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي، المكيل بالمكيل، والموزون بالوزن.
وإذا بيع الربوي بربوي من غير جنسه اشترط شرط واحد، وهو التقابض قبل التفرق، أما التساوي فليس بشرط، ولهذا يجوز بيعهما مكايلة وموازنة وجزافاً.
فإن اختلفا في المعيار الشرعي بأن كان أحدهما مكيلاً والآخر موزوناً، يقول الفقهاء: إنه يجوز كل شيء، يعني يجوز الكيل والوزن والجزاف والحلول والتأجيل، مثل أن أبيع عليك رطلاً من الحديد بصاعين من البر مؤجلين إلى شهر، فهذا جائز؛ لأن معيار الحديد الوزن ومعيار البر الكيل.
وإذا بيع ربوي بغير ربوي فيجوز التفرق قبل القبض، ويجوز التفاضل، مثل أن يبيع شعيراً بشاة، أو يبيع شعيراً بثياب، أو ما أشبه ذلك، فهذا يجوز فيه التفرق قبل القبض والتفاضل، هذا هو خلاصة ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى.
مسألة: يجوز أن يبيع ورقاً نقدياً مئة ريال مثلاً بخمسة وتسعين ريالاً من المعدن، والفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن هذا مقابل الجنس؛ لأن حقيقة الأمر أن هذا جنس مقصود بنفسه، وذلك جنس مقصود بنفسه أيضاً، وكوننا نقول: إن هذا الريال الورقي يقابل هذا الريال المعدني في قيمته النظامية، لا يلزم أن يكون مساوياً له في قيمته الحقيقية، وهذا هو المذهب، واختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ أيضاً أنه يجوز بيع الفلوس بعضها ببعض ولو متفاضلاً ولو تأخر القبض، لكن بشرط ألا يكون مؤجلاً بأن أقول: بعت عليك مائة دولار بأربعة آلاف ريال إلى سنة، فهذا لا يجوز عنده لكن إذا قال: بعت عليك مائة دولار بأربعة آلاف ريال ولم نتقابض فهذا صحيح عنده، لكن فيه نظر؛ لأنه مبني على أن هذا كالفلوس والفلوس على المذهب ليس فيها ربا نسيئة ولا ربا فضل، وفي المسألة قول آخر في الفلوس أنه يجري فيها ربا النسيئة دون الفضل، وهذا هو الأقرب؛ لأن الفلوس في الحقيقة قيمتها قيمة رسمية فقط، فالأوراق النقدية مثل الفلوس، وهذا قول وسط، وهناك قول آخر يحرم ربا النسيئة وربا الفضل، وهناك قول آخر أنه لا يجوز التعامل بها مطلقاً وأن التعامل بها حرام؛ لأنها دين على الحكومة فأنت إذا اشتريت بها أو بعت فقد اشتريت ديناً بدين، ولكن تتعامل بها للضرورة فتتقدر بقدرها.
فأرجح ما يكون عندي أنه يجري فيها ربا النسيئة دون ربا الفضل، فلا يجوز أن نتفرق إلا بالقبض، وهم الآن يجوزون أن يبيع الإنسان ثماني ورقات وثمانية قروش بريال واحد من الفضة مع أن هذه الورقة معتبرة ريالاً، فهذه مثل تلك المسألة.
وَالجِنْسُ: مَا لَهُ اسْمٌ خَاصٌ يَشْمَلُ أنْوَاعاً؛ كَبُرٍّ وَنَحْوِهِ وَفُرُوعُ الأجْنَاسِ؛ كَالأدِقَّةِ، وَالأخْبَازِ، وَالأدْهَان، واللّحْمِ أجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أصُولِهِ، .
قوله: «والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً كبُرٍّ ونحوه» الجنس ضابطه، هو الشيء الذي يشمل أشياء مختلفة بأنواعها.
والنوع ما يشمل أشياءً مختلفة بأشخاصها، هذا هو الفرق، فمثلاً البر جنس؛ لأنه يشمل أشياءً مختلفة بأنواعها، والبر فيه ما يسمى بالحنطة، وما يسمى بالمعية، وما يسمى بالجريباء، وما يسمى باللقيمي هذه أربعة أنواع، إذاً فالبر جنس شمل أنواعاً.
والنوع شيء يشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، كالحنطة مثلاً تشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، تشمل الحنطة التي عندي والتي عندك، وما أشبه ذلك.
الإنسان جنس أو نوع؟
الجواب: جنس يشمل أشياء مختلفة بأنواعها، وهو ذكر وأنثى.
والحيوان جنس، لكنه أعم من الإنسان؛ لأنه يشمل الإنسان وغير الإنسان، فيشمل الإنسان والإبل والبقر والغنم، وغير ذلك فهو أعم.
والجسم جنس أعم مما سبق، فيشمل الجماد والحيوان والإنسان، وكما سبق الحيوان يشمل أنواعاً.
فتبين بهذا أن الشيء قد يكون جنساً باعتبار ما تحته، ونوعاً باعتبار ما فوقه؛ وقد يكون الجنس نوعاً، باعتبار ما فوقه وجنساً باعتبار ما تحته، والمراد هنا الجنس الأخص لا الأعم، ولهذا لو بعنا بقرة ببعير فقد اتفقا في الجنس الأعم وهو الحيوانية، لكن يجوز التفاضل ويجوز التفرق قبل القبض، لكن المراد هنا الجنس الأخص، أي: أخص الأجناس، وإذا أردنا أن نبتعد عن أهل الكلام واصطلاحاتهم، نقول: «البر، والتمر، والشعير، والملح، والذهب، والفضة»، ما نحتاج أن نقول: الجنس الأعم والجنس الأخص؛ لأنه قد يشكل على الإنسان هذا الشيء، وعلى هذا فإذا قلنا: لا يباع الربوي بجنسه، فمعناه لا يباع البر بالبر، أما الشعير فإنه جنس مستقل، فإذا أردت أن تبيع براً ببر، فالواجب شيئان:
الأول: التقابض قبل التفرق.
الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي.
وإذا أردت أن تبيع براً بشعير، فالواجب شيء واحد، وهو التقابض قبل التفرق.
قوله: «وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان واللحم أجناس باختلاف أصوله» فروع الأجناس أجناس، لكن هل هي أجناس مستقلة أو هي أجناس تابعة لأصولها؟
أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ في كلامه هذا أنها أجناس تابعة لأصولها، وعلى هذا فإذا بيع برٌّ حباً ببرٍّ دقيقاً فإنه لا يجوز لتعذر التساوي؛ لأن الحب إذا طحن انتشر ولا يمكن تقديره بالكيل ولا يمكن ـ أيضاً ـ تقديره بالوزن؛ لأن البر لا يباع بالبر إلا كيلاً.
وإذا بيع برٌّ حباً بشعير دقيقاً يجوز بدون كيل ولا وزن؛ لأن بيع البر بالشعير لا بأس فيه بالتفاضل، والدقيق جنس باعتبار الأصل.
وكذلك ـ أيضاً ـ الأخباز، فإذا أردت أن تبيع خبزاً من البر بجريش، والجريش عبارة عن حب لكنه مطحون، ليس طحناً دقيقاً يطبخ فهذا لا يجوز لتعذر التساوي؛ لأن الجريش قد ترطب بالماء ولا يمكن كيله؛ وحتى إذا أمكن كيله فالخبز لا يمكن كيله.
فإذا قال قائل: يمكن أن نملأ إناءً من الجريش، ونفتت الخبز ونضع عليه ماء ونبدل هذا بهذا.
قلنا: لا يمكن التساوي والجنس واحد.
وخبز شعير بجريش من البر فهذا يجوز، لعدم اشتراط التساوي، هذا ما ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ أن فروع الأجناس تعتبر أجناساً بحسب أصولها.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: ما صنع من هذه الأجناس فإن خرج عن القوت بسبب هذا الصنع، خرج عن كونه ربوياً، بناءً على أن العلة في الربا هي كونه قوتاً، وإن لم يخرج فهو جنس مستقل ليس تابعاً لأصله، وعلى هذا فيجوز أن أبيع خبزاً من البر بجريش من البر؛ لأن كل واحد منهما اختلف اختلافاً بيناً، لا بالنسبة لأكله ولا بالنسبة للقصد منه فيكون جنساً مستقلاً، ولكن الاحتياط ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البر بالبر مثلاً بمثل» ، وهذا يعم البر على أي حال كان، «والشعير بالشعير» [(282)]، كذلك يعم الشعير على أي حال.
فإذا قال: أنا ما عندي إلا خبز، وأنا أريد جريشاً.
نقول له: بع الخبز واشتر جريشاً، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في التمر الجيد والتمر الرديء[(283)].
وقوله: «الأدقة والأخباز» الأدقة جمع دقيق، والأخباز جمع خبز.
وقوله: «والأدهان» هذا بناءً على أن الربا يجري في الدهن لأنه يباع بالكيل في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو مكيل، وكل مائع فهو مكيل كالدهن والزيت وغيره، أما إذا قلنا: إنه لا يجري في الدهن فلا بأس ببيع بعضه ببعض متفاضلاً أو متساوياً.
وقوله: «واللحم» اللحم ـ أيضاً ـ أجناس، فلحم الإبل جنس، ولحم الضأن جنس آخر، ولحم البقر جنس آخر، ولحم المعز جنس آخر، ولحم الأرانب جنس، ولحم الظباء جنس، واللحم موزون فلا يجوز أن أبيع كيلو من لحم الغنم بكيلوين من لحم الغنم ـ أيضاً ـ؛ ولأن الجنس واحد فلا يجوز فيه التفاضل.
وكيلو من لحم البقر بكيلوين من لحم الخروف، يجوز لاختلاف الجنس، وهذا ـ أيضاً ـ بناءً على أن اللحم يجري فيه الربا، وهو وجيه إذا كنا في بلاد قوتهم اللحم، أما إذا كنا في بلاد لا يعتبر اللحم فيها قوتاً فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه ليس بقوت، والمذهب: أنه يجري فيه الربا؛ لأنه مما يوزن، والعلة على المذهب الكيل والوزن، فإذا بعت عليك خروفاً بخروفين فهذا جائز؛ لأنه ليس بمكيل ولا موزون، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يستقرض على إبل الصدقة، فيأخذ البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة» [(284)]، وعلى هذا فلا ربا في الحيوان ما دام حياً، أما إذا ذبح فإنه يكون لحماً فيجري فيه الربا، فإذا بيع بجنسه فإنه لا بد من التساوي وإلا فلا يصح.
وَكَذَا اللَّبَنُ وَاللّحْمُ والشَّحْمُ والكَبِدُ أجْنَاسٌ، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوانٍ مِن جِنْسِهِ، وَيَصِحُّ بِغَيْرِ جِنْسِهِ.
قوله: «وكذا اللبن» اللبن أجناس باختلاف أصوله، فلبن الإبل جنس، ولبن البقر جنس آخر، فلو بعت صاعاً من لبن الإبل بصاعين من لبن البقر فهذا جائز؛ لأن الجنس مختلف، ولو بعت صاعاً من لبن بقرة بكر وصاعين من لبن بقرة عجوز فهذا لا يجوز؛ لأن الجنس واحد.
قوله: «واللحم والشحم والكبد أجناس» انتقل المؤلف من الجنس باعتبار استقلال البهيمة إلى الجنس باعتبار وحدة البهيمة، فالبهيمة فيها لحم منوع، ففيها لحم وشحم وكبد وقلب وأَلية وطحال ورئة وكراع وعين ورأس، فهذه كل واحد منها جنس، وعلى هذا فيجوز أن يبيع عليك رطلاً من الكبد برطلين من الرئة، ولو من الضأن؛ لاختلاف الجنس، ويجوز أن أبيع رطلاً من الرئة برطلين من اللحم من الشاة نفسها؛ لاختلاف الجنس، إذاً نفس البهيمة بأجزائها أجناس، وكل جزء يعتبر جنساً مستقلاً، وعلى هذا فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً، ولكن هل يجب التقابض؟
الجواب: نعم؛ لاتفاقهما في المعيار الشرعي، فاللحم كله موزون، فلما اتفقا في المعيار الشرعي كان لا بد من أن يتقابضا قبل التفرق، أما التساوي فليس بشرط.
قوله: «ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه ويصح بغير جنسه» .
مثال ذلك: عندي كومة من لحم الضأن فأردت أن أبيعها بشاة فلا يجوز؛ لأنه من جنسه.
فإذا قال قائل: الذي عندي لحم والشاة أو الخروف فيها كبد وقلب ورئة، وأنتم ذكرتم أن هذه الأشياء كل واحد منها جنس مستقل؟
قلنا: إذا كان الذي عندك لحم، وفي الشاة لحم فقد بعت لحماً بلحم ومعه من غير الجنس، فيكون هذا من باب ما يسمى عند الفقهاء: بمُد عجوة ودرهم فلا يجوز.
وإذا بعت عليك عشرة أصواع من التمر، بصاعين من التمر ومعهما ثمانية أصواع من الشعير فهذا لا يجوز؛ لأنك بعت جنساً بجنسه ومع الثاني من غير جنسه، فهذه مسألة مد عجوة ودرهم بمد عجوة، أو بمُدَي عجوة ودرهم، كما سيأتي إن شاء الله.
إذاً بيع اللحم بحيوان من جنسه، يقول المؤلف: لا يجوز.
واستدل بما يلي:
أولاً: بعموم نهي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن بيع اللحم بالحيوان[(285)]، وهذا الحديث لو أخذنا بظاهره، لقلنا: إنه عام يشمل ما إذا كان الحيوان من جنس اللحم أو من غير جنسه، وهذا لا ينطبق على كلام المؤلف، فالمؤلف ـ رحمه الله ـ يقول: إنه لا يباع اللحم بحيوان من جنسه.
مثاله: خمسون كيلو من لحم الخروف بخروف من جنسه فلا يجوز للنهي عن بيع اللحم بالحيوان، وهذا الحديث في تصحيحه مقال بين أهل العلم وفيه اختلاف.
ثانياً: أنه إذا باع هذا اللحم بهذا الحيوان، فكأنه باع طعاماً بجنسه ومع الآخر من غير الجنس؛ لأننا إذا قدرنا أن هذه الكومة لحم، أي: هبر، فالحيوان الذي بيع، فيه لحم وشحم وكبد ورئة وقلب وطحال وكرش وأمعاء... إلخ، فيكون كالذي باع ربوياً بمثله ومع الآخر من غير جنسه، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء بمد عجوة ودرهم، هذا هو حكم المسألة على كلام المؤلف.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا بأس ببيع اللحم بالحيوان مطلقاً، سواء من جنسه أو من غير جنسه؛ وذلك لاختلاف المقاصد بين الحيوان وبين اللحم، فالحيوان يراد للأكل وللتنمية وللتجارة ولغير ذلك، واللحم يراد غالباً للأكل، فلما اختلفت المنافع والمقاصد صار كل واحد منهما لا صلة له بالآخر ولضعف الحديث الوارد في ذلك.
ويرى بعض أهل العلم أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً سواء من جنسه أو من غير جنسه؛ لأنه بيع حي بميت، ويروون عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه «نهى عن بيع الحي بالميت» [(286)]، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف، والأصل في البيع الحل لقوله تعالى: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}}.
وفصل بعض أهل العلم فقال: إن أراد بالحيوان اللحم فإنه لا يصح بيعه بجنسه، وإن أراد بذلك الانتفاع بالحيوان بركوب أو تأجير أو حرث أو غير ذلك فلا بأس؛ لأنه إذا أراد به اللحم اتفقت المقاصد فصار المراد بهذا الحيوان هو اللحم والأعمال بالنيات، وإذا أراد انتفاعات أخرى فإنه يختلف المقصود.
وهذا القول أصح الأقوال الأربعة: أنه إن أراد بالحيوان اللحم فإنه لا يجوز؛ لأنه صار كأنه باع لحماً بلحم من غير تساوٍ، أي: مع التفاضل، وإن أراد بالحيوان الانتفاع بغير الأكل فهذا لا بأس به، وهذا القول لا يعارض حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان؛ لأنه يمكن أن يحمل الحديث على ما إذا أراد الإنسان بالحيوان اللحم.
وهل يمكن أن يريد باللحم الحيوان؟
الجواب: لا يمكن؛ لأن هذا اللحم لا يمكن أن يعود حيواناً، لكن أن يريد بالحيوان اللحم فيمكن بأن يذبحه ويأكل اللحم، فهذا الحديث إن صح يحمل على ما إذا أراد الإنسان بالحيوان اللحم.
وقوله: «ويصح بغير جنسه» مثل أن يبيع لحم ضأن ببقرة؛ لأن اختلاف الجنس يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»[(287)] ، فإذا باع لحماً مأكولاً بحمار جاز لاختلاف الجنس، واختلاف المقاصد أيضاً.
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَبٍّ بِدَقِيْقِهِ وَلاَ سَوِيقِهِ وَلاَ نَيْئِهِ بِمَطْبُوخِهِ، وَأصْلِهِ بِعَصِيْرِهِ، وَخَالِصِهِ بِمَشُوبِهِ وَرَطْبِهِ بِيَابِسِهِ ....
قوله: «ولا يجوز بيع حب بدقيقه» ولو تساويا وزناً.
مثاله: إنسان عنده صاع من البر باعه بصاع من دقيق البر فإنه لا يجوز لعدم التساوي؛ لأن الحب بالطحن تنتشر أجزاؤه.
فإذا قال: أنا أزيد على الدقيق بمقدار ما يساوي وزن الحب.
قلنا: لا يجوز أيضاً؛ لأن المعتبر في الحب والدقيق هو الكيل، فلا يصح.
وقال بعض العلماء: إنه إذا تساويا في الوزن فلا حرج؛ لأن تساويهما في الوزن يدل على تساويهما في الكيل حباً، واستدلوا لذلك بأمرين:
أحدهما: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «البر بالبر مثلاً بمثل»[(288)]، والمثلية هنا محققة.
الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أجاز بيع العرايا بخرصها تمراً[(289)]، والعرايا بيع رطب بتمر، والرطب أثقل من التمر وينتفخ أيضاً، والتمر يضمر ويخف لكن يحول الرطب إلى تمر ويباع بخرصه، وهذا إذا وزن فإنه قد حول إلى حب، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن التماثل حاصل، والحاجة داعية إلى إبدال هذا بهذا أو يحول الدقيق إلى حب وذلك بالميزان.
وهذا كما قالوا فيما إذا جُبِّن التمر ـ أي: صار تمراً مرصوصاً يتعذر كيله ـ فإنه يعتبر بالوزن، وإن كان لا ينتقل عن كونه مكيلاً.
ولو باع شعيراً حباً ببر دقيقاً جاز لاختلاف الجنس، ولهذا يجوز أن يبيع صاعاً من البر بصاعين من الشعير.
فإذا قال: أنا أبيع عليك صاعاً من الحب بصاع من الدقيق واعتبر الزيادة في مقابلة الطحن، فهذا لا يجوز لأن الزيادة بالصنعة كالزيادة بالصفة، وقد منع النبي صلّى الله عليه وسلّم التفاضل مع اختلاف الصفة والدليل أنه جيء إليه بتمر جنيب جيد فقال: «أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا يا رسول الله ولكن نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً»[(290)].
هنا زاد القدر لنقص الصفة وقلَّ القدر باعتبار الطيب لجودة الصفة، فجودة الصفة زيادة في وصف خلقه الله، والزيادة من أجل الصنعة زيادة في وصف من فعل الآدمي، فإذا كان لا يجوز فيما فعله الله فلا يجوز فيما فعله الآدمي، وهذا القول هو الراجح وإن كان بعض العلماء يقول: إذا زاد بقدر الصنعة فإنه لا بأس به.
قوله: «ولا سويقه» الفرق بين الدقيق والسويق، أن الدقيق يطحن الحب بدون أن يحمص على النار، والسويق يحمص، أي: يشوى على النار ثم يطحن ثم يُثَرَّى بماء أو عسل أو نحوه فيختلف، فإذا امتنع أن يباع الحب بالدقيق غير المحمص فمنع بيعه بالدقيق المحمص من باب أولى؛ لأن فيه شيئين:
الأول: تفرق الأجزاء بالطحن.
الثاني: اختلافها بالتحميص، فهو أشد من بيع الحب بالدقيق.
قوله: «ولا نيئه بمطبوخه» مثل حنطة بهريسة، والهريسة معروفة، فلا يجوز أن يباع الحب بالهريسة.
والجريش هو عبارة عن الحب يطحن طحناً ليس دقيقاً بحيث يتكسر، ويكون أجزاء، ثم بعد ذلك يطبخ على مرق من لحم أو غيره فيسمى جريشاً، ويسمى هريسة، وأحياناً يجعل معه شيء من الحلوى فيوضع عليه سكر أو نحوه حتى يكون له حلاوة، المهم أن النَّيء بالمطبوخ لا يجوز؛ لتعذر التساوي، فلو بعنا حب شعير بهريسة الحنطة، فهذا يجوز لاختلاف الجنس.
مثال آخر: مبادلة كيلو من اللحم النَّيء بكيلو من اللحم المطبوخ فلا يجوز؛ لأن الطبخ يؤثر في الوزن، إذ يدخل فيه أشياء كالماء، وإذا كان من غير الجنس جاز.
قوله: «وأصله بعصيره» الأصل لا يباع بالعصير، كما لو كان إنسان عنده زيتون وزيت، ـ والزيت من الزيتون ـ فباع زيتوناً رطلاً منه أو أكثر أو أقل برطل من زيت فإنه لا يصح، ومثله أن يبيع تمراً بدبس، ـ والدبس هو الماء الذي يخرج من التمر ـ فإنه لا يجوز، وذلك لتعذر التساوي.
قوله: «وخالصه بمشوبه» الخالص هو الذي لم يخالطه غيره، والمشوب هو الذي خلط معه غيره، فهذا لا يجوز؛ لتعذر التساوي.
مثاله: رجل عنده صاع من البر الخالص، وآخر عنده صاع من البر المخلوط بشعير، فلا يجوز أن يباع هذا بهذا لتعذر التساوي، إلا أنه يستثنى من ذلك الخلط اليسير أو ما كان لإصلاح المخلوط كالملح في الطعام، فالخلط اليسير لا يضر، فإنك لا تكاد تجد براً خالصاً ليس فيه حبة شعير، وكذلك ما يكون لإصلاحه كما لو بعنا خبزاً من البر بخبز من البر أحدهما قد جعل فيه حلوى، ولكن بعناهما متساويين فلا بأس، أو أحدهما فيه ملح فلا بأس، فصار يستثنى الشيء اليسير، والشيء الذي خلط للإصلاح من قوله: «خالصه بمشوبه».
قوله: «ورطبه بيابسه» رطبه، الضمير يعود على الربوي، أي: ولا يباع رطب الربوي بيابسه، مثل أن يبيع رطباً بتمر، فالتمر يابس والرطبُ رَطْبٌ، فلا يجوز حتى وإن تساويا وزناً؛ لأن الرطب أثقل من التمر، والذي أثقله من غير جنسه، فيكون محرماً، ولهذا لما سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع التمر بالرطب فقال: «أينقص إذا جف؟» ، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك[(291)]، لكنه يستثنى من ذلك العرايا.
والعرايا هي أن يكون عند إنسان تمر من العام الماضي وجاء الرطب هذا العام، وأراد أن يتفكه بالرطب، لكنه ليس عنده دراهم، وليس عنده إلا تمر يابس من العام الماضي، فهنا رخص الشرع بجواز شراء الرطب بالتمر، وسميت عرايا لعروها عن الثمن، فيأتي هذا الرجل الفقير الذي عنده تمر من العام الماضي إلى صاحب البستان، ويقول: بعني تمر هذه النخلة الذي هو الآن رطب بالتمر فهذا جائز؛ لدعاء الحاجة إليه، فإن هذا الفقير يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس، وليس عنده دراهم فيشتري الرطب على رؤوس النخل بالتمر، لكن بشروط هي:
الشرط الأول: ألاّ يجد ما يشتري به سوى هذا التمر، فإن وجد ما يشتري به سوى هذا التمر، كالدراهم والثياب والحيوان وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز أن يشتري رطباً بتمر.
الشرط الثاني: أن تكون من خمسة أوسق فأقل، والوسق ستون صاعاً، فتكون خمسة الأوسق ثلاثمائة صاع.
الشرط الثالث: أن يكون مآل هذا الرطب بقدر التمر، أي: أن يأتي الخراص الماهر العارف، ويقول: هذا الرطب إذا جف يكون مساوياً للتمر الذي اشتري به.
فإن قال: إن الرطب إذا جف سيكون أكثر من هذا التمر أو أقل، فإنه لا يجوز، فلا بد أن يكون مساوياً. وهنا اكتفي بالمساواة خرصاً؛ من أجل دفع حاجة الفقير.
الشرط الرابع: أن يكون محتاجاً للرطب، بمعنى أنه يريده للأكل والتفكه لا يريد أن يبقيه إلى أن يتمر؛ لأنه قد يقول: أنا أريد أن أشتري الرطب وأبقيه حتى يكون تمراً؛ ليكون هذا التمر تمر هذا العام، وهو أجَدُّ من تمر العام الماضي، فنقول: لا بد أن تكون محتاجاً إلى الرطب لتأكله، ولهذا قال العلماء: لو أنه اشترى عرية رطباً ثم أتمرت بطل البيع؛ لأن الشرط الذي من أجله جاز هذا فُقِدَ.
الشرط الخامس: أن يكون الرطب على رؤوس النخل، فإن كان في أوانٍ بمعنى أن صاحب البستان خرف النخل، وجعله في أوانٍ وعرضه للبيع، فجاء إنسان فقير، فقال: ليس معي دراهم، لكن عندي تمر فاخرص هذا الإناء من الرطب وأعطيك بمثل خرصه تمراً، فهذا لا يجوز؛ لأنه يفوت التفكه؛ لأن كونه على رؤوس النخل يتفكه به الإنسان شيئاً فشيئاً.
فإن قال قائل: كيف جازت العرايا وهي حرام من أجل الحاجة دون الضرورة، والقاعدة أن المحرم لا يجوز إلا للضرورة؛ لقول الله تبارك وتعالى: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] ؟ فهذا إيراد جيد لا شك فيه.
وأما شرعاً فهو زيادة في أشياء ونسأ في أشياء، ولو قيل: إن ربا الفضل هو التفاضل في بيع كل جنس بجنسه مما يجري فيه الربا، وربا النسيئة تأخير القبض فيما يجري فيه الربا.
فليس كل زيادة ربا في الشرع، وليس كل زيادة في بيع ربا، إذا كان المبيعان مما تجوز فيهما الزيادة، فلو بعت سيارة بسيارتين فلا بأس، وكتاباً بكتابين فلا بأس؛ لأنه ليس كل زيادة تكون ربا، بل الزيادة التي تكون ربا هي ما إذا وقع العقد بين شيئين يحرم بينهما التفاضل، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ذلك، وأما الصرف فسيأتي تعريفه.
والربا محرم بالقرآن، والسنة، وإجماع المسلمين، ومرتبته أنه من كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى قال: {{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}} [البقرة: 275] ، وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *}{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [البقرة: 278، 279] ، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال: هم سواء»[(272)] ، فهو من أعظم الكبائر. وقد ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في كتابه «إبطال التحليل»، أنه جاء من الوعيد في الربا ما لم يأت في أي ذنب آخر سوى الشرك والكفر.
وهو مُجْمَعٌ على تحريمه، ولهذا من أنكر تحريمه ممن عاش في بيئة مسلمة فإنه مرتد؛ لأن هذا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها.
ولكن إذا قلنا هذا، هل معناه أن العلماء أجمعوا على كل صورة؟
الجواب: لا، فقد وقع خلاف في بعض الصور، وهذا مثل ما قلنا في أن الزكاة واجبة بالإجماع، ومع ذلك ليس الإجماع على كل صورة، فاختلفوا في الإبل والبقر العوامل، واختلفوا في الحلي وما أشبه ذلك، لكن في الجملة العلماء مجمعون على أن الربا حرام، بل من كبائر الذنوب.
والربا ينقسم إلى قسمين، ربا الفضل، ربا النسيئة، ربا الفضل هو الزيادة، يعني أن يكون الربا بالزيادة كما لو بعت عليك صاعين من البر بثلاثة أصواع من البر.
وربا النسيئة هو أن أبيع عليك شيئاً ربوياً بشيء ربوي مع تأخير القبض فيهما، مثل أن أبيع عليك صاعاً من البر بصاع من الشعير مع تأخير القبض، واعلم أن هذين القسمين قد ينفردان وقد يجتمعان وقد يرتفعان، فإذا بعت عليك عشرة دراهم بدينار مع تأخير القبض فهذا ربا نسيئة، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاعين من البر مع القبض في مجلس العقد فهذا ربا فضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاعين منه مع تأخير القبض، اجتمع فيه ربا النسيئة وربا الفضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاع من البر مع التسليم انتفى ربا الفضل وربا النسيئة.
مسألة: ما هي الأشياء الربوية؟.
الجواب: حددها النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعد، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»[(273)] .
وهذه الأشياء الستة مجمع عليها على حسب ما جاء في الحديث، أي مجمع على أنها هي الأموال الربوية، وأن الربا يجري فيها، واختلف العلماء في سواها، هل يلحق بها بالقياس أو لا يلحق؟
فأما أهل الظاهر فقالوا: لا يلحق بها شيء، والربا خاص بهذه الأشياء الستة؛ لأن أهل الظاهر يمنعون القياس.
وقال أهل المعاني: بل يقاس عليها ما يماثلها، ووافق بعض أهل المعاني ـ أعني القياسيين ـ أهل الظاهر، وأنه لا يجري الربا إلا في هذه الستة فقط لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حصره، وقد أعطي ـ عليه الصلاة والسلام ـ جوامع الكلم[(274)] واختصر له الكلام اختصاراً[(275)]، ولو كان الربا يجري في كل مكيل أو موزون لقال: المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون؛ لأن هذا أعم وأخصر وأوضح، فلما عيَّن لا نتعدى ما قال ولا نتجاوز ما جاءت به السنة، وهذا استدلال قوي في الواقع.
وقال ابن عقيل وهو من أصحاب الإمام أحمد وهو ليس من أهل الظاهر بل من أهل المعاني والقياس، قال: إنه لا يجري الربا إلا في الأصناف الستة؛ لأن العلماء اختلفوا في العلة، فلما اختلفوا تساقطت أقوالهم، فنرجع إلى القول الفصل وهو تخصيص الربا بهذه الأصناف الستة، وعلى هذا فهو يرى أن الربا لا يجري إلا في الأصناف الستة، لكن مأخذه غير مأخذ الظاهرية.
ولكن الراجح أن الشريعة عموماً لا يمكن أن تفرق بين متماثلين؛ لأن الشريعة محكمة من لدن حكيم خبير، والقياس فيها ثابت، فأي فرق بين بر ببر وأرز بأرز؟ فقد يكون الأرز في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن موجوداً فالشارع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، لكننا نحصر العلة على أضيق نطاق لأن الأصل الحل، وكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذه الأشياء فعلى سبيل التمثيل؛ لأنه هو الذي كان موجوداً، مثل صدقة الفطر قال: «صاعاً من بر وصاعاً من شعير» [(276)]، مع أنه يوجد أشياء أخرى، ولكن ما هو مناط الحكم، أي: ما هي العلة الدقيقة التي يمكن أن نلحق بها ما سوى هذه الأصناف الستة؟ هذا ـ أيضاً ـ محل نزاع.
فقال بعض العلماء: العلة الكيل والوزن؛ لأن هذه الأشياء إما مكيلة أو موزونة، فالكيل في الأصناف الأربعة، والوزن في الذهب والفضة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وبناءً على هذا نقول يجري الربا في كل مكيل قياساً على الأصناف الأربعة، وفي كل موزون قياساً على الصنفين الآخرين الذهب والفضة، ولا يجري الربا في غير المكيل والموزون، ولا يشترط أن يكون مطعوماً حتى ولو كان لا يؤكل، وعلى هذا فالإشنان يكال ولا يؤكل فيجري فيه الربا لأنه يكال.
ولو أبدل برتقالة ببرتقالتين فهذا يجوز، إذ ليس مكيلاً ولا موزوناً، ويعتبر من المعدود، والدليل حديث الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر، ولننظر هل الدليل يطابق المدلول أم المدلول أعم؟ ومعلوم أنه إذا كان المدلول أعم فإنه لا يصح الاستدلال؛ لأنه الدليل الأخص يخرج ما عدا المخصوص، وإذا كان الدليل أعم واستدللنا به على أخص يجوز؛ لأن الأخص فرد من أفراد العموم، فهذه قاعدة في الاستدلال أنه متى كان الدليل أخص فإنه لا يصح الاستدلال به على الأعم والعكس بالعكس، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم عين أشياء ولم يذكر أشياء، فإذا استدللنا بالحديث على كل مكيل أو موزون فقد استدللنا بالأخص على الأعم.
وقال بعض العلماء: العلة الطعم في الأصناف الأربعة، والثمنية في الذهب والفضة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي، وبناءً على هذا إذا أبدل برتقالة ببرتقالتين فإنه لا يجوز؛ لأنها مطعومة، وأيضاً إذا أبدل طناً من الحديد بطنين من الحديد فهذا يجوز، وعلى القول الأول لا يجوز.
وأقرب شيء أن يقال: إن العلة في الذهب والفضة كونهما ذهباً وفضة، سواء كانا نقدين أو غير نقدين، والدليل على أن الربا يجري في الذهب والفضة، وإن كانا غير نقدين، حديث القلادة الذي رواه فضالة بن عبيد ـ رضي الله عنه ـ: «أنه اشترى قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر ديناراً ففصلها فوجد فيها أكثر، فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تباع حتى تفصل» [(277)]. ومعلوم أن القلادة خرجت عن كونها نقداً، وعلى هذا فيجري الربا في الذهب والفضة مطلقاً سواء كانا نقداً أم تبراً أم حليّاً، على أي حال كانا، ولا يجري الربا في الحديد والرصاص والصفر والماس وغيرها من أنواع المعادن.
أما العلة في الأربعة فكونها مكيلة مطعومة، يعني أن العلة مركبة من شيئين الكيل والطعم، إذ هذا هو الواقع، فهي مكيلة مطعومة، ويظهر أثر الخلاف في الأمثلة:
فإذا باع صاعاً من الإشنان بصاعين، منه، فإذا قلنا: إن العلة الكيل فلا يجوز، وإن قلنا: إن العلة الطعم جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز أيضاً.
وإذا باع فاكهة بجنسها متفاضلة، فإن قلنا: العلة الطعم فلا يجوز، وإن قلنا: العلة الكيل جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز، فالأمثلة تبنى على الخلاف في تحديد العلة.
فإن قال قائل: سلمنا أنها مطعومة في البر والشعير والتمر، لكن ما القول في الملح؟ أجاب عنه شيخ الإسلام بأن الملح يصلح به الطعام فهو تابع له، ولهذا يقال: «النحو في الكلام كالملح في الطعام»، فالملح من توابع الطعام، وبناءً على هذا التعليل يجري الربا في التوابل التي يصلح بها الطعام؛ لأنها تابعة له.
فإذا تأملنا هذه الأقوال الثلاثة وجدنا:
أولاً: أقربها إلى الصواب هذا القول؛ ووجه ذلك أننا إذا تأملنا الأصناف الستة التي بينها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجدنا أنها مطعومة مكيلة.
ثانياً: أن الأصل في البيع والشراء الحل فلا يمكن أن نحرم على الناس ما الأصل فيه الحل، حتى يتبين لنا ذلك على وجه بيَّن، فما دام لم يتبين إلا ما اجتمع فيه العلتان الكيل والطعم، فإننا نقول: ما عدا ذلك باقٍ على الأصل، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
يَحْرُمُ رِبَا الفَضْلِ فِي كُلِّ مَكِيْلٍ وَمَوْزُونٍ بِيْعَ بِجِنْسِهِ، وَيَجِبُ فِيْهِ الحُلُولُ والقَبْضُ وَلاَ يُبَاعُ مَكِيْلٌ بِجِنْسِهِ إِلاّ كَيْلاً، وَلاَ مَوْزُونٌ بِجِنْسِهِ إِلاّ وَزْناً وَلاَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ جُزَافاً، فَإنْ اخْتَلَفَ الجِنْسُ جَازَت الثَّلاَثَةُ.
قوله: «يحرم ربا الفضل في كل مكيل وموزون بيع بجنسه» بناءً على أن العلة الكيل والوزن، الكيل في الأربعة، والوزن في الذهب والفضة، فيحرم في كل مكيل وموزون بيع بجنسه.
وقوله: «ربا الفضل» أي: ربا الزيادة في كل مكيل بيع بجنسه بر ببر يحرم فيهما ربا الفضل، شعير بشعير يحرم، تمر بتمر يحرم، ملح بملح يحرم، ذهب بذهب يحرم، فضة بفضة يحرم، حديد بحديد يحرم على كلام المؤلف؛ لأنه موزون.
وقوله: «في كل مكيل وموزون بيع بجنسه» فبر بشعير لا يحرم؛ لأن المؤلف قيده فقال: «بجنسه» ، والشعير ليس جنساً للبر.
وكل شيء حرم فيه ربا الفضل فإنه يحرم فيه ربا النسيئة، لا العكس، ولهذا لم يقل المؤلف في «ربا الفضل والنسيئة»؛ لأن هذا معلوم أنه متى حرم ربا الفضل حرم ربا النسيئة.
قوله: «ويجب فيه الحلول» أي: في مكيل أو موزون بيع بجنسه «الحلول والقبض» يعني أن يكون البيع حالًّا، وأن يقبض، فلو باع ذهباً بذهب مؤجلاً فهذا يحرم؛ لأنه يجب فيه الحلول، وإنما وجب فيه الحلول؛ لئلا يَدْخُلَهُ ربا النسيئة.
قوله: «والقبض» إذا قال قائل: أليس القبض يغني عن الحلول؟ يعني لو قال: يشترط فيه القبض، كما جاء في الحديث لقوله: «يداً بيد»[(278)] ، في الواقع أنه يغني، لكن قد تأتي صورة يكون فيها القبض، ولا يكون فيها الحلول، مثل: أن يبيع عليه ذهباً بذهب مؤجلاً لشهر، ويقول: خذ هذا عندك وديعة، وإذا جاء الشهر فاقبضه، فهذا يمكن، ففيه قبض وليس فيه الحلول، ولهذا بيّن المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يشترط الحلول والقبض.
فإذا قال قائل: الحديث ليس فيه إلا القبض، وكلام الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا شك أنه أبلغ من كلام المؤلف.
قلنا: ليس في كلام المؤلف إلا زيادة الإيضاح فقط، فهو للحديث بمنزلة الشرح، وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما يحمل على المعهود، والمعهود أنه إذا تقابض الرجلان في البيع فالبيع حال؛ لأنه ما معنى أن يقول: اشتريت منك كيلو من الذهب بكيلو من الذهب، وخذ هذا الكيلو عندك وديعة لمدة شهر، ثم بعد ذلك اقبضه لنفسك، فهي صورة نادرة أو لا توجد أيضاً، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إنما يتكلم في الأمور الدائمة المعروفة والغالبة.
فالقاعدة: «أنه إذا بيع مكيل بجنسه وجب شيئان التساوي والقبض قبل التفرق».
لما بيّن المؤلف ـ رحمه الله ـ الضابط فيما يحرم فيه الربا، بيّن الطريق الذي نصل به إلى المساواة؛ لأن بيع الشيء بجنسه من الأموال الربوية يشترط فيه الحلول والقبض، فبأي شيء يكون القبض؟ وأي شيء نعرف به المساواة؟
بيّنه بقوله: «ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلاً ولا موزون بجنسه إلا وزناً» وعلى هذا فالتساوي في المكيل عن طريق الكيل، وفي الموزون عن طريق الوزن، فيضاف للتساوي قيد بناء على ما ذكره المؤلف وهو التساوي بالمعيار الشرعي، وهو كيلاً فيما يكال ووزناً فيما يوزن، والفرق بينهما أن المكيل تقدير الشيء بالحجم، والوزن تقديره بالثقل والخفة، فالبر مكيل، فإذا بيع ببر فلا بد من أن يكون طريق التساوي هو الكيل، فلو بيع بجنسه وزناً فإنه لا يصح ولا يعتبر ذلك تساوياً، حتى فيما لا يختلف بالوزن والكيل كالأدهان والألبان، فإنهما من قسم المكيل؛ لأن كل مائع يجري فيه الربا فهو مكيل، فعلى هذا تكون الألبان من المكيلات، ولا يختلف فيها الوزن والكيل، ومع ذلك لو بيعت وزناً فإنها على كلام المؤلف لا يصح، فلو بعت لبناً بلبن من جنسه وزناً فإنه لا يصح مع أنه لو كيل لكان متساوياً.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنه إذا كان الكيل والوزن يتساويان فلا بأس أن يباع المكيل بجنسه كيلاً أو وزناً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثلاً بمثل»[(279)] ، والمثلية هنا متحققة، أما ما يختلف بالكيل والوزن فلا بد أن يباع المكيل كيلاً، والموزون يباع وزناً.
وقوله: «ولا موزون بجنسه إلا وزناً» مثل اللحم، فلو باع الإنسان لحماً من خروف بلحم من خروف آخر فهذا موزون، فلو أراد أن يقطع اللحم قطعاً صغيرة ويضعه في إناء ويبيعه بجنسه كيلاً فإنه لا يصح؛ لأن معيار اللحم هو الوزن.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يباع المكيل وزناً فيعتبر بالوزن، ولا العكس، يعني فلا يباع الموزون كيلاً، لكن الاحتياط ألاّ يباع المكيل إلا كيلاً، ولا يباع الموزون بمثله إلا وزناً، إلا ما يتساوى فيه الكيل والوزن فلا شك في أن بيعه كيلاً أو وزناً جائز.
وقول المؤلف: «ولا يباع مكيل» كلمة «مكيل» نكرة في سياق النفي تشمل القليل والكثير والمساوي في الجودة والمخالف، فلو باع الإنسان تمرة بتمرة فالتساوي بالكيل، فلا بد من أن يتساويا كيلاً، لكن كيف تكال التمرة؟.
الجواب: يؤتى بإناء صغير كملعقة مثلاً، توضع التمرة في هذه الملعقة وتوضع التمرة الأخرى فيها.
وقال بعض أهل العلم: ما لا يكال لقلته وحقارته فإنه لا يعتبر فيه التماثل، كتمرة بتمرتين ـ مثلاً ـ فلا بأس، فمن أخذ بعموم الحديث: التمر بالتمر، مثلاً بمثل»[(280)] ، قال: هذا يشمل التمر القليل والكثير، ومن أخذ بما تعارف عليه الناس، وقال: لا يمكن أن تكال التمرة، قال: هذا محمول على ما يعرفه الناس مما يمكن فيه الكيل، لكن ظاهر كلام المؤلف: «ولا يباع مكيل» أنه يشمل القليل والكثير.
قوله: «ولا بعضه ببعض جزافاً» يقال: جُزافاً، جِزافاً وجَزافاً، فهي مثلثة، أحياناً يقولون: مثلث اللام أو مثلث العين وأحياناً يقولون: بالمثلثة، والفرق بينهما أنهم إذا قالوا بالمثلثة أي: بالثاء، وإذا قالوا: مثلث الفاء يعنون الحركات.
ومعنى الجزاف: أي الذي يكون بدون تقدير، أي: ولا يباع بعض المكيل بالمكيل جزافاً، ولا بعض الموزون بالموزون جزافاً؛ لأنه لا بد فيه من العلم بالتساوي، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، يعني حتى لو فرض أننا أتينا بخارص حاذق، وقال: هذه الكومة من البر تساوي هذه الكومة من البر، فإنه لا يجوز تبايعهما؛ لأنه لا بد من العلم بالتساوي عن طريق الكيل، إلا أنه يستثنى مسألة واحدة تأتينا ـ إن شاء الله ـ، وهي العرايا، فإن العرايا يجوز أن تباع خرصاً.
وقوله: «ولا بعضه ببعض جزافاً» فلو باع بعضه ببعض جزافاً، وقبل التقابض كال كل منهما ما آل إليه فوجده مساوياً للآخر فيصح العقد؛ لأن المحظور قد زال وليس هناك جهل، فالمبيع معلوم من الطرفين، وإنما العلة هي معياره، وقد علمنا الآن أنهما سواء في المعيار الشرعي.
قوله: «فإن اختلف الجنس جازت الثلاثة» إن اختلف الجنس أي: بين المبيعين بأن يباع بر بشعير، فإنها تجوز الثلاثة وهي: أن يباع كيلاً، أو يباع وزناً، أو يباع جزافاً.
ووجه الجواز أنه إذا بيع الربوي بغير جنسه جاز فيه التفاضل.
مثال ذلك: اشترى شعيراً ببر، أي: كيلو بر بكيلو شعير فهذا جائز؛ لأنه من غير جنسه وإذا اختلف الجنس، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»[(281)] ، وإذا باع شعيراً بتمر وزناً، كيلو من هذا بكيلو من هذا، فهذا جائز؛ لاختلاف الجنس، وإذا اختلف الجنس لم يشترط التساوي.
وإذا باع تمراً ببر من غير تقدير لا بالوزن ولا بالكيل، فهذا جائز أيضاً؛ وذلك أنه لا يشترط فيه التساوي.
وخلاصة الكلام أنه إذا بيع الربوي بجنسه يشترط فيه شرطان:
الأول: التقابض من الطرفين.
الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي، المكيل بالمكيل، والموزون بالوزن.
وإذا بيع الربوي بربوي من غير جنسه اشترط شرط واحد، وهو التقابض قبل التفرق، أما التساوي فليس بشرط، ولهذا يجوز بيعهما مكايلة وموازنة وجزافاً.
فإن اختلفا في المعيار الشرعي بأن كان أحدهما مكيلاً والآخر موزوناً، يقول الفقهاء: إنه يجوز كل شيء، يعني يجوز الكيل والوزن والجزاف والحلول والتأجيل، مثل أن أبيع عليك رطلاً من الحديد بصاعين من البر مؤجلين إلى شهر، فهذا جائز؛ لأن معيار الحديد الوزن ومعيار البر الكيل.
وإذا بيع ربوي بغير ربوي فيجوز التفرق قبل القبض، ويجوز التفاضل، مثل أن يبيع شعيراً بشاة، أو يبيع شعيراً بثياب، أو ما أشبه ذلك، فهذا يجوز فيه التفرق قبل القبض والتفاضل، هذا هو خلاصة ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى.
مسألة: يجوز أن يبيع ورقاً نقدياً مئة ريال مثلاً بخمسة وتسعين ريالاً من المعدن، والفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن هذا مقابل الجنس؛ لأن حقيقة الأمر أن هذا جنس مقصود بنفسه، وذلك جنس مقصود بنفسه أيضاً، وكوننا نقول: إن هذا الريال الورقي يقابل هذا الريال المعدني في قيمته النظامية، لا يلزم أن يكون مساوياً له في قيمته الحقيقية، وهذا هو المذهب، واختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ أيضاً أنه يجوز بيع الفلوس بعضها ببعض ولو متفاضلاً ولو تأخر القبض، لكن بشرط ألا يكون مؤجلاً بأن أقول: بعت عليك مائة دولار بأربعة آلاف ريال إلى سنة، فهذا لا يجوز عنده لكن إذا قال: بعت عليك مائة دولار بأربعة آلاف ريال ولم نتقابض فهذا صحيح عنده، لكن فيه نظر؛ لأنه مبني على أن هذا كالفلوس والفلوس على المذهب ليس فيها ربا نسيئة ولا ربا فضل، وفي المسألة قول آخر في الفلوس أنه يجري فيها ربا النسيئة دون الفضل، وهذا هو الأقرب؛ لأن الفلوس في الحقيقة قيمتها قيمة رسمية فقط، فالأوراق النقدية مثل الفلوس، وهذا قول وسط، وهناك قول آخر يحرم ربا النسيئة وربا الفضل، وهناك قول آخر أنه لا يجوز التعامل بها مطلقاً وأن التعامل بها حرام؛ لأنها دين على الحكومة فأنت إذا اشتريت بها أو بعت فقد اشتريت ديناً بدين، ولكن تتعامل بها للضرورة فتتقدر بقدرها.
فأرجح ما يكون عندي أنه يجري فيها ربا النسيئة دون ربا الفضل، فلا يجوز أن نتفرق إلا بالقبض، وهم الآن يجوزون أن يبيع الإنسان ثماني ورقات وثمانية قروش بريال واحد من الفضة مع أن هذه الورقة معتبرة ريالاً، فهذه مثل تلك المسألة.
وَالجِنْسُ: مَا لَهُ اسْمٌ خَاصٌ يَشْمَلُ أنْوَاعاً؛ كَبُرٍّ وَنَحْوِهِ وَفُرُوعُ الأجْنَاسِ؛ كَالأدِقَّةِ، وَالأخْبَازِ، وَالأدْهَان، واللّحْمِ أجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أصُولِهِ، .
قوله: «والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً كبُرٍّ ونحوه» الجنس ضابطه، هو الشيء الذي يشمل أشياء مختلفة بأنواعها.
والنوع ما يشمل أشياءً مختلفة بأشخاصها، هذا هو الفرق، فمثلاً البر جنس؛ لأنه يشمل أشياءً مختلفة بأنواعها، والبر فيه ما يسمى بالحنطة، وما يسمى بالمعية، وما يسمى بالجريباء، وما يسمى باللقيمي هذه أربعة أنواع، إذاً فالبر جنس شمل أنواعاً.
والنوع شيء يشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، كالحنطة مثلاً تشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، تشمل الحنطة التي عندي والتي عندك، وما أشبه ذلك.
الإنسان جنس أو نوع؟
الجواب: جنس يشمل أشياء مختلفة بأنواعها، وهو ذكر وأنثى.
والحيوان جنس، لكنه أعم من الإنسان؛ لأنه يشمل الإنسان وغير الإنسان، فيشمل الإنسان والإبل والبقر والغنم، وغير ذلك فهو أعم.
والجسم جنس أعم مما سبق، فيشمل الجماد والحيوان والإنسان، وكما سبق الحيوان يشمل أنواعاً.
فتبين بهذا أن الشيء قد يكون جنساً باعتبار ما تحته، ونوعاً باعتبار ما فوقه؛ وقد يكون الجنس نوعاً، باعتبار ما فوقه وجنساً باعتبار ما تحته، والمراد هنا الجنس الأخص لا الأعم، ولهذا لو بعنا بقرة ببعير فقد اتفقا في الجنس الأعم وهو الحيوانية، لكن يجوز التفاضل ويجوز التفرق قبل القبض، لكن المراد هنا الجنس الأخص، أي: أخص الأجناس، وإذا أردنا أن نبتعد عن أهل الكلام واصطلاحاتهم، نقول: «البر، والتمر، والشعير، والملح، والذهب، والفضة»، ما نحتاج أن نقول: الجنس الأعم والجنس الأخص؛ لأنه قد يشكل على الإنسان هذا الشيء، وعلى هذا فإذا قلنا: لا يباع الربوي بجنسه، فمعناه لا يباع البر بالبر، أما الشعير فإنه جنس مستقل، فإذا أردت أن تبيع براً ببر، فالواجب شيئان:
الأول: التقابض قبل التفرق.
الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي.
وإذا أردت أن تبيع براً بشعير، فالواجب شيء واحد، وهو التقابض قبل التفرق.
قوله: «وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان واللحم أجناس باختلاف أصوله» فروع الأجناس أجناس، لكن هل هي أجناس مستقلة أو هي أجناس تابعة لأصولها؟
أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ في كلامه هذا أنها أجناس تابعة لأصولها، وعلى هذا فإذا بيع برٌّ حباً ببرٍّ دقيقاً فإنه لا يجوز لتعذر التساوي؛ لأن الحب إذا طحن انتشر ولا يمكن تقديره بالكيل ولا يمكن ـ أيضاً ـ تقديره بالوزن؛ لأن البر لا يباع بالبر إلا كيلاً.
وإذا بيع برٌّ حباً بشعير دقيقاً يجوز بدون كيل ولا وزن؛ لأن بيع البر بالشعير لا بأس فيه بالتفاضل، والدقيق جنس باعتبار الأصل.
وكذلك ـ أيضاً ـ الأخباز، فإذا أردت أن تبيع خبزاً من البر بجريش، والجريش عبارة عن حب لكنه مطحون، ليس طحناً دقيقاً يطبخ فهذا لا يجوز لتعذر التساوي؛ لأن الجريش قد ترطب بالماء ولا يمكن كيله؛ وحتى إذا أمكن كيله فالخبز لا يمكن كيله.
فإذا قال قائل: يمكن أن نملأ إناءً من الجريش، ونفتت الخبز ونضع عليه ماء ونبدل هذا بهذا.
قلنا: لا يمكن التساوي والجنس واحد.
وخبز شعير بجريش من البر فهذا يجوز، لعدم اشتراط التساوي، هذا ما ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ أن فروع الأجناس تعتبر أجناساً بحسب أصولها.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: ما صنع من هذه الأجناس فإن خرج عن القوت بسبب هذا الصنع، خرج عن كونه ربوياً، بناءً على أن العلة في الربا هي كونه قوتاً، وإن لم يخرج فهو جنس مستقل ليس تابعاً لأصله، وعلى هذا فيجوز أن أبيع خبزاً من البر بجريش من البر؛ لأن كل واحد منهما اختلف اختلافاً بيناً، لا بالنسبة لأكله ولا بالنسبة للقصد منه فيكون جنساً مستقلاً، ولكن الاحتياط ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البر بالبر مثلاً بمثل» ، وهذا يعم البر على أي حال كان، «والشعير بالشعير» [(282)]، كذلك يعم الشعير على أي حال.
فإذا قال: أنا ما عندي إلا خبز، وأنا أريد جريشاً.
نقول له: بع الخبز واشتر جريشاً، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في التمر الجيد والتمر الرديء[(283)].
وقوله: «الأدقة والأخباز» الأدقة جمع دقيق، والأخباز جمع خبز.
وقوله: «والأدهان» هذا بناءً على أن الربا يجري في الدهن لأنه يباع بالكيل في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو مكيل، وكل مائع فهو مكيل كالدهن والزيت وغيره، أما إذا قلنا: إنه لا يجري في الدهن فلا بأس ببيع بعضه ببعض متفاضلاً أو متساوياً.
وقوله: «واللحم» اللحم ـ أيضاً ـ أجناس، فلحم الإبل جنس، ولحم الضأن جنس آخر، ولحم البقر جنس آخر، ولحم المعز جنس آخر، ولحم الأرانب جنس، ولحم الظباء جنس، واللحم موزون فلا يجوز أن أبيع كيلو من لحم الغنم بكيلوين من لحم الغنم ـ أيضاً ـ؛ ولأن الجنس واحد فلا يجوز فيه التفاضل.
وكيلو من لحم البقر بكيلوين من لحم الخروف، يجوز لاختلاف الجنس، وهذا ـ أيضاً ـ بناءً على أن اللحم يجري فيه الربا، وهو وجيه إذا كنا في بلاد قوتهم اللحم، أما إذا كنا في بلاد لا يعتبر اللحم فيها قوتاً فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه ليس بقوت، والمذهب: أنه يجري فيه الربا؛ لأنه مما يوزن، والعلة على المذهب الكيل والوزن، فإذا بعت عليك خروفاً بخروفين فهذا جائز؛ لأنه ليس بمكيل ولا موزون، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يستقرض على إبل الصدقة، فيأخذ البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة» [(284)]، وعلى هذا فلا ربا في الحيوان ما دام حياً، أما إذا ذبح فإنه يكون لحماً فيجري فيه الربا، فإذا بيع بجنسه فإنه لا بد من التساوي وإلا فلا يصح.
وَكَذَا اللَّبَنُ وَاللّحْمُ والشَّحْمُ والكَبِدُ أجْنَاسٌ، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوانٍ مِن جِنْسِهِ، وَيَصِحُّ بِغَيْرِ جِنْسِهِ.
قوله: «وكذا اللبن» اللبن أجناس باختلاف أصوله، فلبن الإبل جنس، ولبن البقر جنس آخر، فلو بعت صاعاً من لبن الإبل بصاعين من لبن البقر فهذا جائز؛ لأن الجنس مختلف، ولو بعت صاعاً من لبن بقرة بكر وصاعين من لبن بقرة عجوز فهذا لا يجوز؛ لأن الجنس واحد.
قوله: «واللحم والشحم والكبد أجناس» انتقل المؤلف من الجنس باعتبار استقلال البهيمة إلى الجنس باعتبار وحدة البهيمة، فالبهيمة فيها لحم منوع، ففيها لحم وشحم وكبد وقلب وأَلية وطحال ورئة وكراع وعين ورأس، فهذه كل واحد منها جنس، وعلى هذا فيجوز أن يبيع عليك رطلاً من الكبد برطلين من الرئة، ولو من الضأن؛ لاختلاف الجنس، ويجوز أن أبيع رطلاً من الرئة برطلين من اللحم من الشاة نفسها؛ لاختلاف الجنس، إذاً نفس البهيمة بأجزائها أجناس، وكل جزء يعتبر جنساً مستقلاً، وعلى هذا فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً، ولكن هل يجب التقابض؟
الجواب: نعم؛ لاتفاقهما في المعيار الشرعي، فاللحم كله موزون، فلما اتفقا في المعيار الشرعي كان لا بد من أن يتقابضا قبل التفرق، أما التساوي فليس بشرط.
قوله: «ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه ويصح بغير جنسه» .
مثال ذلك: عندي كومة من لحم الضأن فأردت أن أبيعها بشاة فلا يجوز؛ لأنه من جنسه.
فإذا قال قائل: الذي عندي لحم والشاة أو الخروف فيها كبد وقلب ورئة، وأنتم ذكرتم أن هذه الأشياء كل واحد منها جنس مستقل؟
قلنا: إذا كان الذي عندك لحم، وفي الشاة لحم فقد بعت لحماً بلحم ومعه من غير الجنس، فيكون هذا من باب ما يسمى عند الفقهاء: بمُد عجوة ودرهم فلا يجوز.
وإذا بعت عليك عشرة أصواع من التمر، بصاعين من التمر ومعهما ثمانية أصواع من الشعير فهذا لا يجوز؛ لأنك بعت جنساً بجنسه ومع الثاني من غير جنسه، فهذه مسألة مد عجوة ودرهم بمد عجوة، أو بمُدَي عجوة ودرهم، كما سيأتي إن شاء الله.
إذاً بيع اللحم بحيوان من جنسه، يقول المؤلف: لا يجوز.
واستدل بما يلي:
أولاً: بعموم نهي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن بيع اللحم بالحيوان[(285)]، وهذا الحديث لو أخذنا بظاهره، لقلنا: إنه عام يشمل ما إذا كان الحيوان من جنس اللحم أو من غير جنسه، وهذا لا ينطبق على كلام المؤلف، فالمؤلف ـ رحمه الله ـ يقول: إنه لا يباع اللحم بحيوان من جنسه.
مثاله: خمسون كيلو من لحم الخروف بخروف من جنسه فلا يجوز للنهي عن بيع اللحم بالحيوان، وهذا الحديث في تصحيحه مقال بين أهل العلم وفيه اختلاف.
ثانياً: أنه إذا باع هذا اللحم بهذا الحيوان، فكأنه باع طعاماً بجنسه ومع الآخر من غير الجنس؛ لأننا إذا قدرنا أن هذه الكومة لحم، أي: هبر، فالحيوان الذي بيع، فيه لحم وشحم وكبد ورئة وقلب وطحال وكرش وأمعاء... إلخ، فيكون كالذي باع ربوياً بمثله ومع الآخر من غير جنسه، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء بمد عجوة ودرهم، هذا هو حكم المسألة على كلام المؤلف.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا بأس ببيع اللحم بالحيوان مطلقاً، سواء من جنسه أو من غير جنسه؛ وذلك لاختلاف المقاصد بين الحيوان وبين اللحم، فالحيوان يراد للأكل وللتنمية وللتجارة ولغير ذلك، واللحم يراد غالباً للأكل، فلما اختلفت المنافع والمقاصد صار كل واحد منهما لا صلة له بالآخر ولضعف الحديث الوارد في ذلك.
ويرى بعض أهل العلم أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً سواء من جنسه أو من غير جنسه؛ لأنه بيع حي بميت، ويروون عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه «نهى عن بيع الحي بالميت» [(286)]، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف، والأصل في البيع الحل لقوله تعالى: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}}.
وفصل بعض أهل العلم فقال: إن أراد بالحيوان اللحم فإنه لا يصح بيعه بجنسه، وإن أراد بذلك الانتفاع بالحيوان بركوب أو تأجير أو حرث أو غير ذلك فلا بأس؛ لأنه إذا أراد به اللحم اتفقت المقاصد فصار المراد بهذا الحيوان هو اللحم والأعمال بالنيات، وإذا أراد انتفاعات أخرى فإنه يختلف المقصود.
وهذا القول أصح الأقوال الأربعة: أنه إن أراد بالحيوان اللحم فإنه لا يجوز؛ لأنه صار كأنه باع لحماً بلحم من غير تساوٍ، أي: مع التفاضل، وإن أراد بالحيوان الانتفاع بغير الأكل فهذا لا بأس به، وهذا القول لا يعارض حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان؛ لأنه يمكن أن يحمل الحديث على ما إذا أراد الإنسان بالحيوان اللحم.
وهل يمكن أن يريد باللحم الحيوان؟
الجواب: لا يمكن؛ لأن هذا اللحم لا يمكن أن يعود حيواناً، لكن أن يريد بالحيوان اللحم فيمكن بأن يذبحه ويأكل اللحم، فهذا الحديث إن صح يحمل على ما إذا أراد الإنسان بالحيوان اللحم.
وقوله: «ويصح بغير جنسه» مثل أن يبيع لحم ضأن ببقرة؛ لأن اختلاف الجنس يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»[(287)] ، فإذا باع لحماً مأكولاً بحمار جاز لاختلاف الجنس، واختلاف المقاصد أيضاً.
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَبٍّ بِدَقِيْقِهِ وَلاَ سَوِيقِهِ وَلاَ نَيْئِهِ بِمَطْبُوخِهِ، وَأصْلِهِ بِعَصِيْرِهِ، وَخَالِصِهِ بِمَشُوبِهِ وَرَطْبِهِ بِيَابِسِهِ ....
قوله: «ولا يجوز بيع حب بدقيقه» ولو تساويا وزناً.
مثاله: إنسان عنده صاع من البر باعه بصاع من دقيق البر فإنه لا يجوز لعدم التساوي؛ لأن الحب بالطحن تنتشر أجزاؤه.
فإذا قال: أنا أزيد على الدقيق بمقدار ما يساوي وزن الحب.
قلنا: لا يجوز أيضاً؛ لأن المعتبر في الحب والدقيق هو الكيل، فلا يصح.
وقال بعض العلماء: إنه إذا تساويا في الوزن فلا حرج؛ لأن تساويهما في الوزن يدل على تساويهما في الكيل حباً، واستدلوا لذلك بأمرين:
أحدهما: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «البر بالبر مثلاً بمثل»[(288)]، والمثلية هنا محققة.
الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أجاز بيع العرايا بخرصها تمراً[(289)]، والعرايا بيع رطب بتمر، والرطب أثقل من التمر وينتفخ أيضاً، والتمر يضمر ويخف لكن يحول الرطب إلى تمر ويباع بخرصه، وهذا إذا وزن فإنه قد حول إلى حب، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن التماثل حاصل، والحاجة داعية إلى إبدال هذا بهذا أو يحول الدقيق إلى حب وذلك بالميزان.
وهذا كما قالوا فيما إذا جُبِّن التمر ـ أي: صار تمراً مرصوصاً يتعذر كيله ـ فإنه يعتبر بالوزن، وإن كان لا ينتقل عن كونه مكيلاً.
ولو باع شعيراً حباً ببر دقيقاً جاز لاختلاف الجنس، ولهذا يجوز أن يبيع صاعاً من البر بصاعين من الشعير.
فإذا قال: أنا أبيع عليك صاعاً من الحب بصاع من الدقيق واعتبر الزيادة في مقابلة الطحن، فهذا لا يجوز لأن الزيادة بالصنعة كالزيادة بالصفة، وقد منع النبي صلّى الله عليه وسلّم التفاضل مع اختلاف الصفة والدليل أنه جيء إليه بتمر جنيب جيد فقال: «أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا يا رسول الله ولكن نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً»[(290)].
هنا زاد القدر لنقص الصفة وقلَّ القدر باعتبار الطيب لجودة الصفة، فجودة الصفة زيادة في وصف خلقه الله، والزيادة من أجل الصنعة زيادة في وصف من فعل الآدمي، فإذا كان لا يجوز فيما فعله الله فلا يجوز فيما فعله الآدمي، وهذا القول هو الراجح وإن كان بعض العلماء يقول: إذا زاد بقدر الصنعة فإنه لا بأس به.
قوله: «ولا سويقه» الفرق بين الدقيق والسويق، أن الدقيق يطحن الحب بدون أن يحمص على النار، والسويق يحمص، أي: يشوى على النار ثم يطحن ثم يُثَرَّى بماء أو عسل أو نحوه فيختلف، فإذا امتنع أن يباع الحب بالدقيق غير المحمص فمنع بيعه بالدقيق المحمص من باب أولى؛ لأن فيه شيئين:
الأول: تفرق الأجزاء بالطحن.
الثاني: اختلافها بالتحميص، فهو أشد من بيع الحب بالدقيق.
قوله: «ولا نيئه بمطبوخه» مثل حنطة بهريسة، والهريسة معروفة، فلا يجوز أن يباع الحب بالهريسة.
والجريش هو عبارة عن الحب يطحن طحناً ليس دقيقاً بحيث يتكسر، ويكون أجزاء، ثم بعد ذلك يطبخ على مرق من لحم أو غيره فيسمى جريشاً، ويسمى هريسة، وأحياناً يجعل معه شيء من الحلوى فيوضع عليه سكر أو نحوه حتى يكون له حلاوة، المهم أن النَّيء بالمطبوخ لا يجوز؛ لتعذر التساوي، فلو بعنا حب شعير بهريسة الحنطة، فهذا يجوز لاختلاف الجنس.
مثال آخر: مبادلة كيلو من اللحم النَّيء بكيلو من اللحم المطبوخ فلا يجوز؛ لأن الطبخ يؤثر في الوزن، إذ يدخل فيه أشياء كالماء، وإذا كان من غير الجنس جاز.
قوله: «وأصله بعصيره» الأصل لا يباع بالعصير، كما لو كان إنسان عنده زيتون وزيت، ـ والزيت من الزيتون ـ فباع زيتوناً رطلاً منه أو أكثر أو أقل برطل من زيت فإنه لا يصح، ومثله أن يبيع تمراً بدبس، ـ والدبس هو الماء الذي يخرج من التمر ـ فإنه لا يجوز، وذلك لتعذر التساوي.
قوله: «وخالصه بمشوبه» الخالص هو الذي لم يخالطه غيره، والمشوب هو الذي خلط معه غيره، فهذا لا يجوز؛ لتعذر التساوي.
مثاله: رجل عنده صاع من البر الخالص، وآخر عنده صاع من البر المخلوط بشعير، فلا يجوز أن يباع هذا بهذا لتعذر التساوي، إلا أنه يستثنى من ذلك الخلط اليسير أو ما كان لإصلاح المخلوط كالملح في الطعام، فالخلط اليسير لا يضر، فإنك لا تكاد تجد براً خالصاً ليس فيه حبة شعير، وكذلك ما يكون لإصلاحه كما لو بعنا خبزاً من البر بخبز من البر أحدهما قد جعل فيه حلوى، ولكن بعناهما متساويين فلا بأس، أو أحدهما فيه ملح فلا بأس، فصار يستثنى الشيء اليسير، والشيء الذي خلط للإصلاح من قوله: «خالصه بمشوبه».
قوله: «ورطبه بيابسه» رطبه، الضمير يعود على الربوي، أي: ولا يباع رطب الربوي بيابسه، مثل أن يبيع رطباً بتمر، فالتمر يابس والرطبُ رَطْبٌ، فلا يجوز حتى وإن تساويا وزناً؛ لأن الرطب أثقل من التمر، والذي أثقله من غير جنسه، فيكون محرماً، ولهذا لما سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع التمر بالرطب فقال: «أينقص إذا جف؟» ، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك[(291)]، لكنه يستثنى من ذلك العرايا.
والعرايا هي أن يكون عند إنسان تمر من العام الماضي وجاء الرطب هذا العام، وأراد أن يتفكه بالرطب، لكنه ليس عنده دراهم، وليس عنده إلا تمر يابس من العام الماضي، فهنا رخص الشرع بجواز شراء الرطب بالتمر، وسميت عرايا لعروها عن الثمن، فيأتي هذا الرجل الفقير الذي عنده تمر من العام الماضي إلى صاحب البستان، ويقول: بعني تمر هذه النخلة الذي هو الآن رطب بالتمر فهذا جائز؛ لدعاء الحاجة إليه، فإن هذا الفقير يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس، وليس عنده دراهم فيشتري الرطب على رؤوس النخل بالتمر، لكن بشروط هي:
الشرط الأول: ألاّ يجد ما يشتري به سوى هذا التمر، فإن وجد ما يشتري به سوى هذا التمر، كالدراهم والثياب والحيوان وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز أن يشتري رطباً بتمر.
الشرط الثاني: أن تكون من خمسة أوسق فأقل، والوسق ستون صاعاً، فتكون خمسة الأوسق ثلاثمائة صاع.
الشرط الثالث: أن يكون مآل هذا الرطب بقدر التمر، أي: أن يأتي الخراص الماهر العارف، ويقول: هذا الرطب إذا جف يكون مساوياً للتمر الذي اشتري به.
فإن قال: إن الرطب إذا جف سيكون أكثر من هذا التمر أو أقل، فإنه لا يجوز، فلا بد أن يكون مساوياً. وهنا اكتفي بالمساواة خرصاً؛ من أجل دفع حاجة الفقير.
الشرط الرابع: أن يكون محتاجاً للرطب، بمعنى أنه يريده للأكل والتفكه لا يريد أن يبقيه إلى أن يتمر؛ لأنه قد يقول: أنا أريد أن أشتري الرطب وأبقيه حتى يكون تمراً؛ ليكون هذا التمر تمر هذا العام، وهو أجَدُّ من تمر العام الماضي، فنقول: لا بد أن تكون محتاجاً إلى الرطب لتأكله، ولهذا قال العلماء: لو أنه اشترى عرية رطباً ثم أتمرت بطل البيع؛ لأن الشرط الذي من أجله جاز هذا فُقِدَ.
الشرط الخامس: أن يكون الرطب على رؤوس النخل، فإن كان في أوانٍ بمعنى أن صاحب البستان خرف النخل، وجعله في أوانٍ وعرضه للبيع، فجاء إنسان فقير، فقال: ليس معي دراهم، لكن عندي تمر فاخرص هذا الإناء من الرطب وأعطيك بمثل خرصه تمراً، فهذا لا يجوز؛ لأنه يفوت التفكه؛ لأن كونه على رؤوس النخل يتفكه به الإنسان شيئاً فشيئاً.
فإن قال قائل: كيف جازت العرايا وهي حرام من أجل الحاجة دون الضرورة، والقاعدة أن المحرم لا يجوز إلا للضرورة؛ لقول الله تبارك وتعالى: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] ؟ فهذا إيراد جيد لا شك فيه.
تعليق