Warning: session_start(): open(/var/cpanel/php/sessions/ea-php73/sess_8c02105a6da91a43eb452467292e60e6f6abd1c6bb766b75, O_RDWR) failed: No space left on device (28) in /home/qudamaa/public_html/vb/includes/vb5/frontend/controller/page.php on line 71 Warning: session_start(): Failed to read session data: files (path: /var/cpanel/php/sessions/ea-php73) in /home/qudamaa/public_html/vb/includes/vb5/frontend/controller/page.php on line 71 عصر الخلفاء الراشدين - شبكة ومنتديات قدماء

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

عصر الخلفاء الراشدين

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عصر الخلفاء الراشدين

    الخليفه ابو بكر الصديق رضي الله عنه



    بيعة أبي بكر الصديق


    رجع رسول الله من مكة بعد فراغه من حجة الوداع ـ تلك الحجة التي ودع فيها صلى الله عليه وسلم أمته في خطبته الشهيرة , وأجمل فيها الإسلام وتعاليمه لمن حضر معه ـ ولم يمكث بعد رجوعه إلا قليلا , حتى علاه الإعياء , وغلب عليه المرض , فصار لا يستطيع أن يخرج من بيته إلا بمشقة بالغة ـ ورغم أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمتع بدرجة عالية من النشاط والقوة إلا أن الجهد المتواصل خلال سنوات الدعوة , والتي دامت قرابة ثلاثة وعشرين عاما قد ترك أثره عليه ـ فشرع في تهيأة أبي بكر الصديق لتولى أمر المسلمين بعده , والقيام بأعباء الخلافة , حتى لا يحس المسلمون بفراغ كبير بعد رحيله .

    وجدير بالذكر أن رسول الله لم يرشح أبا بكر لخلافته إلا لأن فيه من المقومات التي يستطيع بها تحمل أعباء الخلافة ما لم يتوفر في غيره من سائر الصحابة , فقد لازمه طوال فترة البعثة , وراقب حركاته وسكناته , وتعرف منه كيف يواجه العظائم , ويتصدى للصعاب , ويدير أمور الدولة بحكمة ورشاد , وتعلم منه كيف يتعامل مع العدو والحبيب , وقرن الله ذكره بذكر رسول الله في قوله تعالى : " إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.." التوبة : 40 , ورأى معه من آيات التأييد ما رسخ بها الإيمان في قلبه , ترسيخا يفوق رسوخ الجبال ...

    فكان أول ما فعله صلى الله عليه وسلم أن كلف أبا بكر رضي الله عنه بإمامة المسلمين في الصلاة فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " وقد حدث أن غاب أبو بكر يوما , فقام عمر فصلى بالناس ,فلما كّبر عمر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال صلى الله عليه وسلم :"فأين أبو بكر ؟ !يأبى الله ذلك والمسلمون , يأبى الله ذلك والمسلمون " ...

    ثم صار يوكل إليه قضاء حوائج المسلمين , وينبههم إلى الرجوع إليه في الأمور التي كانوا يرجعون إليه فيها عند فقده , فقد جاءت إليه امرأة تسأله عن حاجة فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك - كأنها تقول الموت - قال صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر". رواه البخاري في صحيحه...

    ولما وجد في نفسه شيئا من العافية قبيل موته , خرج إلى المسجد يهادي بين رجلين من أصحابه , فأراد أبو بكر أن يتأخر ويقدمه في الصلاة , فأومأ اليه صلى الله عليه وسلم أن مكانك ثم أتى حتى جلس الى جنبه , فصلى بصلاته . ..

    وأعاد على مسامع المسلمين بعض فضائله , فقال :" فإني لا أعلم امرأ أفضل يدا عندي في الصحبة من أبي بكر .." وقال : "لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لا تخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخي وصاحبي " أخرجه البخاري في صحيحه ...

    وطلب من المجاورين للمسجد , الذين كانت تفتح دورهم عليه مباشرة , أن يسدوا منافذهم تلك ؛ للحفاظ على نظافة المسجد فقال : ": سدوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر " ؛ لأنه سيحتاج إلى الخروج إليه كل حين , وعلى غير ميعاد للتباحث في أمر المسلمين , فيشق عليه تغيير مخرج بيته .

    ثم بدأ يلمّح للمسلمين بقرب أجله , حيث تمت رسالة الإسلام , وبلّغ ما أنزل إليه من ربه أحسن بلاغ, فخرج صلى الله عليه وسلم على الناس فخطبهم , وتحلل منهم ـ أي طلب من له عنده شيء أن يأتي ليأخذه منه , وفعل ذلك ورعاً منه صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال لهم : " إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا , وبين ما عنده , فاختار ما عنده " فقال أبو بكر : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال : على رسلك ( هون عليك ) يا أبا بكر , ثم جمع صلى الله عليه و سلم من كان غائبا من أصحابه فودعهم وعيناه تدمعان , ودعا لهم فقال : " أوصيكم بتقوى الله .. إني لكم نذير و بشير , ألاّ تعلوا على الله في بلاده وعباده , فإنه قال لي ولكم : " تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " القصص 83 ...
    [CENTER] [/CENTER]

  • #2
    وظل صلى الله عليه وسلم يتابع أمر قيام أبي بكر بالأمر دونه حتى الدقائق الأخيرة من حياته , فقد كشف صلى الله عليه وسلم ستار حجرته صباح اليوم الذي قُبض فيه , فلما رأى الناس صفوفا خلف أبي بكر , تبسم صلى الله عليه و سلم , فشعر به الصحابة في صلاتهم , وهمّ بعضهم أن يُفسح له الصف , ليدخل لكنه عجز عن الخروج إليهم , وأشار إليهم أن مكانكم , وأسدل ستار غرفته , بعد رؤيته هذا المشهد الذي أثلج صدره , لتصعد روحه إلى باريها .

    ورغم ذلك لم ينص صلى الله عليه وسلم على خلافة الصديق مباشرة ؛ لأنه لم يشأ أن يسلب المسلمين حقهم , وإرادتهم في اختيار من يقوم بشئونهم ويتولى أمرهم .

    قُبض صلى الله عليه وسلم , وكانت وفاته صدمة لكل المسلمين , لم يستطع الكثير منهم تحمل أثرها , رغم إلماحات الرسول صلى الله عليه وسلم السابقة بدنوها ، فمنهم من دُهش فخولط , ومنهم من أُقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من أعتُقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية ؛لأن فقد عزيز عليه كرسول الله ليس بالأمر الهين , إلا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أهلا بالفعل للقيام بأعباء المهمة التي أعده النبي لها , فما إن أُعلم بوفاته حتى جاء سريعا من منزل له بالسنح خارج المدينة , ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه ـ وهو متمالك لنفسه ـ وقبله قائلا: "بأبي أنت وأمي طبت حيا ميتا , والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبدا" .

    ثم خرج فوجد عمر رضي الله عنه يصيح بالحاضرين : "إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي , وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات " فقال لعمر: "أيها الرجل ! أربع ( هون )على نفسك , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات , ألم تسمع الله يقول : " إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ "( الزمر :30 ) و قال : " وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ " ( الأنبياء : 34).

    ثم أتى المنبر فصعده , وحمد الله , وأثنى عليه , ثم قال : ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات , ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت , قال الله تعالى :" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " فتلقاها منه الناس , وصاروا يرددونها , وظل بمن حوله من أهل المدينة , حتى خفف عنهم هول الفاجعة , وفاءوا إلى رشدهم بفيئه , وأمسوا يدربون أنفسهم على الحياة دون رسول الله , وعلى الصبر على فراقه , وعلى البحث في شئونهم العامة والخاصة .

    وكان أول أمر نظروا فيه هو ( من يخلف رسول الله عليهم , ومن ينهض بالأمر بعده صلى الله عليه وسلم ) لأنهم كرهوا كما قال سعيد بن زيد أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة , ولم يسندوا أمر الخلافة إلى أبي بكر الصديق مباشرة ؛ لأن رسول الله لم ينص على خلافته صراحة كما ذكر من قبل , والبعض من المسلمين ـ وخاصة الأنصار ـ لم يفهموا من الإشارات الضمنية التي وردت عن رسول الله في فضل أبي بكر أهليته للخلافة دون غيره.

    فاجتمع الأنصار في مكان لهم يسمى " سقيفة بني ساعدة" وتناقشوا في إمكانية استخلاف سعد بن عبادة , وكانت حجتهم في ذلك كما قال سعد بن عبادة : "لكم سابقة في الدين , وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب : إن محمداً صلى الله عليه وسلم لبث في قومه بضع عشرة سنة , يدعوهم إلى عبادة الرحمن , وخلع الأنداد والأوثان , فما آمن به إلا القليل، ما كانوا يقدرون على منعه , ولا على إعزاز دينه , ولا على دفع ضيم، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة , ورزقكم الإيمان به وبرسوله , والمنع له ولأصحابه , والإعزاز له ولدينه , والجهاد لأعدائه , فكنتم أشد الناس على عدوه , حتى استقامت العرب لأمر الله ...وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ , وبكم قرير العين ".

    ثم خرج من بينهم أسيد بن حضير فأتى أبا بكر ؛ ليعرض عليه وجهة نظر الأنصار هذه , فوجده وقد اجتمع إليه المهاجرون - أو من اجتمع إليه منهم – فلما أخبره بخبر الأنصار قال لمن حوله : " انطلقوا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيباً, فذهبوا حتى أتوهم " .

    وبعد اطلاعه على ما عزموا عليه , ومعرفة وجهة نظرهم قال : " أنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين , ولا سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله , وجعل إليكم هجرته ... ,وإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهل .

    ثم بين لهم أن هذه الأمور ليست كفيلة بجعل الخلافة فيهم ؛ لأن العرب بما جلبت عليه من عصبية لن ترضى أن تدين لأحد من غير قريش , قوم النبي صلى الله عليه وسلم .

    وفي أثناء النقاش قال رجل من الأنصار: " منا أميرٌ ومنكم أمير " فاحتج عمر بأنه لا يصح أن يكون للمسلمين أميران , لأن رسول الله حذر من ذلك , وقال (أي عمر) ": هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم.

    فأعاد أبوبكر الحديث , وذكر الأنصار بفضلهم , وبما غاب عن ذهنهم في شأن الخلافة فقال " : لقد علمتم أن رسول الله قال : لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار ، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم , فقال سعد : صدقت ، فنحن الوزراء وأنتم الأمراء , فقال أبو بكر : نعم "... لا تفاتون بمشورة , ولا تقضي دونكم الأمور.."

    وزاد أبو عبيدة :يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر , فلا تكونوا أول من بدل وغير! فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار ! إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين , وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا , وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك , ولا نبتغي به الدنيا، ألا إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، من قريش وقومه أولى به، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.

    ثم أعلنوا بيعتهم جميعا لأبي بكر بالخلافة بعد عبارة عمر المؤثرة : " أنشدكم بالله، هل أُمر أبو بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يزيل عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: كلنا لا تطيب أنفسنا، نستغفر الله!.ويشعر عندها أبو بكر بثقل التبعة فيقول " أنت يا عمر أقوى لها منى , فيرد عليه : إن لك قوتى مع قوتك .
    [CENTER] [/CENTER]

    تعليق


    • #3
      حدث كل ذلك يوم وفاة رسول الله , ثم جلس أبو بكر في اليوم التالي ؛ ليأخذ البيعة من سائر الناس, وأتته وفود العرب مجمعة على بيعته إلا المرتدين ,فقد سئل سعيد بن زيد : أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، فال : فمتى بويع أبو بكر ؟ قال : يوم مات رسول الله صلى الله عليه فقيل له : هل خالف عليه أحد ؟ قال : لا إلا مرتد أو من قد كاد أن يرتد.

      وقد زعم بعض الناس أن علي بن أبي طالب امتنع عن بيعته ثم بايعه مكرها ؛ لأنه كان يطمع في الخلافة لنفسه , وهذا افتراء على الرجل , إذ كان من المسارعين إلى بيعته , بعد فراغه من دفن رسول الله , ولم يصبر حتى يعود إلى بيته , ويغير من ملابسه , إذ جاء في تاريخ الطبري : لما سمع علي ببيعة أبي بكر خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء ؛ عجلاً حتى بايعه، ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله.( تاريخ الرسل والملوك : ج 2 / ص 119)

      ولما سئل بعد ذلك عن خلافة الصديق قال : " قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فصلى بالناس، وإني لشاهد غير غائب، وإني لصحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمني لقدمني، فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله لديننا " (أسد الغابة :ج 2 / ص 149).

      بتلكم الصورة تمت بيعة أول خليفة للمسلمين , لتعلن للناس أجمعين أن الحاكم في الإسلام لابد أن يكون خير الناس وأرجحهم عقلا , وأقدرهم على تولي التبعات , وفي نفس الوقت هم أصحاب الحق في اختياره , لا يفرضه عليهم أحد مهما علت مكانته.

      ومن العجب أن البعض ـ ممن يرون في كل مزية من مزايا الإسلام عيبا ـ يعيبون على المهاجرين والأنصار تعدد آرائهم في أمر الخلافة قبل أن يتفقوا على أبي بكر, مع أن هذا هو قمة ما ينادي به أنصار الديمقراطية والحرية حديثا .
      [CENTER] [/CENTER]

      تعليق


      • #4
        1- ردة أهل البحرين:

        بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى ملك البحرين المنذر بن ساوى فأسلم على يديه، وأقام العلاء فيهم الإسلام والعدل، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي المنذر بعده بقليل فارتد أهل البحرين، وملكوا عليهم المغرور، وهوالمنذر بن النعمان بن المنذر، وقال قائلهم: لوكان محمد نبياًمامات، ولم يبق في البحرين بلدة على الثبات سوى قرية:"جواثا"، وحاصر المرتدون مسلمي جواثا وضيقوا عليهم، حتى منعواعنهم الأقوات وجاع المسلمون جوعاً شديداً .



        وكان قد قام في جواثا رجل من أشرافهم، وهو الجارود بن المعلى، خطيباً وقد جمعهم فقال: يامعشر عبدالقيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني إن علمتموه، ولا تُجيبوني إن لم تعلموه، فقالوا:سل، قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ قالوا:نعم، قال: تعلمونه أم ترونه؟ قالوا: نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمد صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: ونحن أيضاً نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا، وثبتوا على إسلامهم، وتركوا بقية الناس فيما هم فيه.

        وبعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه العلاء بن الحضرمي لقتال أهل الردة في البحرين، فلما دنا منها جاء إليه ثمامة بن أثال في حشد كبير، وجاء بعض أُمراء تلك النواحي رفداً إلى جيش العلاء، ولما اقترب من المرتدين وحشودهم الضخمة نزل ونزلوا، وباتوا متجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل إذ سمع العلاء أصواتاً عالية في جيش المرتدين، فقال: من رجل يكشف لنا خبر هؤلاء؟ فقام عبد الله بن حذف، ودنا من خندقهم فأخذوه، وكانت أمه عجلية، فجعل ينادي: يا أبجراه، فجاء أبجر بن بجير فعرفه، فقال: ما شأنك؟ قال: علام أُقتل وحولي عسكر من عجل وتيم اللات وغيرها؟ فخلصه، فقال له: والله إني لأظنك بئس ابن أخت أتيت الليلة أخوالك، فقال: دعني من هذا وأطعمني، فقد مت جوعاً، فقرب له طعاماً فأكل، ثم قال:زودني واحملني،يقول هذا والرجل قد غلب عليه السُكُر، فحمله على بعير وزوده وجوزه. وجد عبد الله بن حذف المرتدين سكارى لا يعقلون من الشراب فرجع إلى العلاء فأخبره، فركب العلاء من فوره بجيشه، وانقض على المرتدين فقتلوهم،إلا قسم استطاع الفرار والهرب.
        وغنم المسلمون جميع أموالهم وأثقالهم، فكانت غنيمة عظيمة.
        [CENTER] [/CENTER]

        تعليق


        • #5
          2- ردة أهل عُمان:

          ظهر في عُمان رجل يقال له: ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، وكان يُضاهي في الجاهلية الجُلندى، فادعى النبوة، وتابعه الجهلة من أهل عُمان، فقهر جيفراً وعبداً، وألجأهما إلى الجبال، فبعث جيفر إلى الصديق رضي الله عنه فأخبره الخبر، وطلب مدداً فبعث رضي الله عنه بأميرين: حذيفة بن محصن، وعرفجة البارقي الأزدي، حذيفة إلى عُمان، وعرفجة إلى مهرة، وأمرهما أن يجتمعا ويتفقا ويبتدئا بعُمان وحذيفة هو الأمير فإذا ساروا إلى بلاد مهرة فعرفجة الأمير.

          ثم أمر الصديق رضي الله عنه - بعد قهر مسيلمة ومقتله - عكرمة بن أبي جهل أن يلحق بحذيفة وعرفجة إلى عُمان، ، ثم كتب الصديق إلى حذيفة وعرفجة أن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ من المسير من عُمان أو المقام بها.فلحق عكرمة بحذيفة وعرفجة قبل أن يصلا إلى عُمان، فساروا جميعاً فلما اقتربوا من عُمان راسلوا جيفراً من مكان يُسمى "رجاماً"، وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش فعسكر في جموعه بِدَبَا، وجعل الذراري والأموال وراء ظهورهم، واجتمع جيفر وعبد بمكان يقال له صُحار فعسكرا به، وبعثا إلى أُمراء الصديق فقدمواعلى المسلمين، قتقابل الجيشان هناك، وتقاتلوا قتالاً شديداً، وجاء المسلمين في الساعة المناسبة مَدَدٌ من بني ناجية وعبد القيس فقتل من المرتدين عشرة آلاف مقاتل، وتم النصر للمسلمين والقضاء على المرتدين في عُمان.
          [CENTER] [/CENTER]

          تعليق


          • #6
            3- ردة أهل مَهْرَة:

            سار عكرمة بالمسلمين إلى بلاد مهرة، فوجد أهلها جُندين، على أحدهما - وهم الكثرة - أمير يقال له: المصبح أحد بني محارب، وعلى الآخر الجند الآخرين أمير يقال له: شخريت، وهما مختلفان، وكان هذا الاختلاف رحمة على المؤمنين، فراسل عكرمة شخريتاً فأجابه، وانضاف بقواته إلى عكرمة، وتمادى المُصَبح على طغيانه، مغتراً بكثرة من معه ومخالفته لشخريت، فسار إليه عكرمة ومن معه، فاقتتلوا مع المصبَّح أشد من قتال دَبَا، وتم النصر للمسلمين، وقتل المصبح وفر من كان معه.

            4- ردة أهل اليمامة :

            قال مسيلمة لأتباعه وقومه قبيل المعركة الفاصلة بينه وبين المسلمين: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تُستنكح النساء سبيات، وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم وأمنعوا نسائكم.

            وتقدم خالد رضي الله عنه بالمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يُشرف على اليمامة فضرب به عسكره، وقدم رايته مع زيد بن الخطاب، وراية المُهاجرين مع سالم مولى أبي حُذيفة، وهو على الميمنة، وعلى الميسرة شجاع بن وهب، وعلى الخيل البراء بن مالك ثم عزله واستعمل عليهاأسامة بن زيد ، وقاتل البراء راجلاً، ثم أعاده خالد على قيادة الخيل فصنع الأعاجيب.وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس، والعرب على راياتها.

            وكانت الصدمة الأولى في المعركة عنيفة قاسية، انهزم الأعراب خلالها، حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد، وهموا بقتل أم تميم زوجته. وتنادى كبار الصحابة وقال ثابت بن قيس بن شماس: بئس ما عودتم أقرانكم، و نادوا من كل جانب: أخلصنا يا خالد، فخلصت ثلة من المهاجرين والأنصار، وصار البراء بن معرور كالأسد الثائر، وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يعهد مثله، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة، بَطُلَ السحر اليوم، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه، وهو حامل لواء الأنصار بعد ما تحنط وتكفن فلم يزل ثابتاً حتى استشهد رضي الله عنه.

            وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نُؤتي من قِبَلَك؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذاً. وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس، عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قُدُماً،وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأُكلمه بحجتي، فقتل شهيداً رضي الله عنه.

            وحمل خالد بن الوليد رضي الله عنه حتى اخترق صفوف المرتدين ووصل قُبالة مسيلمة، وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله ثم رجع، ثم وقف بين الصفين ودعا للمبارزة،ثم نادى بِشعار المسلمين، وكان شعارهم يومئذ: يا محَّمداه، وجعل لا يبرز إليه أحد من المرتدين إلا قتله، ولا يدنو منه شيء إلا صرعه،واقترب خالد رضي الله عنه من مسيلمة، وعرض عليه النصف والرجوع إلى الحق فأبى، فانصرف عنه خالد وعزل الأعراب عن المهاجرين والأنصار، وجعل كل قبيلة على رايتها يقاتلون تحتها، حتى يعرف الناس من أين يُؤتون، وصبرت الصحابة في هذا الموطن صبراً لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم وولى المرتدون الأدبار.

            وتبع المسلمون المرتدين يقتلون منهم وهم مدبرون، ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاؤوا، حتى ألجؤوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم محكم بن الطفيل بدخلوها، فدخلوها وفيها مسيلمة، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وقال قائل: يا أبا ثمامة، أين ما كنت وعدتنا؟ فقال أبو ثمامة - أي مسيلمة -: أما الدين فلا دين،ولكن قاتلواعن أحسابكم، فاستيقن القوم أنهم كانوا على غيرشيئ.وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم، وأحاط بهم الصحابة.

            وقال البراء بن مالك:يامعشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة،فاحتملوه فوق التروس، ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم،فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من الباب الذي فتحه البراء، وفتح الذين دخلوا الأبواب الأخرى، وحوصر المرتدون وأدركوا أنها القاضية لا محالة.

            ووصل المسلمون في الحديقة إلى مسيلمة، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، يخرج الزبدُ من شدقيه من غيظه وحرج موقفه وانهيار بنيان زعامته، فتقدم وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم - قاتل حمزة رضي الله عنه - فرماه بحربته فأصابه، وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة فضربه بالسيف فسقط فنادت امرأة من قصر مسيلمة: واأمير الوضاءة قتله العبد الأسود (أي وحشي).

            يقول وحشي: فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، خرجت معهم، وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس، رأيت مسيلمة الكذاب قائماً في يده السيف وما أعرفه، فتهيأت له، وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى، كلانا يُريده، فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت فيه، وشد عليه الأنصاري - عبد الله بن زيد - بالسيف فربُك أعلم أينا قتله، فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قتلت شر الناس.
            [CENTER] [/CENTER]

            تعليق


            • #7
              سياسة أبي بكر الصديق في مواجهة الأزمات

              سياسة أبي بكر الصديق في مواجهة الأزمات


              إن من الرجال من يُؤتى بسطة في الجسم ؛ فيُرى قوي البدن , مفتول العضلات , فإذا ألمت به ملمة خر كالثور الذبيح , ومنهم من يشتهر عنه العلم والحلم , فإذا نزلت به نازلة تاه في غياهبها , ومنهم من يتظاهر بالتضحية من أجل المبادئ , فإذا وقع في مأزق كان كمن يعبد الله على حرف , إذا أصابه شر انقلب على وجهه , خاسرا دنياه وآخرته ...

              ومنهم من يُرى بسيطا متواضا, لا يتميز على الناس في حياته العادية بشيء , فإذا خبرته وجدته جبلا شامخا راسيا , تزول الجبال ولا يزول , تنهار أمامه الشدائد العظام , انهيار المباني العملاقة إذا ما أصيبت بقاذفة نووية , وأحسب أن أبا بكر كان من هذا الصنف...

              فقد ذكر البهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها: " قالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتدت العرب , واشرأب النفاق بالمدينة , فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها.."( سنن البيهقي الكبرى : جزء 8 - صفحة 200 )وزاد واشرأبت يهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة لفقد نبيهم وقلتهم وكثرة عدوهم...

              قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ـ كما نعلم ـ رفيقه في حياته , نشئا معا , وشبا معا , وعملا في مجال التجارة معا , ثم توثقت تلك الصلة أكثر بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم , فصارا متلازمين , تلازما يصحبه حب وإخلاص ووفاء , حب عبر عنه أبو بكر رضي الله عنه بقوله : "شرب رسول الله حتى ارتويت ", وعبر عنه رسول الله بقوله : "إن أمنّ الناس عليّ في بدنه ودينه وذات يده أبو بكر.. " .

              وهذه العلاقة الوطيدة جعلته يبكي بمجرد أن سمع رسول الله يقول : " إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا , وبين ما عنده , فاختار ما عنده " وقال : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا يارسول الله , فكان الرد من رسول الله :" على رسلك ( هون عليك ) يا أبا بكر .."

              ورغم ذلك تلقى نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم بصبر غير مسبوق , وبتحكم في عواطفه غير معهود ..

              وتلك مواقف الرجال , فجزعه على رسول الله لن يعيد إليه الحياة مرة أخرى , إذا فليترك الجزع جانبا , وحبه لرسول الله يجعله يقدم له أفضل ما يرضيه , وليس هناك أرضى لرسول الله من أن يخلفه في أمته بخير .

              ففي الوقت الذي سيطر فيه الفزع والبكاء والاندهاش على سائر الصحابة الموجودين عقب سماع نبأ الوفاة , حتى إن الكثير منهم لم يستطع تحمل أثرها ، فمنهم من دُهش فخولط , ومنهم من أُقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من أعتُقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية, نرى أبا بكر الصديق ما إن أُعلم بوفاته حتى جاء سريعا من منزل له بالسنح ـ خارج المدينة ـ ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه ـ وهو متمالك لنفسه ـ وقبّله قائلا: "بأبي أنت وأمي طبت حيا ميتا , والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبدا" .

              ثم خرج فأتى المنبر فصعده , وحمد الله , وأثنى عليه , ثم قال : ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات , ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت , قال الله تعالى :" وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ " (آل عمران : 144)فتلقاها منه الناس , وصاروا يرددونها , وظل بمن حوله من أهل المدينة , حتى خفف عنهم هول الفاجعة , وفاءوا إلى رشدهم بفيئه , وأمسوا يدربون أنفسهم على الحياة دون رسول الله , وعلى الصبر على فراقه , وانصرفوا إلى مواصلة أمور حياتهم.
              [CENTER] [/CENTER]

              تعليق


              • #8
                بهذا الأسلوب واجه أبو بكر رضي الله عنه تلك الشدة أو الأزمة التي لا يعلم هولها إلا من تفكر في شدة حبه لرسول الله , وارتباطه به الذي كان يجعله يضحي في سبيله بكل شيء حتى النفس والولد .

                وجاءت الأزمة الثانية التي لم يفصلها عن الأولى غير لحظات , فوفاة رسول الله بالنسبة له لم تكن مجرد فراق فقط , وإنما ألقت عليه تبعة عظيمة ,وهي مسئولية القيام على أمر المسلمين بعده , وجمعهم تحت خليفة واحد , بطريقة غير سلطوية أو انتزاعية , وهو لم يغب عن ذهنه أن العرب داخل الجزيرة لم يتعودوا أن يخدعوا لحاكم غير نبي , وأن الأنصار في المدينة كانوا يرون أن لهم من فضل السبق إلى الإسلام ونصرته ما يؤلهم لخلافة رسول الله , وقد اجتمعوا بالفعل لبحث هذا الأمر في سقيفة " بني ساعدة " وهموا أن يؤمروا عليهم سعد بن عبادة ...

                ولم يغب عن ذهنه الصراع الدموي بين قبيلتي الأوس والخزرج من الأنصار , هذا الصراع الذي لم ينته إلا بمجيء رسول الله , وأن هناك من المنافقين من يطمعون في بعث الفتنة من جديد , وقد رأى في حياة رسول الله كيف حاولوا أكثر من مرة أن يشعلوا النار بينهم .

                فنظر في الأمر مع من حضره من المهاجرين بحلمه وهدوئه المعتاد منه , ثم ذهب بهم إلى الأنصار المجتمعين في سقيفتهم , وبعد اطلاعه على ما عزموا عليه , ومعرفة وجهة نظرهم تكلم فلم يترك شيئا أنزل في الأنصار , ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا وذكره , وقال : ولقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو سلك الناس واديا , وسلكت الأنصار واديا , سلكت وادي الأنصار , ولقد علمت يا سعد ( ابن عبادة ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد : " قريش ولاة هذا الأمر , فبر الناس تبع لبرهم , وفاجرهم تبع لفاجرهم " فقال له سعد : صدقت .. وأسرع بمبايعته (مسند أحمد بن حنبل جزء 1 - صفحة 5 ) .

                فليس هنالك أفضل في المجادلة من ذكر فضائل الطرف الآخر , والثناء عليه بما هو أهله , إذ يجعله يلين أمام من يحادثه , وكان أبوبكر أبرع الناس بعد الرسول في ذلك .

                وبتلكم السياسة نجح رضي الله عنه في اجتياز الشدة الثانية التي تحدث عنها أبو هريرة رضي الله عنه بقوله : "والذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله.."

                ولم يمض الليل إلا وقد اجتمع المسلمون بالمدينة تحت إمارته , راضين مختارين , لم يشذ عن ذلك فرد واحد , ثم أتته وفود العرب في اليوم التالي مجمعة على بيعته , إلا من ارتد منهم , فقام فيهم خطيبا ـ دون حفل تنصيب أو ...وقال : "أما بعد , أيها الناس ! فإني قد وُليت عليكم , ولست بخيركم , فإن أحسنت فأعينوني , وإن أسأت فقوموني . الصدق أمانة , والكذب خيانة , والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه ـ إن شاء الله ـ والقوي فيكم ضعيف عندي , حتى آخذ الحق منه ـ إن شاء الله ـ لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل , ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء . أطيعوني ما أطعت الله ورسوله , فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .

                ونزل من توه ليستعد للأزمة الثالثة , ألا وهي مجباهة العرب المرتدين , فالكثير من الأعراب في شتى الجزيرة العربية ما إن سمعوا بموت رسول الله حتى انتفضوا وثاروا خالعين ربقة الإسلام من أعناقهم , وطردوا ولاة رسول الله عليهم , وظهر من بينهم من يدعي النبوة , بعد أن ظنوا أن ذلك أفضل طريق لجمع الأعراب السذج عليهم..

                روى عروة بن عروة عن أبيه قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب عوام أو خواص , وتوحى مسيلمة وطليحة فاستغلظ أمرهما , واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد , وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع , وخواص من الأفناء فبايعوه , وقدمت هوازن رجلا وأخرت رجلا , أمسكوا الصدقة إلا ما من ثقيف ولفها ...وارتدت خواص من بني سليم , وكذلك كسائر الناس بكل مكان ...

                وبالطبع فإن خبر تلك الردة قد وصل إلى مسامع الروم الذين كانوا يبحثون عن سبيل للقضاء به على دولة الإسلام قبل أن يقوى صلبها , وقاموا بمحاولات عدة لذلك في غزوة مؤتة وتبوك , كما قتلوا أحد الأمراء العرب الذين دانوا لرسول الله قبيل موته , وهم على استعداد تام لمناصرة أي خارج على الدولة الإسلامية .

                واختلفت مواقف الصحابة بالمدينة تجاه تلك الثورات , وأكثرهم خشيء من عاقبة مواجهتها , ورءوا مهادنتهم , بل غلب بعضهم اليأس حتى قال : نعبد ربنا حتى يأتينا اليقين " الموت "إلا أن أبا بكر كان حازما في رأيه , وأصر على مواجهة كل خارج على الإسلام ولو انتمىإليه اسما وأدى بعض الفرائض , وقال : .. والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة , فإن الزكاة حق المال , والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " (البخاري : رقم 6855).
                [CENTER] [/CENTER]

                تعليق


                • #9
                  وإذا كانت الأزمة الأولى قد بينت مدى ما اتصف به أبو بكر من صبر وقدرة على تحمل البلاء , وأن الثانية قد بينت حلمه ورجاحة عقله , فإن تلك الأزمة تنبئ بما ما اتصف به الصديق من شجاعة قل أن توجد في البشر , ويقين ورثه من النبي صلى الله عليه وسلم , نعم . يقين عاشه برفقته يوم الهجرة , ويقين شاهد أثره يوم بدر , ويقين رأى ثمرته يوم الأحزاب , بعد أن كانت كل المؤشرات المادية توحي بأن الإسلام أوشك على الزوال , يقين علمه أن النصر محقق للمسلمين إذا نزعت من بينهم أسباب الهزائم ..

                  قال عبد الله بن مسعود: " لقد قمنا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لا نقاتل ... ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا , ونغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردودٌ علينا, وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم.

                  ولما رأى الصحابة من حوله عزمه على مواجهة المرتدين ومدعي النبوة قالوا له : فلتبق جيش أسامة الذي كان رسول الله قد أوصى ببعثه ؛ ليكون عونا لك في حماية المدينة , لأن جيش أسامة جند المسلمين , والعرب قد انتفضت بك , فلا ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين ,وألح عليه أسامة في هذا الأمر فقال : ".. إن معي وجوه الناس وحَدّهم، ولا آمن على خليفة رسول الله , وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون.

                  فأبى ذلك عليهم أيضا , لا لأنه يستبد برأيه , وإنما لأن رسول الله هو الذي قد أوصى ببعث جيش أسامة قبيل وفاته , ولا يجوز له أن يبدأ عمله بمعصية أمر رسول الله , فيسن سنة سيئة لمن يأتي بعده , وكان شعاره : "والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة , كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته" إضافة إلى أنه كان يضع في حسبانه أنه لن يستطيع أن يعيد الأمن داخل الجزيرة إلا إذا قطع الطريق على الروم وشغلهم بأنفسهم ..

                  وظن بعض المسلمين أن أسامة قد يعجز عن تحقيق هذا الهدف لصغر سنه , , وأرسلوا له تلك الرسالة عن طريق عمر , فقال له ـ رضي الله عنهما ـ : إن الأنصار أمروني أن أبلغك وأنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة . فوثب أبو بكر ـ وكان جالسا ـ يأخذ بلحية عمر وقال له :ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب أستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه ؟!!..

                  خرج أسامة بالجيش , وقبل رحيله قال له أبو بكر : "اصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم . ابدأ ببلاد قضاعة ثم ائت آبل , ولا تقصرن من شئ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا تعجلن لما خلفت عن عهده ".

                  وبعد رحيل أسامة قدم عليه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس في رجال من أشراف العرب , فقالوا : إنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام , وليس في أنفسهم أن يؤدوا إليكم ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإن تجعلوا لنا جعلا كفيناكم , فدخل بعض الصحابة عليه , فعرضوا عليه ذلك وقالوا : نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها , ويكفيانك من وراءهما حتى يرجع إلينا أسامة وجيشه ويشتد أمرك , فإنا اليوم قليل في كثير

                  وهذا الأمر كان من الممكن أن يوجد فرقة بين المسلمين ؛ لتباين وجهة نظرهم معه, ولكن سياسته الحكيمة ـ رضي الله عنه ـ كانت كفيلة بأن تجعلهم يسلمون له بما أراد ..

                  ووضحت تلك السياسة في قوله لهم : فهل ترون غير ذلك ؟ قالوا : لا .قال : قد علمتم أن من عهد نبيكم إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم , ولا نزل به الكتاب عليكم , وأنا رجل منكم تنظرون فيما أشير به عليكم , وإن الله لن يجمعكم على ضلالة , فتجتمعون على الرشد في ذلك , فأما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا , فمن شاء فليؤمن , ومن شاء فليكفر , وألا ترشون على الإسلام , فنجاهد عدوه كما جاهدهم .. وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم فهذا أمر لم يغب عنه عيينة , هو راضيه ثم جاء له , ولو رأوا ذباب السيف لعادوا إلى ما خرجوا منه , أو أفناهم السيف فإلى النار , قتلناهم على حق منعوه , وكفر اتبعوه , فقالوا له : أنت أفضلنا رأيا , ورأينا لرأيك تبع ...

                  ولكن المشكلة الحقيقية لم تكن في اعتراض هؤلاء الصحابة , وإنما في كيفية مواجهة هؤلاء المارقين , لذا أسرع من فوره بوضع خطة لمواجهة أي خطر قد يحيق بالمدينة , فوضع على مداخلها نفرا (عليا والزبير وطلحة وعبدالله بن مسعود ) ليراقبوا له الطرق , وأعلن بالمدينة حالة التعبئة العامة , وألزم الجميع بحضور المسجد ..

                  وقال لهم : إن الأرض كافرة , وقد رأى وفدهم ( من كان مع عيينة ) منكم قلة , وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا , وأدناهم منكم على بريد , وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم , وقد أبينا عليهم , ونبذنا إليهم عهدهم , فاستعدوا وأعدوا ..

                  وصدق حدسه فما لبث عيينة والأقرع إلا ثلاثا حتى طرقا المدينة بمن معهما ليلا ؛ طمعا في الغارة على المسلمين وخلفوا بعضهم بمكان يسمى "ذا حسى " ليكونوا لهم ردءا , لكنه خرج إليهم بمن معه , فما طلع الفجر إلا والمسلمون والعدو في صعيد واحد , ووضعوا المسلمون فيهم السيوف , وولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم , ثم تتبعوا المتربصين حول المدينة , فكان أول الفتح , وعز المسلمون بتلك الوقعة ..

                  عاد جيش أسامة بعد ستين يوما تقريبا ظافرا غانما , وبعوده عادت الطمانينة إلى قلوب المسلمين بالمدينة , وعلموا أن الصواب كان في إصرار أبي بكر على طاعة أمر رسول الله مهما كلفه من شدائد , أما أبو بكر فلم يركن قليلا ؛ لأنه كان كما قلنا يسابق الزمن فاستخلف أسامة على المدينة , وقال له ولجنده : أريحوا وأريحوا ظهركم , ثم خرج إلى المرتدين في مكان يسمى بذي القصة , فقال له المسلمون : ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك , فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام , ومقامك أشد على العدو , فابعث رجلا , فإن أصيب أمّرت آخر , فقال : لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي ..وصار حتى لقي بني عبس وذبيان , وجماعة من بني عبد مناة بن كنانة , فلقيهم بالأبرق , فقاتلهم فهزمهم الله وفلهم .

                  ثم رجع إلى المدينة , وكان جيش أسامة قد استراح , وثاب من حول المدينة من الأعراب , فجيش الجميع , وعقد أحد عشر لواء على أحد عشر جندا , وسير كل قائد إلى ناحية من نواحي الجزيرة , ليحارب على كل الجهات بطريقة غير معروفة ولا مألوفة .

                  وكتب إلى قبائل العرب المرتدة كتابا واحدا , يذكرهم فيه بترك الغي والعودة إلى هدي ربهم , وأصى كل قائد من قواده أن يقرأءه على من يمروا به , وأمرهم ألا يقاتلوا أحدا حتى يدعونهم إلى داعية الله , فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه , ومن لم يجب قتل وقوتل , ولم يمر عام على ولايته إلا والجزيرة العربية كلها قد أدانت له , وفاء أهلها إلى الله سبحانه وتعالى , بل وانطلق أبناؤها مجاهدين ينشرون الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ,

                  ونجح الصديق رضي الله عنه بذلك في التغلب على كل ما واجهه من صعاب وشدائد , وتمثلت عوامل نجاحه في : ثقته البالغة بنفسه , وشجاعته الفائقة غير المتهورة , ونظرته الثاقبة للأمور ,وتعامله مع المشكلة من شتى جونبها, وقدرته عالية على إقناع من حوله ,وحرصه الشديد على تنفيذ أمر رسول الله , وفوق كل ذلك ثقته بالله سبحانه وتعالى وتسليمه بقضائه وقدره , ويقينه بأن النصر حليف المؤمنين لا يوخر إلا بسبب فيهم وليس في قوة أو كثرة عدوهم , كما قال تعالى بما كسبت أيديكم.
                  [CENTER] [/CENTER]

                  تعليق


                  • #10
                    وقفات مع الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق (1)

                    مقدمة :

                    كان الحديث عن الفتوحات الإسلامية حتى وقت قريب من سبل بث الحماس في قلوب النشء المسلم ، وتربيتهم على الرجولة والتطلع إلى المجد من خلال تعريفهم بمآثر أسلافهم ، ولكن هذا الحديث بدأ يخبو يوما فيوما ؛ حتى صار من الأمور التي يتحرج الكثيرون من الحديث عنها بعد بدء الحملة الشرسة المنظمة التي صارت تلاحق الإسلام وشرائعه في كل مكان ..

                    وحسب البعض أنهم ببعدهم عن الحديث عن الفتوحات الإسلامية وعن جهاد السابقين سيقدمون الصورة المثلى للإسلام ، ويظهرون سماحته ورحمته ، مع إن تلك الفتوحات كانت السبيل لتحقيق الرحمة والسماحة ، وعن طريقها رأى الناس جميعا على اختلاف أجناسهم الرحمة والسماحة سلوكا يطبق على الأرض..

                    رأوهما لما أزاحت عنهم الفتوحات الإسلامية تسلط المتجبرين والطغاة ، وأزالوا عنهم نير الاستعباد الذي طالما أذاقهم سوء العذاب ..

                    وقد يرى الناظر في الفتوحات الإسلامية آلاف القتلى من الجنود ، وهذا هو سر تحرج الكثيرين من تدارسها ، ولكن هل كانت تلك الجنود التي سالت دماؤها وقت الفتوحات إلا وسيلة يُميت بها الطغاة من حكام الفرس والروم وغيرهم ملايين من البشر ( ليرجع القارئ مثلا إلى ما حدث بمصر أيام اقتتال الفرس والروم ، ولم يكن لهم في الأمر ناقة ولا جمل ) وينهبون به أموالهم ، ويجعلونهم يعيشون في الفقر الشديد ، في الوقت الذي كان هؤلاء الحكام وحاشيتهم يرتعون ويلهون ويمتعون بما كنزوا من أموال فيما يغضب الله سبحانه وتعالى ؟! ..

                    ألم يكن هؤلاء الجنود أداة للظالمين يُوئدون به كل صوت مناد بالحرية أو العدل والمساواة ؟ !..

                    فكان قتالهم إذن بمثابة سلب العصا من إنسان يضرب به غيره ، ولا سبيل لكفه عن فعله إلا بأخذ العصا منه .

                    كان هؤلاء الجنود داخل مجتمعاتهم كالعضو الذي أصيب بمرض خبيث ، وليس ثمة علاج غير بتره ، ولم يكن أمام المسلمين حل غير ذلك ، وكان منهجهم في ذلك يقوم على مبدأ آخر الدواء الكي ..

                    كما أن فتوحات المسلمين التي امتدت مئات السنين واتسعت لتشمل ما يقرب من نصف الكرة الأرضية وقتها قلما سمعنا عن رجل مدني أو أعزل قد قُتل خلالها .

                    ومن قُتل منهم كان المسلمون يتكفلون بدفع ديته كاملة .

                    فتوحات بلاد الحيرة والعرق :

                    كانت بلاد الحيرة قبل الإسلام جزءا من العالم العربي ، لكن الحكم فيها لملوك فارس يعاونهم بعض الأسر العربية التي استطاعت أن تتقرب إليهم ، وتسير على الطريق الذي يُرضي أسيادهم من الفرس ، وكان سكانها هم أقرب الناس إلى حدود الدولة الإسلامية بعد أن عم الإسلام الجزيرة العربية ؛ لذلك لم يتمهل أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قليلا بعد الفراغ من فتنة الردة حتى شرع في العمل على نقل رسالة الإسلام إليهم ؛ تكملة لدور النبي صلى الله عليه وسلم الدعوي ، المتمثل في قوله تعالى :" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا " ( سبأ : 28 ) وأداء للأمانة التي كُلف بحملها من بعده ، فكتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه ، فسارع الناس إليه ، وأتوا المدينة من كل أوب.

                    وخرجت طلائع المجاهدين الأولى إلى بلاد الحيرة والعراق بقيادة خالد بن الوليد ، حيث أمره بعد الفراغ من وقعة اليمامة في المحرم من سنة ثنتي عشرة بالمسير إلى بلاد العراق ، وأمره أن يستنفر من اشترك في جهاد أهل الردة من قبل ، وأن لا يغزوَنّ معه من سبقت ردته ، حتى يطمئن إلى أن نية الخارجين معه هو الجهاد الخالص لله سبحانه وتعالى ، وليس أي عرض من الحياة الدنيا.

                    وأوصاه أن يبدأ ببلدة الأبلة التي كانت تسمى " فرج الهند " قبالة بحر فارس في جهة الشمال قرب البصرة ، وأن يتألف أهل فارس ومن في ملكهم من الأمم الأخرى للإسلام ..

                    فسار خالد ومر في طريقه بقريتين من سواد العراق ، وهما " بانقيا " و" برسوما " وكان يملكهما من قبل الفرس رجل يسمى " جابان " فجاء نائبه عليهما " صلوبا " فصالح خالدا على عشرة آلاف دينار ، ودخل في طاعته ، ثم سار خالد بجيشه متوجها تلقاء الحيرة ، وقد حرص على أن يضم في طاعته كل البلاد العربية ؛ ليؤمن حركة جيشه ، خاصة وأن سكان تلك الأماكن العربية كانوا تبعا للفرس ، فخشي من أن يأتوه من خلفه بعد التوغل في بلاد العراق ، كما أن خطة الصديق كانت تقوم على تحرير البلاد الأقرب فالأقرب ، وفق المنهج المرسوم في قوله تعالى : " لتنذر أم القرى ومن حولها " ..
                    [CENTER] [/CENTER]

                    تعليق


                    • #11
                      وقفات مع الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق (1)

                      وصل خالد إلى مشارف الحيرة فخرج إليه أشرافها مع إياس بن قبيصة الطائي الأمير عليها بعد النعمان بن المنذر ، فدعاهم إلى الاسلام أو الجزية أو المناجزة ، فأبوا الإٍسلام والمناجزة ، وأقروا بالجزية وصالحوه على تسعين ألف درهم ..

                      ولم تكن تلك الأموال تشكل لهم معضلة ؛ لأنها كانت بمثابة جزء مما كان يُؤدى إلى الفرس المحتلين لهم من قبل ، وانتقالها إلى المسلمين معناه أنهم سيعفون من باقي الضرائب التي كانت تدفع لفارس من قبل .

                      هذا بالنسبة للجيش الأول أما طلائع الجيش الثاني فكانت بقيادة " عياض بن غنم " والذي تزامن تحركه مع زحف جيش خالد ، وكان الصديق قد كتب إليه أن يبدأ بالمُصَيخُ ( بلدة جنوبي العراق ) ويدخل من أعلى العراق ، ليُحكم هو وخالد الخناق على الفرس بالعراق ، ويشتت جهودهم في المقاومة ..

                      ولم يكتف أبو بكر بهذين الجيشين ، وإنما أمد خالدا بالمثنى بن حارثة الشيباني الذي كان قد استأذنه قبل زحف خالد وعياض في أن يناوش الفرس بالعراق ليقطع اتصالهم بمن تبقى من العرب على غير الإسلام ، فلا يحرضوهم على الخروج على الدولة الإسلامية ـ وكانت الفرس تعول عليهم في وقف تقدم المسلمين كما تسعى كثير من قوى الغرب الآن في تجنيد المسلمين لقتال إخوانهم بالعراق وأفغانستان وباكستان وغيرها ـ فأذن له ، لكن أبا بكر لما بدأ الجهاد المنظم أوصاه أن يلحق بخالد ، فانضم إليه بثمانية آلاف فارس ..

                      وظل الصديق كلما توفر لديه مجموعة من المجاهدين أمد بها خالدا أو عياضا ، لأن جيوش فارس التي اكتسبت المهارات العسكرية خلال العقود السابقة وأعدادهم الوفيرة وعتادهم كانت تتطلب منه أن يشحن لهم كل ما بمكنته ، ولو كان رجلا واحدا كالقعقاع بن عمرو الذي لم يجد أمامه غيره وقت أن استمده خالد في مرة من المرات ..

                      وقد تعلم الصديق من خلال معاشرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهم شيء في تحقق النصر للمسلم هو أن يقدم كل ما في مُكنته بغض النظر عن كون ذلك معادلا لقوة العدو أو غير معادل.

                      ثم كتب إلى خالد أن يعسكر قَِبل منطقة " الحفير" حتى يجتمع إليه مدده ، ثم يجاهد بها جيوش الفرس ، وكانت الحفير تعد أعظم فروج فارس بمنطقة العراق وأشدها شوكة، وكان يتولاها رجل من أساورة الفرس اسمه " هرمز " وقد عرف بشدته على العرب من قبل والبطش بمن تحت إمرته منهم ، فكلهم عليه حنقٌ، وكانوا يضربونه مثلاً في الخبث فيقولون: أكفر من هرمز.

                      فأمّلوا في جيش خالد أن يخلصهم منه ومن شره ، ولذا كان تحقيق النصر في تلك الوقعة معناه رفع الروح المعنوية للمسلمين ، وتخليصهم من عقدة الخوف التي هيمنت على قلوب العرب من قبل الإسلام.

                      تحرك خالد نحو الفرس إذن وقد ظهرت عبقريته العسكرية ، حيث قسم وهو في طريقه جيشه إلى ثلاث فرق ، ولم يحملهم على طريق واحد، كما لم يسيرهم في زمن واحد ، وإنما جعل على مقدمته المثنى ، وأتبعه بعدي بن حاتم ، ثم سار خلف الفرقتين بمن معه ليشتت ذهن العدو ، ويعمي على مخابراتهم وجواسيسهم ..
                      [CENTER] [/CENTER]

                      تعليق


                      • #12
                        وقفات مع الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق (1)

                        علم الفرس بمسير خالد وجيشه إليهم بعد أن وصلتهم رسالته التي يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وقد اعتاد المسلمون منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يبدءوا قوما بقتال قبل الإعذار إليهم ، فكتب قائدهم هرمز رسالة إلى كسرى يخبره بخبر تحرك المسلمين ، وبمضمون الرسالة التي أُرسلت إليه.

                        ولكن هرمز لم ينتظر رد كسرى عليه ، ورفض طلب خالد الذي تمثل في الإسلام ، أو المصالحة والجزية وفتح الطريق أمام المسلمين لتعريف الناس بدين الله ودعوتهم ، وإنما تعجل بمنازلة المسلمين ، وجعل على مجنبتيه رجلا يسمى " قباذ " والآخر يسمى أنو شجان " وكانا من أولاد أردشير كسرى، فالتقى بهم عند مكان يسمى الكواظم ، بعد أن أمر جنده أن يقترنوا بالسلاسل لئلا يفروا ، وللقارئ أن يتخيل جنديا يربط كي لا يفر ، كيف يقاتل ؟! وقد يكون أخرج من بيته بالقوة..

                        وكان لهرمز السبق إلى ساحة القتال " الكواظم " لذا اختار أنسب المواقع وأحكمها ؛ حتى إن خالدا لما نزل قبالتهم نزل على مكان لا يوجد به ماء ، لكن ذلك لم يفت في عزيمته ، ولم يهمه ( يشغله ) وقال لمن معه : جالدوهم على الماء فإن الله جاعله لأصبر الفريقين...

                        وبدأت المعركة بدعوة خالد إلى النزال ، فبرز إليه هرمز الذي كانت كل الأمور تسوقه إلى عاقبته السيئة ، بطشه بالعرب ، وتجبره على رعيته ، وعدم صبره حتى يرد عليه أردشير بالقرار النهائي ، ثم خروجه إلى خالد الذي لم يبارزه أحد ويعود سالما ..

                        تقابل خالد وهرمز إذن فترجلا ، ثم اختلفا ضربتين فاحتضنه خالد فخرج إليه مجموعة من الفرسان كان هرمز قد اتفق معهم على الغدر بخالد عند الخروج إليه ، مع إن قيم الفروسية وقتها كانت تمنع أن يتدخل أحد لمساعدة أي من المتبارزين ، لكن ذلك لم يشغل خالدا عن قتله بعد أن تصدى لهم جميعا ، وقيل : إن القعقاع كان متنبها لهم فأزاحهم عنه عند الخروج إليه ..

                        ثم احتدم القتال بعد ذلك لينتهي بأول نصر مؤزر للمسلمين على الفرس في تلك المعركة التي سميت فيما بعد بذات السلاسل ..

                        وأخذ خالد سلب هرمز ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من قتل قتيلا فله سلبه " ( البخاري ) وكانت قلنسوته تقدر بمائة ألف ؛ لأنه كان قد تم شرفه في الفرس، وكانت هذه عادتهم، إذا تم شرف الإنسان تكون قلنسوته بمائة ألف !!!..

                        واستراح العرب من شره ، وبان لهم أنه وغيره ممن علتهم رهبته لم تكن عظمته إلا سرابا ، كما بان للظالمين من بعده أنهم مهما تحصنوا فليسوا ببعيدين على قضاء الله ، وأنه قادر بين لحظة وأخرى أن يقتص منهم بمن كانوا يستضعفونهم ..

                        ثم بعث خالد بعد ذلك بتباشير النصر والفتح والأخماس إلى أبي بكر الصديق ، وسار هو فنزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة ( قبل أن تخطط ) وبعث المثنى بن حارثة في آثار العدو فتبعهم حتى وصل إلى حصن كان يسمى بحصن المرأة ففتحه ، وقد رأى أهل الحصن من نبل الفاتحين ما أبهرهم ، حتى إن المرأة التي كانت تتولى عليهم أسلمت فتزوجها المثنى لتزداد الآصرة بينه وبين قومها ..

                        وأرسل معقل بن مقرن إلى بلدة " الأبلة " فافتتحها.

                        وخلال تلك الزحوف أوصى خالد من معه بعدم التعرض للفلاحين الذين يمر بديارهم ، أو يسكنون البلاد التي فُتحت ، وتركهم وعمارة البلاد كما أمر أبو بكر الصديق ؛ لأن جهاده في الأصل كان تحريرا لمثل هؤلاء الفلاحين وأمثالهم من الأغلال الذي كانت عليهم ، كما إن الإسلام يوصي بعدم التعرض إلا لمن يحمل السلاح في وجه المسلمين ..

                        وقد أثبتت الأيام أن الإحسان إلى الفلاحين وأمثالهم من طبقات العوام كانت سببا في تغلل الإسلام في البلاد المفتوحة ، واستعصاء خروج المسلمين منها ، على عكس ما حدث مع كل الغزاة على مر التاريخ ، إذ انتهى الأمر بزوالهم بعد فترات طالت أو قصرت .

                        ونعود إلى كسرى أردشير الذي جاءه كتاب هرمز بمسير خالد فنقول : إنه أمر قائدا له يسمى "قارن بن قريانس " فسار إلى بلدة " المذار " ولما انتهى إليها لقيه المنهزمون من أتباع هرمز ومعهم قباذ وأنو شجان ، فانضموا إليه جميعا ، ولم يتعظوا مما حل بهرمز ليتحقق فيهم موعود الله سبحانه وتعالى ..

                        وجاءت أخبار تحركاتهم إلى خالد فلم يمكث حتى يفاجئوه عند " الحفير" وإنما سار إليهم ، فأحل بهم الهزيمة الثانية ، وقتل منهم نحو ثلاثين ألفا سوى من غرق ، ولم ينجُ من المقاتلين إلا من منعته المياه ، حيث ساحوا بقواربهم في عمق النهر ، في تلك المعركة التي سميت فيما بعد باسم " الثني " وهو النهر ..

                        وكان على رأس القتلى قارن الذي قتله معقل بن الأعشى ، وأنو شجان الذي قتله عاصم بن عمرو ، وقباذ الذي قتله عدي بن حاتم ، وهكذا كانت نهايات من كانوا يسمون بأهل الشرف في معارك لم تستغرق أسابيع ، حتى إن المؤرخين يقولون عن قارن : كان شرفه قد انتهى ( أي في العظمة ) ولم يقاتل المسلمون بعده أحداً انتهى شرفه..

                        وكم يعجب الإنسان أن يرى في المسلمين مثل هؤلاء الأبطال الذين لم يسمع بهم أحد من قبل ، ورغم ذلك أنهوا شرف العظماء من الفرس ، وما كان ذلك إلا بسبب القوة الكامنة التي حركها فيهم الإسلام .

                        وقد أثبتت الأيام أن خوف الناس من الفرس والروم وغيرهم لم يكن في محله ، وإني لأرى أن الهزائم التي تأتي على المسلمين تترى من عشرات السنين قد تزول لو أتحنا للإسلام أن يحرك في رجالهم القوة الكامنة التي حركها في أسلافهم من قبل.

                        ونرجع بالحديث إلى خالد فنقول : إنه نظر إلى عوام الناس والعزل من السلاح بعد انتهاء المعركة فصيرهم في ذمة المسلمين ، وأمنوهم على أنفسهم وأموالهم وديارهم في مقابل أن تنتقل ضرائبهم من خراج وجزية إلى المسلمين ، وبالطبع بعد أن خففت كثيرا ، وأعفي منها غير الأغنياء ..

                        وكلمة الذمة التي يتخذها من لم يعرف شيئا عن فتوح المسلمين وسيلة للتهجم على الإسلام كانت تعني أن المسلمين صاروا مسئولين مسئولية كاملة عن حماية هؤلاء من كل معتد سواء أكان في الداخل أم الخارج ، وأن يوفروا لهم الأمن بشتى أنواعه ، حتى في توفير احتياجات الحياة للعاجزين عن ذلك وكفالتهم ، وأي عبء أكبر من ذلك ؟! وقد رأينا الأمم المتحدة تحاول أن تسن من القوانين في العصر الحديث ما يوفر ذلك ، ولم تحقق من تلك القوانين جزيئا واحدا .

                        وأما الأساري فأخذوا وأعتق أكثرهم فيما بعد ، وكفلهم وأولادهم من أعتقهم من المسلمين ، ووفروا لهم من أسباب الرقي والتفوق ما لم يكن يحلموا به في ديارهم ، حيث صار من أولادهم عظماء العلماء المسلمين فيما بعد ، مثل الحسن البصري ، ومحمد بن إسحاق ، والواقدي وابن سيرين وغيرهم الكثير ، وتلك ظاهرة لم نر مثيلها في تاريخ البشرية الطويل ..

                        ونعود إلى كسرى فنقول : إنه لم تثنه تلك الهزيمة التي ألمت بجيوشه وما سبقها عن عزمه على التصدي لفتوحات المسلمين ، ولم تجعله يفيق من غفلته ويتخلى عن غطرسته ، وقد رأى إدبار دولته ..

                        ولم يجد من العقلاء حوله من ينصحه بالمحافظة على ملكه ، وهو لم يفقد منه بعد إلا القليل ، وإن فقد أصحاب الشرف في جيشه ، ولم يكن ذلك سيكلفه غير التصالح مع المسلمين دعاة الحرية ، وإتاحة الفرصة لقومه للتعرف على الإسلام ..

                        وأصر على أن يجدد المواجهة معهم والتخلي عن كل العروض التي عرضوها عليه ، وغره أن المواجهة لم تكن تكلفه أكثر من أمرٍ يوجهه لبعض قواده أن يحشد له الجنود ويدججهم بالسلاح ، ويجبرهم على خوض المعارك على غير رغبة منهم..

                        فبعث بقائد آخر يسمى " الأندر زغر " وكان فارسا من مولدي سواد العراق ، وأمره أن يحشد معه كل من يلقاه من المقاتلين ما بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية ، ليضرب العرب بعضهم ببعض ، كما تفعل بعض القوى المهيمنة على العالم الآن ..
                        [CENTER] [/CENTER]

                        تعليق


                        • #13
                          وقفات مع الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق (1)

                          وسمع بهم خالد فسار إليهم من الثني فلقيهم بمنطقة " الولجة " وذلك بعد أن كمن لهم كمينين أوصاهما بالخروج إليه بعد أن يظهر لهما احتدام القتال بين الفريقين واستفراغ قواهما ، ثم قصدهم بمن معه فقاتلهم قتالاً شديداً حتى ظن الفريقان ( المسلمون والفرس ومعهم حلفاؤهم من العرب) أن الصبر قد أفرغ ، عند ذلك خرج كمينه من الناحيتين ، فانهارت قوى أعدائه المعنوية وخارت ، وأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم ، فقتل منهم خلقاً كثيراً، ومضى " الأندر زغر" نفسه منهزماً ، فمات عطشاً ، وبذل خالد بعدها الأمان للفلاحين ، وطمأنهم على أنفسهم وأموالهم ومتاعهم ، وقد هموا بالفرار خشية أن يتأثروا بأحداث القتال فعدلوا عن ذلك.

                          لكن المحاربين من نصارى العرب الذين أعانوا الفرس في تلك الوقعة ، وأكثرهم من بني بكر بن وائل لم يرضهم هذا الأمان ، وغضبوا لمن قتل من قومهم على أيدي المجاهدين المسلمين ، وكاتبوا الفرس الذين كانوا سببا في حشرهم لقتال المسلمين ، واجتمعوا معهم على منطقة تسمى " أُليس " وأمروا عليهم رجلا يسمى " عبد الأسود العجلي ، وزجوا بأنفسهم في الصراع بين المسلمين والفرس مع إن أكثر جند خالد كان من قومهم ( بني عجل ) الذين أسلموا ، ونسوا القرابة والنسب ، كما نرى من البعض اليوم الذين يصرون على محاربة إخوانهم المسلمين إرضاء لساداتهم من العجم ..

                          وفي المقابل رأينا العجليين المسلمين يظهرون أسمى آيات الولاء لله ، وعلى رأسهم عتيبة بن النهاس ، وسعيد بن مرة ، وفرات بن حيان ، ومذعور بن عدي ، والمثنى بن لاحق ، حيث كانوا أشد الناس على أولئك النصارى من بني قبيلتهم ..

                          ورغم ذلك ما زلنا نسمع من بعض المؤرخين أن فتوحات المسلمين غلبت عليها القومية العربية ، فأنى هذا ؟!!!...

                          ونعود إلى أردشير كسرى فنقول : إنه سره ميل هؤلاء العرب النصارى عليه ، وحاول أن يستثمر غضبتهم فكتب إلى قائد له يسمى " بهمن جاذويه " وهو بقشيناثا، يأمره بالقدوم على هؤلاء النصارى العرب بأليس، فقدم بهمن جاذويه هذا إلى أردشير ليشاوره قبل زحفه فيما يفعل فوجده مريضاً، فمكث بجواره..

                          وتأخر بهمن لم يثن نصارى العرب من بني عجل وتيم اللات وضبيعة وجابر بن بجير وعرب الضاحية من أهل الحيرة عن محاربة المسلمين ، فاجتمعوا على قائد فارسي آخر قد سبق بهمن في التحرك إليهم يسمى " جابان "..

                          فسار إليهم خالد وشاءت الأقدار أن يلتقي بهم وقد أعدوا طعامهم ، فلما تقابلوا قالت الفرس لباجان: أنعاجلهم أم نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم ثم نقاتلهم ؟ فقال جابان: إن تركوكم فتهاونوا بهم ، وإن عاجلوكم فانفروا إليهم ، فعصوه وبسطوا الطعام ، فلم يُقدر لهم أن يأكلوا منه شيئا ..

                          وقد بدأت المعركة بطلب خالد المبارزة ، وذلك بعد أن وكل بنفسه حوامى يحمون ظهره ، كي لا يتكرر ما حدث عند مبارزته لهرمز ، وصار ينادى: أين أبجر؟ أين عبد الأسود؟ أين مالك بن قيس؟ وهم من حشد له العرب ، فأحجم القوم عن الخروج إليه إلا مالك بن قيس ، فأثار ذلك حفيظة خالد ، حيث رأى في خروجه تحديا له ، وقال : يا ابن الخبيثة ، ما جرأك علي من بينهم، وليس فيك وفاء ؟! ثم لم يلبث أن قتله في الحال.

                          وقد أثار مقتله مع إحجام أصحابه الرعب في قلوب الفرس وحلفائهم ، حتى إنهم تركوا طعامهم فزعا ، فقال لهم جابان وقد رآهم قد أعجلوا عن طعامهم : ألم أقل لكم ؟ والله ما دخلتني من مقدم جيش وحشة إلا هذا؟ فقالوا حيث لم يقدروا على الأكل تجلداً: ندعها حتى نفرغ منهم ؛ ونعود إليها ، فقال جابان: وأيضاً أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون ؛ فالآن فأطيعوني ؛ سموها ؛ فإن كانت لكم فأهون هالك ، وإن كانت عليكم كنتم قد صنعتم شيئاً ؛ وأبليتم عذراً ، فلم يفعلوا؛ لأن الله كانت معيته تحفظ المجاهدين حتى من مجرد تفكير العدو في الكيد لهم ..

                          ثم جعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر ؛ لتكون شوكتهم في المسلمين شديدة ، تماما كما نرى من الناكثين عهودهم من المسلمين الآن ، حيث صاروا الغصة في قلوب المؤمنين ، والعصا التي يضرب بها كل محارب لهم في كل الأقطار الإسلامية من مشرقها إلى مغربها ..

                          ثم اقتتل الفئتان قتالاً شديداً، والمشركون يزيدهم تصبرا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن جاذويه، فصابروا المسلمين حتى أرهقوهم مما دفع خالدا لأن يقول : اللهم إن لك علي إن نصرت إليهم أن أجري نهرهم بدمائهم ..

                          وانتهت المعركة بنصر فاق ما سبقه ، حيث بلغ عدد القتلى سبعين ألفاً ..

                          وبعدها وقف خالد على الطعام وقال للمسلمين: قد نفلتكموه، وقال ذلك لأن المسلمين علمهم شرعهم ألا يمس أحد منهم شيئا من مخلفات العدو وباقي أمتعتهم ، مهما صغر إلا بعد أن تجمع وتقسم عليهم ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من نال منها شيئا فقد غل ، ومن غل حرم أجر الشهادة إن قتل بعدها ..

                          وتعشى المسلمون بعد إذنه لهم بهذا الطعام الذي قد أُعد لغيرهم فحرموا منه ؛ لكفرهم وعنادهم ، فليت شعري إذا كان هؤلاء المنعمون قد جاء عليهم يوم سلب منهم كل شيء حتى لقمة الطعام فكيف يأمن العتاة البغاة الآن مكر الله ؟!! وصدق الله سبحانه حيث قال في أمثالهم : " كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ " ( الدخان ) ..

                          وكان من النوادر أن فقراء المسلمين الذين لم يروا طعام المرفهين من قبل ، ولم يعتادوا غير أكل التمر جعلوا يقولون عن الرقاق : ما هذه الرقاع البيض ! وجعل من قد عرفها يجيبهم ، ويقول لهم مازحاً : هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون: نعم ، فيقول: هو هذا..

                          ثم سار خالد بالمجاهدين بعدها إلى أمغيشيا ، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله من الخيرات ؛ لأن الجنود الذين كانوا بها أعجلهم المسلمون أن ينقلوا أموالهم وأثاثهم وكراعهم وغير ذلك ، وقد بلغ سهم الفارس بعد القسمة ألفاً وخمسمائة، سوى النفل الذي نفله أهل البلاء ، وهذا هو سبب اغتناء أبناء المجاهدين من بعد ، حيث ورثوا ما حازه آباؤهم بكفاحهم وجهادهم في حين تخلف الكسالى وقعد الجبناء ..

                          فليت الكتاب والمؤرخين الذين جعلوا دأبهم الحديث عن أموال الصحابة وأبنائهم يعرفون بعد هذا التوضيح مصدر غناهم ، فلا يتقولوا عليهم بعد ذلك ويقولوا : إنهم عاشوا عيشة أرستقراطية دون أن يعرفوا أنهم كانوا يخرجون من معركة ليدخلوا في أخرى ، وكان أحدهم إذا أصبح لا ينتظر المساء ، وإذا أمسى لا ينتظر الصباح بسبب الخطر المحدق بها ..

                          أرسل خالد بعد هذا الفتح المبين بالنصر أبي بكر الصديق ، فلما بلغه قال: يا معشر قريش - يخبرهم بالذي أتاه ـ عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ؛ أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد! وقد قال ذلك على سبيل المدح والثناء .

                          ونحن نقول : لم تعجز النساء المسلمة أن تنجب مثله ، فقد رأينا الكثيرات والكثيرات ممن أنجبن العظماء على مر التاريخ ، ولن تعجز إن شاء الله ما بقي في عمر البشرية بقية ، وسنجد من يلدن إن شاء الله من يجددون للإسلام مجده ، ويعيدون للمسلمين عزتهم .

                          وللحديث بقية إن شاء الله.
                          [CENTER] [/CENTER]

                          تعليق


                          • #14
                            وقفات مع الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق ( 2)

                            انتهى بنا الحديث في الحلقة السابقة عند النصر المؤزر الذي حققه المسلمون بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه على الفرس ومن حالفهم من المشركين في وقعة " أمغيشيا " هذا النصر الذي قال عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع به : عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ؛ أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد ؟!..

                            ونكمل حديثنا بمشيئة الله فنقول : إن خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد فراغه من فتح أمغيششيا صار إلى الحيرة ، وقد حمّل الرحال والأثقال في السفن ، فلما علم بتحركه مرزبان الحيرة ( حاكم الحيرة من جهة الفرس ) وكان يسمى " الأزاذبه " تهيأ لملاقاته ، وقدم ابنه في طائفة من الجيش ، وأمره بسد الفرات ، فقطع الماء عن سفن المسلمين فرست على الأرض ، وعجز المسلمون عن الحراك بها ، ثم خرج الأزاذبه في إثر ابنه حتى عسكر خارجاً من الحيرة ..

                            وقد حسب أنه بقطع الماء عن سفن المسلمين سيحبسهم في بطن النهر ، وينهك قوتهم قبل ملاقاته ، لكن خالدا كان يتحرك وفي ذهنه كل الاحتمالات التي قد تطرأ على الساحة ؛ لذلك سعى على الفور في إنشاء الجسور التي حملت جنوده إلى الشاطئ ، ولم ينتظر حتى يلحق المزربان بابنه فيجتمعان عليه ، وإنما سار في خيله فالتقى بابنه عند مكان يسمى " فرات بادقلى " فقاتله وأصحابه حتى انتصر عليهم ، وكان من بين القتلى ابن المرزبان نفسه ..

                            وجاءت أنباء الهزيمة إلى المرزبان وما حدث لابنه على أيدي المسلمين ففر هاربا بغير قتال ، وشجعه على ذلك أنه قد بلغه موت أردشير ( كسرى الفرس ) فيئس من النصير ..

                            ثم استقر به المقام داخل الحيرة ، حيث نزل عسكره بين قصرين ، يسمى أحدهما " الغريين " والآخر يسمى " القصر الأبيض " من قصور الحيرة الشهيرة وقت ذاك ، وتحصن هنالك من المسلمين هو وأمراء العرب النصارى الذين كانوا من أحلافه .

                            أما خالد فإنه قد تبعهم إلى الحيرة ، فلما جاءهم ووجدهم قد تحصنوا منه لم يبال بتحصيناتهم ، وإنما شرع في ضرب الحصار عليهم ، وجعل ضرار بن الأزور محاصراً للقصر الذي كان يسمى بالقصر الأبيض ، وفيه من قادة العرب النصارى "إياس بن قبيصة الطائي " الذي كان قد صالح خالدا من قبل ثم نقض عهده ، وتحالف مع الفرس عليه ، وجعل ضرار بن الخطاب محاصراً للقصر المسمى بقصر الغريين ، وفيه من قادة النصارى رجل يسمى "عدي بن عدي " ، وجعل ضرار بن مقرن المزني محاصراً للقصر المسمى بقصر " ابن مازن " وفيه من قادة النصارى رجل يسمى "ابن أكال " ، وجعل المثنى بن حارثة محاصراً للقصر المسمى بقصر ابن بقيلة ، وفيه من قادة النصارى رجل يسمى "عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة " ..

                            وقطع بذلك حبل الاتصال بينهم ، وصيرهم فرقا يستحيل جمعها عليه ، ثم أعاد بعث رسله إليهم لدعوتهم إلى الإسلام أو التصالح معه قبل أن يبدأهم بقتال ، وأجلهم يوماً وليلة ، يختارون فيها ما يشاءون ..
                            [CENTER] [/CENTER]

                            تعليق


                            • #15
                              وقفات مع الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق ( 2)

                              ولم يشأ خالد رضي الله عنه أن يطيل عليهم مهلة الاختيار ؛ حتى لا يعطيهم فرصة طلب المدد من الفرس ، وقد كانت وصيته لقادته : " لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر ، ولكن ناجزوهم ..

                              ولأن المسلمين كان من دأبهم ألا يطيلوا الحصار وقتها ؛ خشية نفاد الزاد لديهم من طعام وشراب ، ودينهم لا يسمح لهم بأخذ زادهم عنوة من سكان البلد المدنيين الذين يحلّون عليهم ، ولم يكونوا يعرفون مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " ..

                              كما أن المسلمين وقتها كان من أساليبهم الحرص على تحقيق النصر السريع الذي لا يكلفهم الكثير ، وفي نفس الوقت لا ينجم عنه أي ضرر بالبلاد التي يفتحونها .

                              لكن أهل الحيرة أبوا الإسلام ، وأبوا المصالحة ، واختاروا القتال ؛ ظنا منهم أن قصورهم التي كان يضرب بها المثل في العظمة ستمنعهم من أيدي المسلمين ؛ وتضطرهم إلى التراجع بعد نفاد زادهم ، ولكن ذلك لم يُجدِ شيئا أمام صبر المسلمين وإصرارهم على فتح تلك الحصون ..

                              ثم تنادوا من داخل حصونهم : عليكم الخزازيف ، فلم يفهم قادة المسلمين ماذا يعنون بذلك ، فقال ضرار لأصحابه : تنحوا لا ينالكم الرمي ؛ حتى ننظر في الذي هتفوا به ، فلم يلبث أن امتلأت رءوس القصور بالرجال ، وصاروا يرمون المسلمين بالخزازيف - وهي المداحي من الخزف - فقال ضرار لمن معه : ارشقوهم ! فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل ، فأعروا رءوس الحيطان ، ثم بث المسلمون غارتهم فيمن يليهم ، وصبّح أمير كل قوم أصحابه بمثل ذلك ، فافتتحوا الدور والديرات عنوة ، وأكثروا القتل فيهم ..

                              فلما رأى القساوسة والرهبان الجد من المسلمين ـ وقد علموا أن دخول المسلمين عليهم لن يضرهم في شيء ، بل سيخلصهم من تبعات أمراء الحيرة السابقين ـ نادوا : يا أهل القصور ( يقصدون المتحصنين بها ) ما يقتلنا غيركم ! أي أنكم ستكونون سببا في هلاكنا بعدم استجابتكم لمسالمة المسلمين وما يدعونكم إليه ..

                              وتحت ضغط القساوسة والرهبان من جانب وهجمات المسلمين من جانب آخر اضطر قادة الجيوش المتحصنة بالداخل إلى الاستسلام ونادوا : يا معشر العرب ( يقصدون المسلمين ) قد قبلنا واحدة من ثلاث ؛ فكفوا عنا حتى تبلغونا خالداً...

                              فكف عنهم المسلمون في الحال ؛ لأن الإسلام يأمرهم بحسن الظن بالناس ، ونزل أمراء القصور من العرب النصارى إلى خالد رضي الله عنه ، فلما جلس إليهم أخذ يعاتبهم على مقاتلة المسلمين الذين تجمعهم بهم العروبة ويقول لهم : ويحكم ! ما أنتم ؟! أعرب فما تنقمون من العرب ؟! أو عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل!..

                              فقال له عدي بن عدي : بل عرب عاربة وأخرى متعربة ، فقال : لو كنتم كما تقول لم تحادونا وتكرهوا أمرنا ، فقال له عدي : ليدلك على ما تقولون أنه ليس لنا لسان إلا العربية.

                              ولما أكثروا معه المجادلة قال لهم : اختاروا واحدة من ثلاث : أن تدخلوا في ديننا ، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، إن نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم ، أو الجزية ، أو المنابذة ؛ فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة.

                              ونلاحظ أن خالدا رضي الله عنه لم يتخل عن واجبه الدعوي معهم ، وفي نفس الوقت جعل آخر الدواء الكي ، بمعنى أنه جعل مقاتلتهم آخر حل يلجأ إليه معهم ، مع تحذيرهم من مغبته وعاقبته السيئة عليهم ؛ لأنه قد جاءهم بـقوم هم على الموت أحرص من عدوهم على الحياة " ..

                              هذا الحرص الذي وهب لهم ولغيرهم الحياة على السواء ، حيث أحجم عدوهم عن الصبر لهم ، ولذلك رأينا أهل الحيرة بعد أن سمعوا منه تلك العبارة أجابوه قائلين : لا حاجة لنا بقتالك ، بل نعطيك الجزية ..

                              فكرر عليهم دعوتهم ونصحه لهم ، فماذا يستفيدون من بقائهم على الكفر ، وما الذي يضطرهم إلى دفع الجزية ، وفي الإسلام العز والحرية والحياة الكريمة ، لذلك قال لهم :" تباً لكم ! ويحكم ! إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان : أحدهما عربي فتركه واستدل العجمي " أي اتخذه دليلا .

                              ولكن لشؤم مطلعهم اختاروا الكفر والجزية والصغار ، والاستدلال والاستقواء بالعجم دون إخوانهم من العرب ، فصالحهم خالد على مائة وتسعين ألفا ؛ وقيل: على مائتين وتسعين ألفاً، وأهدوا له هدايا ..
                              [CENTER] [/CENTER]

                              تعليق

                              يعمل...
                              X