قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الحج) من صحيحه:
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أورده البخاري في ثلاثة مواضع من (كتاب الحج) من صحيحه هذا أولها في (باب ما ذكر في الحجر الأسود)،
والثاني في (باب الرمل في الحج والعمرة)، ولفظه: حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: (أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك) فاستلمه، ثم قال: (ما لنا وللرمل، إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله)، ثم قال: (شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه).
والثالث في (باب تقبيل الحجر الأسود) ولفظه: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ورقاء أخبرنا زيد بن أسلم عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبّل الحجر وقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك).
ورواه مسلم في صحيحه من طرق فقال: وحدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس وعمرو (ح) وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثني ابن وهب أخبرني عمرو عن ابن شهاب عن سالم أن أباه حدثه قال: قبَّل عمر بن الخطاب الحجر، ثم قال: (أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). زاد هارون في روايته، قال عمرو وحدثني بمثلها زيد بن أسلم عن أبيه أسلم وحدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن عمر قبّل الحجر وقال: (إني لأقبلك، وإنّي لأعلم أنك حجر، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك).
حدثنا خلف بن هشام والمقدمي وأبو كامل وقتيبة بن سعيد كلهم عن حماد، قال خلف: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصلع يعني عمر بن الخطاب يقبل الحجر ويقول: (والله إني لأقبلك، وإني أعلم أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك).
وفي رواية المقدمي وأبي كامل: رأيت الأصيلع. وحدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير جميعا عن أبي معاوية قال يحيى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبّل الحجر ويقول: (إني لأقبلك وأعلم أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك)، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعاً عن وكيع قال أبو بكر حدثنا وكيع عن سفيان عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر قبّل الحجر والتزمه وقال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا). وحدثنيه محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن عن سفيان بهذا الإسناد قال: (ولكني رأيت أبا القاسم بك حفيا)، ولم يقل: والتزمه.
ورواه أبو داود في سننه بمثل الإسناد الأول عند البخاري عن عمر: أنه جاء إلى الحجر فقبّله، فقال: (إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك).
وأخرجه النسائي فقال: أخبرنا محمود بن غيلان قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة: أن عمر قبَّل الحجر والتزمه وقال: (رأيت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم بك حفياً)، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا عيسى بن يونس وجرير عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر جاء إلى الحجر فقال: (إني لأعلم أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، ثم دنا منه فقبله. أخبرنا عمرو بن عثمان قال حدثنا الوليد بن حنظلة قال: رأيت طاووساً يمر بالركن فإن وجد عليه زحاماً مرّ ولم يزاحم، وإن رآه خالياً قبّله ثلاثاً، ثم قال: (رأيت ابن عباس فعل مثل ذلك، وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب فعل مثل ذلك، ثم قال: إنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك، ثم قال عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك).
ورواه الترمذي في جامعه فقال: حدثنا هناد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب يقبّل الحجر ويقول: (إني أقبلك، وأعلم أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك)، قال: وفي الباب عن أبي بكر، وابن عمر. قال أبو عيسى: حديث عمر حديث حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه في سننه فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعليّ بن محمد قالا حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصيلع عمر بن الخطاب يقبل الحجر ويقول: (إني لأقبلك، وإني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
وروى مالك في (الموطأ) عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت للركن الأسود: (إنما أنت حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك) ثم قبّله.
وأخرج الحديث الدارمي في سننه عن مسدد وأبي عاصم بإسنادين عن ابن عمر عن عمر وعن ابن عباس رضي الله عنهم. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن ابن عباس عن عمر، وعن سويد بن غفلة عن عمر، وعن عبد الله بن سرجس عن عمر. ورواه الإمام أحمد في المسند من طرق نذكر منها طريقاً واحدة وهي قوله: حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا زهير عن سليمان الأعمش حدثنا إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر نظر إلى الحجر فقال: (أما والله لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) ثم قبله. وقد صرّح الأعمش بالتحديث في هذه الطريق عند الإمام أحمد فانتفى احتمال تدليسه. وأخرج الحديث ابن الجارود في (المنتقى) والحميدي في مسنده.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري محمد بن كثير: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): محمد بن كثير العبدي، البصري، ثقة، لم يصب من ضعّفه، من كبار العاشرة، مات سنة ثلاث وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ وله تسعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): محمد بن كثير أبو عبد الله البصري، أخو سليمان، سمع أخاه سليمان، وشعبة، والثوري عند البخاري. روى عنه البخاري في مواضع، وروى مسلم عن عبد الله الدارمي عنه عن أخيه حديثاً في الرؤيا. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال ابن معين: لم يكن بثقة. وقال أحمد: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في (الثقات).
الثاني: سفيان: وهو الثوري كما قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)، وقد قال فيه في (تقريب التهذيب): سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة، حافظ، فقيه، عابد، إمام، حجة، من رؤوس الطبقة السابعة، وكان ربما دلس، مات سنة إحدى وستين ـ أي بعد المائة ـ وله أربع وستون، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، وأبي إسحاق الشيباني، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن عمير، والأعمش، وأناس آخرين سماهم. ثم قال: وروى عنه خلق لا يحصون، ذكر كثيراً منهم ومن بينهم: الأوزاعي، ومالك، ومسعر من أقرانه، وابن مهدي، وابن المبارك. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قول شعبة وابن عيينة وأبي عاصم وابن معين وغير واحد من العلماء: (سفيان أمير المؤمنين في الحديث). وقول ابن المبارك: (كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان). وقول الخطيب: (كان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، مجمعاً على إمامته، بحيث يستغني عن تزكيته مع الإتقان والحفظ، والمعرفة والضبط، والورع والزهد). وقول النسائي: (هو أجلّ من أن يقال فيه ثقة، وهو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون الله ممن جعله للمتقين إماماً). وقال الذهبي في (الميزان): (سفيان بن سعيد الحجة، الثبت، متفق عليه، مع أنه كان يدلس عن الضعفاء، ولكن له نقد وذوق ولا عبرة لقول من قال: يدلس ويكتب عن الكذابين). انتهى. وهو أحد السفيانين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما في الطبقة روى عنه السفيانان، وفي ترجمة من دونهما روى عن السفيانين، والثاني منهما سفيان بن عيينة.
الثالث: الأعمش: قال الحافظ في (التقريب): سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، أبو محمد الكوفي الأعمش، ثقة حافظ، عارف بالقراءة، ورع لكنه يدلس، من الخامسة، مات سنة سبع وأربعين أو ثمان ـ أي بعد المائة ـ، وكان مولده أوّل إحدى وستين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): الأسدي الكاهلي مولاهم، وذكر كثيراً ممن روى عنهم من بينهم: عامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، ومجاهد بن جبر، وكثيراً ممن رووا عنه ومنهم: شعبة، والسفيانان، وابن المبارك، وهشيم. ونقل كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، والنسائي، والعجلي، وقال: ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال الذهبي في (الميزان): (أحد الأئمة الأثبات، عداده في صغار التابعين، ما نقموا عليه إلاّ التدليس). وقال: قلت: وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف، ولا يدري به، فمتى قال: (حدثنا)، فلا كلام، ومتى قال: (عن) تطرق إليه احتمال التدليس إلاّ في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم، وابن أبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال.
الرابع: إبراهيم: وهو النخعي، كما صرّح به الحافظ في (فتح الباري)، وقال في (تهذيب التهذيب): إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة ابن ذهل النخعي، أبو عمران الكوفي، الفقيه، روى عن خاليه الأسود وعبد الرحمن بنا يزيد، ومسروق، وعلقمة، وابن معمر، وهمام بن الحارث، وشريح القاضي، وسهم بن منجاب، وجماعة، وروى عن عائشة ولم يثبت سماعه منها. روى عنه الأعمش، ومنصور، وابن عون، وزبيد اليامي، وحماد بن أبي سليمان، ومغيرة بن مقسم الضبي، وخلق. وقال: وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: هو مكثر من الإرسال، وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود.
وقال في (التقريب): ثقة إلاّ أنه يرسل كثيراً، وقال: مات سنة ست وتسعين وهو ابن خمسين أو نحوها، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الذهبي في (الميزان): إبراهيم بن يزيد النخعي، أحد الأعلام، يرسل عن جماعة، وقد رأى زيد بن أرقم وغيره، ولم يصح له سماع من صحابي. وقال: قلت: استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود أو غيره فليس ذلك بحجة. انتهى.
الخامس: عابس بن ربيعة: قال في (التقريب): عابس ـ بموحدة مكسورة ثم مهملة ـ بن ربيعة النخعي، الكوفي، ثقة مخضرم، من الثانية، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عمر، وعليّ، وحذيفة، وعائشة. وعنه أولاده عبد الرحمن وإبراهيم وأسماء، وأبو إسحاق السبيعي، وإبراهيم بن يزيد النخعي. وذكر توثيقه عن النسائي، وابن سعد. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال: قلت: قال أبو نعيم: في الصحابة. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
السادس: صحابي الحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): عمر بن الخطاب بن نفيل ـ بنون وفاء مصغراً ـ بن عبد العزى بن رياح ـ بتحتانية ـ بن عبد الله بن قرط ـ بضم القاف ـ بن رزاح ـ براء ثم زاي خفيفة ـ بن عدي بن كعب القرشي العدوي، أمير المؤمنين، مشهور، جم المناقب، استشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وولى الخلافة عشر سنين ونصفاً، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة. وذكر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري ستين حديثاً.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي، أبو حفص المدني، أحد فقهاء الصحابة، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأول من سمي أمير المؤمنين، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثاً، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر. وعنه أبناؤه عبد الله وعاصم وعبيد الله وعلقمة بن وقاص، وغيرهم، شهد بدراً والمشاهد، وولي أمر الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وفتح في أيامه عدة أمصار، أسلم بعد أربعين رجلاً، عن ابن عمر مرفوعاً: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)، ولما دفن، قال ابن مسعود: (ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم)، استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين، ودفن في أول سنة أربع وعشرين وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه صهيب، ودفن في الحجرة النبوية، ومناقبه جمة. انتهى.
وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وأبي بن كعب، روى عنه أولاده عبد الله وعاصم وحفصة وعثمان وعليّ، وأناس آخرون من الصحابة ومن التابعين سماهم، ثم ذكر كثيراً من مناقبه في الجاهلية والإسلام، ثم قال: ومناقبه وفضائله كثيرة جداً. وترجم له الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية)، وذكر الكثير من مناقبه، ثم قال في ختام ترجمته: (وقد ذكر ابن جرير ترجمة طويلة لعمر بن الخطاب، وكذلك أطال ابن الجوزي في سيرته، وشيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تاريخه، وقد جمعنا متفرقات كلام الناس في مجلد مفرد، وأفردنا لما أسنده وروي عنه من الأحكام مجلداً آخر كبيراً مرتباً على أبواب الفقه، ولله الحمد). ثم ذكر بعض حوادث سنة ثلاث وعشرين نقلاً عن تاريخ الذهبي، ثم قال: (ثم ذكر ـ يعني الذهبي ـ ترجمة عمر بن الخطاب، فأطال فيها وأكثر وأطنب، وأتى بمقاصد كثيرة مهمة، وفوائد جمة، وأشياء حسنة، فأثابه الله الجنة). انتهى. وذكر ترجمته المحب الطبري في الرياض النضرة في خمسين ورقة.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الستة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم.
(2) في الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: الأعمش، وإبراهيم النخعي، وعابس بن ربيعة.
(3) في الإسناد أربعة كوفيون على نسق وهم: سفيان الثوري، والأعمش، وإبراهيم النخعي، وعابس بن ربيعة.
(4) في الإسناد نخعيان وهما: إبراهيم وعابس.
(5) في الإسناد اثنان ممن وصفوا بالتدليس وهما: سفيان الثوري والأعمش، وقد صرّح الأعمش بالتحديث كما في مسند الإمام أحمد، وتقدم في التخريج، ولم أقف لسفيان على تصريح بالسماع.
(6) إبراهيم بن يزيد النخعي من أصحاب المراسيل من التابعين، كما تقدم في ترجمته، وهو من فقهاء التابعين ومن أولياته، كما جاء في (زاد المعاد) لابن القيم عند الكلام على حديث غمس الذباب في الطعام إذا وقع فيه: التعبير عن الذباب وما يشبهه بما لا نفس له سائله قال ابن القيم: ((وأوّل من حفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة فقال: ما لا نفس له سائله، إبراهيم النخعي، وعنه تلقاه الفقهاء.
(7) في إسناد الحديث رجل من الذين وصفوا بأنهم أمراء المؤمنين في الحديث وهو: سفيان الثوري، وصفه بذلك شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، وابن معين، وغير واحد من العلماء كما في (تهذيب التهذيب).
(8) في الإسناد رجل من المخضرمين وهو عابس بن ربيعة، والمخضرمون هم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم معدودون في كبار التابعين.
(9) الأعمش لقب لُقِّب به سليمان بن مهران، وقد اشتهر بلقبه كما اشتهر باسمه، ومعرفة مثل ذلك من الأمور المهمة لئلا يظن الواحد اثنين إذا ذكر في موضع بالاسم وفي آخر باللقب.
(10) أول المتن سياقه كلام عابس بن ربيعة الراوي عن عمر رضي الله عنه لا كلام عمر كما قد يتوهم من ذكر (عن عمر) والمعنى: عن عابس أن عمر جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: الخ. ولما ذكر المنذري هذا الحديث في مختصره لسنن أبي داود قال: عن عابس بن ربيعة عن عمر أنه جاء إلى الحجر الخ.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) هذا الحديث أورده البخاري في (باب ما ذكر في الحجر الأسود)، ولم يذكر غيره من الأحاديث في هذا الباب. قال الحافظ ابن حجر في شرحه: وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك، وقد وردت فيه أحاديث فذكر بعضها ومنها: حديث ابن عباس مرفوعاً: (نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم)، أخرجه الترمذي وصححه، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في (صحيح ابن خزيمة) فيقوى بها، وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصراً ولفظه: (الحجر الأسود من الجنة)، وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وفي (صحيح ابن خزيمة) أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً: (إن لهذا الحجر لساناً وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق)، وصححه أيضاً ابن حبان والحاكم، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضاً. انتهى.
(2) قوله (لا تضر ولا تنفع): قال الحافظ ابن حجر: أي إلاّ بإذن الله، وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد أن عمر لما قال هذا، قال له عليّ بن أبي طالب: إنه يضر وينفع. وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق، يشهد لمن استلمه بالتوحيد). وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جداً. انتهى. وقد أشار إلى حديث أبي سعيد هذا الشوكاني في (نيل الأوطار) وقال: ولكنه يشد عضده حديث ابن عباس، يعني الحديث الذي تقدم في حكاية كلام الحافظ ابن حجر.
(3) قوله (إني أعلم أنك حجر...) الخ: خاطب عمر رضي الله عنه الحجر ليسمع الحاضرين، فهو من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة. قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار، كما كانت العرب تفعل بالجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته، كما كانت الجاهلية تعتقده بالأوثان. انتهى.
(4) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
(1) مشروعية تقبيل الحجر الأسود.
(2) المنع من تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله.
(3) بيان السنن بالقول والفعل.
(4) أن الأصل في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم التشريع للأمة ما لم يدل دليل على التخصيص به.
(5) وجوب التسليم للشارع في أمور الدين، والتعويل على ما يثبت عنه في ذلك.
(6) أن التسليم للشارع لا يتوقف على معرفة حكمة الأمر أو النهي.
(7) بيان أن الحجر الأسود ليس مصدراً للنفع أو الضر لذاته.
(8) أن على الإمام أو العالم إذا خشي أن يفهم من فعل الشيء المشروع فهماً خاطئاً أن يبادر إلى بيان الحق وإزالة اللبس.
(9) كمال نصح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه للأمة وشفقته على المسلمين.
(10) تأكيد الكلام إذا اقتضى حال المبين لهم ذلك، فإن عمر رضي الله عنه صدّر كلامه بإن المؤكدة في هذا الحديث، وفي بعض روايات الحديث زيادة التأكيد بالقسم واللام.
(11) العناية في بيان الحق وخاصة ما يتعلق بأمر العقيدة.
(12) مدى حكمة الفاروق رضي الله عنه في بيانه لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتوفيق الله له وتسديده، وهذا مصداق قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: (لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر).
تعليق