. ثم خرجنا منها فبتنا بقرية يقال لها مكجا " بفتح الميم والكاف والجيم " بتنا عند فقيه أكرمنا وأضافنا. وسافرنا من عنده وتقدمتنا امرأة من الترك على فرس ومعها خديم لها، وهي قاصدة مدينة ينجا، ونحن في اتباع أثرها، فوصلت إلى وادٍ كبير يقال له سقري كأنه نسب إلى سقر، أعاذنا الله منها، فذهبت تجوز الوادي فلما توسطته، كادت الدابة تغرق بها ورمتها عن ظهرها، وأراد الخديم الذي كان معها استخلاصها، فذهب الوادي بهما معاً. وكان في عدوة الوادي قوم رموا بأنفسهم في أثرها سباحة، فأخرجوا المرأة وبها من الحياة رمق، ووجدوا الرجل قد قضى نحبه رحمه الله. وأخبرنا أولئك الناس أن المعدية أسفل من ذلك الموضع. توجهنا إليها، وهي أربع خشبات مربوطة بالحبال، يجعلون عليها سروج الدواب والمتاع، ويجذبها الرجال من العدوة الأخرى، ويركب عليها الناس. وتجاز الدواب سباحة وكذلك فعلنا. ووصلنا تلك الليلة إلى كاوية واسمها على مثال فاعلة من الكي نزلنا منها بزاوية أحد الأخية فكلمناه بالعربية فلم يفهم عنا، وكلمنا بالتركية فلم نفهم عنه، فقال: اطلبوا الفقيه فإنه يعرف العربية. فأتى الفقيه فكلمنا بالفارسية وكلمناه بالعربية فلم يفهمها منا فقال: للفتى ايشان عربي كهنا ميقوان ميكو يندو من عربي نوميدانم. وايشان معناه هؤلاء، وكهنا قديم، وميقوان يقولون، ومن أنا، ونو جديد، وميدانم تعرف. وإنما أراد الفقيه بهذا الكلام ستر نفسه عن الفضيحة حين ظنوا أنه يعرف اللسان العربي وهو لا يعرفه. فقال لهم: هؤلاء يتكلمون بالكلام العربي القديم، وأنا لا أعرف إلا العربي الجديد فظن الفتى أن الأمر على ما قاله الفقيه. ونفعنا ذلك عنده وبالغ في إكرامنا وقال: هؤلاء تجب كرامتهم، لأنهم يتكلمون باللسان العربي القديم وهو لسان النبي صلى الله عليه وسلم تسليماً وأصحابه. ولم نفهم كلام الفقيه إذ ذاك لكنني حفظت لفظه. فلما تعلمت اللسان الفارسي فهمت مراده. وبتنا تلك الليلة بالزاوية، وبعث معنا دليلاً إلى ينجا وضبط اسمها " بفتح الياء آخر الحروف وكسر النون وجيم " بلدة كبيرة حسنة. بحثنا بها عن زاوية الأخي فوجدنا بها أحد الفقراء المولهين، فقلت له: هذه زاوية الأخي، فقال لي: نعم. فسرت عند ذلك إذ وجدت من يفهم اللسان العربي. فلما اختبرته أبرز الغيب أنه لا يعرف من اللسان العربي إلا كلمة نعم خاصة. ونزلنا بالزاوية وجاء إلينا أحد الطلبة بطعام. ولم يكن الأخي حاضراً، وحصل الأنس بهذا الطالب، ولم يكن يعرف اللسان العربي، ولكنه تفضل وتكلم مع نائب البلدة فأعطاني فارساً من أصحابه، وتوجه معنا إلى كبنوك " وضبط اسمها بفتح الكاف وسكون الباء وضم النون " وهي بلدة صغيرة يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين، وليس بها غير بيت واحد من المسلمين، وهم الحكام عليهم. وهي من بلاد السلطان أرخان بك، فنزلنا بدار عجوز كافرة، وذلك إبان الثلج والشتاء، فأحسنا إليها وبتنا عندها تلك الليلة، وهذه البلدة لا شجر بها ولا دوالي العنب ولا يزرع بها إلا الزعفران، وأتتنا هذه العجوز بزعفران كثير، وظنت أننا تجار نشتريه منها .ولما كان الصباح ركبنا وأتانا الفارس الذي بعثه الفتى معنا من كاوية، فبعث معنا فارساً غيره ليوصلنا إلى مدينة مطرني. وقد وقع في تلك الليلة ثلج كثير عفى عن الطريق ، فتقدمنا ذلك الفارس فاتبعنا أثره إلى أن وصلنا في نصف النهار إلى قرية للتركمان، فأتوا بطعام فأكلنا منه، وكلمهم ذلك الفارس فركب معنا أحدهم، وسلك بنا أوعاراً وجبالاً ومجرى ماء تكرر لنا جوازه أزيد من الثلاثين مرة. فلما خلصنا من ذلك قال لنا ذلك الفارس: أعطوني شيئاً من الدراهم. فقلنا له: إذا وصلنا إلى المدينة نعطيك ونرضيك فلم يرض ذلك منا، أو لم يفهم عنا. فأخذ قوساً لبعض أصحابي ومضى غير بعيد ثم رجع فرد إلينا القوس فأعطيته شيئاً من الدراهم، فأخذها وهرب عنا وتركنا لا نعرف أين نقصد ولا طريق لنا، فكنا نتلمح أثر الطريق تحت الثلج ونسلكه، إلى أن بلغنا عند غروب الشمس إلى جبل يظهر الطريق به لكثرة الحجارة، فخفت الهلاك علي ومن معي وتوقعت نزول الثلج ليلاً ولا عمارة هنالك. فإن نزلنا عن الدواب هلكنا، وإن سرينا ليلتنا لا نعرف أين نتوجه. وكان لي فرس من الجياد فعملت على الخلاص، وقلت في نفسي: إذا سلمت لعلي أحتال في سلامة أصحابي، فكان كذلك. واستودعتهم الله تعالى وسرت.
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
رحلة ابن بطوطة
تقليص
X
-
. وأهل تلك البلاد يبنون على القبور بيوتاً من الخشب يظن رائيها أنها عمارة، فيجدها قبوراً. فظهر لي منها كثير. فلما كان بعد العشاء وصلت إلى البيوت فقلت: اللهم اجعلها عامرة، فوجدتها عامرة، ووفقني الله تعالى إلى باب دار، فرأيت عليها شيخاً فكلمته بالعربي فكلمني بالتركي، وأشار إلي بالدخول. فأخبرته بشأن أصحابي فلم يفهم عني، وكان من لطف الله أن تلك الدار زاوية للفقراء، والواقف بالباب شيخها. فلما سمع الفقراء الذين بداخل الزاوية كلامي مع الشيخ خرج بعضهم. وكانت بيني وبينه معرفة فسلم علي، وأخبرته خبر أصحابي وأشرت إليه بأن يمضي مع الفقراء لاستخلاص الأصحاب، ففعلوا ذلك وتوجهوا معي إلى أصحابي، وجئنا جميعاً إلى الزاوية وحمدنا الله تعالى على السلامة، وكانت ليلة جمعة، فاجتمعوا أهل القرية وقطعوا ليلتهم بذكر الله تعالى. وأتى كل منهم بما تيسر له من الطعام وارتفعت المشقة. ورحلنا عند الصباح فوصلنا مدينة مطرني عند صلاة الجمعة " وضبط اسمها بضم الميم والطاء المكهملة واسكان الراء وكسر النون وياء مد "، فنزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية، وبها جماعة من المسافرين، ولم نجد مربطاً للدواب. فصلينا الجمعة ونحن في قلق لكثرة الثلج والبرد وعدم المربط، فلقينا أحد الحجاج من أهلها فسلم علينا، وكان يعرف اللسان العربي فسررت برؤيته، وطلبت منه أن يدلنا على مرابط للدواب بالكراء. فقال: أما ربطها فهي في منزل فلا يتأتى، لأن أبواب دور هذه البلدة صغار، لا تدخل منها الدواب، ولكنني أدلكم على سقيفة بالسوق يربط فيهم المسافرون دوابهم، والذين يأتون لحضور السوق،فدلنا عليها وربطنا بها دوابنا، ونزل أحد الأصحاب بحانوت خال إزاءها ليحرس الدواب.ا عليها وربطنا بها دوابنا، ونزل أحد الأصحاب بحانوت خال إزاءها ليحرس الدواب.[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
?حكاية
وكان من غريب ما اتفق لنا أني بعثت أحد الخدام ليشتري التبن للدواب، وبعثت أحدهم يشتري السمن. فأتى أحدهما بالتبن، والآخر دون شيء، وهو يضحك. فسألناه عن سبب ضحكه فقال: إنا وقفنا على دكان بالسوق فطلبنا منه السمن، فأشار إلينا بالوقوف. وكلم والده فدفعنا له الدراهم، فأبطأ ساعة وأتى بالتبن فأخذناه منه، وقلنا له: إنا نريد السمن، فقال: هذا السمن، وأبرز الغيب أنهم يقولون للتبن سمن بلسان الترك. أما السمن فيسمى عندهم رباغ. ولما اجتمعنا بهذا الحاج الذي يعرف اللسان العربي رغبنا منه أن يسافر معنا إلى قصطومنية، وبينها وبين هذه البلدة عشرة، وكسوته ثوباً مصرياً من ثيابي، وأعطيته نفقه تركها لعياله، وعينت له دابة لركوبه، ووعدته الخير. وسافر معنا، فظهر لنا من حاله أنه صاحب مال كثير، وله ديون على الناس، غير أنه ساقط الهمة خسيس الطبع سيء الأفعال وكنا نعطيه الدارهم لنفقتنا فيأخذ ما يفضل من الخبز ويشتري به الأبراز والخضر والملح ويمسك ثمن ذلك لنفسه. وذكر لي أنه كان يسرق من دارهم النفقة دون ذلك، وكنا نحتمله لما كنا نكابده من عدم المعرفة بلسان الترك، وانتهت حاله إلى أن فضحناه، وكنا نقول له في آخر النهار يا حاج، كم سرقت اليوم من النفقة ? فيقول: كذا فنضحك منه ونرضى بذلك. ومن أفعله الخسيسة أنه مات لنا فرس في بعض المنازل، فتولى سلخ جلده بيده وباعه. ومنها أنا نزلنا ليلة عند أخت له في بعض القرى فجاءت بطعام وفاكهة من الأجاص والتفاح والمشمش والخوخ، كلها ميبسة وتجعل في الماء حتى ترطب فتؤكل ويشرب ماؤها. فأردنا أن نحسن إليها فعلم بذلك فقال: لا تعطوها شيئاً، وأعطوا ذلك لي فأعطيناه إرضاء له، وأعطيناه إحساناً في خفية بحيث لم يعلم بذلك. ثم وصلنا إلى مدينة بولي " وضبط اسمها بياء موحدة مضموة وكسر اللام "، ولما انتهينا إلى قريب منها وجدنا وادياً يظهر في رأي العين صغيراً، فلما دخله بعض أصحابنا وجدوه شديد الجرية والانزعاج، فجاوزه جميعاً. وبقيت جارية صغيرة خافوا في تجويزها، وكان فرسي خيراً من أفراسهم فأردفتها، وأخذت في جواز الوادي فلما توسطته وقع بي الفرس ووقعت الجارية، فأخرجها أصحابي وبها رمق وخلصت أنا.[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
. ودخلنا المدينة فقصدنا زاوية أحد الفتيان الأخية، ومن عوائدهم أنه لا تزال النار موقودة في زواياهم أيام الشتاء أبداً. يجعلون في كل ركن من أركان الزاوية موقد النار، ويصنعون لها منافس يصعد منها الدخان، ولا يؤذي الزاوية. ويسمونها البخاري واحدها بخيري. قال ابن جزي: وقد أحسن صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي في قوله في التورية، وتذكرته بذكر البخيري:
إن البخيري مذ فارقتموه غـدايحثو الرماد على كانونه التربلو شئتم أنه يمسي أبـا لـهـبٍجاءت بغالكم حمالة الحطـب
قال: فلما دخلنا للزاوية وجدنا النار موقودة، فنزعت ثيابي ولبست ثياباً سواها، واصطليت بالنار. وأتى الأخي بالطعام والفاكهة أكثر من ذلك. فلله درهم من طائفة ! ما أكرم نفوسهم وأشد إيثارهم وأعظم سفقتهم على الغريب وألطفهم بالوارد وأحبهم فيه وأجملهم أحتفالاً بأمره. فليس قدوم الإنسان الغريب عليهم إلا كقدومه على أحب أهله إليه. وبتنا تلك الليلة بحال مرضية، ثم رحلنا بالغداة فوصلنا إلى مدينة كردي بولي " وضبط اسمها بكاف معقودة وفتح الراء والدال المهمل وسكون الياء وباء موحدة مضمومة وواو مد ولام مكسورة وياء "، وهي مدينة كبيرة في بسيط من الأرض حسنة، متسعة الشوارع وألسواق، من أشد البلاد برداً. وهي محلات مفترقة، كل محلة تسكنها طائفة لا يخالطهم غيرهم.[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
ذكر سلطانها
وهو السلطان شاه بك، من متوسطي سلاطين هذه البلاد، حسن الصورة، والسيرة جميل الخلق قليل العطاء. صلينا بهذه المدينة صلاة الجمعة ونزلنا منها، ولقيت بها الخطيب الفقيه شمس الدين الدمشقي الحنبلي، وهو من مستوطنيها من سنين، وله بها أولاد. وهو فقيه هذا السلطان وخطيبه، ومسموع الكلام عنده. ودخل علينا هذا الفقيه بالزاوية، فأعلمنا أن السلطان قد جاء لزيارتنا. فشكرته على فعله، واستقبلت السلطان فسلمت عليه وجلس. فسألني عن حالي وعن مقدمي وعمن لقيته من السلاطين، فأخبرته بذلك كله. وأقام ساعة ثم انصرف، وبعث بدابة مسرجة وكسوة وانصرفنا إلى مدينة برلو " وضبط اسمها بضم الباء الموحد وإسكان الراء وضم اللام "، وهي مدينة صغيرة على تل، تحتها خندق، ولها قلعة بأعلى شاهق. نزلنا منها بمدرسة. وكان الحاج الذي سافر معنا يعرف مدرستها وطلبتها، ويحضر معهم الدرس. وهو على علاته من الطلبة حنفي المذهب. ودعانا أمير هذه البلدة وهو علي بك ابن السلطان المكرم سليمان باد شاه ملك قصطمونية وسنذكره، فصعدنا إليه إلى القلعة، فسلمنا عليه، فرحب بنا وأكرمنا، وسألني عن أسفاري وحالي، فأجبته عن ذلك، وأجلسني إلى جانبه. وحضر قاضيه وكاتبه الحاج علاء الدين محمد وهو من كبار الكتاب، وحضر الطعام فأكلنا ثم قرأ القراء بأصوات مبكية وألحان عجيبة وانصرفنا. وسافرنا بالغد إلى مدينة قصطمونية " وضبط اسمها بقاف مفتوح وصاد مهمل مسكن وطاء مهمل مسكن وطاء مهمل مفتوح وميم مضمومة وواو ونون مكسور وياء آخر الحروف "،[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
وهي من أعظم المدن وأحسنها، كثيرة الخيرات، رخيصة الأسعار. نزلنا منها بزاوية شيخ يعرف الأطروش لثقل سمعه. ورأيت منه عجباً، وهو أن أحد الطلبة كان يكتب له في الهواء، وتارة في الأرض بإصبعه، فيفهم عنه ويجيبه، ويحكي له بذلك، الحكايات فيفهمها. وأقمنا بهذه المدينة نحو أربعين يوماً فكنا نشتري طابق اللحم الغنمي السمين بدرهمين، ونشتري خبزاً بدرهمين فيكفينا ليومنا، ونحن عشرة. ونشتري حلواء العسل بدرهمين، فتكفينا أجمعين. ونشتري جوزاً بدرهم وقشطلاً بمثله، فنأكل منها أجمعون، ويفضل باقيها. ونشتري حمل الحطب بدرهم واحد، وذلك أوان البرد الشديد، ولم أر في البلاد مدينة أرخص أسعاراً منها. ولقيت بها الشيخ الإمام العالم المفتي المدرس تاج الدين السلطانيوكي من كبار العلماء، قرأ بالعراقين وتبريز واستوطنها مدة، وقرأ بدمشق، وجاور بالحرمين قديماً. ولقيت بها العلم المدرس صدر الدين سليمان الفنيكي من أهل فنيكة من بلاد الروم، وأضافني بمدرسته التي بسوق الخيل، ولقيت بها الشيخ المعمر الصالح دادا أمير علي، دخلت عليه بزاويته بمقربة من سوق الخيل، فوجده ملقى على ظهره، فأجلسه بعض خدامه، ورفع بعضهم حاجبيه عن عينيه ففتحهما، وكلمني بالعربي الفصيح، وقال: قدمت خير مقدم، وسألته عن عمره فقال: كنت من أصحاب الخليفة المستنصر بالله، وتوفي وأنا ابن ثلاثين سنة. وعمري الآن مائة وثلاث وستون سنة، فطلبت منه الدعاء فدعا لي وانصرف.[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
ذكر سلطان قصطمونية
وهو السلطان المكرم سليمان بادشاه " واسمه بباء معقود وألف ودال مسكن "، وهو كبير السن ينيف على سبعين سنة، حسن الوجه طويل اللحية صاحب وقار وهيبة، يجالسه الفقهاء والصلحاء. دخلت عليه بمجلسه فأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي ومقدمي وعن الحرمين الشريفين ومصر والشام فأجبته، وأمر بإنزالي على قرب منه، وأعطاني ذلك اليوم فرساً عتيقاً قرطاسي اللون وكسوة، وعين لي نفقة وعلفاً، وأمر لي بعد ذلك بقمح وشعير نفذ لي في قرية من قرى المدينة، على مسيرة نصف يوم منها، فلم أجد من يشتريه، لرخص الأسعار، فأعطيته للحاج الذي كان في صحبتنا. ومن عادة هذا السلطان أن يجلس كل يوم بمجلسه، بعد صلاة العصر، ويؤتى بالطعام فتفتح الأبواب، ولا يمنع أحد من حضري أو بدوي أو غريب أو مسافر من الأكل. ويجلس في أول النهار جلوساً خاصاً، ويأتي ابنه فيقبل يديه، وينصرف إلى مجلس له ويأتي أرباب الدولة فيأكلون عنده وينصرفون. ومن عادته في يوم الجمعة أن يركب إلى المسجد، وهو بعيد عن داره. والمسجد المذكور هو ثلاث طبقات من الخشب. فيصلي السلطان وأرباب دولته والقاضي والفقهاء ووجوه الأجناد في الطبقة السفلى، ويصلي الأفندي، وهو أخو السلطان وأصحابه وأخدامه وبعض أهل المدينة في الطبقة الوسطى، ويصلي ابن السلطان ولي عهده وهو أصغر أولاده، ويسمى الجواد، وأصحابه ومماليكه وخدامه وسائر الناس في الطبقة العليا، ويجتمع القراء فيقعدون حلقة أمام المحراب، ويقعد معهم الخطيب والقاضي. ويكون السلطان بإزاء المحراب. ويقرأون سورة الكهف بأصوات حسان، ويكررون الآيات بترتيب عجيب. فإذا فرغوا من قراءتها صعد الخطيب المنبر فخطب ثم صلى، فإذا فرغوا من الصلاة تنفلوا وقرأ القارئ بين يدي السلطان عشراً، وانصرف السلطان ومن معه. ثم يقرأ القارئ بين يدي أخي السلطان، فإذا أتم قراءته انصرف هو ومن معه، ثم يقرأ القارئ بين يدي ابن السلطان، فإذا فرغ من قراءته قام المعرف، وهو المذكر، فيمدح السلطان بشعر تركي ويمدح ابنه ويدعو لهما وينصرف. ويأتي ابن الملك إلى دار أبيه بعد أن يقبل يد عمه في طريقه واقفاً في انتظاره، ثم يدخلان إلى السلطان فيتقدم اخوه ويقبل يده ويجلس بين يديه، ثم يأتي ابنه فيقبل يده وينصرف إلى مجلسه فيقعد به مع ناسه. فإذا حانت صلاة العصر صلوها جميعاً. وقبل أخو السلطان يده، وانصرف عنه فلا يعود إليه إلا في الجمعة الأخرى. وأما الولد فإنه يأتي كل يوم غدوة كما ذكرناه. ثم سافرنا من هذه المدينة ونزلنا في زاوية عظيمة بإحدى القرى من أحسن زاوية رأيتها في تلك البلاد، بناها أمير كبير تاب إلى الله تعالى يسمى فخر الدين، وجعل النظر فيها لولده، والإشراف لمن أقام بالزاوية من الفقراء[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
وفوائد القرية وقف عليها. وبنى بإزاء الزاوية حماماً للسبيل يدخله الوارد والصادر من غير شيء يلزمه، وبنى سوقاً بالقرية ووقفه على المسجد الجامع. وعين من أوقاف هذه الزاوية لكل فقير يرد من الحرمين الشريفين أو من الشام ومصر والعراقين وخراسان وسواهما كسوة كاملة ومائة درهم يوم قدومه، وثلاثمائة درهم يوم سفره. والنفقه أيام مقامه وهي الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء. ولكل فقير من بلاد الروم عشرة دراهم وضيافة ثلاثة أيام، ثم انصرفنا وبتنا ليلة ثانية بزاوية في جبل شامخ لا عمارة فيه عمرها بعض الفتيان الأخية، ويعرف بنظام الدين من أهل قصطمونية، ووقف عليها قرية ينفق خراجها على الوارد والصادر بهذه الزاوية. وسافرنا من هذه الزاوية إلى مدينة صنوب " وضبط اسمها بفتح الصاد وضم النون وآخره باء "، وهي مدينة حافلة جمعت بين التحصين والتحسين، يحيط بها البحر من جميع جهاتها إلا واحدة وهي الشرق، ولها هنالك باب واحد لا يدخل إليها أحد إلا بإذن أميرها، وأميرها إبراهيم بك ابن السلطان سليمان بادشاه الذي ذكرناه. ولما استؤذن لنا عليه دخلنا البلد ونزلنا بزاوية عز الدين أخي جلبي، وهي خارج باب البحر، ومن هنالك يصعد إلى جبل داخل في البحر، كميناء سبتة في البساتين والمزارع والمياه،وأكثر فواكهه التين والعنب، وهو جبل مانع لا يستطاع الصعود إليه. وفيه إحدى عشرة قرية يسكنها كحفار الروم تحت ذمة المسلمين. وبأعلاه رابطة تنسب للخضر والياس عليهما السلام، لا تخلو عن متعبد، وعندها عين ماء. والدعاء فيها مستجاب. وبسفح هذه الجبر قبر الوالي الصالح الصحابي بلال الحبشي، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر. والمسجد بمدينة صنوب من أحسن المساجد. وفي وسطه بركة ماء عليها قبة تثقلها أربع أرجل، ومع كل رجل ساريتان من الرخام، وفوقها مجلس يصعد له على درج خشب، وذلك من عمارة السلطان بروانه ابن السلطان علاء الدين الرومي، وكان يصلي الجمعة بأعلى تلك القبة. وملك بعد ابنه غازي جلبي، فلما مات تغلب عليها السلطان سليمان المذكور. وكان غازي جلبي المذكور شجاعاً مقداماً، ووهبه الله خاصية في الصبر تحت الماء وفي قوة السباحة، وكان يسافر في الأجفان الحربية لحرب الروم، فإذا كانت الملاقاة واشتغل الناس بالقتال غاص تحت الماء وبيده آلة حديد يخرق بها أجفان العدو، فلا يشعرون بما حل بهم حتى يدهمهم الغرق. وطرقت مرسى بلده مرة أجفان العدو فخرقها وأي من كان فيها. وكانت فيه كفاية لا كفاء لها إلا أنهم يذكرون أنه كان يكثر أكل الحشيش وبسببه مات. فإنه خرج يوماً للتصيد وكان مولعاً به، فاتبع غزالة ودخلت له بين الأشجار، وزاد في ركض فرسه فعارضته شجرة فضربت رأسه فخدشته فمات. وتغلب السلطان سليمان على البلد وجعل به ابنه ابراهيم. ويقال: إنه أيضاً كان يأكل صاحبه، على أن أهل بلاد الروم كلها لا ينكرون أكلها. ولقد مررت يوماً على باب الجامع بصنوب، وبخارجه دكاكين يقعد الماس عليها، فرأيت نفراً من كبار الأجناد وبين أيديهم خديم لهم بيده شكارة مملوءة بشيء يشبه الحناء، وأحدهم يأخذ منها بملعقة ويأكل، وأنا أنظر إليه ولا أعلم بما في الشكارة. فسألت من كان معي فأخبرني أنه الحشيش. وأضافنا بهذه المدينة قاضيها ونائب الأمير بها ومعلمه ويعرف بابن عبد الرزاق.ر قبر الوالي الصالح الصحابي بلال الحبشي، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر. والمسجد بمدينة صنوب من أحسن المساجد. وفي وسطه بركة ماء عليها قبة تثقلها أربع أرجل، ومع كل رجل ساريتان من الرخام، وفوقها مجلس يصعد له على درج خشب، وذلك من عمارة السلطان بروانه ابن السلطان علاء الدين الرومي، وكان يصلي الجمعة بأعلى تلك القبة.[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
وملك بعد ابنه غازي جلبي، فلما مات تغلب عليها السلطان سليمان المذكور. وكان غازي جلبي المذكور شجاعاً مقداماً، ووهبه الله خاصية في الصبر تحت الماء وفي قوة السباحة، وكان يسافر في الأجفان الحربية لحرب الروم، فإذا كانت الملاقاة واشتغل الناس بالقتال غاص تحت الماء وبيده آلة حديد يخرق بها أجفان العدو، فلا يشعرون بما حل بهم حتى يدهمهم الغرق. وطرقت مرسى بلده مرة أجفان العدو فخرقها وأي من كان فيها. وكانت فيه كفاية لا كفاء لها إلا أنهم يذكرون أنه كان يكثر أكل الحشيش وبسببه مات. فإنه خرج يوماً للتصيد وكان مولعاً به، فاتبع غزالة ودخلت له بين الأشجار، وزاد في ركض فرسه فعارضته شجرة فضربت رأسه فخدشته فمات. وتغلب السلطان سليمان على البلد وجعل به ابنه ابراهيم. ويقال: إنه أيضاً كان يأكل صاحبه، على أن أهل بلاد الروم كلها لا ينكرون أكلها. ولقد مررت يوماً على باب الجامع بصنوب، وبخارجه دكاكين يقعد الماس عليها، فرأيت نفراً من كبار الأجناد وبين أيديهم خديم لهم بيده شكارة مملوءة بشيء يشبه الحناء، وأحدهم يأخذ منها بملعقة ويأكل، وأنا أنظر إليه ولا أعلم بما في الشكارة. فسألت من كان معي فأخبرني أنه الحشيش. وأضافنا بهذه المدينة قاضيها ونائب الأمير بها ومعلمه ويعرف بابن عبد الرزاق.[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
حكاية
لما دخلنا هذه المدينة رآنا أهلها ونحن نصلي مسبلي أيدينا وهم حنفية لا يعرفون مذهب مالك ولا كيفية صلاته، والمختار من مذهبه وهو إسبال اليدين. وكان بعضهم يرى الروافض بالحجاز والعراق مسبلي أيديهم، فاتهمونا بمذهبهم، وسألونا عن ذلك فأخبرناهم أننا على مذهب مالك، فلم يقنعوا بذلك منا واستقرت التهمة في نفوسهم حتى بعث إلينا نائب السلطان بأرنب، وأوصى بعض خدامه أن يلازمنا حتى يرى ما نفعل له، فذبجناه وطبخناه وأكلناه وانصرف الخديم إليه وأعلمه بذلك. فحينئذ زالت عنا التهمة، وبعثوا لنا بالضيافة. والروافض لا يأكلون الأرانب. وبعد أربعة أيام من وصولنا إلى صنوب توفيت أم الأمير إبراهيم بها، فخرجت في جنازتها وخرج ابنها على قدميه، كاشفاً شعره، وكذلك الأمراء والمماليك وثيابهم مقلوبة. وأما القاضي والخطيب والفقهاء. فإنهم قلبوا ثيابهم ولم يكشفوا رؤوسهم بل جعلوا عليها مناديل من الصوف الأسود عوضاً عن العمائم. وأقاموا يطعمون الطعام أربعين يوماً وهي مدة العزاء عندهم. وكانت إقامتنا بهذه المدينة نحو أربعين يوماً ننتظر تيسير السفر في البحر إلى مدينة القرم فاكترينا مركباً للروم، وأقمنا أحد عشر يوماً ننتظر مساعدة الريح، ثم ركبنا البحر، فلما توسطناه بعد ثلاث، هال علينا واشتد بنا الأمر ورأينا الهلاك عياناً، وكنت بالطارمة ومعي رجل من أهل المغرب، يسمى أبا بكر، فأمرته أن يصعد إلى أعلى المركب لينظر كيف البحر، ففعل ذلك وأتاني بالطارمة فقال لي: استودعكم الله، ودهمنا من الهول ما لم يعهد مثله، ثم تغيرت الريح وردتنا إلى مقربة من مدينة صنوب التي خرجنا منها. وأراد بعض التجار النزول إلى مرساها. فمنعت صاحب المركب من إنزاله ثم استقامت الريح وسافرنا، فلما توسطنا البحر هال علينا، وجرى لنا مثل المرة الأولى. ثم ساعدت الريح، ورأينا جبال البر، وقصدنا مرسى يسمى الكرش، فأردنا دخوله، فأشار إلينا أناس كانوا بالجبل أن لا تدخلوا، فخفنا على أنفسنا وظننا أن هنالك أجفاناً للعدو، فرجعنا مع البر، فلما قربناه قلت لصاحب المركب، أريد أن أنزل ها هنا. فأنزلني بالساحل. ورأيت كنيسة فقصدتها، فوجدت بها راهباً، ورأيت في أحد حيطان الكنيسة صورة رجل عربي عليه عمامة متقلد سيفاً وبيده رمح، وبين يديه سراج يوقد، فقلت للراهب ما هذه الصورة فقال هذه صورة النبي علي فأعجبت من قوله. وبتنا تلك الليلة بالكنيسة وطبخنا دجاجاً فلم نستطع أكلها إذ كانت مما استصحبناه في المركب ورائحة البحر قد غلبت على كل ما كان فيه.[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
وهذا الموضع الذي نزلنا به هو من الصحراء المعروفة بدشت قفجق " والدشت بالشين المعجم والتاء المثناة " بلسان الترك هو الصحرا. وهذه الصحراء خضرة نضرة لا شجر بها ولا جبل ولا تل ولا أبنية ولا حطب، وإنما يوقدون الأرواث ويسمونها التزك، فترى كبراءهم يلقطونها ويجعلونها في أطراف ثيابهم، ولا يسافر في هذه الصحراء إلا في العجل، وهي مسيرة ستة أشهر، ثلاثة منها في بلاد السلطان محمد أوزبك وثلاثة في بلاد غيره.
ولما كان الغد من وصولنا إلى هذا المرسى، توجه بعض التجار من أصحابنا إلى من بهذه الصحراء من الطائفة المعروفة بقفجق، وهم على دين النصرانية. فاكترى منهم عجلة يجرها الفرس فركبناها ووصلنا إلى مدينة الكفا "واسمها بكاف وفاء مفتوحين "، وهي مدينة عظيمة مستطيلة على ضفة البحر، يسكنها النصارى، وأكثرهم الجنويون ولهم أمير يعرف بالدندير، ونزلنا منها بمسجد المسلمين.[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
حكاية
ولما نزلنا بهذا الجامع أقمنا به ساعة ثم سمعنا أصوات النواقيس من كل ناحية، ولم أكن سمعتها قط فهالني ذلك، وأمرت أصحابي أن يصعدوا الصومعة ويقرأوا القرآن ويذكروا الله ويؤذنوا ففعلوا ذلك. فإذا برجل قد دخل علينا وعليه الدرع والسلاح فسلم علينا واستفهمناه عن شأنه فأخبرنا أنه قاضي المسلمين هنالك وقال: لما سمعت القراءة والأذان خفت عليكم فجئت كما ترون. ثم انصرف عنا وما رأينا إلا خيراً. ولما كان الغد جاء إلينا الأمير وصنع طعاماً فأكلنا عنده، وطفنا بالمدينة فرأيناها حسنة الأسواق. وكلهم كفار ونزلنا إلى المرسى، فرأينا مرسىً عجيباً به نحو مائتي مركب ما بين حربي وسفري، صغيراً وكبيراً، وهو من مراسي الدنيا الشهيرة، ثم اكترينا عجلة وسافرنا إلى مدينة القرم وهي "بكسر القاف وفتح الراء " مدينة كبيرة حسنة من بلاد السلطان المعظم محمد أوزبك خان، وعليها أمير من قبله اسمه تلكتمور وضبط اسمه " بتاء مثناة مضمومة ولام مضموم وكاف مسكن وتاء كالأولى مضمومة وميم مضمومة وواو وراء "، وكان أحد خدام هذا الأمير قد صحبنا في طريقنا فعرفه بقدومنا. فبعث إلي مع إمامه سعد الدين بفرس، ونزلنا بزاوية شيخها زاده الخراساني، فأكرمنا هذا الشيخ ورحب بنا وأحسن إلينا، وهو معظم عندهم. ورأيت الناس يأتون للسلام عليه من قاض وخطيب وفقيه وسواهم. وأخبرني هذا الشيخ زاده أن بخارج هذه المدينة راهباً من النصارى في دير يتعبد به، ويكثر الصوم. وأنه انتهى إلى أن يواصل أربعين يوماً ثم يفطر على حبة فول. وأنه يكاشف بالأمور. ورغب مني أن أصحبه في التوجه إليه. فأبيت ثم ندمت بعد ذلك على أن لم أكن رأيته وعرفت حقيقة أمره. ولقيت بهذه المدينة قاضيها الأعظم شمس الدين السائل قاضي الحنفية، ولقيت بها قاضي الشافعية، وهو يسمى بخضر، والفقيه المدرس علاء الدين الأصي، وخطيب الشافعية أبا بكر، وهو الذي يخطب بالمسجد الجامع الذي عمره الملك الناصر رحمه الله بهذه المدينة، والشيخ الحكيم الصالح مظفر الدين وكان من الروم فأسلم وحسن إسلامه، والشيخ الصالح العابد مظهر الدين وهو من الفقهاء المعظمين. وكان الأمير تلكتمور مريضاً، فدخلنا عليه، فأكرمنا وأحسن إلينا. وكان علي التوجه إلى مدينة السرا حضرة السلطان محمد أوزبك، فعملت في السير في صحبته، واشتريت العجلات برسم ذلك[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
ذكر العجلات التي يسافر عليها بهذه البلاد
وهم يسمون العجلة عربة " بعين مهملة وراء موحدة مفتوحات "، وهي عجلات تكون للواحدة منهن أربع بكرات كبار، ومنها ما يجره فرسان، ومنها ما يجره أكثر من ذلك، وتجرها أيضاً البقر والجمال على حال العربه في ثقلها أو خفتها. والذي يخدم العربة يركب إحدى الأفراس التي تجرها. ويكون عليه سرج، وفي يده سوط يحركها للمشي، وعود كبير يصوبها به إذا عاجت عن القصد، ويجعل على العربة شبه قبة من قضبان خشبة مربوط بعضها إلى بعض بسيور جلد رقيق، وهي خفيفة الحمل، وتكسى باللبد أو بالملف، ويكون فيها طيقان مشبكة، ويرى الذي بداخلها الناس ولا يرونه. ويتقلب فيها كما يحب وينام ويأكل ويقرأ ويكتب وهو في حال سيره. والتي تحمل الأثقال والأزواد وخزائن الأطعمة من هذه العربات يكون عليها شبه البيت كما ذكرنا. وعليها قفل. وجهزت لما أردت السفر عربة لركوبي مغشاة باللبد ومعي بها جارية لي، وعربة صغيرة لرفيقي عفيف الدين التوزري، وعجلة كبيرة لسائر الأصحاب: يجرها ثلاثة من الجمال، يركب أحدها خادم العربة، وسرنا في صحبة الأمير تلكتمور وأخيه عيسى وولديه قطلود مور وصارر بك، وسار أيضاً معه في هذه الوجهة إمامه سعد الدين والخطيب أبو بكر والقاضي شمس الدين والفقيه شرف الدين موسى، والمعرف علاء الدين. وخطة هذا المعرف أن يكون بين يدي الأمير في مجلسه. فإذا أتى القاضي يقف له هذا المعرف ويقول بصوت عال: بسم الله سيدنا ومولانا قاضي القضاة والحكام مبين الفتاوى والأحكام، بسم الله. وإذا أتى فقيه معظم أو رجل مشار إليه قال بسم الله سيدنا ومولانا فلان الدين بسم الله، فيتهيأ من كان حاضراً لدخول الداخل ويقوم إليه ويفسح له في المجلس. وعادة الأتراك أن يسيروا في هذه الصحراء. سيراً كسير الحجاج في درب الحجاز. يرحلون بعد صلاة الصبح وينزلون ضحى ويرحلون بعد الظهر وينزلون عشياً. وإذا حلوا الخيل والإبل والبقر عن العربات، سرحوها للرعي ليلاً ونهاراً. ولا يعلف أحد دابة السلطان ولا غيره. وخاصية هذه الصحراء أن نباتها يقوم مقام الشعير للدواب، وليس لغيرها من البلاد هذه الخاصية، ولذلك كثرت الدواب بها. ودوابهم لا رعاة لها ولا حراس، وذلك لشدة أحكامهم في السرقة، وحكمهم فيها أنه من وجد عنده فرس مسروق كلف أن يرده إلى صاحبه ويعطيه معه تسعة مثله، فإن لم يقدر على ذلك أخذ أولاده في ذلك، فإن لم يكن له أولاد ذبح كما تذبح الشاة.
وهؤلاء الأتراك لا يأكلون الخبز ولا الطعام الغليظ، وإنما يصنعون طعاماً من شيء شبه الآتلي يسمونه الدوقي " بدال مهمل مضموم وواو وقاف مكسور معقود "، يجعلون على النار الماء فإذا غلى صبوا عليه شيئاً من الدوقي، وإن كان عندهم لحم قطعوه قطعاً صغاراً وطبخوه. ثم يجعل لكل رجل نصيبه في صحفة، ويصبون عليه اللبن الرائب ويشربونه، ويشربون عليه لبن الخل، وهم يسمونه القمز " بكسر القاف والميم والزاي المشددة " وهم أهل قوة وشدة وحسن مزاج. ويستعملون في بعض الأوقات طعاماً يسمونه البورخاني، وهو عجين يقطعونه قطعيات صغاراً، ويثقبون أوساطها ويجعلونها في قدرة، فإذا طبخت صبوا عليها اللبن الرائب وشربوها. ولهم نبيذ يصنعونه من حب الدوقي الذي تقدم ذكره. وهم يرون أكل الحلواء عيباً.
[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
ولقد حضرت يوماً عند السلطان أوزبك في رمضان، فأحضرت لحوم الخيل وهي أكثر ما يأكلون من اللحم ولحوم الأغنام والرشتا وهو شبة الأطرية، يطبخ ويشرب باللبن، وأتيته تلك الليلة بطبق حلواء صنعها بعض أصحابي فقدمتها بين يديه فجعل إصبعه عليها وجعله على فيه، ولم يزد على ذلك، وأخبرني الأمير تلكتمور أن أحد الكبار من مماليك هذا السلطان وله من أولاده، وأولاد أولاده نحو أربعين ولداً، قال له السلطان يوماً: كل الحلواء وأعتقكم جميعاً، فأبى وقال: لو قتلتني ما أكلتها. ولما خرجنا من مدينة القرم نزلنا بزاوية الأمير تلكتمور، في موضع يعرف بسجاف فبعث إلي أن أحضر عنده. فركبت إليه. وكان لي فرس معد لركوبي يقوده خديم العربة، فإذا أردت ركوبه ركبته وأتيت الزاوية، فوجدت الأمير قد وضع بها طعاماً كثيراً فيه الخبز، ثم أتوا بماء أبيض في صحاف صغار فشرب القوم منه. وكان الشيخ مظفر الدين يلي الأمير في مجلسه، وأنا أليه فقلت له: ما هذا ? فقال هذا ماء الدهن. فلم أفهم ما قال. فذقته فوجدت له حموضة فتركته. فلما خرجت سألت عنه فقال هو نبيذ يصنعونه من حب الدوقي وهم حنفية المذهب، والنبيذ عندهم حلال ويسمون هذا النبيذ المصنوع من الدوقي البوزة " بضم الباء الموحدة وواو مد وزاي مفتوح ". وإنما قال لي الشيخ مظفر الدين: ماء الدخن ولسانه فيه اللكنة الأعجمية فظننت أنه يقول ماء الدهن. وبعد مسيرة ثمانية عشر منزلاً من مدينة القرم، وصلنا إلى ماء كثير نخوضه يوماً كاملاً، وإذا كثر خوض الدواب والعربات في هذا الماء اشتد وحله، وزاد صعوبة. فذهب الأمير إلى راحلتي وقدمني أمامه مع بعض خدامه، وكتب لي كتاباً إلى الأمير أزاق يعلمه أني أريد القدوم على الملك، ويحضه على إكرامي. وسرنا حتى انتهينا إلى ماء آخر نخوضه نصف يوم[CENTER] [/CENTER]
تعليق
-
. ثم سرنا بعده ثلاثاً ووصلنا إلى مدينة أزاق " وضبط اسمها بفتح الهمزة والزاي وآخره قاف "، وهي على ساحل البحر حسنة العمارة، يقصدها الجنويون وغيرهم بالتجارات. وبها من الفتيان أخي بجقجي، وهو من العظماء، يطعم الوارد والصادر. ولما وصل كتاب القاضي تلكتمور إلى أمير أزاق وهو محمد خواجة الخوارزمي، خرج إلى استقبالي، معه القاضي والطلبة، وأخرج الطعام، فلما سلمنا عليه. نزلنا بموضع أكلنا فيه، ووصلنا إلى المدينة ونزلنا بخارجها بمقربة من رابطة هنالك، تنسب للخضر والياس عليهما السلام. وخرج شيخ من أهل أزاق يسمى برجب النهر ملكي نسبة إلى قرية بالعراق، فأضافنا بزاوية له ضيافة حسنة. وبعد يومين من قدومنا قدم الأمير تلكتمور، وخرج الأمير محمد للقائه، ومعه القاضي والطلبة وأعدوا له الضيافة، وضربوا ثلاث قباب متصلاً بعضها ببعض، إحداها من الحرير الملون عجيبة والثنتان من الكتان. وأداروا عليها سراجة وهي المسماة عندنا أفراج، وخارجها الدهليز وهو على هيئة البرج عندنا. ولما نزل الأمير بسطت بين يديه شقاق الحرير يمشي عليها، فكان من مكارمه وفضله أن قدمني أمامه ليرى ذلك الأمير منزلتي عنده، ثم وصلنا إلى الخباء الأولى، وهي المعد لجلوسه، وفي صدرها كرسي من الخشب لجلوسه كبير، مرصع، وعليه مرتبة حسنة، فقدمني الأمير أمامه، وقدم الشيخ مظفر الدين، وصعد هو فجلس فيما بيننا، ونحن جميعاً على المرتبة، وجلس قاضيه وخطيبه وقاضي هذه المدينة وطلبتها عن يسار الكرسي على فرش فاخرة، ووقف ولدا الأمير تلكتمور وأخوه والأمير محمد وأولاده في الخدمة، ثم أتوا بالأطعمة من لحوم الخيل وسواها، وأتوا بألبان الخيل، ثم أتوا بالبوزة، وبعد الفراغ من الطعام قرأ القراء بالأصوات الحسان. ثم نصب منبر وصعده الواعظ وجلس القراء بين يديه وخطب خطبة بليغة ودعا للسلطان وللأمير وللحاضرين، يقول ذلك بالعربي، ثم يفسره لهم بالتركي وفي أثناء ذلك يكرر القراء آيات من القرآن بترجيع عجيب، ثم أخذوا في الغناء يغنون بالعربي ويسمونه القول ثم بالفارسي والتركي، يسمونه الملمع، ثم أتوا بطعام آخر، ولم يزالوا على ذلك إلى العشي. وكلما أردت الخروج منعني الأمير ثم جاءوا بكسوة للأمير وكساوى لولديه وأخيه وللشيخ مظفر الدين ولي، وأتوا بعشرة أفراس للأمير ولأخيه ولولديه بستة أفراس. ولكل كبير من أصحابه بفرس ولي بفرس. والخيل بهذه البلاد كثيرة جداً، وثمنها نزر، قيمة الجيد منها خمسون درهماً أو ستون من دراهمهم. وذلك صرف دينار من دنانيرنا أو نحوه. وهذه الخيل هي التي تعرف بمصر بالأكاديش ومنها معاشهم.[CENTER] [/CENTER]
تعليق
تعليق