وفي هذا البحث سأتناول الطوفان في الروايات الأسطورية، ثم رواية التوراة، وقصة الطوفان في القرآن الكريم. ثم الدلائل التاريخية والجيولوجية على حدوثه، مع التعليق المناسب في المكان المناسب.
أساطير الطوفان:
أساطير الطوفان منتشرة في جميع أنحاء العالم عند الشعوب المتحضرة والبدائية، وقد كشفت الحفريات التي تمت في منطقة بلاد ما بين النهرين، عن ألواح ورقم دوِّنت عليها ملاحم أدبية تتحدث عن الخليقة وفي سياقها ترد حادثة الطوفان، فهناك الملحمة السومرية والملحمة الأكادية (البابلية) وفي تراث الهند الثقافي ملحمة ورد فيها عن الطوفان ما يشبه إلى حدٍّ ما ملاحم بلاد الرافدين والأسطورة اليونانية عن الطوفان مقتبسة من بلاد ما بين النهرين مع تعديل بسيط. وتبدو رواية التوراة والطوفان متشابهة مع رواية الطوفان في الأساطير السومرية والبابلية. أما القرآن الكريم فقد أجمل القصة كما ذكرنا ولم يحدد مكان وزمان الطوفان ولم يحدد من كان مع نوح، ولكن أكد على حقيقة الطوفان. ونبدأ بالأسطورة السومرية.
أولاً-النص السومري عن الطوفان:
"السومريون شعب سكن في بلاد ما بين النهرين في الألف الرابع قبل الميلاد، ويعتقد العلماء أن هذا الشعب قدم إلى هذه البلاد من مرتفعات فارس أو المنطقة الواقعة وراء الخليج العربي"(1) ولدى التنقيب في خرائب مدينة (نفر) السومرية عام 1914م عثر العالم آرنو بوبل Arno Bobel على مجموعة ألواح تعود للألف الثالث قبل الميلاد، دوِّن عليها نص عن الطوفان يتشابه مع رواية التوراة عن الطوفان، فترك ذلك الاكتشاف صدى واسعاً في الأوساط العلمية، والنص فيه تشوه، ولكن المقروء منه، ملخصه أن الآلهة قررت إفناء البشر بالطوفان، وبعض الآلهة كان معارضاً لهذا القرار، وأحدهم أخذ على عاتقه مهمة إنقاذ بذرة الحياة على الأرض، وكان على الأرض ملك صالح يدعى "زيو سودرا" فيتصل به الإله المنقذ من وراء حجاب فيخبره بقرار الإفناء، وفيما يلي مقاطع من الأسطورة(2): "في ذلك الحين بكت "ننتو" كامرأة في المخاض. وأنانا المقدسة ناحت على شعبها. وانكي تفكَّر ملياً وقلب الأمر على وجوهه... في تلك الأيام "زيو سودرا" كان ملكاً وقيِّماً على المعبد. قام بتقدمة ذبيحة عظيمة جداً، وجعل يسجد بخضوع... بتبجيل. وبإصرار كل يوم كان يقف منتظراً وحي الآلهة. فرأى في أحد الأيام حلماً لم يرَ له مثيلاً قط" يتشوه النص والمقاطع التالية تقول: "زيو سودرا واقفاً بجانبه (أي الجدار) يسمع صوتاً. قف قرب الجدار على يساري واسمع، سأتوجه لك بكلمة عند الجدار فاتبع ما أقوله لك وأعط أذناً صاغية لوصاياي، بأيدينا سنرسل طوفاناً من المطر... للقضاء على بني الإنسان... ذلك حكم وقضاء مجمع الآلهة. قضاء (آنو) و (أنليل). لمحو سلطة البشر والقضاء على حكمهم".
يتشوه النص، تليه مقاطع واضحة عن حوادث الجو التي أدت إلى الطوفان: "هبت كل العواصف دفعة واحدة. ودفعت سيول الأمطار أمامها...، بعد سبعة أيام وسبعة ليال، غمرت سيول الأمطار وجه الأرض، ودفعت العواصف المركب العملاق فوق المياه العظيمة. ثم ظهر "أتو" –أي إله الشمس- ناشراً ضوءه على السماء والأرض. فتح زيو سودرا كوة في المركب الكبير وسمح لأشعة البطل "أوتو" بالدخول إليه. زيو سودرا الملك خرَّ ساجداً أمام أوتو ونحر ثوراً وقدم ذبيحة من غنم". يتشوه النص ولكن تنتهي القصة بـ "زيو سودرا الملك سجد أمام آنو وأنليل. ومثل إله وهباه حياة أبدية، ومثل إله وهباه حياة خالدة، عند ذلك زيو سودرا الملك دعي حافظ بذرة الحياة، وفي أرض... دلمون حيث تشرق الشمس أسكناه".
ومن هذا النص السومري نسجل الملاحظات التالية:
1-إيمان الشعب السومري بتعدد الآلهة، وقرار الطوفان يصدر من مجمع الآلهة لتدمير البشر والحياة على الأرض.
2-صاحب السفينة هو زيو سودرا وهو ملك وقيِّم على المعبد، فهو رجل صالح، يخبره أحد الآلهة بقرار الطوفان، ويأمره ببناء السفينة (المركب العملاق). لينجو بنفسه.
3-حدوث الطوفان بعواصف جوية، وأمطار غزيرة دامت سبعة أيام بلياليها، ونجاة زيو سودرا.
4-لم تحدد الأسطورة مكان استواء المركب العملاق، ولكن يفهم أنه في أرض دلمون حيث تشرق الشمس.
5-يفهم من النص المكتشف أن الطوفان عام، لأنه دمَّر الحياة على الأرض، وزيو سودرا أنقذ بذرة الحياة. ولكن مدة العواصف والأمطار غير كافية لتشكيل طوفان يعم كامل الأرض.
6-لم يكلف زيو سودرا بتبليغ قومه قرار الآلهة، ولم يكن رسولاً، ولكن كان صالحاً متعبداً فاختارته الآلهة لصلاحه، لينقذ بذرة الحياة، وينجو من الغرق.
ثانياً، النص البابلي عن الطوفان: (ملحمة جلجامش):
"في عام 1872 أعلن الباحث الإنكليزي جورج سميث أنه قد توصل لحل رموز أحد ألواح مكتبة الملك الآشوري "آشور بانيبال" في نينوى، الذي حكم في القرن السابع قبل الميلاد وأن هذا اللوح يحتوي على نص للطوفان. فتتابعت البعثات التنقيبية على المنطقة لاكتشاف المزيد.
إلى أن تمَّ العثور على الألواح الاثني عشر التي تشكل ملحمة جلجامش التي تأخذ قصة الطوفان معظم اللوح الحادي عشر منها"(3).
ومن غير الدخول في تفاصيل ملحمة جلجامش Gelgamish، يفقد جلجامش صديقه (أنكيدو) فيحزن عليه، ويريد إعادة الحياة له، فيهيم على وجهه في البراري والقفار باحثاً عن سر الخلود، ويقصد جلجامش شخصاً يدعى "أوت –نابشتيم" Ut Napishtim الذي منَّت عليه الآلهة بالحياة السرمدية، ليسأله عن سر الخلود. ويصل جلجامش إليه بصعوبة ويسأله عن سر الخلود، فيقص عليه (أوت- نابشتيم) كيف حصل على الحياة الأبدية بحادث فريد هو الطوفان الكبير وفيما يلي مقاطع من الأسطورة(4): يسألُ جلجامشُ أوت –نابشتيم "أخبرني كيف حصلت على رفقة الآلهة ونلتَ الخلود؟ فقال أوت –نابشتيم لجلجامش: جلجامش... سأكشف لك سراً كان مخبوءاً، وأبوح لك بسرٍ من أسرار الآلهة. "شوريباك" مدينة أنت تعرفها، تقع على شاطئ نهر الفرات. لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها، فحدثتهم نفوسهم أن يرسلوا طوفاناً. كان هناك "آنو" أبوهم، كما كان "أنليل" مستشارهم و "ننورتا" ممثلهم و "اينوجي" وزيرهم، و "ننجيكو" الذي هو "أيا" كان حاضراً أيضاً، فنقل حديثهم إلى كوخ القصب – (بيت أوت- نابشتيم) –يا كوخ القصب يا كوخ القصب، جدار يا جدار، اصغ يا كوخ القصب، وتفكر يا جدار، رجل شوريباك، يا ابن أوبارا-توتو. قوِّض بيتك وابنِ سفينةً. اهجر ممتلكاتك وانج بنفسك. اترك متاعك وأنقذ حياتك. اعمل على حمل بذرة كل ذي حياة. والسفينة التي أنت بانيها، ستكون وفقاً لمقاسات مضبوطة. فيكون عرضها معادلاً لطولها، وغطها كما هي المياه السفلى. عندما فهمت ذلك قلت لـ "إيا" مولاي: سأضع نصب عيني ما قد أمرتني به وأعمل على تنفيذه".
ويتابع أوت-نابشتيم حديث لجلجامش، إلى أن يقول: "وفي اليوم الخامس أنهيت هيكل السفينة، كانت أرضيتها "ايكو" واحد – (مقياس يعادل 3600م2) – وارتفاع جدرانها مائة وعشرين ذراعاً، وطول كل جانب من جوانب سطحها مائة وعشرين ذراعاً، حددتُ شكلها الخارجي وشكلته، وستة سطوح سفلية بنيت فيها، وبذلك قسمتها لسبعة طوابق. كما قمت بتقسيم أرضيتها لتسعة أقسام، وثبت على جوانبها مصدرات الماء. زودتها بالمؤمن والذخيرة" ويتابع أوت نابشتيم حديثه حتى يصل إلى "حملتُ إليها كل ما أملكه. كل ما أملكه من فضة، حملتُ إليها. كل ما أملكه من ذهب حملتُ إليها. كل ما لدي من بذور كل شيء حي حملت إليها. وبعد أن أدخلتُ إليها أهلي وأقاربي جميعاً، وطرائد البرية ووحوشها وكل أصحاب الحرف، عين لي الإله "شمش" وقتاً محدداً: (عندما يرسل سيد العاصفة مطراً مدمراً في المساء أدخل الفلك وأغلق عليك بابك). وما إن أزف الموعد، حتى أرسل سيد العاصفة مطراً مدمراً في المساء. قلبتُ وجهي في السماء كان الجو مرعباً للنظر، دخلتُ السفينة وأغلقتُ عليَّ بابي، وأسلمتُ قيادها للملاح "بوزور-آموري" أسلمته الهيكل العظيم بكل ما فيه. وما إن لاحت تباشير الصباح، حتى علت الأفق غيمة كبيرة سوداء، يجلجل في وسطها صوت "حدد"- ويسبقها "شوللات" و "خانيش" –اقتلع "أريجال" الدعائم وقام "ننورتا" بفتح السدود. رفع (الأنوناكي) مشاعلهم، حتى أضاءت الأرض ببريقها. إلا أن ثورة حدد بلغت حدود السماء، أحالت إلى ظلمة ما كان مضيئاً، وقام بتحطيم الأرض كما تحطم الجرَّة، عصفت الرياح العاتية يوماً كاملاً، بعنف عصفت... أتت على الناس وحصدتهم كما الحرب، حتى عمي الأخ عن أخيه، وبات أهل السماء لا يرون أهل الأرض، حتى الآلهة ذعروا من هذا الطوفان، وهربوا صاعدين إلى سماء "آنو". انكمشوا كالكلاب الخائفة وربضوا في أسى.
صرخت "عشتار" كامرأة في المخاض، ناحت سيدة الآلهة ذات الصوت العذب: (لقد آلت إلى طين تلك الأيام القديمة، ذاك بأنني نطقت بالشر في مجمع الآلهة، فكيف استطعت أن آمر بمثل هذا الشر؟ كيف استطعت أن آمر بالحرب لتدمير شعبي؟ تدمير من أعطيتهم أنا الميلاد. وها هم يملأون اليمّ كصغار السمك). وبكى معها آلهة الأنوناكي، وجلسوا يندبون وينوحون وقد غطّوا أفواههم.
ستة أيام وستة ليال، والرياح تهب، والعاصفة وسيول المطر تطغى على الأرض،ومع حلول اليوم السابع، العاصفة والطوفان خفت من وطأتها، وكانت قبل كأنها الجيوش المحاربة، وأخذ البحر يهدأ والعاصفة تسكن. والطوفان يتوقف، فتحت نافذة فوقع النور على وجهي، نظرت إلى البحر كان الهدوء شاملاً، وقد عاد البشر إلى طين".
ويتابع أوت –نابشتيم حديثه لجلجامش: "واستقرت السفينة على جبل (نصير)، أمسك الجبل بالسفينة ومنعها من الحركة. ومضى اليوم الأول والثاني والجبل ممسكاً بالسفينة. ومضى اليوم الثالث والرابع والجبل ممسكاً بالسفينة. ومضى اليوم الخامس والسادس والجبل ممسكاً بالسفينة. وعندما حلَّ اليوم السابع، أتيت بحمامة وأطلقتها في السماء. طارت الحمامة بعيداً، وما لبثت أن عادت إليَّ، لم تجد مستقراً فآبت. فأتيتُ بسنونو وأطلقته في السماء، طار بعيداً ثم أتيت بغراب وأطلقته في السماء، فطار الغراب وما لبث أن عاد إليَّ. لم يجد موطئاً لقدميه فآب.
بعيداً، ولما رأى أن الماء قد انحسر، أكل وحام وحط ولم يعد. عند ذلك أطلقتُ الجميع للجهات الأربع، وقدمت أضحية" ويتابع أوت-نابشتيم حديثه، فيبين ما فعله على قمة الجبل من أضحية وتجمع الآلهة، والحوار الذي دار بين الآلهة حول الطوفان ونتائجه، ويخلص إلى القول: "فصعد أنليل إلى السفينة وأخذ بيدي وأصعدني معه. كما أصعد زوجتي أيضاً، وجعلها تركع إلى جواري، ثم وقف بيننا ولمس جبهتينا مباركاً: "ما كنت يا أوت –نابشتيم إلا بشراً فانياً، ولكنك وزوجك منذ الآن ستغدوان مثلنا (خالدين) وفي القاصي البعيد عند فم الأنهار ستعيشان" ثم أخذوني وأسكنوني في البعيد حيث فم الأنهار".
يعتبر هذا النص أهم نصوص الطوفان في بلاد الرافدين، لأنه كامل، ولدقة تعابيره وحسن صياغته، وقد اجتزأتُ بعض الفقرات من النص، فمن أراد الإطلاع على النص الكامل يمكن العودة إلى المرجع المحدد بالهامش.
والملاحظات التي نسجلها من قراءة النص البابلي للطوفان في ملحمة جلجامش هي:
1-إيمان الشعب البابلي بتعدد الآلهة، كالشعب السومري، وقرار الطوفان يتخذه مجموعة من الآلهة، لتدمير شوريباك على نهر الفرات، ولكن ورود مقطع يبين ذعر الآلهة أو بعضها وانكماشهم كالكلاب الخائفة، يشير إلى نظرة البابليين إلى مكانة الآلهة وقداستهم فحدث الطوفان جلب النقمة حتى على الآلهة.
2-صاحب السفينة هو أوت –نابشتيم- ويخبره "أيا" أن يصنع سفينة بمواصفات معينة، فيحمل هذا الرجل إليها كل ما يملك من ذهب وفضة وبذور كل شيء حي، ثم يدخل هو وأهله وأقاربه وأصحاب الحرف وطرائد البرية والوحوش، ويطلقهم في الجهات الأربع بعد الطوفان فكأن الحياة على الأرض ابتدأت من جديد بعد الطوفان.
3-حدوث الطوفان بعواصف رعدية مرعبة، وتفجر الأرض بالينابيع عندما قام حدد بتحطيم الأرض كما تحطم الجرَّة. ودامت العواصف ستة أيام بلياليها، وهدأت في اليوم السابع.
4-مكان الطوفان هو بلاد ما بين النهرين "شوريباك التي تقع على الفرات" وتستقر السفينة على جبل نصير (يقع بين الفرات والزاب الصغير)، وتبقى السفينة ستة أيام على قمة الجبل قبل أن يطلق أوت نابشتيم الحمامة ثم السنونو ثم الغراب ليستطلع، هل حدث انحسار الماء. وهذا يفيد أن الطوفان لم يكن عاماً، فجبل نصير منخفض بالنسبة لجبال أخرى كثيرة في المنطقة.
5-لم يكن أوت-نابشتيم ملكاً أو رسولاً إلى قومه، ويبدو أنه كان فقيراً لأنه يعيش في كوخ القصب، والذين نجو معه في السفينة هم أهله وأقرباؤه وأصحاب الحرف، وهذا يوحي بنجاة عدد كبير من الناس معه، ولكن نيل الخلود كان من نصيب أوت- نابشتيم وزوجته.
وفي النص إشارة إلى انتقال أوت- نابشتيم باتجاه الشمال حيث فم الأنهار (أي منابع الأنهار) فالمناطق المرتفعة أكثر أماناً من الأماكن المنخفضة عند حدوث الفيضانات.
ونشير هنا إلى أن بعض أساطير أخرى عن الطوفان وجدت مدونة على ألواح، تم اكتشافها في بلاد ما بين النهرين تعود للعهود البابلية الكلدانية. ولكن أغلبها مشوه أو كسرات غير كاملة، فقد عثر على كسرة من لوح في خرائب مدينة "نيبور" والمدون عليها جزء من قصة الطوفان "سأقوم بافلات وتحرير... سوف يأخذ الناس أجمعين... قبل أن يحل الطوفان... سأسبب الخراب والدمار والفناء... قم ببناء سفينة كبيرة... سيكون هيكلها سفينة عظيمة ستكون، وسيكون اسمها حافظة الحياة... قم بتغطيتها بغطاء متين وإلى السفينة التي صنعت واجلب وحوش البر وطيور السماء"(5).
الفكرة التي دونت على الكرة رغم نقصها، تشير إلى طوفان قادم، وشخص يؤمر ببناء سفينة للحفاظ على الحياة، يحمل الوحوش وطيور السماء، والنص يؤكد انتشار أسطورة الطوفان في المنطقة.
وثمة ملحمة أخرى بنص بابلي وصلتنا موزعة على كسرات عديدة، بطلها "أتراحيس" فعرفت باسم ملحمة أتراحيس، وهي تتحدث عن غضب (أنليل) على البشر بسبب تكاثرهم وضجيجهم الذي منعه من النوم، فيأمر (أنليل) بقلع الأشجار ويطلب من (حدد) حجب المطر ومن (نيسابا) حجب صدرها الخصب والهدف هو تعريض البشر للقحط وفي الملحمة مصائب أخرى سلطها أنليل على البشر كالأمراض والأوبئة، وفي الملحمة جزء خاص بالطوفان "ففتح أنكي فمه وقال مخاطباً أنليل لماذا أمرت؟... سأمد يد المساعدة إلى البشر... والطوفان الذي قد أمرت به..." يتشوه النص، وفي كسرة أخرى "وفي الوقت المحدد الذي سأعينه لك، أدخل الفلك وأغلق عليك بابك، أحمل إليها الحبوب والمتاع والمواشي، زوجك وعائلتك وأقرباءك وأصحاب الحرف، طرائد البرية ووحوشها، وما استطعت من أكلة الأعشاب، سأدفع بها إليك، وتقبع عند أبوابك تحرسها لك. ففتح أتراحيس فمه وقال محدثاً "إيا" مولاه: لم يسبق لي أن بنيت سفينة، فهلا رسمت لي شكلاً لها على الأرض أستعين به على بنائها؟... ثم إني سأعمل على تنفيذ ما أمرتني به"(6),
إن ما وصلنا من ملحمة أتراحيس بخصوص الطوفان، يتشابه مع ملحمة جلجاميش في بعض النقاط، كحمل الحبوب والمتاع والمواشي، ثم الأهل والأقرباء وأصحاب الحرف، وصناعة السفينة بوحي من "إيا"، ولكن بطل الأسطورة في ملحمة جلجامش الذي هو أوت- نابشتيم يصبح أتراحيس، ومعنى أوت-نابشتيم "الذي رأى الحياة" أما معنى (أتراحيس) فهو "الواسع الحكمة". وسنرى أن أسماء الآلهة وبطل الطوفان والمواقع تتغير عندما نقلت أسطورة الطوفان إلى الآداب اليونانية، كما يظهر في نص بيروسوس، والأسطورة اليونانية عن الطوفان.
نص بيروسوس(7):
بيروسوس كاهن مردوخ في بابل، في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، دوَّن تاريخ بابل بالاعتماد على الوثائق المدونة على الألواح ونقلها إلى اليونانية عام (275) قبل الميلاد، فضاع معظمها، ولكن ما يتعلق بالطوفان، ظهرت في أعمال الكاتب ألكسند بوليستر في القرن الأول قبل الميلاد، اقتبسها من رواية بيروسوس عن الطوفان، وملخص الرواية "أن الملك أكسوثروس" بن "أرديتس" رأى حلماً، تجلى له فيه الإله (كرونوس) فيخبره الإله بإهلاك الحياة على الأرض بطوفان مدمر، فيأمره بكتابة ألواح عن بداية كل شيء وتطوره ونهايته، وطمر هذه الألواح في (سيبارا) مدينة إله الشمس. كما يأمره ببناء سفينة، لتحمله مع عائلته وأقربائه، ويحمل فيها من كل ما يطير ويدب على الأرض، ويبني الملك سفينة طولها خمسة (استاديا) وعرضها اثنتا (استاديا)، وحمل فيها وفق المشيئة الإلهية ثم صعد مع زوجته وأولاده المقربين إليه.
ويحدث الطوفان، وبعد هدوئه يرسل اكسوثروس الطيور مرتين، وتعود لعدم انحسار الماء، ثم يرسل ثالثة فلا تعود الطيور، فيعرف اكسوثروس أن الأرض انكشفت. واستوت السفينة على أحد الجبال. وينزل الملك وزوجته وملاح السفينة على الأرض، فسجد الملك وبنى مذبحاً، وقدَّم قرباناً للآلهة. بعد ذلك نزل الذين كانوا في السفينة للبحث عن اكسوثروس لأنه تأخر عليهم، فلم يجدوه، فأتاهم صوت من السماء يأمرهم بالتقوى والصلاح، ويخبرهم أن اكسيوثروس رفع إلى السماء إلى الآلهة، ليعيش معهم عيشة خالدة، بسبب تقواه و صلاحه. كما أخبرهم الصوت أن مكان استواء السفينة هو إحدى بقاع أرمينيا وعليهم أن يعودوا إلى بابل ليستعيدوا الألواح المطمورة في سيبارا، وعندما سمع القوم ما قاله لهم الصوت السماوي، قدموا الأضاحي للآلهة، ومضوا إلى بابل، فاسترجعوا الألواح، وبنوا المدينة من جديد، وأشادوا مدناً كثيرة وأقاموا المعابد والهياكل".
والملاحظات على نص بيروسوس: أنه غير اسم الإله "ايا" إلى اسم إله يوناني وهو "كرونوس" وبطل الطوفان هو ملك مثل زيوسودرا ولكن اسمه يوناني اكسوثروس، والنص ابتعد عن التفصيلات التي تتعلق بحالة الجو، فأعطى واقعية أكثر للرواية ويتركز اهتمام القارئ على الهدف من الطوفان والنتائج. واختفاء اكسوثروس ورفعه إلى السماء، فكرة متقدمة في مجال العقيدة الدينية، فالعروج إلى السماء وارد في الأديان السماوية، كما أن سماع القوم نداءً من السماء دون رؤية الآلهة ومخاطبتهم مباشرة، فيه تنزيل للآلهة من التجسد، والنص يشير إلى مكان استواء السفينة (أرمينيا) التي يقع فيها جبل آرارات حالياً.
أساطير الطوفان:
أساطير الطوفان منتشرة في جميع أنحاء العالم عند الشعوب المتحضرة والبدائية، وقد كشفت الحفريات التي تمت في منطقة بلاد ما بين النهرين، عن ألواح ورقم دوِّنت عليها ملاحم أدبية تتحدث عن الخليقة وفي سياقها ترد حادثة الطوفان، فهناك الملحمة السومرية والملحمة الأكادية (البابلية) وفي تراث الهند الثقافي ملحمة ورد فيها عن الطوفان ما يشبه إلى حدٍّ ما ملاحم بلاد الرافدين والأسطورة اليونانية عن الطوفان مقتبسة من بلاد ما بين النهرين مع تعديل بسيط. وتبدو رواية التوراة والطوفان متشابهة مع رواية الطوفان في الأساطير السومرية والبابلية. أما القرآن الكريم فقد أجمل القصة كما ذكرنا ولم يحدد مكان وزمان الطوفان ولم يحدد من كان مع نوح، ولكن أكد على حقيقة الطوفان. ونبدأ بالأسطورة السومرية.
أولاً-النص السومري عن الطوفان:
"السومريون شعب سكن في بلاد ما بين النهرين في الألف الرابع قبل الميلاد، ويعتقد العلماء أن هذا الشعب قدم إلى هذه البلاد من مرتفعات فارس أو المنطقة الواقعة وراء الخليج العربي"(1) ولدى التنقيب في خرائب مدينة (نفر) السومرية عام 1914م عثر العالم آرنو بوبل Arno Bobel على مجموعة ألواح تعود للألف الثالث قبل الميلاد، دوِّن عليها نص عن الطوفان يتشابه مع رواية التوراة عن الطوفان، فترك ذلك الاكتشاف صدى واسعاً في الأوساط العلمية، والنص فيه تشوه، ولكن المقروء منه، ملخصه أن الآلهة قررت إفناء البشر بالطوفان، وبعض الآلهة كان معارضاً لهذا القرار، وأحدهم أخذ على عاتقه مهمة إنقاذ بذرة الحياة على الأرض، وكان على الأرض ملك صالح يدعى "زيو سودرا" فيتصل به الإله المنقذ من وراء حجاب فيخبره بقرار الإفناء، وفيما يلي مقاطع من الأسطورة(2): "في ذلك الحين بكت "ننتو" كامرأة في المخاض. وأنانا المقدسة ناحت على شعبها. وانكي تفكَّر ملياً وقلب الأمر على وجوهه... في تلك الأيام "زيو سودرا" كان ملكاً وقيِّماً على المعبد. قام بتقدمة ذبيحة عظيمة جداً، وجعل يسجد بخضوع... بتبجيل. وبإصرار كل يوم كان يقف منتظراً وحي الآلهة. فرأى في أحد الأيام حلماً لم يرَ له مثيلاً قط" يتشوه النص والمقاطع التالية تقول: "زيو سودرا واقفاً بجانبه (أي الجدار) يسمع صوتاً. قف قرب الجدار على يساري واسمع، سأتوجه لك بكلمة عند الجدار فاتبع ما أقوله لك وأعط أذناً صاغية لوصاياي، بأيدينا سنرسل طوفاناً من المطر... للقضاء على بني الإنسان... ذلك حكم وقضاء مجمع الآلهة. قضاء (آنو) و (أنليل). لمحو سلطة البشر والقضاء على حكمهم".
يتشوه النص، تليه مقاطع واضحة عن حوادث الجو التي أدت إلى الطوفان: "هبت كل العواصف دفعة واحدة. ودفعت سيول الأمطار أمامها...، بعد سبعة أيام وسبعة ليال، غمرت سيول الأمطار وجه الأرض، ودفعت العواصف المركب العملاق فوق المياه العظيمة. ثم ظهر "أتو" –أي إله الشمس- ناشراً ضوءه على السماء والأرض. فتح زيو سودرا كوة في المركب الكبير وسمح لأشعة البطل "أوتو" بالدخول إليه. زيو سودرا الملك خرَّ ساجداً أمام أوتو ونحر ثوراً وقدم ذبيحة من غنم". يتشوه النص ولكن تنتهي القصة بـ "زيو سودرا الملك سجد أمام آنو وأنليل. ومثل إله وهباه حياة أبدية، ومثل إله وهباه حياة خالدة، عند ذلك زيو سودرا الملك دعي حافظ بذرة الحياة، وفي أرض... دلمون حيث تشرق الشمس أسكناه".
ومن هذا النص السومري نسجل الملاحظات التالية:
1-إيمان الشعب السومري بتعدد الآلهة، وقرار الطوفان يصدر من مجمع الآلهة لتدمير البشر والحياة على الأرض.
2-صاحب السفينة هو زيو سودرا وهو ملك وقيِّم على المعبد، فهو رجل صالح، يخبره أحد الآلهة بقرار الطوفان، ويأمره ببناء السفينة (المركب العملاق). لينجو بنفسه.
3-حدوث الطوفان بعواصف جوية، وأمطار غزيرة دامت سبعة أيام بلياليها، ونجاة زيو سودرا.
4-لم تحدد الأسطورة مكان استواء المركب العملاق، ولكن يفهم أنه في أرض دلمون حيث تشرق الشمس.
5-يفهم من النص المكتشف أن الطوفان عام، لأنه دمَّر الحياة على الأرض، وزيو سودرا أنقذ بذرة الحياة. ولكن مدة العواصف والأمطار غير كافية لتشكيل طوفان يعم كامل الأرض.
6-لم يكلف زيو سودرا بتبليغ قومه قرار الآلهة، ولم يكن رسولاً، ولكن كان صالحاً متعبداً فاختارته الآلهة لصلاحه، لينقذ بذرة الحياة، وينجو من الغرق.
ثانياً، النص البابلي عن الطوفان: (ملحمة جلجامش):
"في عام 1872 أعلن الباحث الإنكليزي جورج سميث أنه قد توصل لحل رموز أحد ألواح مكتبة الملك الآشوري "آشور بانيبال" في نينوى، الذي حكم في القرن السابع قبل الميلاد وأن هذا اللوح يحتوي على نص للطوفان. فتتابعت البعثات التنقيبية على المنطقة لاكتشاف المزيد.
إلى أن تمَّ العثور على الألواح الاثني عشر التي تشكل ملحمة جلجامش التي تأخذ قصة الطوفان معظم اللوح الحادي عشر منها"(3).
ومن غير الدخول في تفاصيل ملحمة جلجامش Gelgamish، يفقد جلجامش صديقه (أنكيدو) فيحزن عليه، ويريد إعادة الحياة له، فيهيم على وجهه في البراري والقفار باحثاً عن سر الخلود، ويقصد جلجامش شخصاً يدعى "أوت –نابشتيم" Ut Napishtim الذي منَّت عليه الآلهة بالحياة السرمدية، ليسأله عن سر الخلود. ويصل جلجامش إليه بصعوبة ويسأله عن سر الخلود، فيقص عليه (أوت- نابشتيم) كيف حصل على الحياة الأبدية بحادث فريد هو الطوفان الكبير وفيما يلي مقاطع من الأسطورة(4): يسألُ جلجامشُ أوت –نابشتيم "أخبرني كيف حصلت على رفقة الآلهة ونلتَ الخلود؟ فقال أوت –نابشتيم لجلجامش: جلجامش... سأكشف لك سراً كان مخبوءاً، وأبوح لك بسرٍ من أسرار الآلهة. "شوريباك" مدينة أنت تعرفها، تقع على شاطئ نهر الفرات. لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها، فحدثتهم نفوسهم أن يرسلوا طوفاناً. كان هناك "آنو" أبوهم، كما كان "أنليل" مستشارهم و "ننورتا" ممثلهم و "اينوجي" وزيرهم، و "ننجيكو" الذي هو "أيا" كان حاضراً أيضاً، فنقل حديثهم إلى كوخ القصب – (بيت أوت- نابشتيم) –يا كوخ القصب يا كوخ القصب، جدار يا جدار، اصغ يا كوخ القصب، وتفكر يا جدار، رجل شوريباك، يا ابن أوبارا-توتو. قوِّض بيتك وابنِ سفينةً. اهجر ممتلكاتك وانج بنفسك. اترك متاعك وأنقذ حياتك. اعمل على حمل بذرة كل ذي حياة. والسفينة التي أنت بانيها، ستكون وفقاً لمقاسات مضبوطة. فيكون عرضها معادلاً لطولها، وغطها كما هي المياه السفلى. عندما فهمت ذلك قلت لـ "إيا" مولاي: سأضع نصب عيني ما قد أمرتني به وأعمل على تنفيذه".
ويتابع أوت-نابشتيم حديث لجلجامش، إلى أن يقول: "وفي اليوم الخامس أنهيت هيكل السفينة، كانت أرضيتها "ايكو" واحد – (مقياس يعادل 3600م2) – وارتفاع جدرانها مائة وعشرين ذراعاً، وطول كل جانب من جوانب سطحها مائة وعشرين ذراعاً، حددتُ شكلها الخارجي وشكلته، وستة سطوح سفلية بنيت فيها، وبذلك قسمتها لسبعة طوابق. كما قمت بتقسيم أرضيتها لتسعة أقسام، وثبت على جوانبها مصدرات الماء. زودتها بالمؤمن والذخيرة" ويتابع أوت نابشتيم حديثه حتى يصل إلى "حملتُ إليها كل ما أملكه. كل ما أملكه من فضة، حملتُ إليها. كل ما أملكه من ذهب حملتُ إليها. كل ما لدي من بذور كل شيء حي حملت إليها. وبعد أن أدخلتُ إليها أهلي وأقاربي جميعاً، وطرائد البرية ووحوشها وكل أصحاب الحرف، عين لي الإله "شمش" وقتاً محدداً: (عندما يرسل سيد العاصفة مطراً مدمراً في المساء أدخل الفلك وأغلق عليك بابك). وما إن أزف الموعد، حتى أرسل سيد العاصفة مطراً مدمراً في المساء. قلبتُ وجهي في السماء كان الجو مرعباً للنظر، دخلتُ السفينة وأغلقتُ عليَّ بابي، وأسلمتُ قيادها للملاح "بوزور-آموري" أسلمته الهيكل العظيم بكل ما فيه. وما إن لاحت تباشير الصباح، حتى علت الأفق غيمة كبيرة سوداء، يجلجل في وسطها صوت "حدد"- ويسبقها "شوللات" و "خانيش" –اقتلع "أريجال" الدعائم وقام "ننورتا" بفتح السدود. رفع (الأنوناكي) مشاعلهم، حتى أضاءت الأرض ببريقها. إلا أن ثورة حدد بلغت حدود السماء، أحالت إلى ظلمة ما كان مضيئاً، وقام بتحطيم الأرض كما تحطم الجرَّة، عصفت الرياح العاتية يوماً كاملاً، بعنف عصفت... أتت على الناس وحصدتهم كما الحرب، حتى عمي الأخ عن أخيه، وبات أهل السماء لا يرون أهل الأرض، حتى الآلهة ذعروا من هذا الطوفان، وهربوا صاعدين إلى سماء "آنو". انكمشوا كالكلاب الخائفة وربضوا في أسى.
صرخت "عشتار" كامرأة في المخاض، ناحت سيدة الآلهة ذات الصوت العذب: (لقد آلت إلى طين تلك الأيام القديمة، ذاك بأنني نطقت بالشر في مجمع الآلهة، فكيف استطعت أن آمر بمثل هذا الشر؟ كيف استطعت أن آمر بالحرب لتدمير شعبي؟ تدمير من أعطيتهم أنا الميلاد. وها هم يملأون اليمّ كصغار السمك). وبكى معها آلهة الأنوناكي، وجلسوا يندبون وينوحون وقد غطّوا أفواههم.
ستة أيام وستة ليال، والرياح تهب، والعاصفة وسيول المطر تطغى على الأرض،ومع حلول اليوم السابع، العاصفة والطوفان خفت من وطأتها، وكانت قبل كأنها الجيوش المحاربة، وأخذ البحر يهدأ والعاصفة تسكن. والطوفان يتوقف، فتحت نافذة فوقع النور على وجهي، نظرت إلى البحر كان الهدوء شاملاً، وقد عاد البشر إلى طين".
ويتابع أوت –نابشتيم حديثه لجلجامش: "واستقرت السفينة على جبل (نصير)، أمسك الجبل بالسفينة ومنعها من الحركة. ومضى اليوم الأول والثاني والجبل ممسكاً بالسفينة. ومضى اليوم الثالث والرابع والجبل ممسكاً بالسفينة. ومضى اليوم الخامس والسادس والجبل ممسكاً بالسفينة. وعندما حلَّ اليوم السابع، أتيت بحمامة وأطلقتها في السماء. طارت الحمامة بعيداً، وما لبثت أن عادت إليَّ، لم تجد مستقراً فآبت. فأتيتُ بسنونو وأطلقته في السماء، طار بعيداً ثم أتيت بغراب وأطلقته في السماء، فطار الغراب وما لبث أن عاد إليَّ. لم يجد موطئاً لقدميه فآب.
بعيداً، ولما رأى أن الماء قد انحسر، أكل وحام وحط ولم يعد. عند ذلك أطلقتُ الجميع للجهات الأربع، وقدمت أضحية" ويتابع أوت-نابشتيم حديثه، فيبين ما فعله على قمة الجبل من أضحية وتجمع الآلهة، والحوار الذي دار بين الآلهة حول الطوفان ونتائجه، ويخلص إلى القول: "فصعد أنليل إلى السفينة وأخذ بيدي وأصعدني معه. كما أصعد زوجتي أيضاً، وجعلها تركع إلى جواري، ثم وقف بيننا ولمس جبهتينا مباركاً: "ما كنت يا أوت –نابشتيم إلا بشراً فانياً، ولكنك وزوجك منذ الآن ستغدوان مثلنا (خالدين) وفي القاصي البعيد عند فم الأنهار ستعيشان" ثم أخذوني وأسكنوني في البعيد حيث فم الأنهار".
يعتبر هذا النص أهم نصوص الطوفان في بلاد الرافدين، لأنه كامل، ولدقة تعابيره وحسن صياغته، وقد اجتزأتُ بعض الفقرات من النص، فمن أراد الإطلاع على النص الكامل يمكن العودة إلى المرجع المحدد بالهامش.
والملاحظات التي نسجلها من قراءة النص البابلي للطوفان في ملحمة جلجامش هي:
1-إيمان الشعب البابلي بتعدد الآلهة، كالشعب السومري، وقرار الطوفان يتخذه مجموعة من الآلهة، لتدمير شوريباك على نهر الفرات، ولكن ورود مقطع يبين ذعر الآلهة أو بعضها وانكماشهم كالكلاب الخائفة، يشير إلى نظرة البابليين إلى مكانة الآلهة وقداستهم فحدث الطوفان جلب النقمة حتى على الآلهة.
2-صاحب السفينة هو أوت –نابشتيم- ويخبره "أيا" أن يصنع سفينة بمواصفات معينة، فيحمل هذا الرجل إليها كل ما يملك من ذهب وفضة وبذور كل شيء حي، ثم يدخل هو وأهله وأقاربه وأصحاب الحرف وطرائد البرية والوحوش، ويطلقهم في الجهات الأربع بعد الطوفان فكأن الحياة على الأرض ابتدأت من جديد بعد الطوفان.
3-حدوث الطوفان بعواصف رعدية مرعبة، وتفجر الأرض بالينابيع عندما قام حدد بتحطيم الأرض كما تحطم الجرَّة. ودامت العواصف ستة أيام بلياليها، وهدأت في اليوم السابع.
4-مكان الطوفان هو بلاد ما بين النهرين "شوريباك التي تقع على الفرات" وتستقر السفينة على جبل نصير (يقع بين الفرات والزاب الصغير)، وتبقى السفينة ستة أيام على قمة الجبل قبل أن يطلق أوت نابشتيم الحمامة ثم السنونو ثم الغراب ليستطلع، هل حدث انحسار الماء. وهذا يفيد أن الطوفان لم يكن عاماً، فجبل نصير منخفض بالنسبة لجبال أخرى كثيرة في المنطقة.
5-لم يكن أوت-نابشتيم ملكاً أو رسولاً إلى قومه، ويبدو أنه كان فقيراً لأنه يعيش في كوخ القصب، والذين نجو معه في السفينة هم أهله وأقرباؤه وأصحاب الحرف، وهذا يوحي بنجاة عدد كبير من الناس معه، ولكن نيل الخلود كان من نصيب أوت- نابشتيم وزوجته.
وفي النص إشارة إلى انتقال أوت- نابشتيم باتجاه الشمال حيث فم الأنهار (أي منابع الأنهار) فالمناطق المرتفعة أكثر أماناً من الأماكن المنخفضة عند حدوث الفيضانات.
ونشير هنا إلى أن بعض أساطير أخرى عن الطوفان وجدت مدونة على ألواح، تم اكتشافها في بلاد ما بين النهرين تعود للعهود البابلية الكلدانية. ولكن أغلبها مشوه أو كسرات غير كاملة، فقد عثر على كسرة من لوح في خرائب مدينة "نيبور" والمدون عليها جزء من قصة الطوفان "سأقوم بافلات وتحرير... سوف يأخذ الناس أجمعين... قبل أن يحل الطوفان... سأسبب الخراب والدمار والفناء... قم ببناء سفينة كبيرة... سيكون هيكلها سفينة عظيمة ستكون، وسيكون اسمها حافظة الحياة... قم بتغطيتها بغطاء متين وإلى السفينة التي صنعت واجلب وحوش البر وطيور السماء"(5).
الفكرة التي دونت على الكرة رغم نقصها، تشير إلى طوفان قادم، وشخص يؤمر ببناء سفينة للحفاظ على الحياة، يحمل الوحوش وطيور السماء، والنص يؤكد انتشار أسطورة الطوفان في المنطقة.
وثمة ملحمة أخرى بنص بابلي وصلتنا موزعة على كسرات عديدة، بطلها "أتراحيس" فعرفت باسم ملحمة أتراحيس، وهي تتحدث عن غضب (أنليل) على البشر بسبب تكاثرهم وضجيجهم الذي منعه من النوم، فيأمر (أنليل) بقلع الأشجار ويطلب من (حدد) حجب المطر ومن (نيسابا) حجب صدرها الخصب والهدف هو تعريض البشر للقحط وفي الملحمة مصائب أخرى سلطها أنليل على البشر كالأمراض والأوبئة، وفي الملحمة جزء خاص بالطوفان "ففتح أنكي فمه وقال مخاطباً أنليل لماذا أمرت؟... سأمد يد المساعدة إلى البشر... والطوفان الذي قد أمرت به..." يتشوه النص، وفي كسرة أخرى "وفي الوقت المحدد الذي سأعينه لك، أدخل الفلك وأغلق عليك بابك، أحمل إليها الحبوب والمتاع والمواشي، زوجك وعائلتك وأقرباءك وأصحاب الحرف، طرائد البرية ووحوشها، وما استطعت من أكلة الأعشاب، سأدفع بها إليك، وتقبع عند أبوابك تحرسها لك. ففتح أتراحيس فمه وقال محدثاً "إيا" مولاه: لم يسبق لي أن بنيت سفينة، فهلا رسمت لي شكلاً لها على الأرض أستعين به على بنائها؟... ثم إني سأعمل على تنفيذ ما أمرتني به"(6),
إن ما وصلنا من ملحمة أتراحيس بخصوص الطوفان، يتشابه مع ملحمة جلجاميش في بعض النقاط، كحمل الحبوب والمتاع والمواشي، ثم الأهل والأقرباء وأصحاب الحرف، وصناعة السفينة بوحي من "إيا"، ولكن بطل الأسطورة في ملحمة جلجامش الذي هو أوت- نابشتيم يصبح أتراحيس، ومعنى أوت-نابشتيم "الذي رأى الحياة" أما معنى (أتراحيس) فهو "الواسع الحكمة". وسنرى أن أسماء الآلهة وبطل الطوفان والمواقع تتغير عندما نقلت أسطورة الطوفان إلى الآداب اليونانية، كما يظهر في نص بيروسوس، والأسطورة اليونانية عن الطوفان.
نص بيروسوس(7):
بيروسوس كاهن مردوخ في بابل، في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، دوَّن تاريخ بابل بالاعتماد على الوثائق المدونة على الألواح ونقلها إلى اليونانية عام (275) قبل الميلاد، فضاع معظمها، ولكن ما يتعلق بالطوفان، ظهرت في أعمال الكاتب ألكسند بوليستر في القرن الأول قبل الميلاد، اقتبسها من رواية بيروسوس عن الطوفان، وملخص الرواية "أن الملك أكسوثروس" بن "أرديتس" رأى حلماً، تجلى له فيه الإله (كرونوس) فيخبره الإله بإهلاك الحياة على الأرض بطوفان مدمر، فيأمره بكتابة ألواح عن بداية كل شيء وتطوره ونهايته، وطمر هذه الألواح في (سيبارا) مدينة إله الشمس. كما يأمره ببناء سفينة، لتحمله مع عائلته وأقربائه، ويحمل فيها من كل ما يطير ويدب على الأرض، ويبني الملك سفينة طولها خمسة (استاديا) وعرضها اثنتا (استاديا)، وحمل فيها وفق المشيئة الإلهية ثم صعد مع زوجته وأولاده المقربين إليه.
ويحدث الطوفان، وبعد هدوئه يرسل اكسوثروس الطيور مرتين، وتعود لعدم انحسار الماء، ثم يرسل ثالثة فلا تعود الطيور، فيعرف اكسوثروس أن الأرض انكشفت. واستوت السفينة على أحد الجبال. وينزل الملك وزوجته وملاح السفينة على الأرض، فسجد الملك وبنى مذبحاً، وقدَّم قرباناً للآلهة. بعد ذلك نزل الذين كانوا في السفينة للبحث عن اكسوثروس لأنه تأخر عليهم، فلم يجدوه، فأتاهم صوت من السماء يأمرهم بالتقوى والصلاح، ويخبرهم أن اكسيوثروس رفع إلى السماء إلى الآلهة، ليعيش معهم عيشة خالدة، بسبب تقواه و صلاحه. كما أخبرهم الصوت أن مكان استواء السفينة هو إحدى بقاع أرمينيا وعليهم أن يعودوا إلى بابل ليستعيدوا الألواح المطمورة في سيبارا، وعندما سمع القوم ما قاله لهم الصوت السماوي، قدموا الأضاحي للآلهة، ومضوا إلى بابل، فاسترجعوا الألواح، وبنوا المدينة من جديد، وأشادوا مدناً كثيرة وأقاموا المعابد والهياكل".
والملاحظات على نص بيروسوس: أنه غير اسم الإله "ايا" إلى اسم إله يوناني وهو "كرونوس" وبطل الطوفان هو ملك مثل زيوسودرا ولكن اسمه يوناني اكسوثروس، والنص ابتعد عن التفصيلات التي تتعلق بحالة الجو، فأعطى واقعية أكثر للرواية ويتركز اهتمام القارئ على الهدف من الطوفان والنتائج. واختفاء اكسوثروس ورفعه إلى السماء، فكرة متقدمة في مجال العقيدة الدينية، فالعروج إلى السماء وارد في الأديان السماوية، كما أن سماع القوم نداءً من السماء دون رؤية الآلهة ومخاطبتهم مباشرة، فيه تنزيل للآلهة من التجسد، والنص يشير إلى مكان استواء السفينة (أرمينيا) التي يقع فيها جبل آرارات حالياً.
تعليق