وقفات مع الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق ( 2)
وكما ذُكر من قبل أن هذه الأموال ( أموال الجزية ) كانت تدفع للمحتلين لتلك البلاد قبل فتح المسلمين لها أضعافا ، وتحت مسميات شتى ، فخففها الإسلام ، وجعلها في حد المعقول والمقبول ..
وبعد فراغ خالد من مصالحتهم بعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر الصديق ، لكن أبا بكر رفض أن تؤخذ هداياهم ؛ اتقاء للشبهات ، وفي نفس الوقت قبلها ؛ تلطفا معهم على أن تحسب من الجزية ، وكتب إلى خالد أن يحسب لهم ثمنها ثم يخصمها من قدر الجزية المقرر عليهم ...
وقطع الصديق رضي الله عنه بذلك الطريق على الجباة في تحصيل الأموال من الناس بدون حق لتعويض تلك الهدايا التي أرادوا أن يدفعوها إليه كما فعل رسول الله من قبله عندما أنب الرجل الذي قال له : هذا لكم وهذا أهدي إلي ..
ولعل في موقف خالد بن الوليد مع أمراء الحيرة وعنادهم أبلغ رد على بعض من يحرفون تفسير الفتوحات الإسلامية ويقولون : إن المسلمين كانوا يقاتلون بدافع العروبة ، وأن الصحوة العربية كانت وراء ما تحقق لهم من نصر ، وأن إصرار هؤلاء العرب النصارى على موقفهم ومقاتلتهم المسلمين حتى اضطروا للاستسلام أكبر رد على هؤلاء ..
وفي تكرار خالد لدعوة الإسلام عليهم أيضا رد كافٍ على من يزعمون أن دوافع الفتوحات الإسلامية كانت مادية وليست الرغبة في نشر الإسلام في ربوع البلاد المفتوحة ، لأن إلحاح خالد رضي الله رضي الله عنه على هؤلاء العرب من المشركين ليسلموا ، وقوله لهم : إنهم إن أسلموا سيكون لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين ، وهم مقيمون في ديارهم ـ لهو دليل على خطأ مزاعم هؤلاء وجهلهم بحقائق وغايات تلك الفتوحات ، إذ لو كان الأمر كما زعموا لرضي خالد بما سيدفعونه إليه من مال ، وما اتفقوا عليه من جزية دون أن ينصح لهم ، بل ولحاول مجاملتهم والبعد عن مناقشتهم في معتقداتهم الزائفة.
ولو كان المأرب المادي هو غاية المسلمين لما أرسل أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما يأمره أن يحسب لهم ما أعطوه للمسلمين من هاديا من مقدار الجزية المتفق عليه معهم ، في سابقة غير معروفة في تواريخ الأمم الأخرى .
بل إن رسالة أبي بكر الصديق قد ذيلت بعبارة تدل على أن هذه الأموال التي أخذت منهم تحت بند ضريبة الجزية قد وظف أكثرها في مواصلة الفتوحات الإسلامية ، حيث كتب إليه : " وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك " .
وقد حدث أثناء عقد الصلح أن شاهد خالد رضي الله عنه مع عمرو بن عبد المسيح كيسا به سمٌّ ، فتناوله خالد ، ونثر ما فيه في راحته، فقال: ما هذا يا عمرو ؟ قال : هذا ـ وأمانة الله ـ سم ساعة، خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلي، والموت أحب إليّ من مكروه أدخله على قومي وأهل قريتي...
إن الرجل بعزته آثر الموت على حياة الذل التي يتعرض لها العظماء إذا ما وقعوا في الأسر ، ولكن المسلمين كانوا كما سمع عنهم ، بل وأكثر سماحة وكرما ونبلا مما سمع عنهم ، فأخذ يردد : والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن ( يقصد جيل الصحابة ) ..
وهذه شهادة من رجل عمّر أكثر من مائة سنة ، عاشر فيها الملوك والأمراء على اختلاف طبيعتهم ، ولم يلمس فيهم ما لمسه في خالد رضي الله عنه وأصحابه مما دفعه إلى أن يقول لقومه : "لم أر كاليوم أمراً أوضح إقبالاً " ..
وأما عن وثيقة الصلح التي كتبت لأهل الحيرة فقد جاء فيها :
" بسم الله الرحمن الرحيم .. هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عدياً ، وعمراً ابني عدي ، وعمرو بن عبد المسيح ، وإياس بن قبيصة ، وحيري بن أكال ، وهم نقباء أهل الحيرة ؛ ورضي بذلك أهل الحيرة ، وأمروهم به - عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم ، تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا ؛ رهبانهم وقسيسهم ؛ إلا من كان منهم على غير ذي يد، حبيساً عن الدنيا ، تاركاً لها ، أو سائحاً تاركاً للدنيا ، وعلى المنعة ، فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم ، وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة .
وهذه الوثيقة وغيرها من عقود الصلح التي عقدها المسلمون مع أهل البلاد التي فتحوها خير شاهد على أن المسلمين عاملوهم معاملة الكرماء ، وأن النظام المالي الذي اتبعوه معهم في جباية الضرائب تعجز عن امتثاله الأمم الحديثة في عدله وسماحته .
فهي لا تحصل إلا من القادر الغني أما العاجز أو المتفرغ للعبادة فلا يؤخذ منه شيء ، وفي مقابلها تتولى الدولة الإسلامية توفير الأمن والحاجات الضرورية لسكان البلاد جميعا ، ودرء الخطر الخارجي والداخلي عنهم ، وجعلهم يتفرغون لأرزاقهم وهم آمنون على كل شيء ؛ شريطة ألا يخونوا عهد المسلمين بقول أو فعل أو يتطاولوا على إيٍ من تعاليمه بسوء ، وإلا فذمة المسلمين منهم بريئة . ...
وفي الختام أقول : إن فتح الحيرة وقصورها التي كانت مضرب المثل في عظمتها كانت تحقيقا لأول بشرى بشّر بها نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم يوم حفر الخندق ، تلكم البشرى التي قال عنها المنافقون وقتها : إن محمدا ليقول لنا : إنه يبصر قصور الحيرة وهي تفتح وأحدنا لا يأمن على نفسه في الذهاب إلى الغائط ، فكذب المنافقون وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى في كل ما قال ؛ حتى إخباره للأعرابي ( شويل ) بأنه سيفوز بـ " كرامة "أخت عمرو بن عبد المسيح عظيم القوم ، إذ قُدر له أن يشهد مع المسلمين فتح القصور ويراها من بين الأسرى ، فأسرع إلى خالد يخبره بأن رسول الله قال له : إن فتحت الحيرة عنوة فهي له ، وأشهد الشهود على ذلك ، فأهداها خالد إليه ، وكانت قد تجاوزت الثمانين من عمرها ، فطلب من أهلها ألفا فداء لها ، فأعطوه إياها ، ولما لامه الناس على قلة ما طلب قال : ما كنت أعلم أن ثمة عددا أكثر من الألف !!.
فلنتعلم من فتح الحيرة إذن الثقة في موعود الله وما بشرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولنعلم أن ما نراه اليوم مستحيلا سيكون في الغد القريب إن شاء الله ممكننا ، بل واقعا ملموسا ؛ شريطة أن نلزم هدي ربنا وسنتنا نبينا .
وللحديث بقية إن شاء الله
وكما ذُكر من قبل أن هذه الأموال ( أموال الجزية ) كانت تدفع للمحتلين لتلك البلاد قبل فتح المسلمين لها أضعافا ، وتحت مسميات شتى ، فخففها الإسلام ، وجعلها في حد المعقول والمقبول ..
وبعد فراغ خالد من مصالحتهم بعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر الصديق ، لكن أبا بكر رفض أن تؤخذ هداياهم ؛ اتقاء للشبهات ، وفي نفس الوقت قبلها ؛ تلطفا معهم على أن تحسب من الجزية ، وكتب إلى خالد أن يحسب لهم ثمنها ثم يخصمها من قدر الجزية المقرر عليهم ...
وقطع الصديق رضي الله عنه بذلك الطريق على الجباة في تحصيل الأموال من الناس بدون حق لتعويض تلك الهدايا التي أرادوا أن يدفعوها إليه كما فعل رسول الله من قبله عندما أنب الرجل الذي قال له : هذا لكم وهذا أهدي إلي ..
ولعل في موقف خالد بن الوليد مع أمراء الحيرة وعنادهم أبلغ رد على بعض من يحرفون تفسير الفتوحات الإسلامية ويقولون : إن المسلمين كانوا يقاتلون بدافع العروبة ، وأن الصحوة العربية كانت وراء ما تحقق لهم من نصر ، وأن إصرار هؤلاء العرب النصارى على موقفهم ومقاتلتهم المسلمين حتى اضطروا للاستسلام أكبر رد على هؤلاء ..
وفي تكرار خالد لدعوة الإسلام عليهم أيضا رد كافٍ على من يزعمون أن دوافع الفتوحات الإسلامية كانت مادية وليست الرغبة في نشر الإسلام في ربوع البلاد المفتوحة ، لأن إلحاح خالد رضي الله رضي الله عنه على هؤلاء العرب من المشركين ليسلموا ، وقوله لهم : إنهم إن أسلموا سيكون لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين ، وهم مقيمون في ديارهم ـ لهو دليل على خطأ مزاعم هؤلاء وجهلهم بحقائق وغايات تلك الفتوحات ، إذ لو كان الأمر كما زعموا لرضي خالد بما سيدفعونه إليه من مال ، وما اتفقوا عليه من جزية دون أن ينصح لهم ، بل ولحاول مجاملتهم والبعد عن مناقشتهم في معتقداتهم الزائفة.
ولو كان المأرب المادي هو غاية المسلمين لما أرسل أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما يأمره أن يحسب لهم ما أعطوه للمسلمين من هاديا من مقدار الجزية المتفق عليه معهم ، في سابقة غير معروفة في تواريخ الأمم الأخرى .
بل إن رسالة أبي بكر الصديق قد ذيلت بعبارة تدل على أن هذه الأموال التي أخذت منهم تحت بند ضريبة الجزية قد وظف أكثرها في مواصلة الفتوحات الإسلامية ، حيث كتب إليه : " وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك " .
وقد حدث أثناء عقد الصلح أن شاهد خالد رضي الله عنه مع عمرو بن عبد المسيح كيسا به سمٌّ ، فتناوله خالد ، ونثر ما فيه في راحته، فقال: ما هذا يا عمرو ؟ قال : هذا ـ وأمانة الله ـ سم ساعة، خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلي، والموت أحب إليّ من مكروه أدخله على قومي وأهل قريتي...
إن الرجل بعزته آثر الموت على حياة الذل التي يتعرض لها العظماء إذا ما وقعوا في الأسر ، ولكن المسلمين كانوا كما سمع عنهم ، بل وأكثر سماحة وكرما ونبلا مما سمع عنهم ، فأخذ يردد : والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن ( يقصد جيل الصحابة ) ..
وهذه شهادة من رجل عمّر أكثر من مائة سنة ، عاشر فيها الملوك والأمراء على اختلاف طبيعتهم ، ولم يلمس فيهم ما لمسه في خالد رضي الله عنه وأصحابه مما دفعه إلى أن يقول لقومه : "لم أر كاليوم أمراً أوضح إقبالاً " ..
وأما عن وثيقة الصلح التي كتبت لأهل الحيرة فقد جاء فيها :
" بسم الله الرحمن الرحيم .. هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عدياً ، وعمراً ابني عدي ، وعمرو بن عبد المسيح ، وإياس بن قبيصة ، وحيري بن أكال ، وهم نقباء أهل الحيرة ؛ ورضي بذلك أهل الحيرة ، وأمروهم به - عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم ، تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا ؛ رهبانهم وقسيسهم ؛ إلا من كان منهم على غير ذي يد، حبيساً عن الدنيا ، تاركاً لها ، أو سائحاً تاركاً للدنيا ، وعلى المنعة ، فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم ، وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة .
وهذه الوثيقة وغيرها من عقود الصلح التي عقدها المسلمون مع أهل البلاد التي فتحوها خير شاهد على أن المسلمين عاملوهم معاملة الكرماء ، وأن النظام المالي الذي اتبعوه معهم في جباية الضرائب تعجز عن امتثاله الأمم الحديثة في عدله وسماحته .
فهي لا تحصل إلا من القادر الغني أما العاجز أو المتفرغ للعبادة فلا يؤخذ منه شيء ، وفي مقابلها تتولى الدولة الإسلامية توفير الأمن والحاجات الضرورية لسكان البلاد جميعا ، ودرء الخطر الخارجي والداخلي عنهم ، وجعلهم يتفرغون لأرزاقهم وهم آمنون على كل شيء ؛ شريطة ألا يخونوا عهد المسلمين بقول أو فعل أو يتطاولوا على إيٍ من تعاليمه بسوء ، وإلا فذمة المسلمين منهم بريئة . ...
وفي الختام أقول : إن فتح الحيرة وقصورها التي كانت مضرب المثل في عظمتها كانت تحقيقا لأول بشرى بشّر بها نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم يوم حفر الخندق ، تلكم البشرى التي قال عنها المنافقون وقتها : إن محمدا ليقول لنا : إنه يبصر قصور الحيرة وهي تفتح وأحدنا لا يأمن على نفسه في الذهاب إلى الغائط ، فكذب المنافقون وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى في كل ما قال ؛ حتى إخباره للأعرابي ( شويل ) بأنه سيفوز بـ " كرامة "أخت عمرو بن عبد المسيح عظيم القوم ، إذ قُدر له أن يشهد مع المسلمين فتح القصور ويراها من بين الأسرى ، فأسرع إلى خالد يخبره بأن رسول الله قال له : إن فتحت الحيرة عنوة فهي له ، وأشهد الشهود على ذلك ، فأهداها خالد إليه ، وكانت قد تجاوزت الثمانين من عمرها ، فطلب من أهلها ألفا فداء لها ، فأعطوه إياها ، ولما لامه الناس على قلة ما طلب قال : ما كنت أعلم أن ثمة عددا أكثر من الألف !!.
فلنتعلم من فتح الحيرة إذن الثقة في موعود الله وما بشرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولنعلم أن ما نراه اليوم مستحيلا سيكون في الغد القريب إن شاء الله ممكننا ، بل واقعا ملموسا ؛ شريطة أن نلزم هدي ربنا وسنتنا نبينا .
وللحديث بقية إن شاء الله
تعليق