الأنباط
حضارة الأنباط
حضارة أمة نحتت الصخر وأبدعت البناء
تعددت جوانب الإثارة في تاريخ الأنباط وحضارتهم مثلما تعددت جوانب الغموض أيضا، وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على اكتشاف هذه الحضارة على يد "بيركهارت" وتوالي البحوث منذ ذلك الوقت، إلا أن صورة الحضارة النبطية لا تزال بحاجة للمزيد من المقاربات التي تجلي الجوانب الغامضة وتستكمل الأجزاء الناقصة لهذه الحضارة الفريدة وسماتها المثيرة.
ويحاول هذا الجهد المتواضع التوجه إلى القارئ المثقف بمستوياته المتعددة، إذ أن جل ما كتب عن حضارة الأنباط (وخصوصا بالعربية) إما أنه جاء جافا قاسيا تحت وطأة "تقاليد التخصص الآثاري" مما سيرهق القارئ العادي ويحرمه تمثل تجربة الأنباط الكلية. أو أنه جاء استعراضيا- مسطحا- تقريريا – مما سيفقد تجربة الأنباط الحضارية من روايتها الإنسانية التي لا غنى عنها لتمثل جوهر تلك الحضارة. أو أنه جاء "جزئيا" لدواعي الأعراف والشروط الأكاديمية. وهذه الملاحظات لا تقلل من شأن تلك الأبحاث العلمية، بل على العكس، فهي التي شكلت قاعدة البيانات الضرورية لهذا الكتاب الذي سعى لتحقيق قدر معقول من التوازن بين دقة المعلومة وبين " ترابط الرواية الحضارية " وكليتها، فلا هو أهمل دقة المعلومة وسبر أغوارها وتقليب معانيها المحتملة، ولا هو ركن إلى التقريرات المتسامحة المختزلة بقصد التسويق السياحي الإعلاني محترما ثقافة القارئ وأحقيته في المعرفة التاريخية التي تمثل حقيقة التجارب الحضارية الإنسانية بكل ما فيها من عبر وحكم ودروس.
في الفصل الأول من الكتاب: حاولنا البحث في الجذور الأولى لهذه الحضارة بأصولها السكانية، وبحثنا في نشأة وتطور نظامها السياسي في خضم الأحوال السياسية السائدة آنذاك. ثم استعرضنا بإسهاب المنطقة الجغرافية التي نشأت فيها وترعرت هذه الحضارة المثيرة لننتهي إلى سلسلة ملوك دولة الأنباط، وذلك كي يتمكن القارئ من التأسيس لمزيد من فهم جوانب هذه الحضارة في الفصول اللاحقة.
وفيما يلي الجزء مستلاً من الفصل الأول من الكتاب، على أمل متابعة الأجزاء الأخرى تباعا في هذا المنبر. أملا كل الأمل أن يحقق الفائدة المرجوة لكل مهتم بهذا الحقل التاريخي/ الثقافي الذي شكل رافدا أساسيا من حضارة المنطقة وثقافتها.
تاريخ الأنباط وتأسيس دولتهم:
1- من هم الأنباط ومن أين جاؤوا..؟ هل هم عرب أم غير ذلك ؟
2- نشوء الدولة وتطورها والنظام السياسي /الاقتصادي.
3- الوضع السياسي الإقليمي في أثناء فترة الأنباط (التأثيرات السياسية الخارجية).
4- حدود الدولة النبطية ومناطق نفوذها وجغرافيتها ومناخها.
5- الملوك الذين حكموا الدولة النبطية.
أولا: من الأنباط ؟ أهم عرب أم غير ذلك ؟
ظل أصل الأنباط موضوعا للنقاشات والاجتهادات بين الباحثين والمختصين الغربيين خصوصا بشكل مبالغ فيه، ظنا منهم أن حضارة الأنباط المتقدمة قد تكون نتاجا لبعض الشعوب القادمة من خارج الجزيرة العربية التي تمتاز بحضارة بدوية – رعوية أو زراعية يستبعد ان تكون حضارة الأنباط نتاجا لها، بعد أن كشفت الآثار المعمارية في المدن النبطية عن حضارة تمتاز بالرقي في العديد من المجالات خاصة العمرانية منها التي تبرز في الأبنية المنحوتة في الصخر والقصور والفلل المبنية من الحجر المشذب وفي أنظمة الري المتقدمة التي تعبر عن عبقرية هندسية بالغة.
الاسم: ويرد حول اسم الأنباط و اشتقاقه أكثر من رأي: فيقول ابن منظور أن "النبط" هو الماء الذي ينبط من البئر. و أيضا النبط هو ما يتجلّب من الجبل كأنه عرق من عروق الصخر. كما جاء في تاج العروس أن "النبط" جيل ينزل بالبطائح في بلاد الرافدين.
والموطن الأصلي للأنباط والزمن الذي هاجروا فيه غير معروفين على وجه الدقةوذهب بعض الباحثين إلى أن أصل الأنباط جاء من "نبايوت" الوارد في التوراة (سفر التكوين – 13:25و 9:28)، ونبايوت هذا هو بكر اسماعيل حسب التوراة، فيما ربط البعض الآخر الأنباط باسم "نبيت" الوارد في سجلات الملك الأشوري تجلات بلاسر (727-745 ق.م) التي تشير إلى الحروب التي كانت تقع بين قبائل متعددة من شمال شرقي الجزيرة العربية والقوات الأشورية. غير أن ثمة مؤشرات لغوية تدحض أي رابطة بين "نبيت " ونبطو، إذ أن الأنباط عرفوا أنفسهم "بنبطو" من خلال نقوشهم، وبذلك فإن الاسم الأشوري لا يمكن مقاربته لاسم الأنباط في ضوء اختلاف حرفين أساسيين بين الاسمين وعلاوة على ذلك، فإن ورود الاسم في سجلات تجلات بلاسر كان أسبق بكثير على ظهور الأنباط المعروف في القرن الرابع قبل الميلاد. أي بفارق أربعة قرون مديدة من السنوات.
وأشارت بعض الاجتهادات إلى أن الأنباط قدموا من الساحل الغربي للخليج العربي، فيما أشارت اجتهادات أخرى لكونهم قدموا من جنوب بلاد الرافدين لورود اسم الأنباط من بين القبائل الرافدية "النبطيين" وخصوصا في كتب الإخباريين المسلمين، وهؤلاء النبط غير أنباط العرب، لأنهم أعاجم مع أنهم تكلموا اللغة الآرامية، واشتبه الاسم على الإخباريين المسلمين لاشتهار هؤلاء بالزراعة واستنباط الماء من الأرض. وبعض النصوص التاريخية مثل (Pliny) أشارت إلى أنهم كانوا قد استوطنوا جزيرة في البحر الأحمر قبل أن يدحرهم أو يطردهم الأسطول المصري، وهذا مدهش ونحن نعرف أن الأنباط إنما هم الأكثر ارتباطا بالصحراء والقوافل التجارية، غير أن آراء جميع الباحثين في تعيين الموطن الأصلي للأنباط متفقة على شيء واحد هو تحديدهم للمنطقة الكبرى التي كانت منبتهم أي الجزيرة العربية، غير أن آراءهم تفترق حول تحديد الناحية المعنية من تلك الجزيرة، هل هي الحجاز، أم جنوبي منطقة الجوف، أم منطقة الخليج أم جنوبي الجزيرة العربية؟ وسنظل نجهل متى احتلوا منطقة الصخرة (أي بتراء) ما دام أقدم أخبارهم لا تتجاوز أواخر القرن الرابع إلى ما قبله. لكن هذا الحدث جرى بالتأكيد عقب أفول دولة الأدوميين سكان البتراء السابقين على الأنباط، وذلك إما عقب حملة نابونئيد الأشوري (552 ق.م) الشهيرة أو عقب ذلك بقليل إثر حملة قمبيز الفارسي (525 ق.م) التي ربما أجهزت على الأدوميين أو ما تبقى لهم من كيان سياسي، لكن دون القضاء على البنى الاجتماعية والعشائرية لهم، حيث سيظهر الأدوميين مرة أخرى بأشكال متنوعة في تاريخ المنطقة، وقد توجوا هذا الظهور السياسي في العهد الروماني ببناء أسرة حاكمة استطاعت نزع الحكم من المكابيين اليهود في فلسطين وتمكنت أيضا من توسيع حدود ولايتهم كما لم تكن من قبل. وسنعود للحديث عن الأدوميين في الصفحات القادمة نظرا لما لذلك من علاقة وثيقة بتاريخ المنطقة، خصوصا ما قبل الأنباط.
"صورة جوية بالأقمار الصناعية لشبه الجزيرة العربية"
ومن المرجح حسب الكثير من الباحثين -خصوصا الجدد- أن يكون الأنباط جزءا من قبائل ثمود الوارد ذكرها في القرآن الكريم (سورة الحجر) التي كانت تنتشر في وسط الجزيرة العربية وشمالها، وقد أثبتت النقوش المكتشفة في مناطق الجزيرة العربية انتشاراً واسعاً لهذه القبائل في تلك المناطق، وعزز ذلك ما وجد للأنباط من تراث ديني فيما يتعلق باسماء الآلهه خصوصا، وثمة وجاهة كبيرة في هذا الرأي من أوجه كثيرة، فالوجود النبطي المتأخر في شمال غرب الجزيرة العربية وحتى جنوبي بلاد الشام وشرقيها يعتبر امتدادا طبيعيا لوجود الثموديين، خصوصا أن معظم هجرات القبائل العربية من الجزيرة كانت تأخذ هذا المنحى في أغلب الوقت إضافة إلى المنحى الآخر المتجه إلى الشمال الشرقي للجزيرة، أي باتجاه بلاد الرافدين، ولكن الاتجاه إلى الشمال الشرقي لم يَكُنْ متاحا باستمرار في ضوء الجهود الحربية الواسعة التي كانت دولة الرافدين تقوم بها مما سيضطرها لأخذ المنحى أو الاتجاه الأخر نحو الشمال الغربي وصولا إلى بلاد الشام، إذ أن "نابونئيد - Nabonidus " (555-539 ق.م) الملك الأشوري كان قد هاجم تيماء عدة مرات إلى ان أحتلها وأقام فيها بنفسه لتنظيم الدفاعات التي كانت ضرورية لصد هجمات القبائل المحاذية لمملكته، وقد أقام نابونئيد خلال الأعوام (552-544 ق.م) في تيماء حيث قام من هناك بعدة حملات بين الواحات العربية ونفى الكثير من السكان، ويشير البعض إلى أن هذه الفترة هي نفس الفترة التي بدأ منها استقرار الأنباط في المناطق الأدومية، ويعزز هذه النظرية الحفريات التي قامت بها كريستال بنت (C.Bennet) في بصيرة عاصمة الأدوميين ، وعلى الأرجح فإن نهاية الأدوميين جاءت على يد نابونئيد في حملته الشهيرة هذه التي كان قد سجلها على حجر "سيلع" عام 553 ق.م بعد أن أخضع بصيرة عاصمة الأدوميين، ومن هذه اللوحة يسـتنتج أنه لم يكن للأنباط وجود سياسي آنذاك، لكن ذلك لا ينفي وجودهم كقبائل بدوية عاشت في ظل الدولة الأدومية، قبل أن يتمكنوا - فيما بعد – من الاستيلاء على المنطقة وتكوين دولتهم، ومن المعروف تاريخيا ان نبوخذ نصر قد سبق هذه الحملة بحملة على مملكة اليهود الجنوبية عام 586 ق.م لتأديبهم جراء مساعدتهم لحكام الفراعنة (الملك نخاو) هم وعدد آخر من ملوك سوريا وفلسطين (ومملكتي عمون ومؤاب خصوصا). ومن ذلك نتنبه إلى أهمية دويلات المنطقة في ذلك العصر- مثل كل العصور اللاحقة- بالنسبة للدول العظمى في كل مرحلة، مما يعني أيضا تأثير سياسات تلك الدول في البناء السكاني لدويلات المنطقة. لكن دولة الأدوميين استطاعت تجنب غضبة نبوخذ نصر من خلال إعلان الولاء للأشوريين ومن خلال الامتثال لرغبتهم بدفع الجزية والامتناع عن تأييد المصريين، ونقرأ من النقش الذي خلفه تجلات بلاسر "استلمت الجزية من سـانيبو من بيت عمون، وسلمانو المؤابي، ومتني من عسقلان ويوحاز من يهودا، وكوشملكو الآدومي، ومازور... وهانو من غزة، وهذه الجزية تتكون من الذهب، والفضة، والتنك والحديد والملح، وملابس الكتان الملونة المزخرفة بالزخارف المحلية والملابس الصوفية ذات اللون القرمزي الداكن، إضافة إلى جميع الأشياء الثمينة" وهذا الرأي لا ينهي النقاش بشأن نهاية الأدوميين إن كانت على يد الأشوريين كما تتوقع أغلب الفرضيات، أو على يد الفرس الذين تبعوا الحملة الأشورية بحملة أخرى بعد حوالي عقدين من الزمن. لكن الملاحظ أن الوجود الأدومي ظل مستمرا في العديد من مناطق جنوب الأردن، حتى "بصيرة" نفسها فقد بينت الحفريات فيها آثار تعمير وبناء في العصر الفارسي القصير الذي دام سبع سنوات.
لقد اتبع الأشوريون سياسة تهجير الجماعات في نطاق الدولة الأشورية، وكانت سياساتهم اتجاه هذه الجماعات ليست بمعاملتها كسبايا أو عبيد، بل هم مثل أفراد الرعية الأشورية، وهذه السياسة خلقت نماذج جديدة من المجتمعات لم تكن معروفة من قبل، والمفهوم الأشوري للتهجير له قداسته واحترامه عندهم نظرا لعلاقته بالمفاهيم الدينية التي يؤمنون بها؛ لأن الآلهة هي التي أعطتهم الحق في أن يكونوا فوق جميع الشعوب.
والبحث في تاريخ الأنباط وأصولهم لا يمكن أن يسـتقيم بدون البحث في تاريخ أسلافهم وربما شركائهم في مجتمع الأدوميين. فمنطقة الأدوميين شكلت النواة الجغرافية لدولة الأنباط. وكانت مملكة الأدوميين قد قامت في جنوب شرقي الأردن بين وادي الحسا وخليج العقبة، في الفترة الممتدة من القرن التاسع الميلادي، حتى الغزو الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد. ومن المرجح أيضا أن الأدوميين كانوا يتمركزون في جنوبي فلسطين، خصوصا منطقة صحراء النقب التي وجدت فيها الكثير من الآثار الأدومية (عراد) وأن جغرافيا الأدوميين كانت تضم منطقة مدين وتيماء ومنطقة الحجر إلى الشرق من سواحل البحر الأحمر. ووجد الأثريون أن النقوش الأدومية بقيت قيد الاستعمال حتى العصر الهلنسـتي، فقد عثر على كسرتين من الفخار تحملان كتابة أدومية، الأولى في تل الخليفة (Gluck 1971) والثانية في موقع قلعة العزى الواقع إلى الجنوب من تل عراد إلى الجنوب الغربي من البحر الميت في فلسطين، وكتب على الكسرة الاولى اسماء، مثل قوس بنا، وقوس نداب، وبي قاقس، بينما يتحدث النص المكتوب على الكسرة الثانية عن إعطاء أوامر لإحضار طعام إلى أحد المذابح، وأظهرت الحفريات الأثرية في أم البيارة وفي طويلان بالقرب من البتراء وجود استيطان أدومي منذ القرن السابع قبل الميلاد، وقد لوحظ تجاور الاستيطان النبطي والأدومي، مما يشير إلى أن الأنباط حلوا تدريجيا بين الأدوميين الذين لم يرفضوهم، حيث اختلطوا بهم وذابت العناصر المتبقية منهم، ويقترح جلوك أنه عن طريق علاقات الدم السابقة إضافة إلى علاقات التزاوج، فقد قام الأنباط بتنبيط الأقوام الأخرى كالمؤابيين والأدوميين"، أي أنهم لم يحاربوهم أو لم يحتلوهم أو لم يطردوهم، بل قاموا بامتصاصهم في الجسم الأوسـع، المجتمع النبطي الأوسـع، وكان الأنباط قد قاموا بتبني الأساليب الدفاعية والتنظيمات التي كان المؤابيون والأدوميون قد أوجدوها في مناطقهم وعملوا على تطويرها لمئات السنين، وورث الأنباط أيضا الأبنية قبل أن يقوموا بتحسينها أو بترميمها وفق مخططاتهم، وفي بعض الحالات أبقوا عليها كما وجدوها، لكنهم أيضا بنوا الكثير من المصاطب الزراعية والسدود أو البرك المائية ومئات المستوطنات الزراعية جنبا إلى جنب مع المستوطنات الزراعية القائمة أصلا. وبالطبع فإن مملكة الأنباط الجديدة راحت ترث الكثير من الدويلات أو المشيخات السابقة لها مما سيفسح لها امتداداً جغرافيا وديمغرافيا واسعا ضم حدود مدين القديمة وتيماء والحجر في الجزيرة العربية، ولهذه المناطق حضارات مثبتة قبل أن نعرفها ايضا من خلال الأنباط الذين بنوا فوق ما وجدوه من إنجازات سابقة لهذه الحضارات، وامتد التمازج الديموغرافي أيضا إلى حدود سيناء عبر النقب الفلسطيني الذي حفظ لنا آثارا مهمة عن الفترة النبطية.
وثمة من يشير إلى أن الأنباط أصلا لم يكونوا قبيلة واحدة مثلما قد يعتقد البعض، بل إنهم تجمع واسع من القبائل الجًزرية (نسبة إلى الجزيرة العربية) إضافة إلى بعض العناصر البشرية من مجموعات أخرى من الشمال ومن بلاد الشام. ويعتقد فريدمان (Freedman,1992) أن اسم الأنباط يجب أن يفهم كمدلول واسـع لجماعات من أصول مختلفة، حيث أن الأنباط حفظوا لهجات السكان وخطوطهم أو أن هذه الجماعات من شمال نهر الأردن وجنوبه سواء الأدوميين أو المؤابيين أو السوريين، ودل على ذلك النقوش الثنائية مثل الصفوية والثمودية إلى جانب النبطية. ومن المحتمل أيضا أن تكون بعض العناصر السكانية تمازجت مع الأنباط قبل ظهور دولتهم ونظامهم السياسي خصوصا الأدوميين والمؤابيين وفروع متعددة من الثموديين، ومثل هذا التخمين يحمل قدرا من الوجاهة في ضوء ما نعرف عن الحركات السكانية الواسعة في المنطقة إن كان بسبب التقلبات السياسية والحملات العسكرية في المنطقة أو بسبب الظروف الاقتصادية للمنطقة من ظروف الجفاف والخصب ومتغيرات العلاقات التجارية خصوصا ما اتصل منها بطرق التجارة. وبما أن الأنباط كانوا يستخدمون الخط الآرامي، وهم في كل المراحل كانوا جيرانا للآراميين في الشمال والشرق، فليس بمستبعد أن الحلف النبطي ضم أعدادا أو قبائل من هؤلاء، ويعزز هذه الفرضية ما عرف عن الأشوريين من سياسات النقل الجماعي للسكان في أوقات الاضطرابات، ليس عقابا لهم في كل الحالات، بل من أجل تغيير البنية الديموغرافية لهذه المنطقة أو تلك.
وثمة صيغة أخرى منطقية للتركيبة الديمغرافية للأنباط يوردها الكثير من الباحثين، وهي أن الأنباط شاركوا قبائل أخرى عديدة للمناطق التي تواجدوا فيها إبان قيام المملكة النبطية، وحسب هاموند أيضا فمن المحتمل أن تكون "نبطو" عبارة عن اتحاد بين عدد من القبائل الحليفة التي انضوت تحت مظلة أكبر أو أقوى قبائل الاتحاد. بل إن الاتحاد النبطي كان يجمع أيضا وحدات إقليمية صغيرة أدركت أهمية هذا الاتحاد لبقائها وازدهارها، ويجب أن لا ننسى الامتداد الجغرافي – الديمغرافي الكبير الذي ضمته دولة الأنباط مما يؤكد التنوع الكبير في الأصول السكانية لمجتمعات هذه الدولة، ومما سيظهر لاحقا أيضا في سياسات التسامح والانفتاح التي اعتمدها الأنباط اتجاه الأجانب الذين عايشوهم في البتراء وغيرها من المناطق، ولا بد من أن قسـما من التجار أقام في المناطق النبطية وتزاوج وتصاهر مع الأنباط، وثمة دلائل كثيرة أيضا على هذا الانفتاح والتنوع منها التأثيرات المعمارية الواضحة لكل الحضارات الرئيسية المحيطة كالمصرية والهلينستية والفرثية (الفارسية) والأشورية، ويتجلى ذلك أيضا في استخدام الأنباط للغات الأخرى إلى جانب لغتهم، خصوصا اللغة الآرامية واليونانية، كانت الآرامية في الحقيقة لغة التعاملات التجارية والرسمية والدينية، ومع بداية التأثيرات الهلينستية بدأت اللغة اليونانية تأخذ هذا الدور وتزاحم الآرامية إلى أن أزاحتها تماما لصالحها ثم لصالح الرومانية فيما بعد.
ومن كل ذلك يستنتج أن الأنباط كانوا نواة التحالف أو التجمع أو المجتمع الأحدث الذي صار يعرف فيما بعد بالأنباط، ويستنتج أيضا أن هؤلاء الأنباط بكل مكوناتهم البشرية والثقافية ما هم إلا قبائل عربية تشاركت في الأصول والقيم والتقاليد مما سهل تمازجها لتشكل دولة مركزية في المنطقة. والدلائل الواضحة على عروبتهم، هي:
1- أن الذين عاصروهم من الأجانب كالمؤرخ ديودورس والجغرافي سترابو والتوراة وصفوهم بأنهم عرب.
2- أن موطنهم الأصلي هو الجزيرة العربية وبالذات أراضي المملكة العربية السعودية.
3- أن اسماء ملوكهم ومعظم أعلامهم عربية كالحارث ومالك وعبادة وجميلة وشقيلة وخلدو (خلود أو خالدة) وصالح وسلمو...إلخ.
4- أن اسماء آلهتهم وأصنامهم كانت معروفة وشائعة في أرجاء الجزيرة العربية وحضاراتها الشمالية والجنوبية.
5- ثبت أن أصول الكتابة العربية الحالية والحروف خصوصا يستندان إلى ما وصلت إليه الكتابة النبطية في هذا المجال.
ثانيا- نشوء نظام الحكم والدولة: نشوء وتطور الدولة والنظام السياسي /الاقتصادي:
لم تكن الدول وأنظمة الحكم لتوجد فجأة بدون مقدمات ومرتكزات تستند إليها، فلا بد أن يسبق ذلك تطور الكثير من البني السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن العدل الافتراض أن دولة الأنباط لا تشذ عن هذه القاعدة، أي أن حضارة الأنباط كانت امتدادا طبيعيا لمجموعة من التطورات التي حصلت في المنطقة مثلما أوردنا لبعض المؤشرات، فحضارة الأنباط هضمت ما سبقها من حضارات خصوصا حضارات الأدوميين والمؤابيين والمدينيين مثلما أشرنا، لكن العوامل الأساسية في نشوء الدولة ونظام الحكم تمثلت في الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمنطقة آنذاك مثلما في أغلب العصور، نتيجة وقوعها على خطوط التجارة والاتصال البري والبحري مثلما كان ذلك سيتضح لنا لاحقا، فإذا ما قيض للمجتمع الجديد العناصر الأساسية للدولة من إقليم شاسع مترامي الأطراف يتحكم بطرق أهم التجارات لذلك العصر، ومن عناصر سكانية متقاربة أو متشاركة في الأصول والثقافات، ومن نظام سياسي مستقر ورشيد، فإن ذلك لا بد من أن ينتج دولة قوية مثلما هي دولة الأنباط.
إن أول مرجع معروف - بخلاف الآثار- يذكر الأنباط يعود للقرن الأول قبل الميلاد، لمؤرخ يوناني، ديودورس السقلي (المتوفي سنة 57 ق.م، وكان عمله مستندا إلى شاهد عيان كان قد كتب في القرن الرابع قبل الميلاد في الفترة التي انتشر فيها نفوذ الاسكندر المقدوني) وقد وصف ديودورس حياة الأنباط في ذلك التاريخ (أي القرن الرابع قبل الميلاد) واصفا إياهم بأنهم يعيشون حياة البداوة في أراض صحراوية قاحلة " لقد آلوا على أنفسهم ألا يبذروا حبا، ولا يغرسوا شجرا يؤتي ثمرا، ولا يعاقروا خمرا، ولا يشيدوا بيتا، ومن فعل ذلك كان عقابه الموت، وهم ملتزمون بهذه المبادئ لأنهم يعتقدون أن من تملك شيئا استمرأ ما ملك، واضطر من ذلك إلى أن ينصاع لما يفرضه عليه ذوو القوة والسطوة"، وهكذا فإن الصورة التي ينقلها صديق ديودورس عن أحوال الأنباط في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وهي الفترة نفسها التي بدأ فيها الأنباط بالظهور على المسرح السياسي، هذه الصورة التي ترسم مجتمعا بدويا من الطراز الأول، لكن هذا المجتمع - كما سيشير ديودورس لا حقا- كان شديد الاهتمام بالتجارة إلى جانب تربية قطعان الماشية، وهذه التجارة ستوفر له ثراء كبيرا سيدفع به إلى الاستقرار للتمتع بهذا الثراء الذي زودته به التجارة، ومن الطبيعي أن يمارس الأنباط التجارة منذ هذه الفترة وربما قبل ذلك بكثير من السنوات، فهم إنما ورثوا ما وجدوه عند أسلافهم الثموديين والأدوميين والقيداريين الذين أملى عليهم موقعهم الجغرافي مثل هذا النشاط.
ويصلنا خبر أيضا عن مقاومة الأنباط لأحد الجيوش المقدونية التي كانت في سوريا حين بدأ الصراع بين القواد من خلفاء الاسكندر، وكانت آنذاك لا تزال بيد أنتيجونوس الذي أرسل إليهم حملتين في عام 312 ق.م، الأولى بقيادة أثنايوس، ونتج عنها فشل ذريع، وسنعود لتفصيلها، والثانية بقيادة ابنه (ديمتريوس) التي لم يكن نصيبها بأفضل من الأولى، إذ قنع بأن ينسحب مقابل بعض الهدايا القيمة والإبقاء على علاقات طيبة بالأنباط.
ويصبح من شبه المؤكد أن يكون الوجود السياسي للأنباط قد بدأ في التبلور مع بداية القرن الرابع قبل الميلاد، وإن اصطدام القوة السلوقية بقيادة إنتيجونوس لدليل على وجود قوة نبطية منظمة، لكن ذلك لا يحسم بوجود دولة ونظام حكم واضح المعالم مثلما بدأنا نعرفه في بداية القرن الثاني قبل الميلاد، إذ تشير المكتشفات الأثرية، خصوصا المسكوكات النقدية إلى أن أول ملك نبطي على الأرجح كان الملك الحارث الأول (169- 168 ق.م)، ومن المحتمل أن يكون قد سبق هذا الملك ملك أو أكثر.
وعلى الرغم من الذكر التاريخي الشهير لوجود الأنباط في جنوب الأردن منذ عام 312 ق.م، إلا أننا لم نستطع حتى الآن تمييز مظاهر حضارتهم المادية السابقة لبداية القرن الأول قبل الميلاد . ومع ذلك يجوز افتراض أن المجتمع السياسي النبطي كان قد تبلور إلى مسـتوى جيد قبل تاريخ الحارث الأول بكثير، إذ أن كل الدويلات التي كانت تقوم في بلاد الشام وفي أطراف الجزيرة العربية كانت غالبا ما تسـتند إلى نظام الدويلة – المشيخة- ومثل هذه الدويلات كانت تعتمد على بنية سياسية عشائرية اتحادية إلى حد بعيد قبل أن يجري الارتقاء إلى المرحلة اللاحقة، أي الدولة المركزية أو الوطنية، فالتجمعات والأحلاف العشائرية هي الوحدات الأساسية المكونة للمجتمع وللدولة، وهذه الوحدات الكبيرة هي التي تشكل آليات العمل والفعل في المجتمع والدولة من حيث إيجاد القوة- السلطة وتوجيهها، وهي كذلك تقوم بوظائف إدارية وعسكرية واقتصادية معينة كحماية الحدود والطرق التجارية والآبار وعقد الصفقات التجارية الكبيرة وإمداد الحملات العسكرية بالمقاتلين. .إلخ. والمشايخ أو القضاة (كما يسميهم العهد القديم) هم عماد النظام السياسي وهم حلقات الاتصال مع رأس النظام السياسي، وكل شيخ أو قاض يتولى إدارة منطقة معينة عادة ما يكون لها مدينة مركزية، أي عاصمة أو حاضرة، والشيخ الذي أحيانا ما يلقب بشيخ المشايخ أو بالملك يشرف على إدارة المنطقة بنفسه في كل المجالات، وهو غالبا ما يتلقى المساعدة في الإدارة من مشايخ محليين أو قضاة أو قادة يمثلون التجمعات السكانية القائمة وتأمين الطرق التجارية التي تمثل مصلحة مشتركة لأكبر القبائل، ونادرا ما يوجد تنسيق مع الدويلات المجاورة باستثناء ما يختص بالمراعي ومصادر المياه لمنع التعديات وفض الخلافات عند وقوعها، لكن تنسيقا أخر لا بد من أن يجري في حالات الحروب وصد الهجمات من الأعداء والخصوم، وفي هذه الحالة يجب على كل منطقة المساهمة بالجهد الحربي أو الدفاعي بقدر استطاعتها، ولا نعرف الكثير عن قوانين وآليات هذه المشاركات باستثناء الاعتماد على العدد، إذ تتقدم هذه التجمعات بأعداد من المقاتلين أو من الضرائب أو الماشية والإبل والخيول تبعا لأعداد رجالها أو أعداد بيوتها، لكننا نعرف عن المجتمعات العربية اللاحقة حتى صدر الإسلام مرورا بالجاهلية بعضا من المعلومات المهمة في هذا الشأن. فإن على القبيلة أو العشيرة أو الحلف العشائري القيام بما يوكل إليه من القائد الأعلى أو الملك أو الشيخ وفق الاتفاقيات أو المعاهدات التي كانت عادة ما يتم إبرامها بين القبائل، وهذا النوع من المعاهدات التي غالبا ما تكون شفوية لها من القوة والثبات ما يصل حد التقديس، والوفاء بالعهود والمواثيق المقطوعة جزء جوهري من ثقافة القبائل العربية منذ قديم الزمان، ولدينا نص صريح من هيرودوت في هذا الشأن بخصوص معاهدة القبائل العربية في الشمال الغربي للجزيرة لقمبيز الملك الفارسي الذي قاد الغزو الفارسي لمصر 525 ق.م مرورا بمناطق القبائل العربية حيث تعهدت تلك القبائل أو ملكها بتقديم المياه اللازمة للجيش الفارسي في أثناء عبوره عبر جنوب الأردن فالنقب فسيناء: "وما من أمة تحترم العهود وتقدسها مثل العرب، فإذا أراد رجلان أن يوثقا العهود بينهما فإنهما يقفان على جانبي رجل ثالث يحمل حجرا حادا يسـتخدمه لجرح راحتي يديهما بالقرب من أسفل الإبهام، ثم يأخذ بعض خيوط الصوف من ثيابهما ويغمسها بدمهما ويلطخ بها سبعة أحجار تقع بينهما، وهو يردد اسم كل من ديونيسيوس وأورانيا، ثم يقوم الشخص الذي أخذ العهد على نفسه بتوصية أصدقائه بمن عاهده سواء كان غريبا أم قريبا، وبذلك يعتبر أصدقاؤه أنفسهم ملتزمين بهذا..، ومن حيث المبدأ فإن على كل قبيلة حماية حدودها ومنطقتها مثلما أن لها حق طلب العون من القبائل الأخرى في بعض الحالات التي تكون فيها قوة هذه القبيلة لا تكفي لصد الهجمات على المنطقة، ونحن نستذكر أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) كان قد أناط ببني قريظة وبني النضير حماية جزء من المدينة أمام هجمات القبائل التي حاصرت المدينة (الأحزاب)، فيما كانت الأحزاب عبارة عن تحالف آني مؤقت للقيام بمهمة محددة ألا وهي القضاء على بؤرة الدعوة الإسلامية التي انتقلت إلى يثرب، ولدينا من التراث الجاهلي أخبار غزيرة عن الصراعات والتحالفات القبلية، وثمة قوانين وأعراف ثابتة لهذه المواثيق والتحالفات لا مجال هنا لتفصيلها. ولا بأس بالإشارة إلى بعضها: قاعدة "التآخي" أو "البنعمة"، حيث تتحالف قبيلتان فيصبح جميع أبنائها بمثابة أبناء العم الحقيقيين، "وهي نوع من الحلف الهجومي والدفاعي"، وقاعدة الجيرة أو الاستجارة، وهي مناشدة شخص قوي أو قبيلة قوية لتحصيل حق ضائع أو للحماية من خطر داهم، ومن تلك القواعد أيضا الدخالة والقصرى والموالاة...
ومع أن ديودورس كان قد وصفهم "بأنهم بدو رحل، يقتنون الإبل ولا يعرفون الخيل، لا يزرعون الحبوب،..إلخ، وكذلك كان أمرههم حينما جرى حصارهم للمرة الثانية من قبل ديمتريوس في الصخرة (البتراء أو السلع) خاطبوا اليونانيين قائلين" ليس من الحكمة في شئ أن يعلن اليونان حربا على شعب لا يملك ماء أو خمرا أو حبا، نحن لا نعيش كما يعيش أبناء اليونان، ولا نرغب في أن نصبح عبيدا لهم "، مما يعني أنهم كانوا لا زالوا في طور البداوة، إلا أنه من المحتمل أن يكون الأنباط أكثر تقدما في نظامهم السياسي مما نعتقد قبل ظهورهم السياسي في المنطقة، وإن وصف ديودورس هذا ربما كان جزئيا وانتقائيا إلى حد كبير، فإن ما عاينه ديودورس أو شاهد العيان الذي اعتمد عليه لم يكن ليعلم بالجانب الآخر من الصورة، ففي المركز من هذه القبائل ثمة حواضر أو مدن تتمركز فيها الأنظمة السياسية/الإدارية، وفيها قدر من التمدن، وهذا النمط من التمدن لا بد أنه ظل متجاور ومتسق مع الأنماط الأخرى البدوية والزراعية التي لا تزال تعيش حتى أوقاتنا هذه، وستظل كذلك إلى أمد بعيد لا يمكن التكهن به، ما دام أن طبوغرافيا المنطقة لا تزال تحتفظ بخصائصها هذه التي يغلب عليها السمات الصحراوية وشبه الصحراوية، والتي لا تزال تشكل الجزء الأكبر من تضاريس المنطقة.
من ناحية أخرى، فإن للأنباط تجارب غنية في الحروب على ما يبدو قبل قيام دولتهم، وهذه ميزة كان لا بد منها في عصر كثرت فيه القلاقل والهجمات من جهات عديدة، فحملات الغزو والسلب كانت لا تزال شائعة في المنطقة منذ أمد بعيد، وما الحملات التي كانت تقوم بها الجيوش الأشورية والفارسية من الشرق والمصرية من الغرب إلا صدى لهذه الهجمات أو تأديبا للقائمين عليها لحماية مصالح الدول الكبرى في ذلك الحين، ثم إن القبائل العربية نفسها كانت تتبادل الأدوار في هذه اللعبة الحربية الواسعة التي كانت ضرورية على ما يبدو لاستمرار العيش أو حماية النفوذ والمصالح، والوثائق التاريخية والأثرية حافلة بأنباء الكثير من الغزوات والحروب والمعارك منذ نهاية عصر البرونز وبداية العصر الحديدي، ولم يكن قيام الممالك والدويلات في المنطقة (آرام – ماري – إسرائيل – أدوميا – عمون – مؤاب - قيدار. .إلخ) ليحد من الصراعات والمعارك والغزوات، بل إن حروبا أوسع صارت تنشب بين هذه الكيانات الصغيرة بين الحين والآخر، وكانت بين كل ذلك مجموعات من القبائل البدوية الكبيرة التي لا ترتبط بأي من تلك الكيانات (مثل قبائل الشاسو والعبيرو) مما سيكون سلاحا لها وعليها في الوقت نفسه، فهي مرة في حل من الالتزامات الدفاعية المترتبة على الدولة أو الدويلة، وهي مرة أخرى هدفا لغزوة هذه الدولة أو تلك خصوصا من الدول الكبيرة كدولتي المصريين والأشوريين.
وفوق كل ذلك، كانت القبائل العربية، تواصل الصراع على العيش والنفوذ، فإلى جانب قساوة الصحراء ومتطلبات العيش فيها، فإن الزحف السكاني الذي ظل يدفع سكان الجنوب نحو الشمال ربما خلق ازدحاما في ظل ضآلة الموارد المائية والغذائية، وإذا ما أضفنا إلى ذلك هجمات الجيوش الكبيرة المنظمة على المناطق القبلية أمكننا تخيل الفوضى الإضافية التي ستدفع بمجموعات واسعة إلى الغرب، المنفذ الأقل قوة لصد هذا التدفق،وهو أيضا الأكثر إغراء من ناحية الموارد، خصوصا المائية والمناخ مقارنة بالمناطق الداخلية والشرقية لشمال الجزيرة العربية. ويبدو أن المناطق الغربية الشمالية المحاذية لبلاد الشام إضافة إلى بلاد الشام نفسها ظلت نسبيا أكثر أمنا واستقرارا من المناطق الشرقية والداخلية لشمال الجزيرة العربية، وهذا ما سمح ببناء حضارات في أطراف الجزيرة عاشت فترات طويلة مثل حضارة القيداريين (المديانيين) واللحيانيين والصفويين، وهكذا ظلت هذه المناطق المحاذية لمنطقة بلاد الشام خصوصا والهلال الخصيب عموما تكتنز إرثا حضاريا غنيا بعناصر بناء الدول والأنظمة السياسية والإدارية، وظل هذا الإرث هاديا للمجموعات العشائرية الكبيرة المندحرة والفائضة من هذه المناطق لمعاودة استرجاع أمجادها وبناء أنظمتها السياسية الخاصة بها، القادرة على حماية مصالحها، مستفيدة مما وجدته أيضا من أساسات وقواعد في هذا المجال، ويشهد على ذلك تبنيها لمختلف النظم الزراعية والصناعية (كصناعة الفخار) والعمرانية والإدارية (كتعيين حكام ولايات أو نواحٍ أو قضاة ومشايخ)، ثم اتخاذهم المدن السابقة مقرا لهم (كالبتراء والسلع وبصيرة) التي كانت للأدوميين، و(الحجر، والعلا وتيماء) التي كانت للقيداريين الثموديين، (وصلخد، السويداء) التي كانت للآراميين السوريين (آرام دمشق)...إلخ.
ويجب التذكير أيضا في سياق الإرث الحضاري لبناء الدول بأن بلاد الشام ومنطقة الأردن تحديدا كانت قد خبرت بناء الدول – الدويلات منذ عصر مبكر، وتحديدا منذ المرحلة الثانية من العصر الحديدي (1000-586 ق.م )، وهذه المرحلة من أهم المراحل السياسية في منطقة جنوبي بلاد الشام، خصوصا الأردن، إذ ظهرت مجموعة من الدول في بلاد الشام ومنها شرقي الأردن، وتمتعت هذه الدول بمركزية في الحكم وبعلاقات خارجية مع الدول المجاورة.
ومنذ نهايات القرن الرابع قبل الميلاد، حتى بدايات القرن الثاني قبل الميلاد، أي ما يزيد على قرنين من الزمن، لا نملك صورة تامة عن مجريات التطور في هذه الحقبة الطويلة باستثناء القليل الذي تجود به قطع الآثار الصماء التي يعثر عليها بين الحين والآخر في الحفريات التي يقوم بها مختصون معظمهم من الأجانب، إلى أن تصلنا لمحات سريعة من الجغرافي الروماني سترابو Strabo الذي هو الآخر ينقل عن صديقين له عاش أحدهما في البتراء في القرن الأول قبل الميلاد، ينقل لنا سترابو صورة مجتمع جديد مناقض لما وصفه ديودورس قبل أكثر من قرنين من الزمان، هنا تختفي البداوة وتصبح الغلبة للتمدن والكسب والثراء والاستقرار في بيوت الحجر، وهنا يظهر الملك ونظام الإدارة، وهنا تتعمق القيم المادية على الزهد البدوي في الملكية، فيعاقب الخامل الفقير ويكافأ الغني المجد، وفوق كل ذلك، يصبح شرب الخمر طقسا من طقوس الضيافة والكرم والعبادة... إلخ.
وحسب سترابو فقد حدثت معجزة الانتقال إلى عصر التمدن من عصر البداوة، فوجدنا مجتمعا متمدنا ومدينة مأهولة ومصقولة في الصخر، ومنازل مبنية محاطة بالحدائق، والمدينة تعج بالأجانب، وهي تعج بالثراء وبالتجارة القادمة من جنوب الجزيرة العربية ومن آسيا حتى الهند إلى الشرق، هذه هي عاصمة مملكة الأنباط المستقلة.
يتحدث سترابو عن البتراء في أوج ازدهارها العمراني والتجاري، بعد أن قطعت المدينة شوطا كبيرا في التمدن والتحضر من خلال الاتجار والاستقرار اللذين كانا مرتبطين إلى حد كبير، لكننا مع ذلك لا نستطيع تحديد بداية الازدهار على وجه التعيين، لكننا سنتقلى المزيد من الإشارات المفيدة من سترابو نفسـه ومن مصادر أخرى كالمؤرخ اليهودي يوسيفيوس الذي كتب كثيرا عن دولة المكابيين خصوصا حروبهم مع دول الجوار مضطرا الإشارة إلى الأنباط من منظاره اليهودي المتعصب لليهود - للمكابيين ثم للرومان الذين منحوه الجنسية الرومانية.
من الناحية الاقتصادية، أقصد مسيرة التطور الاقتصادي للأنباط، فإن خط سير هذا التطور يمكن أن يكون أكثر وضوحا من غيره، وبالإمكان إعادة تصور المحطات الرئيسية لمسيرة التطور هذه لكن دون الكثير من التفصيلات، ومصادرنا الأساسية في هذا التطور هي ذاتها المصادر الأساسية الكلاسيكية: ديودورس اليوناني، وسترابو الروماني ويوسيفيوس بدرجة أقل، وأفضل تلك المصادر الفخار النبطي ومختلف اللقى الآثارية المادية المتنوعة.
من المؤكد أن الأنباط قبل ظهورهم السياسي في القرن الرابع قبل الميلاد كانوا قبائل وجماعات يغلب عليها الطابع البدوي في نمط العيش والاقتصاد، جماعات عماد اقتصادها قطعان الإبل بالدرجة الأولى ثم الأنواع الأخرى من الماشية خصوصا الضأن كما شهد سترابو، ولو افترضا أيضا أن قسماً منهم كان قد اعتاد حياة التمدن في الحجر أو في تيماء أو العلا قبل هجرتهم إلى الغرب نحو جبال الشراة "سعير"، فإن هذه الفئة لا بد من أنها أعادت بناء نفسها والمعطيات الجديدة، أي الاستعداد للارتحال الدائم، ثم الاهتمام أكثر باقتناء الإبل، مع الاحتفاظ بالتطلع إلى الفرص التجارية أو فرص الاستقرار كلما أمكن ذلك، دون أن ننسى أن شرائح متزايدة من الأنباط كانت على صلة بالزراعة قبل نزوحها الجبري والاختياري نحو الشمال الغربي، أي نحو بلاد الأدوميين، ولا شك أيضا في أن امتهان الزراعة كان ذا صلة وثيقة بالعمل التجاري للأنباط، فهو ضروري لتموين القوافل بالحبوب خصوصا وبالمنتجات الأخرى التي توفر سلعا لهذه القوافل يمكن المتاجرة بها والحصول من خلالها على بعض المال أو بعض السلع التي تحملها القوافل عندما كانت تتوقف في المحطات التي يقطنها الأنباط. وهكذا يمكن الافتراض أن الأنباط قدروا قيمة الأعمال الزراعية في وقت مبكر وعلى الأرجح بعد استقرارهم في بلاد الأدوميين، وقد جذبت بلاد الأدوميين خصوصا جبال الشراة – سعير ما يمكن تسميته بطلائع المزارعين الأنباط ليشاركوا الأدوميين خبراتهم في هذا المجال ثم ليبدؤوا مزاحمتهم فيه في وقت لاحق ليرثوا هذا القطاع أيضا من قطاعات العمل الاقتصادي بعد أن كانوا قد احتكروا قيادة القوافل التجارية وتهيئتها بكل مستلزماتها ذهابا وإيابا عبر شرايين الطرق المتفرعة شمالا وجنوبا، شرقا وغربا.
وبالنسبة لهؤلاء ثم لكل الأنباط القادمين من الشرق والجنوب، فإن بلاد الأدوميين أصبحت أكثر المناطق استقبالا للجماعات الجديدة، ويجب الاستذكار دائما أن الأنباط ليسوا بغرباء عن المنطقة، وليسوا بغرباء عن الأدوميين، فلا بد من أنهم تعارفوا قبل ذلك من خلال عمليات النقل التجاري والتبادل التجاري، ولربما تعاون الطرفان في توفير خدمات القوافل التجارية في أرجاء المنطقة، وكان للأدوميين تجارة واسعة أيضا، وربما كانوا وسطاء أكثر منهم أصحاب تجارة بسبب موقع بلادهم المتوسط بين الأسواق الكبرى، وبالحد الأدنى فقد شكلت بلادهم ملتقى الطرق التجارية المتجهه نحو الشمال والغرب أو العكس نحو الشرق والجنوب مرورا بتيماء ومكة نحو جنوب الجزيرة ونحو شرقيها إلى الهجرة (الجرعاء) على الخليج العربي، ثم على ميناء البحر الأحمر الأكثر قريب لهم (لوكي كومي) و (إيلة). هذه الطرق التجارية كانت قد وفرت للطرفين حدا معينا من التعارف وربما التزاوج في مرحلة أبكر مما يعتقد بعض الدارسين الذين جعلوا الاختلاط والتمازج النبطي الادومي لاحقا لانهيار دولة الأدوميين مع أواسط القرن السادس الميلادي على يد الملك الأشوري نابونئيد
(552 ق.م) أو الملك الفارسي قمبيز، إن افتراض هذا التمازج سيظل مدعوما بالكثير من الدلائل ومنها الدلائل اللغوية حيث تتشابه اسماء الأشخاص وكذلك الدلائل الدينية حيث المشاركة في الآلهة، ومن ذلك مثلا أهم الآلهة الأدومية التي تبناها الأنباط أو كانوا يشاركونهم فيها: ذو الشرى الذي خلف " قوس" إله الأدوميين. إذ أن المكتشفات الأثرية كشفت النقاب عن عدد كبير من المستوطنات الأدومية المتأخرة في المناطق التي آلت أخيرا للأنباط. ويرى الأثريون أن النقوش الأدومية بقيت قيد الاستعمال حتى العصر الهلنستي، فقد عثر (Gluck 1971) على كسرتين من الفخار عليهما كتابة أدومية الأولى في تل الخليفة، والثانية في موقع العزى الواقع إلى الجنوب من تل عراد إلى الجنوب الغربي من البحر الميت في فلسطين، وكتب على الكسرة الأولى اسماء مثل قوس بنا، وقوس نداب، وبي قاقس، بينما يتحدث النص المكتوب على الكسرة الثانية عن إعطاء أوامر لإحضار طعام إلى أحد المذابح والحقيقة أن الزراعة في جنوبي بلاد الشام كانت قد راكمت تراثا عريقا منذ العصر الحجري النحاسي، وظل هذا التراث يتراكم ويتطور فجمع بين الزراعة وتربية الماشية، وبمرور الأيام اتجه مزارعو العصر البرونزي القديم (3500-3100 ق.م) إلى الزراعات الشاملة، ثم اهتموا بزيادة الإنتاج لأغراض التصدير، وأدى هذا إلى ظهور أنظمة اقتصادية معقدة رافقها إنتاج بضائع لا علاقة لها بالزراعة أما بالنسبة لأنواع الزراعات فإنها أصناف المزروعات تكاد تكون نفسها منذ أبعد العصور، فطبوغرافيا المنطقة ومناخها وأمطارها هي التي تتحكم أكثر بهذه المزروعات شأن المناطق الأخرى في العالم، لذلك فإنه يمكن القول أن العنب وأشجار اللوزيات والرمان وما شابه ذلك عرفت في المنطقة منذ أقدم العصور، ولا شك أيضا في أن الزيتون كان من أقدم الزراعات على الرغم من إشارة سترابو التي قال فيها أن الأنباط كانوا يستخدمون زيت السمسم بدلا من الزيتون، لكن إشارات أكثر دلالة وصلتنا من مصادر متعددة عن انتشار الزيتون في المنطقة مثلما انتشرت في المناطق الكنعانية المجاورة، أما الحبوب فهي أيضا من أقدم الزراعات لأنها ظلت ولا تزال متطلبات أساسية لغذاء الإنسان والحيوانات الأليفة أيضا.
في مجال الصناعة، ورث الأنباط نوعين أساسيين من أنشطة الأدوميين الصناعية وأهمها صناعة الفخار التي تشير الدراسات إلى تطوره المباشر عن الفخار الآدومي الذي يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد ثم تعدين المعادن، خصوصا النحاس الذي اشتهرت به منطقة فينان قرب الطفيلة، ثم مناجم النحاس وغيره في سيناء القريبة مما سنتعرض له في الفصل الرابع في مناقشة النظام الاقتصادي للأنباط.
حدود الدولة النبطية ومناطق نفوذها وجغرافيتها ومناخها:
كان لجغرافيا مملكة الأنباط أهمية حاسمة في مكانتها نظرا لموقعها الاستراتيجي المسيطر على ملتقى القارات والبحار القديمة مما جعلها تتحكم بطرق التجارة البرية والبحرية ما بين الشرق والغرب، فقد شملت هذه الجغرافيا شمال شبه الجزيرة العربية والسواحل الشمالية للبحر الأحمر مكان مملكتي مدين وأدوم، وهي المنطقة التي أطلق عليها الرومان "بلاد العرب الصخرية" Arabia Petraea، وشملت كذلك منطقة بادية الشام وبلغت رقعة الأنباط أقصى امتداد لها في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، حيث شملت منطقة دمشق وجنوبي سورية وجبال لبنان الشرقية ومن النقب وسيناء وشرقي الأردن وفلسطين وشمال الجزيرة العربية حتى خيبر ومناطق الخليج العربي، لذا لفتت هذه المملكة أنظار الامبراطوريات الكبرى اعتبارا من الإمبراطورية الأشورية في الربع الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد، حيث برهن الأنباط انتماءهم العربي من خلال رفضهم الاحتلال والدفاع عن حريتهم وكرامتهم والتصدي للغزوات الخارجية وإيقاف التوسع السلوقي في البلاد العربية .
شكلت المنطقة الأدومية نواة البنية الجغرافية للأنباط، وكان الأنباط قد سيطروا على أدوم ومؤاب في القرن الرابع قبل الميلاد، وكانت مملكة الأدوميين قد قامت في جنوب الأردن بين وادي الحسا وخليج العقبة، في الفترة الممتدة من القرن التاسع حتى الغزو الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت بصيرة عاصمة الأدوميين، وهي القرية الحالية التي تحمل الاسم نفسه قرب الطفيلة، ومن اهم مواقع الأدوميين في شرقي الأردن إضافة إلى بصيرة والبتراء التي كانت تسمى "الصخرة" زمن الأدوميين، ويعتقد الكثير من الدارسين، خصوصا التوراتيين أن السِلعْ – البترا هي نفسها التي ورد ذكرها في التوراة زمن إمازيا حيث الرواية الدرامية التي يقتل فيها إمازيا عشرة آلاف من الأسرى الأدوميين من خلال رميهم من أعلى قمة من السلع.
وكان الأدوميين قد ورثوا هذه المنطقة من الحوريين سكان الكهوف الذين عرفوا في منطقة سعير- جبال الشراة منذ أقدم الأزمان حسب بعض الدارسين، ويبدو أن "سعير الحوري" كان أميرا على تلك الأقوام وبه سمي الجبل جبل سعير، ولقد ورد في التوراة ذلك اللفظ حيث يتحدث سفر التكوين عن الجزء الجنوبي من الأردن، وذلك الجزء الذي يمتد من وادي الحسا إلى خليج العقبة، ويوجد سبب قوي للاعتقاد أن البتراء هي (سلع) المذكورة في التوراة، أضف إلى هذا أن الاسم العبري والاسم اليوناني (بتراء) يدلان على المعنى نفسه "الصخر" مع أن كلمة سلع في اللغة العربية تعني بالتدقيق الشق في الصخر، وهذا أكثر تطابقا مع طبيعة البتراء وموقعها. ونحن نفهم من أقوال التوراة أن سلع تقع في مملكة أدوم القديمة التي كان يسمى سكانها الأصليون (حوريون) أو سكان الجبال، وهم الذين طردهم الأدوميون وحلوا محلهم، حتى جاء الأنباط فطردوا الأدوميين بدورهم واستولوا على بلادهم. وتروي التوراة أن (أمصيا- إمازيا) ملك يهودا (796-781 ق.م) احترب مع الأدوميين في معركة كبيرة وألحق بهم الهزيمة وذبح عشرة آلاف منهم على أرض المعركة (أو عشرة عائلات لأن الكلمة العبرية تعطي كلا المعنيين) وأخذ عشرة آلاف آخرين (أو عشرة عائلات) إلى الصخرة (سلع) التي استولى عليها "وطرحهم عن رأس سلع فتكسروا أجمعين"، وقد وجدت على قمة (أم البيارة) وهي أعلى القمم الضخمة بين جبال البتراء غربي الهيكل – بعض الدلائل الثبوتية على إقامة الانسان فيها في العصر الحديدي (حوالي القرن التاسع ق.م) ولكن يبدو أن البتراء كانت تستعمل كملجأ أكثر منها سكنى للإقامة الدائمة.. ولا بد من أن الأسرى قذف بهم من أعلى هذه القمة.
وثمة خلاف أيضا على موقع "سعير" المشار إليه عند بعض الدارسين الذي يعتمدون على ما ورد من تناقضات في تعريف التوراة نفسها لجبال سعير، إذ إن بعض النصوص الكثيرة في التوراة تشير إلى سعير وأدوم بما يضعهما غربي وادي عربة، ويمكن ملاحظة ذلك في سفر التثنية – الاشتراع بما فيه من مفاهيم أو إشارات مختلفة عن سعير – وأدوم، أو أن هذه المنطقة تعتبر امتدادا لها، أي لجبال الشراة التي تجمع أغلب الدراسات على كونها النواة للمنطقة أو الجزء الأهم فيها.
وبلغت دولة الأنباط أقصى اتساعها الجغرافي أيام حارثة الرابع، أي في أواخر القرن الأول قبل الميلاد والنصف الأول من القرن الأول الميلادي، إذ ضمت منطقة واسعة إلى جنوب البتراء بلغت حتى حدود العُلا في المملكة العربية السعودية، وكان وجودها واضحا في منطقة النقب، كما كان امتدادها إلى الشمال قد بلغ أقصاه بضم دمشق (في عهد حارثة الثالث سنة 85 ق.م). وهذا الاتساع في معظمه سياسي وتجاري، إلا أن الاتساع التجاري قد تجاوز هذه الرقعة كثيرا، إذ شمل موانئ البحر المتوسط، وسيناء، وموانئ مصر، وساحل البحر الأحمر شرقي النيل، ويستخلص من النقوش النبطية التي وجدت بمصر أن الأنباط هنالك كانوا جالية خاصة لها كاهنها، وفيهم الرفاء (الذي يصلح الملابس) والاسكاف (الذي يصنع الأحذية ويصنعها) والجصاص (الذي يعد الجص أو الجبس للديكور)، ولديهم جمالون من نقلة السلع ذهابا وإيابا بين مصر وبترا، حتى كانت لهم جالية في بيتولي بإيطاليا، ومن الثابت أنهم بلغوا في تجارتهم اليمن، إن لم يكونوا تجاوزوها إلى الهند، أما شرقا فقد كانت صلاتهم التجارية تجعلهم يرودون موانئ شرق الجزيرة العربية لينقلوا السلع القادمة من الهند أو من أواسط آسيا إلى هجر أو (الجرعاء)، ومن المرجح أن " جرعاء " هي نفسها الواقعة على الخليج العربي .
أقاليم دولة الأنباط:
ونظرا لامتداد رقعة الأنباط، فإنه يمكن تقسيم بلادهم حسب طبيعتها الجغرافية كما يلي:
أولاً- منطقة جبال الشراة شرقي الأردن:
وهي نواة الدولة النبطية وفيها عاصمتها الخالدة البتراء، وجبال الشراة كانت موئل حضارتي المؤابيين وعاصمتهم "ديبون – ديبان" في مأدبا حاليا والأدوميين وعاصمتهم "بصرى - بصيرة" في محافظة الطفيلة حاليا. وتتكون المنطقة من سلسلة جبلية تنتهي إلى الجنوب من مأدبا شمالا (وادي أرنون – الموجب) وإلى خليج العقبة جنوبا ثم تتجه إلى الشرق قبل أن تعرج شمالا إلى جبل رم الذي يكاد يفصل حدود المملكة العربية السعودية عن المملكة الأردنية الهاشمية، وبذلك فإن هذه المنطقة تتكون من سلسلة من الجبال إلى الشرق من البحر الميت وشريط صحراوي في الجنوب (النقب) وشريط أخر في الشرق ويعتبر امتدادا لشمال شبه الجزيرة العربية.
ثانياً- المنطقة الشمالية الغربية لشبه الجزيرة العربية:
أي المنطقة الجنوبية لمملكة الأنباط: تشمل هذه المنطقة الجغرافية شمال غرب المملكة العربية السعودية، والمنطقة المتممة لها الواقعة جنوب الأردن من رأس النقب إلى العقبة، وتمتد من وادي القرى جنوبا إلى رأس النقب والعقبة (إيلة) شمالا وهذه المنطقة الممتدة تضم جبال الحجاز الشمالية، ويطلق عليها "مدين" ويعد جبل رم في الأردن الحد الشمالي لها، وتضم أيضا حوض تبوك، وصحراء حسما التي تتألف من هضاب حجرية رملية منفصلة، وتمتد جنوب شرق سلسلة جبال مدين (الحجاز)، وإلى الجنوب من هذه الصحراء تقع واحة تبوك. وتضم هذه المنطقة مركزين مهمين من مراكز الأنباط: مدينة الحجر وميناء "لوكي كومي" الذي يقدر موقعه بموقع "أم لج" على البحر الأحمر.
ثالثاً- حوض صحراء الحماد:
يشكل القسم الأكبر منها الجزء الشرقي من الأردن حاليا، وهي تمتد من رأس النقب جنوبا إلى الحًرة عند جبل العرب شمالا، ومن المرتفعات الأردنية المطلة على وادي الأردن غربا إلى وادي السرحان شرقا، وتعرف الحماد بأرض الصُوان، خاصة منطقة الجفًر، ويعبر هذه الصحراء عدة طرق قديمة، أهمها: الطريق التجاري البتراء – بُصرى الشام. ثم طريق دومة الجندل – باير – البتراء. ثم طريق وادي السرحان – الأزرق – بصرى الشام.
رابعاً- وادي السرحان:
ويقع إلى الشرق من حسما والحَماد، ويمتد من الجوف جنوبا إلى الأزرق شمالا، ونظرا لانخفاضه، فإن الأودية تصب فيه من كل الجهات، مما ساعد على تشكل واحات متعددة، مثل: دومة الجندل (الدومة )، الأزرق وبعض السبخات المالحة مثل "قرَياتْ الملح"، وكانت دومة الجندل تشكل عقدة الطرق التجارية من الاتجاهات المختلفة، ولهذا كله اتخذ الوادي طريقا للقوافل والهجرات البشرية على مر العصور.
خامساً- حَرة جبل العرب:
تمتد من جنوب شرق دمشق إلى جبل العرب في سوريا، ثم تستمر باتجاه الجنوب الشرقي إلى الصفاوي في الأردن حتى طريف في السعودية، وتعتبر من اكبر الحَرات في شبه الجزيرة العربية، حيث تبلغ مساحتها أكثر من 45 ألف كيلومتر مربع، يغطي سطحها الحجارة البازلتية السوداء، وتتألف من هضاب مستوية، وفي بعض الأحيان تختفي لتشكل القيعان.
سادساً- سهل حوران:
وحوران هي الهضبة الواقعة جنوب دمشق في الشمال ووادي اليرموك وجبال عجلون في الجنوب ومنخفض الأزرق في الجنوب الشرقي إلى هضبة الجولان وجبل الشيخ غربا وصحراء الحماد وجبل العرب شرقا..
وحوران سهل يقع إلى الجنوب الغربي من الجزء الشمالي للحرة، ويشكل أرضا خصبة كانت تنتج كميات كبيرة من الحبوب، حيث كانت تسـمى " أهراء روما " في الفترة الرومانية، وأهم قراها سَيْع وصَلخَد وبُصرى (من أعمال محافظة السويداء في سوريا) وأم الجِمال، وتمر منها شبكة طرق تجارية.
وفي الشمال ضمت منطقة الأنباط منطقة حوران بكاملها وفق غالب الشواهد، وإن كان ذلك قد تم بصورة تدريجية أو في وقت متأخر من قيام المملكة النبطية. ويعود وجود الأنباط في حوران إلى زمن مقارب للوجود النبطي في النقب، وتشير " بردية زينون " إلى وجود الأنباط هنالك حوالي سنة 259 ق.م، ولكن طبيعة ذلك الوجود المبكر غير واضحة، ولعل سيطرة الأنباط بالمعنى الصحيح على حوران لم تتم قبل عهد عبادة الأول حين اصطدم بينايوس سنة 93 ق.م في النزاع على الجولان، وعهد حارثة الثالث الذي استولى على دمشق سنة 85 ق.م .
وتكمن أهمية المنطقة في كونها همزة وصل بين وادي السرحان، وهي الطريق الآتي من الجزيرة العربية إلى سوريا، وبين شمال سوريا وجنوبها، إضافة إلى أهميتها الزراعية؛ حيث كانت تشكل مستودعا لمنتجات الحبوب والفواكه. وقد عرفت عند الأنباط باسم "باشان"، وذكرها الأشوريون باسم "حورانو"، وقد تبع القسم الأكبر منه مملكة الأنباط، وكانت بصرى عاصمتهم الثانية، ومن أهم مراكزهم التجارية. وقد أسس الأنباط فيها عدة مدن ومستوطنات مثل: أم الجمال وسيع وقنوات واللجاة وغيرها، وتبعت دمشق لهم في بعض الأحيان، وربطها الأنباط بشبكة من الطرق . وقد وجد في مدينة السويداء السورية خرائب وآثار نبطية منها معبد، مثلما وجد في صلخد أيضا مبانٍ ومعبد تعود للأنباط.
ويشير د.إحسان عباس إلى أن الأنباط أقاموا في حوران مصالح تجارية في المقام الأول بغض النظر عن مدى نفوذهم السياسي والشاهد على ذلك أنهم لم يصطدموا بالرومان حين احتل هؤلاء سوريةعام 64 ق.م، ولم نسمع عن أية مواجهة بينهم وبين البارثيين (الفرتيين) حين دخلوا سورية(البقاع) سنة 51 ق.
والنظرية الأكثر قبولا في هذا الصعيد هي أن دور الأنباط في فترة القلاقل التي مرت بها في منطقة أواسط الشام (دمشق) لم يكن بمعزل عن السياسات الجديدة للدولة العظمي روما التي بدأت تحل محل السلوقيين والبطالمة الذين أنهكهم الصراع وصاروا هم أنفسهم يدورون في مدار السياسات الرومانية الزاحفة إلى المنطقة رغم انشغالاتها في صراعات أخرى داخلية وخارجية.
وثمة اسئلة كثيرة بحاجة إلى توضيحات جادة بشأن العلاقات النبطية بمناطق نفوذهم في الشمال، أي في سورية، ذلك أن تلك المناطق تكاد تكون منفصلة عنهم جغرافيا بسبب حاجزين كبيرين، هما: حلف المدن العشر (الديكابولس) والمنطقة التي تسـمى بيرايا (البرية)، وكانت الطريق إليها عبر المدن العشرة، وطريق وادي السرحان الذي يبتعد شرقا ثم ليعاود التفافه ليصل إلى حوران.
سابعاً- وادي عربة:
وهو الجزء الجنوبي من حفرة الانهدام الأردنية، حيث تمتد من الحافة الجنوبية للبحر الميت شمالا إلى خليج العقبة جنوبا مسافة 180 كيلومتراً، ويتراوح مستوى هذا الوادي من 400 م تحت سطح البحر عند طرفه الشمالي قرب البحر الميت إلى 400 م فوق سطح البحر عند الريشة في منتصف المسافة تقريبا، ثم ينخفض ليصل إلى مستوى سطح البحر عند إيلة- العقبة، وتحيط الجبال بهذا الوادي من الجهتين، الشرقية والغربية مثل الجدار، فجبال الشراة من الشرق وهي جبال رملية تتخللها الأودية السحيقة التي تحوي بين جنباتها مدينة البتراء، ويحده من الجانب الغربي جبال صحراء النقب، مما جعل طرق التنقل بين الشرق والغرب محدودة.
ثامناً- صحراء النقب:
هي القسم الجنوبي من فلسطين، تقع إلى الغرب من وادي عربة، تشكل مثلثا رأسه خليج إيلة (المرشرش) في الجنوب وعلى خليج العقبة، وقاعدته بين غزة على البحر المتوسط في الغرب والخليل في الشرق، وتشكل هذه الصحراء نصف مساحة فلسطين تقريبا (577،12كيلو متر مربع)، بالرغم من طبيعتها الصحراوية الجافة، إلا أنها شهدت نهضة زراعية في عهد الأنباط، ويبلغ معدل الأمطار السنوي فيه نحوا من (120 ملم) وعدد الأيام الماطرة 10- 30 يوما ولعل أهم مدنها غزة ذات الميناء الشهير، وعبودة، ونتسانا (عوجا الحفير) والخلصة، ومن مدنها الحالية التي بنيت في عهد الكنعانيين بئر السبع ، ومن غزة تمر الطريق الساحلية بين مصر وسوريا، وبها ينتهي طريق البخور الآتي من جنوب الجزيرة، وتمتد سلسلة جبال صخرية من الخليل باتجاه الغرب لتصل إلى شرق غزة تسمى محدودبات النقب.
وتعتبر الخلصة Elussaالعاصمة الإقليمية للنقب زمن الأنباط، تجاورها من الشرق "كرنب" وعبودة من الجنوب على الطريق التجاري النبطي المؤدي إلى غزة. أما كرنب فتقع على تلة صغيرة ترتفع 479 م عن سطح البحر، وتقع على بعد عدة كيلومترات جنوب ديمونا ملتقى الطرق القديمة، ويعود أبكر استيطان في كرنب إلى النصف الأول من القرن الأول الميلادي. وتقع عبودة على الطريق التجاري الرئيس بين البتراء وغزة، وتحتوي على معبد وقلعة نبطية وحي سكني مبني بشكل منظم يحيط به مع القلعة سور دفاعي، يشتمل على برجين دفاعيين يتكون كل منهما من ثلاثة طوابق، ويبدو أن الاستيطان في عبودة استمر حتى الفترة البيزنطية.
تاسعاً- صحراء سيناء:
تقع هذه الصحراء إلى الغرب من صحراء النقب وهي شبه جزيرة على شكل مثلث رأسه في الجنوب عند رأس محمد، وقاعدته على البحر المتوسط ما بين رفح في الشرق وبور سعيد في الغرب، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مناطق:
أ- المنطقة الساحلية المحاذية للبحر المتوسط.
ب- منطقة التيه: وهي سهل صحراوي عظيم تتخلله بعض الجبال التي تفصله عن منطقة الطور، ويمر عبر وادي العريش متجها إلى الشمال، كذلك يمر منه وادي فيران الذي تقع فيه مدينة فيران، وقد عثر في هذا الوادي على الكثير من النقوش النبطية.
ج – منطقة الطور: وهي المنطقة المحصورة ما بين جبال التيه على شكل قوس والمنطقة الممتدة من السويس إلى إيلة، وتتألف من جبال عالية وأودية عميقة.
ويكاد الوجود النبطي في سيناء يكون امتدادا لوجودهم في النقب، وإن لم يكن ذلك الوجود مشمولا بالاستثمار الزراعي الواسع، وقد كان المرجح أن سيناء لم تكن منطقة استقرار لهم، وإنما كانت طريقهم إلى مصر، ولكن يبدو من متابعة البحث والكشوف في شبه الجزيرة أنها كانت جزءا مكملا من النبطية. ويكاد وجود الأنباط في سيناء يعود إلى العهد الهلنستي، ولذلك تكون صلتهم بسيناء موازية – زمنيا – لصلتهم بالنقب ومنطقة إيدوم وجنوبي سوريا، وكانت أهم مواطنهم فيها إلى الشرق من قناة السويس وإلى الجنوب الغربي من إيلة في الشمال، وفي المنطقة الجبلية الجنوبية.
وإذا ما نظرنا نظرة شاملة لجغرافيا الأنباط فسـنراها ذات امتداد واسع شمل رقعة واسعة من المملكة الأردنية الحالية باستثناء مدن تحالف الديكابولس، وهذا التحالف يقتطع من الأنباط منطقة غنية ومهمة تبدأ من حدود مدينة مادبا جنوبا إلى مدينتي جرش ثم إربد في الشمال، وهذه المدن تشكل نحو نصف السلسلة الجبلية الغربية لشرقي الأردن فيما تشكل جبال الشراة الجزء الجنوبي منها، والسلسلة تتكون من جبال وهضاب ترتفع بين (660- 1200) م فوق مستوى سطح البحر، ويكون نهر الأردن حدها الغربي شمال البحر الميت. أما بخصوص ما كان يسمى منطقة "بيرايا "، وربما هي أصل كلمة "البرية" العربية، فهي كانت منطقة متغيرة السيادة ما بين الأنباط ودولة اليهود خصوصا، في عهد المكابيين، وهي المنطقة الجافة التي تحاذي البحر الميت من الشرق، حتى حدود جبال الشراة من الغرب.
مناطق التواجد النبطي
وتشكل الصحراء الحد الشرقي لمملكة الأنباط ويمتد إلى شمال شبه الجزيرة، حتى حدود دولة العراق المعاصرة شرقا وبادية الشام شمالا وتتكون منطقة الصحراء من الحجر الجيري والصوان في الوسط، والحجر الرملي والغرانيت في الجنوب، والحجر البازلتي البركاني في الشمال والشمال الشرقي ، لكن الأنباط ظلوا يسيطرون على الصحراء الممتدة إلى الشرق من مدن الديكابوليس ليصلوا عبر هذا الطريق إلى حوران وجنوب سوريا حيث مصالحهم الحيوية.
أما مناطق الأنباط في سوريا الحالية، فقد أسهبنا في استعراضها، ويمكن إيجازها في ثلاث مناطق رئيسية:
1- المدن الواقعة على المنحدر الغربي لجبل حوران.
2- المدن الكبيرة والصغيرة والقرى الواقعة على الجانب الجنوبي من الجبل وفي السهل الزراعي الممتد غربا نحو درعا وجنوبا وشرقا نحو الحماد.
3- في بعض مناطق اللجاة وهي تركونيا (تراخونيا القديمة) ويقع خط الحدود الشمالي للأنباط على خط في الجمهورية العربية السورية، ويمتد هذا الخط بين صلخد وبصرى، وأما ما يقع شمال هذا الخط، فإن سيطرتهم عليه فيما يبدو تجارية محضة أو سيطرة سياسية آنية، وتضم بصرى أعظم الآثار النبطية، فقد صارت عاصمة الولاية العربية التي ينتشر فيها الأنباط، وصارت المركز التجاري والسياسي الذي ورث مجد البتراء في العهد الروماني. ووجدت أيضا آثار مهمة في السويداء وصلخد وسيع (سيعا) ومدينة دوبو/ تل دبة المكتشف مؤخرا، وسنعود لاستعراض المزيد من المعلومات عن هذه المواقع في الفصل المتعلق بالمدن النبطية.
أما المناطق الجنوبية لمملكة الأنباط فهي تتوزع على ثلاث من الدول الحالية، وأقصى هذه المناطق صحراء سيناء الواقعة في الأراضي المصرية، وقد أشرنا إلى أن الوجود النبطي في هذه المنطقة كان موازيا لوجودهم في صحراء النقب الفلسطينية، وأن الاهتمام النبطي فيها كان يندرج في إطار تأمين طرق التجارة عبر مصر خصوصا مينائها الهام الإسكندرية، وكان خط سير القوافل النبطية يسير من إيلة – على البحر الأحمر عبر النقب إلى غزة، ومن غزة إلى الاسكندرية عبر حواف صحراء سيناء مرورا بوادي العريش ووادي فينان الذي عثر فيه على الكثير من النقوش النبطية.
ومن خلال الرقعة الجغرافية الواسعة لبلاد الأنباط، يتبين لنا بيسر أن معظم هذه البلاد تقع على قفار شحيحة المياه، تكثر فيها المرتفعات الصخرية المتنوعة، ففي حوران الحجارة البازلتية، وفي النقب الحجارة الجيرية، وفي جنوب الأردن وشمال غرب المملكة العربية السعودية الحجارة الرملية والجيرية، كما تتوافر في بعض المناطق أنواع مختلفة من الأشجار التي وفرت مادة الخشب التي استخدمت في البناء، وتتميز بلاد الأنباط بوقوعها بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، مما أعطاها أهمية استراتيجية، جعلها تتحكم بطرق التجارة الدولية القديمة البرية والبحرية بين الشرق والغرب.
الأنباط وعلاقتهم بالإمبراطورية الرومانية من(30ق.م-106م)
إن الكتابات التي تطرقت إلى تاريخ وحضارة الأنباط كثيرة ويصعب إحصاؤها غير أنه يمكن القول من ناحية أخرى إن هذه الكثرة ما كانت لتقف حائلاً دون دراسة علاقة الأنباط بالرومان ، منذ بداية العصر الإمبراطوري وإلى سقوط الدولة النبطية في بداية القرن الميلادي الثاني ولاسيما أن الجزء الأكبر من الكتابات السابقة – حسب تقديري المتواضع- يتسم إما بالعمومية في التناول أو التركيز على آثار وحضارة الأنباط معاً .
وعلى فرض أن هناك كتابات متخصصة سبق لها التطرق إلى بعض جوانب هذا الموضوع، فلا يمكن منطقياً القول بأن أصحاب هذه الكتابات قد انتهوا في تناولهم إلى نتائج قطعية ونهائية، ويمكن القول أن المجهول من تاريخ الأنباط يفوق كثيراً ما هو معروف عنه وبما في ذلك تحديداً علاقة الأنباط بالقوى السياسية المختلفة . وقد كانت هذه القناعة من بين العوامل الرئيسة التي دفعتني لدراسة موضوع العلاقات النبطية الرومانية في الحقبة الإمبراطورية .
وقد اقتضت الدراسة تقسيم هذا الموضوع إلى أربعة فصول، وخاتمة وتدعيمه بملاحق وخرائط ولوحات تاريخية .
الفصل الأول – وهو فصل تمهيدي - وعنوانه " تاريخ ونشاط الأنباط الاقتصادي قبيل قيام الإمبراطورية الرومانية" فهو يتناول العوامل التي دعت الأنباط إلى استيطان البتراء، واتخاذ أغلبهم التجارة حرفة رئيسة ، وعلاقة هذا الأمر بمحاولة القائد المقدوني انتيجنوس إخضاع الأنباط لسيطرته بعد وفاة الإسكندر الأكبر ، ودلالة نجاح الأنباط في مقاومة الحملتين الحربيتين اللتين أرسلهما هذا القائد المقدوني إلى عمق بلادهم . وإضافة إلى تناوله علاقة الأنباط بكل من البطالمة والسلوقيين والمكابيين ؛ قبيل التدخل الروماني في سورية فقد خُصِّص جزءٌ كبيرٌ من هذا الفصل لدراسة العلاقات النبطية الرومانية في الحقبة السابقة لإعلان أوكتافيوس أغسطس التحول إلى نظام الحكم الإمبراطوري .
وأما الفصل الثاني الموسوم بـ" علاقة الأنباط بالرومان في عهد الإمبراطور أغسطس" فهو يشمل بالدراسة أثر الأنباط في الحملة العسكرية الرومانية التي استهدفت بلاد العرب السعيدة، بأمر من الإمبراطور أغسطس وقد جرى التركيز بشكل خاص على توضيح مسئولية الوزير النبطي سيلايوس عن دفع الأنباط إلى الإسهام في هذه الحملة وتقديم المصالح الرومانية على مصالح المملكة النبطية التجارية .
وقد استدعى هذا الأمر تتبع خطى الحملة الرومانية في مختلف مراحلها ، ومناقشة الاتهامات التي ألصقها سترابو بالوزير سيلايوس والأنباط، ومحاولة هذا الكاتب الإغريقي تحميل هذا الوزير النبطي مسئولية الإخفاق الذريع الذي انتهت إليه محاولة الرومان غزو جنوب شبه الجزيرة العربية ويتضمن الفصل أيضاً مناقشة جملة من الإشكالات المتعلقة بأحداث هذه الحملة ، بما في ذلك حقيقة وصولها إلى مأرب عاصمة السبئيين الشهيرة .
وفيما يتعلق بطبيعة العلاقات النبطية الرومانية بعد هذه الحملة ، يتناول الفصل التأثير السلبي الذي خلفه دخول سيلايوس في صراع مصالح مع الملك هيرود "الكبير" ، ومحاولة هذا الوزير النبطي الوصول إلى عرش المملكة النبطية بعد وفاة الملك عبادة ، وعلاقة هذا الأمر باتخاذ أغسطس قراره بالتخلص من سيلايوس ، والموافقة على تولي حارثة الرابع مقاليد العرش النبطي. ويختم الفصل بتناول دور الأنباط في إخماد الثورة اليهودية التي تعرض لها الرومان عقب وفاة هيرود "الكبير" ، والتأثير الإيجابي الذي خلفته هذه المشاركة في العلاقات النبطية الرومانية في سنوات حكم أغسطس الأخيرة .
أما الفصل الثالث وهو بعنوان " علاقة الأنباط بالرومان حتى سنة70 ميلادية"،فيتناول علاقة الأنباط بالرومان في عهود حكم الأباطرة : تبيريوس ، جايوس قيصر، كلاوديوس ، نيرون . وهو يركز على إظهار جوانب السياسة التي أتبعها الملك حارثة الرابع في تعامله مع الرومان، ومحاولته تأمين كيان المملكة النبطية من تقلبات السياسة الرومانية وإمكانية تحول علاقة التحالف إلى علاقة عداء ومحاولة سيطرة من جانب الرومان .
وقد أقتضى الأمر التطرق إلى تفاصيل سياسة هذا الملك النبطي ، ابتداء من محاولة إيجاد طرق تجارية بديلة للطرق التي توقّع تعرضها لخطر السيطرة الرومانية ، والاعتماد على الزراعة مورداً إضافياً وانتهاءً بمحاولة إعداد منطقة الحجر (مدائن صالح) ، لتكون مقراً بديلاً للحكم إذا تعرضت البتراء لأية مخاطر.
وقد ركز الفصل أيضاً على إبراز الوسيلة التي أعتمدها حارثة الرابع على إبقاء السلام قائماً بين الأنباط واليهود ، وعدم إعطاء أي ذريعة للرومان للتدخل في شئون بلاده ، وعلاقة فشل المصاهرة التي كانت بينه وبين الملك هيرود انتيباس بانحياز الرومان إلى جانب هذا الأخير ، في نهاية عهد الإمبراطور تيبريوس . وقد جرى التركيز على توضيح الظروف التي مكنت الأنباط من استعادة مدينة دمشق مرة أخرى ، والتأثير الإيجابي الذي خلفه تمسك مالك الثاني بسياسة والده حارثة الرابع ، ومساهمته في ازدهار أحوال الأنباط ، واستمرار علاقة التحالف بين الأنباط والرومان وتوثقها أكثر وأكثر بعد مشاركة الأنباط في إخماد الثورة اليهودية التي شهدتها فلسطين في أواخر عهد الإمبراطور نيرون ، واستمرت إلى ما بعد سنة 70ميلادية .
أما الفصل الرابع الموسوم بـ" علاقة الأنباط بالرومان إلى نهاية عهد الملك رب إيل الثاني" ، فهو يتناول بدايةً التمرد الداخلي الذي قام به أهالي الحجر على الأسرة المالكة النبطية عقب وفاة الملك مالك الثاني ، وعلاقة هذا التمرد بقيام الملك رب إيل الثاني بنقل مقر الحكم من البتراء إلى مدينة بصرى ، وإهمال منطقة الحجر وإخراجها من حساباته في أن تكون مقراً بديلاً للحكم كما كان مرسوماً لها .
وقد اقتضى الأمر مناقشة العوامل والأسباب التي يرى المؤرخون المحدثون أن لها صلة بعملية نقل مقر الحكم إلى بصرى وليس إلى أي مكان آخر . كما تناول الفصل وضع العلاقات النبطية - الرومانية في زمن حكم أباطرة أسرة فسباسيان ، وطبيعة أحوال المملكة النبطية في سنوات حكم رب أيل الثاني الأخيرة، وعلاقة هذه الأوضاع ، وحالة الضعف التي لحقت البتراء والحجر من جراء نقل مقر الحكم إلى بصرى ، وإهمال منطقة الحجر ، بتبدل سياسة الرومان تجاه الأنباط ، وإجبارهم رب إيل الثاني على الموافقة بتسليم بلاده إليهم ، مقابل موافقتهم على بقائه في سدة الحكم إلى حين وفاته . ويتضمن هذا الفصل محاولة لإزالة الغموض المحيط بكيفية سقوط الدولة النبطية ، وإبراز الأسباب التي مكنت الرومان من الاستيلاء على البتراء وبصرى دون الدخول في مواجهة عسكرية كبرى مع القوات النبطية .
وقد اقتضت الدراسة توضيح الظروف التي دعت الإمبراطور تراجان إلى تأجيل إعلان ضم ممتلكات الدولة النبطية إلى ما بعد سنة 111 ميلادية وعلاقة هذا الأمر بالحرب الفرثية وعدم تمكن قواته من بسط سيطرتها إلا على الأجزاء الشمالية من بلاد الأنباط وبقاء الحجر وبقية المناطق تحت سيطرة أحد أفراد الأسرة النبطية وقد ختم هذا الفصل بالإشارة إلى الترتيبات التي اتخذها الرومان بعد سيطرتهم على الأجزاء الشمالية من بلاد الأنباط .
وقد تضمنت الخاتمة أبرز النتائج التي انتهت إليها دراسة هذا الموضوع.
جديد الدراسة :
برغم أن أولية المرحلة العملية تجعل الباحث المبتدئ يكتفي فقط بجمع أطراف الموضوع في دراسة شاملة أظهرت لي دراسة هذا الموضوع إمكانية الإتيان بجديد ولو على المستوى الجزئي ، وتصويب بعض الأخطاء الواردة في الكتابات العامة وشبه المتخصصة . ونظراًَ لأن المجال لا يتسع لذكر كثير من التفاصيل سوف نكتفي هنا بالإشارة إلى الأمثال الآتية :
أولاً : الجديد على المستوى الجزئي : ويمكن أن نلمسه بوضوح في الأجزاء المخصصة لدراسة دور الأنباط في الحملة الرومانية التي قام بها أيلوس جالوس على جنوب الجزيرة ، والعوامل الفعلية التي أدت إلى سقوط الدولة النبطية ، وكيفية هذا السقوط .
ثانياً : الجديد من ناحية تصويب الأخطاء :
وأبرز مثل لهذه الحالة يتمثل في وصف بعض الكتابات العامة وشبه المتخصصة الحملتين اللتين أرسلهما القائد المقدوني انتيجنوس نحو بلاد الأنباط في أواخر القرن الرابع ق.م على أنهما حملتان سلوقيتان ، والثابت أن الأنباط لم يتعرضوا لهجوم هاتين الحملتين ، إلا لأنهم كانوا محالفين للسلوقيين والبطالمة. والراجح أن أصحاب هذه الكتابات خلطوا بين هاتين الحملتين والحملتين اللتين قام بهما الملك السلوقي انطيوخوس الثاني عشر – ضد بلاد الأنباط - في أوائل القرن الأول ق.م . وليس ذلك وحسب بل إنه يمكن القول إن حملة انطيوخوس الثاني عشر الثانية ، والتي انتهت بمقتله على أيدي الأنباط في موقعة موتو ، من بين الأحداث التي اهتمت هذه الدراسة بتصويب بعض الكتابات التي تناولتها ، ولاسيما تلك التي تحدثت عنها وكأنها حملتان مختلفتان وليس حملة واحدة لا غير .
نخلص مما سبق عرضه ،إلى أن موقع وطبيعة البتراء الجغرافية والطبوغرافية كان لها الأثر الأكبر في احتراف الأنباط مهنة التجارة بشكل أساسي ، وتحديد طبيعة علاقتهم بالقوى الكبرى التي توارثت السيطرة على مصر وسورية وفلسطين .
وقد أظهروا منذ بداياتهم الأولى مهارة فائقة في التعامل مع القوى السياسية الكبرى . فبرغم أن اتخاذهم جانب البطالمة والسلوقيين كان أحد العوامل التي دعت انتيجنوس المقدوني إلى مهاجمة بلادهم إلا أن الطريقة التي تعاملوا بها مع الحملتين الحربيتين اللتين أرسلهما هذا القائد المقدوني تؤكد أنهم كانوا على قدر كبير من الحنكة السياسية ، وأنهم كانوا مهرة في توظيف تضاريس بلادهم الطبيعية في المواجهات العسكرية .
ومعرفة البطالمة بهذا الأمر دفعتهم إلى اتخاذ وسائل أخرى في محاولتهم انتزاع تجارة الجزيرة العربية من يد الأنباط ، غير أن الأنباط أظهروا مقدرة على المقاومة ، سواء من خلال استخدام القوة ، أو عقد التحالفات السياسية الضامنة لتحقيق مصالحهم ، ولعل ما يؤكد قدرتهم على التعامل مع المتغيرات الطارئة ؛ أنهم لم يترددوا في استخدام القوة البحرية ضد سفن البطالمة التجارية ، والدخول في تحالف وثيق مع السلوقيين .
وإذا كانوا قد خسروا الجولة الأولى في صراعهم مع البطالمة ، فقد مكنهم نجاح حلفائهم السلوقيين في استرداد سورية من أيدي البطالمة ، من أن يحققوا الجزء الأكبر من الطموحات التي كانوا يحلمون بتحقيقها . فإضافة إلى معاودتهم نشاطهم التجاري مع المراكز السورية التي آلت إلى السلوقيين ، لم يترددوا في استثمار تغير موازين الصراع في التوسع نحو النقب ، ومنطقة الحجر ، ووضع أيديهم على الطرق والمراكز التجارية المؤدية إلى مصر وشمال الجزيرة .
وبرغم التقلبات التي شهدتها علاقتهم بالقوى السياسية المختلفة في المرحلة الهلنستية إلا أنهم لم يسمحوا لهذه التقلبات بأن تهدد مصالحهم ونفوذهم السياسي. وغالباً ما كان النصر حليفهم في الحروب التي خاضوها ضد المكابيين والسلوقيين.
وقد جاء انتصارهم على السلوقيين في معركة موتو ، وتمكنهم بعد ذلك من دخول دمشق ليؤكد بأنهم أصبحوا القوة الرئيسة في سورية. ولو لم يبادر الرومان بالتحرك نحو سورية لكانت السيطرة النبطية طالت جميع أجزائها .
وبرغم محاولة المكابيين دفع الرومان للتحرك ضد الأنباط خلال هذه المرحلة إلا أن خلفاء بومبي لم يتمكنوا من المساس باستقلال المملكة النبطية. واقتصر الأمر على دفع الأنباط لبعض المال للرومان في مقابل عدم التدخل في شؤونهم ؛ وقد ساهمت الظروف بعد ذلك في تحول العلاقة بين الجانبين إلى علاقة تحالف وولاء كامل في عهد كل من يوليوس قيصر وأوكتافيوس (أغسطس). واللذين استمدا دعم الأنباط في أصعب مراحل الصراع على العرش الروماني في المرحلة التي سبقت تبني نظام الحكم الإمبراطوري في إدارة الدولة الرومانية .
وقد ازدادت العلاقات بين الجانبين توثقاً بعد انفراد أغسطس قيصر (اوكتافيوس) بمقاليد الأمور ، ودخول الدولة الرومانية في العهد الإمبراطوري. وكان للوزير سيلايوس النبطي الدور الأكبر في مشاركة الأنباط في الحملة الحربية ، التي أمر أغسطس قائده جالوس بقيادتها نحو جنوب شبه الجزيرة . وتناول هذه الحملة يؤكد أن هذا الوزير النبطي قدم مصالحه الذاتية على مصالح بني جلدته من نبط وعرب جنوبيين . ولم يكن أقل إخلاصاً لأغسطس من قائد الحملة الروماني أيلوس جالوس. وإذا كانت هذه الحملة قد حققت شيئاً يذكر من أهدافها فالفضل في ذلك يعود إلى سيلايوس ، الذي تكفل بمهمة إرشاد الحملة في البر والبحر ، وتوفير المؤن والمياه ووسائل النقل البرية . والاحتمال الأكبر أن هذه الحملة ردت على أعقابها بعد مدة قصيرة من مغادرتها ممتلكات الأنباط المؤدية إلى جنوب الجزيرة .والمرجح إنها لم تصل مطلقاً إلى مأرب ، ولم تتمكن من الاستيلاء على أية مدينة جنوبية كبرى . ولو كان لسيلايوس والأنباط أي دور في إخفاقها ، لما تركهم الإمبراطور أغسطس دون عقاب . وإذا كان قد حدث بعض التبدل السلبي على طبيعة علاقة الأنباط بالرومان بعد زمن هذه الحملة ، فما ذاك إلا نتيجة لمحاولة سيلايوس تحقيق مصالحه الذاتية على حساب الملك عبادة والملك الأدومي هيرود "الكبير" .
وبرغم أنه حقق بعض النجاح في هذا الأمر إلا أن أغسطس اقتنع في آخر المطاف أن القلاقل والاضطرابات التي شهدتها علاقة الأنباط بكل من الرومان والهيروديين من صنع الوزير النازل في ضيافته . ومن ثم فقد آثر التخلص منه والموافقة على تولي حارثة الرابع مقاليد العرش النبطي. وقد كان للدعم الحربي الذي قدمه هذه الملك النبطي (حارثة) للرومان ، في عملية إخماد التمرد اليهودي الذي نشب ضدهم ، عقب وفاة الملك هيرود الكبير ، الأثر الأكبر في إعادة العلاقات النبطية الرومانية إلى حالة الوفاق التي كانت عليه سابقاً ، وإبقائها على هذا الحال إلى نهاية عهد الإمبراطور أغسطس .
وفيما يخص علاقات الجانبين من نهاية عهد أغسطس حتى عام 70 ميلادي ، كانت أقرب إلى الاستقرار التام . ولم يعط الملك حارثة الرابع أي مجال لتعكير صفو هذه العلاقات ، وكان حكيماً في تعامله مع الأباطرة الرومان والملوك الهيروديين ، سواء باكتساب صداقتهم بواسطة الهدايا وإظهار الولاء للأباطرة،أو الدخول في علاقة مصاهرة مع الملوك الهيروديين . ولإدراكه بأن مطامع الرومان في السيطرة على مصادر الثروة في بلاده ستظل قائمةً استثمر حالة السلم الطويل في تقوية بلاده ، وإيجاد بدائل لمقر الحكم ، وطرق التجارة ، وموارد الثروة المادية . وبرغم أن تزويج إحدى بناته من الملك هيرود انتيباس الأدومي قد كفل له بقاء حالة السلم مع اليهود والأدوميين مدة طويلة إلا أن محاولة هيرود التخلص من ابنة الحارثه بعد العلاقة الزوجية الطويلة أعادت العلاقة بين الجانبين إلى حالة الحرب . وكان ذلك مدعاة لتدخل الرومان ووقوفهم إلى جانب انتيباس المهزوم،في السنة الأخيرة من حكم الامبراطور تيبريوس . غير أن وفاة هذا الإمبراطور جنبت الأنباط والرومان عواقب الصدام . وساهمت سياسية الإمبراطور جايوس قيصر في إعادة العلاقات بين الجانبين إلى سابق عهدها. وتوجت بقيام هذا الإمبراطور بإعادة مدينة دمشق إلى الأنباط. ولم تشهد مرحلة حكم مالك الثاني أي تغير يذكر على علاقة الأنباط بالرومان. وكان ذلك نتيجة لتمسك مالك الثاني بسياسة حارثه الرابع. وقد أدت مساهمة مالك الثاني في إخماد الثورة اليهودية التي واجهها الرومان أواخر عهد الإمبراطور نيرون إلى تعميق العلاقات النبطية الرومانية ، والقضاء على التهديد المستمر الذي كان يشكله اليهود على كيان المملكة النبطية ، واستمرار حالة السلم بين الأنباط والرومان.
وقد كان في وسع الملك رب أيل الثاني السير على السياسة التي رسم خطوطها جده حارثه ، والتزم بمعالمها والده مالك الثاني ، والتي كان هدفها الأول تأمين كيان الدولة النبطية وتجارتها من مخاطر تقلبات السياسة الرومانية.غير أن حالة السلم الطويلة الذي شهدتها علاقة الأنباط بالرومان ، وتمرد أهالي الحجر في بداية حكمه دفعته إلى إهمال منطقة الحجر ، ونقل مقر الحكم من البتراء إلى مدينة بصرى ، المحادة لأملاك الإمبراطورية الرومانية في سوريه ، وتؤكد هذه الدراسة أن هذه الخطوة غير الحكيمة كانت في مقدمة العوامل التي شجعت الإمبراطور تراجان على وضع حد لاستقلال المملكة النبطية ، وتحقيق ما لم يتمكن من تحقيقه من سبقه من قادة وأباطرة ، من إغريق وبطالمة وسلوقيين ورومان .
وقد اهتمت هذه الدراسة بإزالة الغموض المحيط بعملية سقوط الدولة النبطية ، وتبيان الوسائل التي استخدمها الرومان في عملية الاستيلاء على كل من البتراء ، وبصرى .
ومن أهم النقاط التي انتهت إليها هذه الدراسة ، أن السيطرة الرومانية اقتصرت على البتراء ، وبصرى ، ومراكز الأنباط الشمالية الرئيسة . وأن منطقة الحجر والمراكز النبطية القريبة منها ، ظلت بعيدة عن السيطرة الرومانية . وترجح لدينا أنها بقيت تحت سيطرة أحد أفراد الأسرة النبطية المالكة لمدة طويلة .
أما الترتيبات والإجراءات التي أتخذها الرومان بعد الاستيلاء على البتراء وبصرى ، فإن هدفها الأول كان فرض السيادة الرومانية الفعلية على الأجزاء النبطية التي تم الاستيلاء عليها . ولذلك اقتصر الأمر على إنشاء شبكة من الطرق الفرعية ، إلى جانب طريق كبير (حمل اسم طريق تراجان الجديد) ، يمتد من دمشق إلى ميناء إيلة على خليج العقبة ، واقتضت المصلحة أيضاً إنشاء مجموعة من القلاع على طول هذا الطريق ، وتجديد الطرق والقلاع القديمة التي كان يستخدمها الأنباط قبل خضوع بلادهم الشمالية للسيطرة الرومانية ، والتي ثبت لنا أنها (أي السيطرة) لم تؤكد رسميا إلا في عام 111م .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حضارة الأنباط
حضارة أمة نحتت الصخر وأبدعت البناء
تعددت جوانب الإثارة في تاريخ الأنباط وحضارتهم مثلما تعددت جوانب الغموض أيضا، وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على اكتشاف هذه الحضارة على يد "بيركهارت" وتوالي البحوث منذ ذلك الوقت، إلا أن صورة الحضارة النبطية لا تزال بحاجة للمزيد من المقاربات التي تجلي الجوانب الغامضة وتستكمل الأجزاء الناقصة لهذه الحضارة الفريدة وسماتها المثيرة.
ويحاول هذا الجهد المتواضع التوجه إلى القارئ المثقف بمستوياته المتعددة، إذ أن جل ما كتب عن حضارة الأنباط (وخصوصا بالعربية) إما أنه جاء جافا قاسيا تحت وطأة "تقاليد التخصص الآثاري" مما سيرهق القارئ العادي ويحرمه تمثل تجربة الأنباط الكلية. أو أنه جاء استعراضيا- مسطحا- تقريريا – مما سيفقد تجربة الأنباط الحضارية من روايتها الإنسانية التي لا غنى عنها لتمثل جوهر تلك الحضارة. أو أنه جاء "جزئيا" لدواعي الأعراف والشروط الأكاديمية. وهذه الملاحظات لا تقلل من شأن تلك الأبحاث العلمية، بل على العكس، فهي التي شكلت قاعدة البيانات الضرورية لهذا الكتاب الذي سعى لتحقيق قدر معقول من التوازن بين دقة المعلومة وبين " ترابط الرواية الحضارية " وكليتها، فلا هو أهمل دقة المعلومة وسبر أغوارها وتقليب معانيها المحتملة، ولا هو ركن إلى التقريرات المتسامحة المختزلة بقصد التسويق السياحي الإعلاني محترما ثقافة القارئ وأحقيته في المعرفة التاريخية التي تمثل حقيقة التجارب الحضارية الإنسانية بكل ما فيها من عبر وحكم ودروس.
في الفصل الأول من الكتاب: حاولنا البحث في الجذور الأولى لهذه الحضارة بأصولها السكانية، وبحثنا في نشأة وتطور نظامها السياسي في خضم الأحوال السياسية السائدة آنذاك. ثم استعرضنا بإسهاب المنطقة الجغرافية التي نشأت فيها وترعرت هذه الحضارة المثيرة لننتهي إلى سلسلة ملوك دولة الأنباط، وذلك كي يتمكن القارئ من التأسيس لمزيد من فهم جوانب هذه الحضارة في الفصول اللاحقة.
وفيما يلي الجزء مستلاً من الفصل الأول من الكتاب، على أمل متابعة الأجزاء الأخرى تباعا في هذا المنبر. أملا كل الأمل أن يحقق الفائدة المرجوة لكل مهتم بهذا الحقل التاريخي/ الثقافي الذي شكل رافدا أساسيا من حضارة المنطقة وثقافتها.
تاريخ الأنباط وتأسيس دولتهم:
1- من هم الأنباط ومن أين جاؤوا..؟ هل هم عرب أم غير ذلك ؟
2- نشوء الدولة وتطورها والنظام السياسي /الاقتصادي.
3- الوضع السياسي الإقليمي في أثناء فترة الأنباط (التأثيرات السياسية الخارجية).
4- حدود الدولة النبطية ومناطق نفوذها وجغرافيتها ومناخها.
5- الملوك الذين حكموا الدولة النبطية.
ظل أصل الأنباط موضوعا للنقاشات والاجتهادات بين الباحثين والمختصين الغربيين خصوصا بشكل مبالغ فيه، ظنا منهم أن حضارة الأنباط المتقدمة قد تكون نتاجا لبعض الشعوب القادمة من خارج الجزيرة العربية التي تمتاز بحضارة بدوية – رعوية أو زراعية يستبعد ان تكون حضارة الأنباط نتاجا لها، بعد أن كشفت الآثار المعمارية في المدن النبطية عن حضارة تمتاز بالرقي في العديد من المجالات خاصة العمرانية منها التي تبرز في الأبنية المنحوتة في الصخر والقصور والفلل المبنية من الحجر المشذب وفي أنظمة الري المتقدمة التي تعبر عن عبقرية هندسية بالغة.
الاسم: ويرد حول اسم الأنباط و اشتقاقه أكثر من رأي: فيقول ابن منظور أن "النبط" هو الماء الذي ينبط من البئر. و أيضا النبط هو ما يتجلّب من الجبل كأنه عرق من عروق الصخر. كما جاء في تاج العروس أن "النبط" جيل ينزل بالبطائح في بلاد الرافدين.
والموطن الأصلي للأنباط والزمن الذي هاجروا فيه غير معروفين على وجه الدقةوذهب بعض الباحثين إلى أن أصل الأنباط جاء من "نبايوت" الوارد في التوراة (سفر التكوين – 13:25و 9:28)، ونبايوت هذا هو بكر اسماعيل حسب التوراة، فيما ربط البعض الآخر الأنباط باسم "نبيت" الوارد في سجلات الملك الأشوري تجلات بلاسر (727-745 ق.م) التي تشير إلى الحروب التي كانت تقع بين قبائل متعددة من شمال شرقي الجزيرة العربية والقوات الأشورية. غير أن ثمة مؤشرات لغوية تدحض أي رابطة بين "نبيت " ونبطو، إذ أن الأنباط عرفوا أنفسهم "بنبطو" من خلال نقوشهم، وبذلك فإن الاسم الأشوري لا يمكن مقاربته لاسم الأنباط في ضوء اختلاف حرفين أساسيين بين الاسمين وعلاوة على ذلك، فإن ورود الاسم في سجلات تجلات بلاسر كان أسبق بكثير على ظهور الأنباط المعروف في القرن الرابع قبل الميلاد. أي بفارق أربعة قرون مديدة من السنوات.
وأشارت بعض الاجتهادات إلى أن الأنباط قدموا من الساحل الغربي للخليج العربي، فيما أشارت اجتهادات أخرى لكونهم قدموا من جنوب بلاد الرافدين لورود اسم الأنباط من بين القبائل الرافدية "النبطيين" وخصوصا في كتب الإخباريين المسلمين، وهؤلاء النبط غير أنباط العرب، لأنهم أعاجم مع أنهم تكلموا اللغة الآرامية، واشتبه الاسم على الإخباريين المسلمين لاشتهار هؤلاء بالزراعة واستنباط الماء من الأرض. وبعض النصوص التاريخية مثل (Pliny) أشارت إلى أنهم كانوا قد استوطنوا جزيرة في البحر الأحمر قبل أن يدحرهم أو يطردهم الأسطول المصري، وهذا مدهش ونحن نعرف أن الأنباط إنما هم الأكثر ارتباطا بالصحراء والقوافل التجارية، غير أن آراء جميع الباحثين في تعيين الموطن الأصلي للأنباط متفقة على شيء واحد هو تحديدهم للمنطقة الكبرى التي كانت منبتهم أي الجزيرة العربية، غير أن آراءهم تفترق حول تحديد الناحية المعنية من تلك الجزيرة، هل هي الحجاز، أم جنوبي منطقة الجوف، أم منطقة الخليج أم جنوبي الجزيرة العربية؟ وسنظل نجهل متى احتلوا منطقة الصخرة (أي بتراء) ما دام أقدم أخبارهم لا تتجاوز أواخر القرن الرابع إلى ما قبله. لكن هذا الحدث جرى بالتأكيد عقب أفول دولة الأدوميين سكان البتراء السابقين على الأنباط، وذلك إما عقب حملة نابونئيد الأشوري (552 ق.م) الشهيرة أو عقب ذلك بقليل إثر حملة قمبيز الفارسي (525 ق.م) التي ربما أجهزت على الأدوميين أو ما تبقى لهم من كيان سياسي، لكن دون القضاء على البنى الاجتماعية والعشائرية لهم، حيث سيظهر الأدوميين مرة أخرى بأشكال متنوعة في تاريخ المنطقة، وقد توجوا هذا الظهور السياسي في العهد الروماني ببناء أسرة حاكمة استطاعت نزع الحكم من المكابيين اليهود في فلسطين وتمكنت أيضا من توسيع حدود ولايتهم كما لم تكن من قبل. وسنعود للحديث عن الأدوميين في الصفحات القادمة نظرا لما لذلك من علاقة وثيقة بتاريخ المنطقة، خصوصا ما قبل الأنباط.
"صورة جوية بالأقمار الصناعية لشبه الجزيرة العربية"
ومن المرجح حسب الكثير من الباحثين -خصوصا الجدد- أن يكون الأنباط جزءا من قبائل ثمود الوارد ذكرها في القرآن الكريم (سورة الحجر) التي كانت تنتشر في وسط الجزيرة العربية وشمالها، وقد أثبتت النقوش المكتشفة في مناطق الجزيرة العربية انتشاراً واسعاً لهذه القبائل في تلك المناطق، وعزز ذلك ما وجد للأنباط من تراث ديني فيما يتعلق باسماء الآلهه خصوصا، وثمة وجاهة كبيرة في هذا الرأي من أوجه كثيرة، فالوجود النبطي المتأخر في شمال غرب الجزيرة العربية وحتى جنوبي بلاد الشام وشرقيها يعتبر امتدادا طبيعيا لوجود الثموديين، خصوصا أن معظم هجرات القبائل العربية من الجزيرة كانت تأخذ هذا المنحى في أغلب الوقت إضافة إلى المنحى الآخر المتجه إلى الشمال الشرقي للجزيرة، أي باتجاه بلاد الرافدين، ولكن الاتجاه إلى الشمال الشرقي لم يَكُنْ متاحا باستمرار في ضوء الجهود الحربية الواسعة التي كانت دولة الرافدين تقوم بها مما سيضطرها لأخذ المنحى أو الاتجاه الأخر نحو الشمال الغربي وصولا إلى بلاد الشام، إذ أن "نابونئيد - Nabonidus " (555-539 ق.م) الملك الأشوري كان قد هاجم تيماء عدة مرات إلى ان أحتلها وأقام فيها بنفسه لتنظيم الدفاعات التي كانت ضرورية لصد هجمات القبائل المحاذية لمملكته، وقد أقام نابونئيد خلال الأعوام (552-544 ق.م) في تيماء حيث قام من هناك بعدة حملات بين الواحات العربية ونفى الكثير من السكان، ويشير البعض إلى أن هذه الفترة هي نفس الفترة التي بدأ منها استقرار الأنباط في المناطق الأدومية، ويعزز هذه النظرية الحفريات التي قامت بها كريستال بنت (C.Bennet) في بصيرة عاصمة الأدوميين ، وعلى الأرجح فإن نهاية الأدوميين جاءت على يد نابونئيد في حملته الشهيرة هذه التي كان قد سجلها على حجر "سيلع" عام 553 ق.م بعد أن أخضع بصيرة عاصمة الأدوميين، ومن هذه اللوحة يسـتنتج أنه لم يكن للأنباط وجود سياسي آنذاك، لكن ذلك لا ينفي وجودهم كقبائل بدوية عاشت في ظل الدولة الأدومية، قبل أن يتمكنوا - فيما بعد – من الاستيلاء على المنطقة وتكوين دولتهم، ومن المعروف تاريخيا ان نبوخذ نصر قد سبق هذه الحملة بحملة على مملكة اليهود الجنوبية عام 586 ق.م لتأديبهم جراء مساعدتهم لحكام الفراعنة (الملك نخاو) هم وعدد آخر من ملوك سوريا وفلسطين (ومملكتي عمون ومؤاب خصوصا). ومن ذلك نتنبه إلى أهمية دويلات المنطقة في ذلك العصر- مثل كل العصور اللاحقة- بالنسبة للدول العظمى في كل مرحلة، مما يعني أيضا تأثير سياسات تلك الدول في البناء السكاني لدويلات المنطقة. لكن دولة الأدوميين استطاعت تجنب غضبة نبوخذ نصر من خلال إعلان الولاء للأشوريين ومن خلال الامتثال لرغبتهم بدفع الجزية والامتناع عن تأييد المصريين، ونقرأ من النقش الذي خلفه تجلات بلاسر "استلمت الجزية من سـانيبو من بيت عمون، وسلمانو المؤابي، ومتني من عسقلان ويوحاز من يهودا، وكوشملكو الآدومي، ومازور... وهانو من غزة، وهذه الجزية تتكون من الذهب، والفضة، والتنك والحديد والملح، وملابس الكتان الملونة المزخرفة بالزخارف المحلية والملابس الصوفية ذات اللون القرمزي الداكن، إضافة إلى جميع الأشياء الثمينة" وهذا الرأي لا ينهي النقاش بشأن نهاية الأدوميين إن كانت على يد الأشوريين كما تتوقع أغلب الفرضيات، أو على يد الفرس الذين تبعوا الحملة الأشورية بحملة أخرى بعد حوالي عقدين من الزمن. لكن الملاحظ أن الوجود الأدومي ظل مستمرا في العديد من مناطق جنوب الأردن، حتى "بصيرة" نفسها فقد بينت الحفريات فيها آثار تعمير وبناء في العصر الفارسي القصير الذي دام سبع سنوات.
لقد اتبع الأشوريون سياسة تهجير الجماعات في نطاق الدولة الأشورية، وكانت سياساتهم اتجاه هذه الجماعات ليست بمعاملتها كسبايا أو عبيد، بل هم مثل أفراد الرعية الأشورية، وهذه السياسة خلقت نماذج جديدة من المجتمعات لم تكن معروفة من قبل، والمفهوم الأشوري للتهجير له قداسته واحترامه عندهم نظرا لعلاقته بالمفاهيم الدينية التي يؤمنون بها؛ لأن الآلهة هي التي أعطتهم الحق في أن يكونوا فوق جميع الشعوب.
والبحث في تاريخ الأنباط وأصولهم لا يمكن أن يسـتقيم بدون البحث في تاريخ أسلافهم وربما شركائهم في مجتمع الأدوميين. فمنطقة الأدوميين شكلت النواة الجغرافية لدولة الأنباط. وكانت مملكة الأدوميين قد قامت في جنوب شرقي الأردن بين وادي الحسا وخليج العقبة، في الفترة الممتدة من القرن التاسع الميلادي، حتى الغزو الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد. ومن المرجح أيضا أن الأدوميين كانوا يتمركزون في جنوبي فلسطين، خصوصا منطقة صحراء النقب التي وجدت فيها الكثير من الآثار الأدومية (عراد) وأن جغرافيا الأدوميين كانت تضم منطقة مدين وتيماء ومنطقة الحجر إلى الشرق من سواحل البحر الأحمر. ووجد الأثريون أن النقوش الأدومية بقيت قيد الاستعمال حتى العصر الهلنسـتي، فقد عثر على كسرتين من الفخار تحملان كتابة أدومية، الأولى في تل الخليفة (Gluck 1971) والثانية في موقع قلعة العزى الواقع إلى الجنوب من تل عراد إلى الجنوب الغربي من البحر الميت في فلسطين، وكتب على الكسرة الاولى اسماء، مثل قوس بنا، وقوس نداب، وبي قاقس، بينما يتحدث النص المكتوب على الكسرة الثانية عن إعطاء أوامر لإحضار طعام إلى أحد المذابح، وأظهرت الحفريات الأثرية في أم البيارة وفي طويلان بالقرب من البتراء وجود استيطان أدومي منذ القرن السابع قبل الميلاد، وقد لوحظ تجاور الاستيطان النبطي والأدومي، مما يشير إلى أن الأنباط حلوا تدريجيا بين الأدوميين الذين لم يرفضوهم، حيث اختلطوا بهم وذابت العناصر المتبقية منهم، ويقترح جلوك أنه عن طريق علاقات الدم السابقة إضافة إلى علاقات التزاوج، فقد قام الأنباط بتنبيط الأقوام الأخرى كالمؤابيين والأدوميين"، أي أنهم لم يحاربوهم أو لم يحتلوهم أو لم يطردوهم، بل قاموا بامتصاصهم في الجسم الأوسـع، المجتمع النبطي الأوسـع، وكان الأنباط قد قاموا بتبني الأساليب الدفاعية والتنظيمات التي كان المؤابيون والأدوميون قد أوجدوها في مناطقهم وعملوا على تطويرها لمئات السنين، وورث الأنباط أيضا الأبنية قبل أن يقوموا بتحسينها أو بترميمها وفق مخططاتهم، وفي بعض الحالات أبقوا عليها كما وجدوها، لكنهم أيضا بنوا الكثير من المصاطب الزراعية والسدود أو البرك المائية ومئات المستوطنات الزراعية جنبا إلى جنب مع المستوطنات الزراعية القائمة أصلا. وبالطبع فإن مملكة الأنباط الجديدة راحت ترث الكثير من الدويلات أو المشيخات السابقة لها مما سيفسح لها امتداداً جغرافيا وديمغرافيا واسعا ضم حدود مدين القديمة وتيماء والحجر في الجزيرة العربية، ولهذه المناطق حضارات مثبتة قبل أن نعرفها ايضا من خلال الأنباط الذين بنوا فوق ما وجدوه من إنجازات سابقة لهذه الحضارات، وامتد التمازج الديموغرافي أيضا إلى حدود سيناء عبر النقب الفلسطيني الذي حفظ لنا آثارا مهمة عن الفترة النبطية.
وثمة من يشير إلى أن الأنباط أصلا لم يكونوا قبيلة واحدة مثلما قد يعتقد البعض، بل إنهم تجمع واسع من القبائل الجًزرية (نسبة إلى الجزيرة العربية) إضافة إلى بعض العناصر البشرية من مجموعات أخرى من الشمال ومن بلاد الشام. ويعتقد فريدمان (Freedman,1992) أن اسم الأنباط يجب أن يفهم كمدلول واسـع لجماعات من أصول مختلفة، حيث أن الأنباط حفظوا لهجات السكان وخطوطهم أو أن هذه الجماعات من شمال نهر الأردن وجنوبه سواء الأدوميين أو المؤابيين أو السوريين، ودل على ذلك النقوش الثنائية مثل الصفوية والثمودية إلى جانب النبطية. ومن المحتمل أيضا أن تكون بعض العناصر السكانية تمازجت مع الأنباط قبل ظهور دولتهم ونظامهم السياسي خصوصا الأدوميين والمؤابيين وفروع متعددة من الثموديين، ومثل هذا التخمين يحمل قدرا من الوجاهة في ضوء ما نعرف عن الحركات السكانية الواسعة في المنطقة إن كان بسبب التقلبات السياسية والحملات العسكرية في المنطقة أو بسبب الظروف الاقتصادية للمنطقة من ظروف الجفاف والخصب ومتغيرات العلاقات التجارية خصوصا ما اتصل منها بطرق التجارة. وبما أن الأنباط كانوا يستخدمون الخط الآرامي، وهم في كل المراحل كانوا جيرانا للآراميين في الشمال والشرق، فليس بمستبعد أن الحلف النبطي ضم أعدادا أو قبائل من هؤلاء، ويعزز هذه الفرضية ما عرف عن الأشوريين من سياسات النقل الجماعي للسكان في أوقات الاضطرابات، ليس عقابا لهم في كل الحالات، بل من أجل تغيير البنية الديموغرافية لهذه المنطقة أو تلك.
وثمة صيغة أخرى منطقية للتركيبة الديمغرافية للأنباط يوردها الكثير من الباحثين، وهي أن الأنباط شاركوا قبائل أخرى عديدة للمناطق التي تواجدوا فيها إبان قيام المملكة النبطية، وحسب هاموند أيضا فمن المحتمل أن تكون "نبطو" عبارة عن اتحاد بين عدد من القبائل الحليفة التي انضوت تحت مظلة أكبر أو أقوى قبائل الاتحاد. بل إن الاتحاد النبطي كان يجمع أيضا وحدات إقليمية صغيرة أدركت أهمية هذا الاتحاد لبقائها وازدهارها، ويجب أن لا ننسى الامتداد الجغرافي – الديمغرافي الكبير الذي ضمته دولة الأنباط مما يؤكد التنوع الكبير في الأصول السكانية لمجتمعات هذه الدولة، ومما سيظهر لاحقا أيضا في سياسات التسامح والانفتاح التي اعتمدها الأنباط اتجاه الأجانب الذين عايشوهم في البتراء وغيرها من المناطق، ولا بد من أن قسـما من التجار أقام في المناطق النبطية وتزاوج وتصاهر مع الأنباط، وثمة دلائل كثيرة أيضا على هذا الانفتاح والتنوع منها التأثيرات المعمارية الواضحة لكل الحضارات الرئيسية المحيطة كالمصرية والهلينستية والفرثية (الفارسية) والأشورية، ويتجلى ذلك أيضا في استخدام الأنباط للغات الأخرى إلى جانب لغتهم، خصوصا اللغة الآرامية واليونانية، كانت الآرامية في الحقيقة لغة التعاملات التجارية والرسمية والدينية، ومع بداية التأثيرات الهلينستية بدأت اللغة اليونانية تأخذ هذا الدور وتزاحم الآرامية إلى أن أزاحتها تماما لصالحها ثم لصالح الرومانية فيما بعد.
ومن كل ذلك يستنتج أن الأنباط كانوا نواة التحالف أو التجمع أو المجتمع الأحدث الذي صار يعرف فيما بعد بالأنباط، ويستنتج أيضا أن هؤلاء الأنباط بكل مكوناتهم البشرية والثقافية ما هم إلا قبائل عربية تشاركت في الأصول والقيم والتقاليد مما سهل تمازجها لتشكل دولة مركزية في المنطقة. والدلائل الواضحة على عروبتهم، هي:
1- أن الذين عاصروهم من الأجانب كالمؤرخ ديودورس والجغرافي سترابو والتوراة وصفوهم بأنهم عرب.
2- أن موطنهم الأصلي هو الجزيرة العربية وبالذات أراضي المملكة العربية السعودية.
3- أن اسماء ملوكهم ومعظم أعلامهم عربية كالحارث ومالك وعبادة وجميلة وشقيلة وخلدو (خلود أو خالدة) وصالح وسلمو...إلخ.
4- أن اسماء آلهتهم وأصنامهم كانت معروفة وشائعة في أرجاء الجزيرة العربية وحضاراتها الشمالية والجنوبية.
5- ثبت أن أصول الكتابة العربية الحالية والحروف خصوصا يستندان إلى ما وصلت إليه الكتابة النبطية في هذا المجال.
لم تكن الدول وأنظمة الحكم لتوجد فجأة بدون مقدمات ومرتكزات تستند إليها، فلا بد أن يسبق ذلك تطور الكثير من البني السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن العدل الافتراض أن دولة الأنباط لا تشذ عن هذه القاعدة، أي أن حضارة الأنباط كانت امتدادا طبيعيا لمجموعة من التطورات التي حصلت في المنطقة مثلما أوردنا لبعض المؤشرات، فحضارة الأنباط هضمت ما سبقها من حضارات خصوصا حضارات الأدوميين والمؤابيين والمدينيين مثلما أشرنا، لكن العوامل الأساسية في نشوء الدولة ونظام الحكم تمثلت في الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمنطقة آنذاك مثلما في أغلب العصور، نتيجة وقوعها على خطوط التجارة والاتصال البري والبحري مثلما كان ذلك سيتضح لنا لاحقا، فإذا ما قيض للمجتمع الجديد العناصر الأساسية للدولة من إقليم شاسع مترامي الأطراف يتحكم بطرق أهم التجارات لذلك العصر، ومن عناصر سكانية متقاربة أو متشاركة في الأصول والثقافات، ومن نظام سياسي مستقر ورشيد، فإن ذلك لا بد من أن ينتج دولة قوية مثلما هي دولة الأنباط.
إن أول مرجع معروف - بخلاف الآثار- يذكر الأنباط يعود للقرن الأول قبل الميلاد، لمؤرخ يوناني، ديودورس السقلي (المتوفي سنة 57 ق.م، وكان عمله مستندا إلى شاهد عيان كان قد كتب في القرن الرابع قبل الميلاد في الفترة التي انتشر فيها نفوذ الاسكندر المقدوني) وقد وصف ديودورس حياة الأنباط في ذلك التاريخ (أي القرن الرابع قبل الميلاد) واصفا إياهم بأنهم يعيشون حياة البداوة في أراض صحراوية قاحلة " لقد آلوا على أنفسهم ألا يبذروا حبا، ولا يغرسوا شجرا يؤتي ثمرا، ولا يعاقروا خمرا، ولا يشيدوا بيتا، ومن فعل ذلك كان عقابه الموت، وهم ملتزمون بهذه المبادئ لأنهم يعتقدون أن من تملك شيئا استمرأ ما ملك، واضطر من ذلك إلى أن ينصاع لما يفرضه عليه ذوو القوة والسطوة"، وهكذا فإن الصورة التي ينقلها صديق ديودورس عن أحوال الأنباط في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وهي الفترة نفسها التي بدأ فيها الأنباط بالظهور على المسرح السياسي، هذه الصورة التي ترسم مجتمعا بدويا من الطراز الأول، لكن هذا المجتمع - كما سيشير ديودورس لا حقا- كان شديد الاهتمام بالتجارة إلى جانب تربية قطعان الماشية، وهذه التجارة ستوفر له ثراء كبيرا سيدفع به إلى الاستقرار للتمتع بهذا الثراء الذي زودته به التجارة، ومن الطبيعي أن يمارس الأنباط التجارة منذ هذه الفترة وربما قبل ذلك بكثير من السنوات، فهم إنما ورثوا ما وجدوه عند أسلافهم الثموديين والأدوميين والقيداريين الذين أملى عليهم موقعهم الجغرافي مثل هذا النشاط.
ويصلنا خبر أيضا عن مقاومة الأنباط لأحد الجيوش المقدونية التي كانت في سوريا حين بدأ الصراع بين القواد من خلفاء الاسكندر، وكانت آنذاك لا تزال بيد أنتيجونوس الذي أرسل إليهم حملتين في عام 312 ق.م، الأولى بقيادة أثنايوس، ونتج عنها فشل ذريع، وسنعود لتفصيلها، والثانية بقيادة ابنه (ديمتريوس) التي لم يكن نصيبها بأفضل من الأولى، إذ قنع بأن ينسحب مقابل بعض الهدايا القيمة والإبقاء على علاقات طيبة بالأنباط.
ويصبح من شبه المؤكد أن يكون الوجود السياسي للأنباط قد بدأ في التبلور مع بداية القرن الرابع قبل الميلاد، وإن اصطدام القوة السلوقية بقيادة إنتيجونوس لدليل على وجود قوة نبطية منظمة، لكن ذلك لا يحسم بوجود دولة ونظام حكم واضح المعالم مثلما بدأنا نعرفه في بداية القرن الثاني قبل الميلاد، إذ تشير المكتشفات الأثرية، خصوصا المسكوكات النقدية إلى أن أول ملك نبطي على الأرجح كان الملك الحارث الأول (169- 168 ق.م)، ومن المحتمل أن يكون قد سبق هذا الملك ملك أو أكثر.
وعلى الرغم من الذكر التاريخي الشهير لوجود الأنباط في جنوب الأردن منذ عام 312 ق.م، إلا أننا لم نستطع حتى الآن تمييز مظاهر حضارتهم المادية السابقة لبداية القرن الأول قبل الميلاد . ومع ذلك يجوز افتراض أن المجتمع السياسي النبطي كان قد تبلور إلى مسـتوى جيد قبل تاريخ الحارث الأول بكثير، إذ أن كل الدويلات التي كانت تقوم في بلاد الشام وفي أطراف الجزيرة العربية كانت غالبا ما تسـتند إلى نظام الدويلة – المشيخة- ومثل هذه الدويلات كانت تعتمد على بنية سياسية عشائرية اتحادية إلى حد بعيد قبل أن يجري الارتقاء إلى المرحلة اللاحقة، أي الدولة المركزية أو الوطنية، فالتجمعات والأحلاف العشائرية هي الوحدات الأساسية المكونة للمجتمع وللدولة، وهذه الوحدات الكبيرة هي التي تشكل آليات العمل والفعل في المجتمع والدولة من حيث إيجاد القوة- السلطة وتوجيهها، وهي كذلك تقوم بوظائف إدارية وعسكرية واقتصادية معينة كحماية الحدود والطرق التجارية والآبار وعقد الصفقات التجارية الكبيرة وإمداد الحملات العسكرية بالمقاتلين. .إلخ. والمشايخ أو القضاة (كما يسميهم العهد القديم) هم عماد النظام السياسي وهم حلقات الاتصال مع رأس النظام السياسي، وكل شيخ أو قاض يتولى إدارة منطقة معينة عادة ما يكون لها مدينة مركزية، أي عاصمة أو حاضرة، والشيخ الذي أحيانا ما يلقب بشيخ المشايخ أو بالملك يشرف على إدارة المنطقة بنفسه في كل المجالات، وهو غالبا ما يتلقى المساعدة في الإدارة من مشايخ محليين أو قضاة أو قادة يمثلون التجمعات السكانية القائمة وتأمين الطرق التجارية التي تمثل مصلحة مشتركة لأكبر القبائل، ونادرا ما يوجد تنسيق مع الدويلات المجاورة باستثناء ما يختص بالمراعي ومصادر المياه لمنع التعديات وفض الخلافات عند وقوعها، لكن تنسيقا أخر لا بد من أن يجري في حالات الحروب وصد الهجمات من الأعداء والخصوم، وفي هذه الحالة يجب على كل منطقة المساهمة بالجهد الحربي أو الدفاعي بقدر استطاعتها، ولا نعرف الكثير عن قوانين وآليات هذه المشاركات باستثناء الاعتماد على العدد، إذ تتقدم هذه التجمعات بأعداد من المقاتلين أو من الضرائب أو الماشية والإبل والخيول تبعا لأعداد رجالها أو أعداد بيوتها، لكننا نعرف عن المجتمعات العربية اللاحقة حتى صدر الإسلام مرورا بالجاهلية بعضا من المعلومات المهمة في هذا الشأن. فإن على القبيلة أو العشيرة أو الحلف العشائري القيام بما يوكل إليه من القائد الأعلى أو الملك أو الشيخ وفق الاتفاقيات أو المعاهدات التي كانت عادة ما يتم إبرامها بين القبائل، وهذا النوع من المعاهدات التي غالبا ما تكون شفوية لها من القوة والثبات ما يصل حد التقديس، والوفاء بالعهود والمواثيق المقطوعة جزء جوهري من ثقافة القبائل العربية منذ قديم الزمان، ولدينا نص صريح من هيرودوت في هذا الشأن بخصوص معاهدة القبائل العربية في الشمال الغربي للجزيرة لقمبيز الملك الفارسي الذي قاد الغزو الفارسي لمصر 525 ق.م مرورا بمناطق القبائل العربية حيث تعهدت تلك القبائل أو ملكها بتقديم المياه اللازمة للجيش الفارسي في أثناء عبوره عبر جنوب الأردن فالنقب فسيناء: "وما من أمة تحترم العهود وتقدسها مثل العرب، فإذا أراد رجلان أن يوثقا العهود بينهما فإنهما يقفان على جانبي رجل ثالث يحمل حجرا حادا يسـتخدمه لجرح راحتي يديهما بالقرب من أسفل الإبهام، ثم يأخذ بعض خيوط الصوف من ثيابهما ويغمسها بدمهما ويلطخ بها سبعة أحجار تقع بينهما، وهو يردد اسم كل من ديونيسيوس وأورانيا، ثم يقوم الشخص الذي أخذ العهد على نفسه بتوصية أصدقائه بمن عاهده سواء كان غريبا أم قريبا، وبذلك يعتبر أصدقاؤه أنفسهم ملتزمين بهذا..، ومن حيث المبدأ فإن على كل قبيلة حماية حدودها ومنطقتها مثلما أن لها حق طلب العون من القبائل الأخرى في بعض الحالات التي تكون فيها قوة هذه القبيلة لا تكفي لصد الهجمات على المنطقة، ونحن نستذكر أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) كان قد أناط ببني قريظة وبني النضير حماية جزء من المدينة أمام هجمات القبائل التي حاصرت المدينة (الأحزاب)، فيما كانت الأحزاب عبارة عن تحالف آني مؤقت للقيام بمهمة محددة ألا وهي القضاء على بؤرة الدعوة الإسلامية التي انتقلت إلى يثرب، ولدينا من التراث الجاهلي أخبار غزيرة عن الصراعات والتحالفات القبلية، وثمة قوانين وأعراف ثابتة لهذه المواثيق والتحالفات لا مجال هنا لتفصيلها. ولا بأس بالإشارة إلى بعضها: قاعدة "التآخي" أو "البنعمة"، حيث تتحالف قبيلتان فيصبح جميع أبنائها بمثابة أبناء العم الحقيقيين، "وهي نوع من الحلف الهجومي والدفاعي"، وقاعدة الجيرة أو الاستجارة، وهي مناشدة شخص قوي أو قبيلة قوية لتحصيل حق ضائع أو للحماية من خطر داهم، ومن تلك القواعد أيضا الدخالة والقصرى والموالاة...
ومع أن ديودورس كان قد وصفهم "بأنهم بدو رحل، يقتنون الإبل ولا يعرفون الخيل، لا يزرعون الحبوب،..إلخ، وكذلك كان أمرههم حينما جرى حصارهم للمرة الثانية من قبل ديمتريوس في الصخرة (البتراء أو السلع) خاطبوا اليونانيين قائلين" ليس من الحكمة في شئ أن يعلن اليونان حربا على شعب لا يملك ماء أو خمرا أو حبا، نحن لا نعيش كما يعيش أبناء اليونان، ولا نرغب في أن نصبح عبيدا لهم "، مما يعني أنهم كانوا لا زالوا في طور البداوة، إلا أنه من المحتمل أن يكون الأنباط أكثر تقدما في نظامهم السياسي مما نعتقد قبل ظهورهم السياسي في المنطقة، وإن وصف ديودورس هذا ربما كان جزئيا وانتقائيا إلى حد كبير، فإن ما عاينه ديودورس أو شاهد العيان الذي اعتمد عليه لم يكن ليعلم بالجانب الآخر من الصورة، ففي المركز من هذه القبائل ثمة حواضر أو مدن تتمركز فيها الأنظمة السياسية/الإدارية، وفيها قدر من التمدن، وهذا النمط من التمدن لا بد أنه ظل متجاور ومتسق مع الأنماط الأخرى البدوية والزراعية التي لا تزال تعيش حتى أوقاتنا هذه، وستظل كذلك إلى أمد بعيد لا يمكن التكهن به، ما دام أن طبوغرافيا المنطقة لا تزال تحتفظ بخصائصها هذه التي يغلب عليها السمات الصحراوية وشبه الصحراوية، والتي لا تزال تشكل الجزء الأكبر من تضاريس المنطقة.
من ناحية أخرى، فإن للأنباط تجارب غنية في الحروب على ما يبدو قبل قيام دولتهم، وهذه ميزة كان لا بد منها في عصر كثرت فيه القلاقل والهجمات من جهات عديدة، فحملات الغزو والسلب كانت لا تزال شائعة في المنطقة منذ أمد بعيد، وما الحملات التي كانت تقوم بها الجيوش الأشورية والفارسية من الشرق والمصرية من الغرب إلا صدى لهذه الهجمات أو تأديبا للقائمين عليها لحماية مصالح الدول الكبرى في ذلك الحين، ثم إن القبائل العربية نفسها كانت تتبادل الأدوار في هذه اللعبة الحربية الواسعة التي كانت ضرورية على ما يبدو لاستمرار العيش أو حماية النفوذ والمصالح، والوثائق التاريخية والأثرية حافلة بأنباء الكثير من الغزوات والحروب والمعارك منذ نهاية عصر البرونز وبداية العصر الحديدي، ولم يكن قيام الممالك والدويلات في المنطقة (آرام – ماري – إسرائيل – أدوميا – عمون – مؤاب - قيدار. .إلخ) ليحد من الصراعات والمعارك والغزوات، بل إن حروبا أوسع صارت تنشب بين هذه الكيانات الصغيرة بين الحين والآخر، وكانت بين كل ذلك مجموعات من القبائل البدوية الكبيرة التي لا ترتبط بأي من تلك الكيانات (مثل قبائل الشاسو والعبيرو) مما سيكون سلاحا لها وعليها في الوقت نفسه، فهي مرة في حل من الالتزامات الدفاعية المترتبة على الدولة أو الدويلة، وهي مرة أخرى هدفا لغزوة هذه الدولة أو تلك خصوصا من الدول الكبيرة كدولتي المصريين والأشوريين.
وفوق كل ذلك، كانت القبائل العربية، تواصل الصراع على العيش والنفوذ، فإلى جانب قساوة الصحراء ومتطلبات العيش فيها، فإن الزحف السكاني الذي ظل يدفع سكان الجنوب نحو الشمال ربما خلق ازدحاما في ظل ضآلة الموارد المائية والغذائية، وإذا ما أضفنا إلى ذلك هجمات الجيوش الكبيرة المنظمة على المناطق القبلية أمكننا تخيل الفوضى الإضافية التي ستدفع بمجموعات واسعة إلى الغرب، المنفذ الأقل قوة لصد هذا التدفق،وهو أيضا الأكثر إغراء من ناحية الموارد، خصوصا المائية والمناخ مقارنة بالمناطق الداخلية والشرقية لشمال الجزيرة العربية. ويبدو أن المناطق الغربية الشمالية المحاذية لبلاد الشام إضافة إلى بلاد الشام نفسها ظلت نسبيا أكثر أمنا واستقرارا من المناطق الشرقية والداخلية لشمال الجزيرة العربية، وهذا ما سمح ببناء حضارات في أطراف الجزيرة عاشت فترات طويلة مثل حضارة القيداريين (المديانيين) واللحيانيين والصفويين، وهكذا ظلت هذه المناطق المحاذية لمنطقة بلاد الشام خصوصا والهلال الخصيب عموما تكتنز إرثا حضاريا غنيا بعناصر بناء الدول والأنظمة السياسية والإدارية، وظل هذا الإرث هاديا للمجموعات العشائرية الكبيرة المندحرة والفائضة من هذه المناطق لمعاودة استرجاع أمجادها وبناء أنظمتها السياسية الخاصة بها، القادرة على حماية مصالحها، مستفيدة مما وجدته أيضا من أساسات وقواعد في هذا المجال، ويشهد على ذلك تبنيها لمختلف النظم الزراعية والصناعية (كصناعة الفخار) والعمرانية والإدارية (كتعيين حكام ولايات أو نواحٍ أو قضاة ومشايخ)، ثم اتخاذهم المدن السابقة مقرا لهم (كالبتراء والسلع وبصيرة) التي كانت للأدوميين، و(الحجر، والعلا وتيماء) التي كانت للقيداريين الثموديين، (وصلخد، السويداء) التي كانت للآراميين السوريين (آرام دمشق)...إلخ.
ويجب التذكير أيضا في سياق الإرث الحضاري لبناء الدول بأن بلاد الشام ومنطقة الأردن تحديدا كانت قد خبرت بناء الدول – الدويلات منذ عصر مبكر، وتحديدا منذ المرحلة الثانية من العصر الحديدي (1000-586 ق.م )، وهذه المرحلة من أهم المراحل السياسية في منطقة جنوبي بلاد الشام، خصوصا الأردن، إذ ظهرت مجموعة من الدول في بلاد الشام ومنها شرقي الأردن، وتمتعت هذه الدول بمركزية في الحكم وبعلاقات خارجية مع الدول المجاورة.
ومنذ نهايات القرن الرابع قبل الميلاد، حتى بدايات القرن الثاني قبل الميلاد، أي ما يزيد على قرنين من الزمن، لا نملك صورة تامة عن مجريات التطور في هذه الحقبة الطويلة باستثناء القليل الذي تجود به قطع الآثار الصماء التي يعثر عليها بين الحين والآخر في الحفريات التي يقوم بها مختصون معظمهم من الأجانب، إلى أن تصلنا لمحات سريعة من الجغرافي الروماني سترابو Strabo الذي هو الآخر ينقل عن صديقين له عاش أحدهما في البتراء في القرن الأول قبل الميلاد، ينقل لنا سترابو صورة مجتمع جديد مناقض لما وصفه ديودورس قبل أكثر من قرنين من الزمان، هنا تختفي البداوة وتصبح الغلبة للتمدن والكسب والثراء والاستقرار في بيوت الحجر، وهنا يظهر الملك ونظام الإدارة، وهنا تتعمق القيم المادية على الزهد البدوي في الملكية، فيعاقب الخامل الفقير ويكافأ الغني المجد، وفوق كل ذلك، يصبح شرب الخمر طقسا من طقوس الضيافة والكرم والعبادة... إلخ.
وحسب سترابو فقد حدثت معجزة الانتقال إلى عصر التمدن من عصر البداوة، فوجدنا مجتمعا متمدنا ومدينة مأهولة ومصقولة في الصخر، ومنازل مبنية محاطة بالحدائق، والمدينة تعج بالأجانب، وهي تعج بالثراء وبالتجارة القادمة من جنوب الجزيرة العربية ومن آسيا حتى الهند إلى الشرق، هذه هي عاصمة مملكة الأنباط المستقلة.
يتحدث سترابو عن البتراء في أوج ازدهارها العمراني والتجاري، بعد أن قطعت المدينة شوطا كبيرا في التمدن والتحضر من خلال الاتجار والاستقرار اللذين كانا مرتبطين إلى حد كبير، لكننا مع ذلك لا نستطيع تحديد بداية الازدهار على وجه التعيين، لكننا سنتقلى المزيد من الإشارات المفيدة من سترابو نفسـه ومن مصادر أخرى كالمؤرخ اليهودي يوسيفيوس الذي كتب كثيرا عن دولة المكابيين خصوصا حروبهم مع دول الجوار مضطرا الإشارة إلى الأنباط من منظاره اليهودي المتعصب لليهود - للمكابيين ثم للرومان الذين منحوه الجنسية الرومانية.
من الناحية الاقتصادية، أقصد مسيرة التطور الاقتصادي للأنباط، فإن خط سير هذا التطور يمكن أن يكون أكثر وضوحا من غيره، وبالإمكان إعادة تصور المحطات الرئيسية لمسيرة التطور هذه لكن دون الكثير من التفصيلات، ومصادرنا الأساسية في هذا التطور هي ذاتها المصادر الأساسية الكلاسيكية: ديودورس اليوناني، وسترابو الروماني ويوسيفيوس بدرجة أقل، وأفضل تلك المصادر الفخار النبطي ومختلف اللقى الآثارية المادية المتنوعة.
من المؤكد أن الأنباط قبل ظهورهم السياسي في القرن الرابع قبل الميلاد كانوا قبائل وجماعات يغلب عليها الطابع البدوي في نمط العيش والاقتصاد، جماعات عماد اقتصادها قطعان الإبل بالدرجة الأولى ثم الأنواع الأخرى من الماشية خصوصا الضأن كما شهد سترابو، ولو افترضا أيضا أن قسماً منهم كان قد اعتاد حياة التمدن في الحجر أو في تيماء أو العلا قبل هجرتهم إلى الغرب نحو جبال الشراة "سعير"، فإن هذه الفئة لا بد من أنها أعادت بناء نفسها والمعطيات الجديدة، أي الاستعداد للارتحال الدائم، ثم الاهتمام أكثر باقتناء الإبل، مع الاحتفاظ بالتطلع إلى الفرص التجارية أو فرص الاستقرار كلما أمكن ذلك، دون أن ننسى أن شرائح متزايدة من الأنباط كانت على صلة بالزراعة قبل نزوحها الجبري والاختياري نحو الشمال الغربي، أي نحو بلاد الأدوميين، ولا شك أيضا في أن امتهان الزراعة كان ذا صلة وثيقة بالعمل التجاري للأنباط، فهو ضروري لتموين القوافل بالحبوب خصوصا وبالمنتجات الأخرى التي توفر سلعا لهذه القوافل يمكن المتاجرة بها والحصول من خلالها على بعض المال أو بعض السلع التي تحملها القوافل عندما كانت تتوقف في المحطات التي يقطنها الأنباط. وهكذا يمكن الافتراض أن الأنباط قدروا قيمة الأعمال الزراعية في وقت مبكر وعلى الأرجح بعد استقرارهم في بلاد الأدوميين، وقد جذبت بلاد الأدوميين خصوصا جبال الشراة – سعير ما يمكن تسميته بطلائع المزارعين الأنباط ليشاركوا الأدوميين خبراتهم في هذا المجال ثم ليبدؤوا مزاحمتهم فيه في وقت لاحق ليرثوا هذا القطاع أيضا من قطاعات العمل الاقتصادي بعد أن كانوا قد احتكروا قيادة القوافل التجارية وتهيئتها بكل مستلزماتها ذهابا وإيابا عبر شرايين الطرق المتفرعة شمالا وجنوبا، شرقا وغربا.
وبالنسبة لهؤلاء ثم لكل الأنباط القادمين من الشرق والجنوب، فإن بلاد الأدوميين أصبحت أكثر المناطق استقبالا للجماعات الجديدة، ويجب الاستذكار دائما أن الأنباط ليسوا بغرباء عن المنطقة، وليسوا بغرباء عن الأدوميين، فلا بد من أنهم تعارفوا قبل ذلك من خلال عمليات النقل التجاري والتبادل التجاري، ولربما تعاون الطرفان في توفير خدمات القوافل التجارية في أرجاء المنطقة، وكان للأدوميين تجارة واسعة أيضا، وربما كانوا وسطاء أكثر منهم أصحاب تجارة بسبب موقع بلادهم المتوسط بين الأسواق الكبرى، وبالحد الأدنى فقد شكلت بلادهم ملتقى الطرق التجارية المتجهه نحو الشمال والغرب أو العكس نحو الشرق والجنوب مرورا بتيماء ومكة نحو جنوب الجزيرة ونحو شرقيها إلى الهجرة (الجرعاء) على الخليج العربي، ثم على ميناء البحر الأحمر الأكثر قريب لهم (لوكي كومي) و (إيلة). هذه الطرق التجارية كانت قد وفرت للطرفين حدا معينا من التعارف وربما التزاوج في مرحلة أبكر مما يعتقد بعض الدارسين الذين جعلوا الاختلاط والتمازج النبطي الادومي لاحقا لانهيار دولة الأدوميين مع أواسط القرن السادس الميلادي على يد الملك الأشوري نابونئيد
(552 ق.م) أو الملك الفارسي قمبيز، إن افتراض هذا التمازج سيظل مدعوما بالكثير من الدلائل ومنها الدلائل اللغوية حيث تتشابه اسماء الأشخاص وكذلك الدلائل الدينية حيث المشاركة في الآلهة، ومن ذلك مثلا أهم الآلهة الأدومية التي تبناها الأنباط أو كانوا يشاركونهم فيها: ذو الشرى الذي خلف " قوس" إله الأدوميين. إذ أن المكتشفات الأثرية كشفت النقاب عن عدد كبير من المستوطنات الأدومية المتأخرة في المناطق التي آلت أخيرا للأنباط. ويرى الأثريون أن النقوش الأدومية بقيت قيد الاستعمال حتى العصر الهلنستي، فقد عثر (Gluck 1971) على كسرتين من الفخار عليهما كتابة أدومية الأولى في تل الخليفة، والثانية في موقع العزى الواقع إلى الجنوب من تل عراد إلى الجنوب الغربي من البحر الميت في فلسطين، وكتب على الكسرة الأولى اسماء مثل قوس بنا، وقوس نداب، وبي قاقس، بينما يتحدث النص المكتوب على الكسرة الثانية عن إعطاء أوامر لإحضار طعام إلى أحد المذابح والحقيقة أن الزراعة في جنوبي بلاد الشام كانت قد راكمت تراثا عريقا منذ العصر الحجري النحاسي، وظل هذا التراث يتراكم ويتطور فجمع بين الزراعة وتربية الماشية، وبمرور الأيام اتجه مزارعو العصر البرونزي القديم (3500-3100 ق.م) إلى الزراعات الشاملة، ثم اهتموا بزيادة الإنتاج لأغراض التصدير، وأدى هذا إلى ظهور أنظمة اقتصادية معقدة رافقها إنتاج بضائع لا علاقة لها بالزراعة أما بالنسبة لأنواع الزراعات فإنها أصناف المزروعات تكاد تكون نفسها منذ أبعد العصور، فطبوغرافيا المنطقة ومناخها وأمطارها هي التي تتحكم أكثر بهذه المزروعات شأن المناطق الأخرى في العالم، لذلك فإنه يمكن القول أن العنب وأشجار اللوزيات والرمان وما شابه ذلك عرفت في المنطقة منذ أقدم العصور، ولا شك أيضا في أن الزيتون كان من أقدم الزراعات على الرغم من إشارة سترابو التي قال فيها أن الأنباط كانوا يستخدمون زيت السمسم بدلا من الزيتون، لكن إشارات أكثر دلالة وصلتنا من مصادر متعددة عن انتشار الزيتون في المنطقة مثلما انتشرت في المناطق الكنعانية المجاورة، أما الحبوب فهي أيضا من أقدم الزراعات لأنها ظلت ولا تزال متطلبات أساسية لغذاء الإنسان والحيوانات الأليفة أيضا.
في مجال الصناعة، ورث الأنباط نوعين أساسيين من أنشطة الأدوميين الصناعية وأهمها صناعة الفخار التي تشير الدراسات إلى تطوره المباشر عن الفخار الآدومي الذي يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد ثم تعدين المعادن، خصوصا النحاس الذي اشتهرت به منطقة فينان قرب الطفيلة، ثم مناجم النحاس وغيره في سيناء القريبة مما سنتعرض له في الفصل الرابع في مناقشة النظام الاقتصادي للأنباط.
حدود الدولة النبطية ومناطق نفوذها وجغرافيتها ومناخها:
كان لجغرافيا مملكة الأنباط أهمية حاسمة في مكانتها نظرا لموقعها الاستراتيجي المسيطر على ملتقى القارات والبحار القديمة مما جعلها تتحكم بطرق التجارة البرية والبحرية ما بين الشرق والغرب، فقد شملت هذه الجغرافيا شمال شبه الجزيرة العربية والسواحل الشمالية للبحر الأحمر مكان مملكتي مدين وأدوم، وهي المنطقة التي أطلق عليها الرومان "بلاد العرب الصخرية" Arabia Petraea، وشملت كذلك منطقة بادية الشام وبلغت رقعة الأنباط أقصى امتداد لها في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، حيث شملت منطقة دمشق وجنوبي سورية وجبال لبنان الشرقية ومن النقب وسيناء وشرقي الأردن وفلسطين وشمال الجزيرة العربية حتى خيبر ومناطق الخليج العربي، لذا لفتت هذه المملكة أنظار الامبراطوريات الكبرى اعتبارا من الإمبراطورية الأشورية في الربع الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد، حيث برهن الأنباط انتماءهم العربي من خلال رفضهم الاحتلال والدفاع عن حريتهم وكرامتهم والتصدي للغزوات الخارجية وإيقاف التوسع السلوقي في البلاد العربية .
شكلت المنطقة الأدومية نواة البنية الجغرافية للأنباط، وكان الأنباط قد سيطروا على أدوم ومؤاب في القرن الرابع قبل الميلاد، وكانت مملكة الأدوميين قد قامت في جنوب الأردن بين وادي الحسا وخليج العقبة، في الفترة الممتدة من القرن التاسع حتى الغزو الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت بصيرة عاصمة الأدوميين، وهي القرية الحالية التي تحمل الاسم نفسه قرب الطفيلة، ومن اهم مواقع الأدوميين في شرقي الأردن إضافة إلى بصيرة والبتراء التي كانت تسمى "الصخرة" زمن الأدوميين، ويعتقد الكثير من الدارسين، خصوصا التوراتيين أن السِلعْ – البترا هي نفسها التي ورد ذكرها في التوراة زمن إمازيا حيث الرواية الدرامية التي يقتل فيها إمازيا عشرة آلاف من الأسرى الأدوميين من خلال رميهم من أعلى قمة من السلع.
وكان الأدوميين قد ورثوا هذه المنطقة من الحوريين سكان الكهوف الذين عرفوا في منطقة سعير- جبال الشراة منذ أقدم الأزمان حسب بعض الدارسين، ويبدو أن "سعير الحوري" كان أميرا على تلك الأقوام وبه سمي الجبل جبل سعير، ولقد ورد في التوراة ذلك اللفظ حيث يتحدث سفر التكوين عن الجزء الجنوبي من الأردن، وذلك الجزء الذي يمتد من وادي الحسا إلى خليج العقبة، ويوجد سبب قوي للاعتقاد أن البتراء هي (سلع) المذكورة في التوراة، أضف إلى هذا أن الاسم العبري والاسم اليوناني (بتراء) يدلان على المعنى نفسه "الصخر" مع أن كلمة سلع في اللغة العربية تعني بالتدقيق الشق في الصخر، وهذا أكثر تطابقا مع طبيعة البتراء وموقعها. ونحن نفهم من أقوال التوراة أن سلع تقع في مملكة أدوم القديمة التي كان يسمى سكانها الأصليون (حوريون) أو سكان الجبال، وهم الذين طردهم الأدوميون وحلوا محلهم، حتى جاء الأنباط فطردوا الأدوميين بدورهم واستولوا على بلادهم. وتروي التوراة أن (أمصيا- إمازيا) ملك يهودا (796-781 ق.م) احترب مع الأدوميين في معركة كبيرة وألحق بهم الهزيمة وذبح عشرة آلاف منهم على أرض المعركة (أو عشرة عائلات لأن الكلمة العبرية تعطي كلا المعنيين) وأخذ عشرة آلاف آخرين (أو عشرة عائلات) إلى الصخرة (سلع) التي استولى عليها "وطرحهم عن رأس سلع فتكسروا أجمعين"، وقد وجدت على قمة (أم البيارة) وهي أعلى القمم الضخمة بين جبال البتراء غربي الهيكل – بعض الدلائل الثبوتية على إقامة الانسان فيها في العصر الحديدي (حوالي القرن التاسع ق.م) ولكن يبدو أن البتراء كانت تستعمل كملجأ أكثر منها سكنى للإقامة الدائمة.. ولا بد من أن الأسرى قذف بهم من أعلى هذه القمة.
وثمة خلاف أيضا على موقع "سعير" المشار إليه عند بعض الدارسين الذي يعتمدون على ما ورد من تناقضات في تعريف التوراة نفسها لجبال سعير، إذ إن بعض النصوص الكثيرة في التوراة تشير إلى سعير وأدوم بما يضعهما غربي وادي عربة، ويمكن ملاحظة ذلك في سفر التثنية – الاشتراع بما فيه من مفاهيم أو إشارات مختلفة عن سعير – وأدوم، أو أن هذه المنطقة تعتبر امتدادا لها، أي لجبال الشراة التي تجمع أغلب الدراسات على كونها النواة للمنطقة أو الجزء الأهم فيها.
وبلغت دولة الأنباط أقصى اتساعها الجغرافي أيام حارثة الرابع، أي في أواخر القرن الأول قبل الميلاد والنصف الأول من القرن الأول الميلادي، إذ ضمت منطقة واسعة إلى جنوب البتراء بلغت حتى حدود العُلا في المملكة العربية السعودية، وكان وجودها واضحا في منطقة النقب، كما كان امتدادها إلى الشمال قد بلغ أقصاه بضم دمشق (في عهد حارثة الثالث سنة 85 ق.م). وهذا الاتساع في معظمه سياسي وتجاري، إلا أن الاتساع التجاري قد تجاوز هذه الرقعة كثيرا، إذ شمل موانئ البحر المتوسط، وسيناء، وموانئ مصر، وساحل البحر الأحمر شرقي النيل، ويستخلص من النقوش النبطية التي وجدت بمصر أن الأنباط هنالك كانوا جالية خاصة لها كاهنها، وفيهم الرفاء (الذي يصلح الملابس) والاسكاف (الذي يصنع الأحذية ويصنعها) والجصاص (الذي يعد الجص أو الجبس للديكور)، ولديهم جمالون من نقلة السلع ذهابا وإيابا بين مصر وبترا، حتى كانت لهم جالية في بيتولي بإيطاليا، ومن الثابت أنهم بلغوا في تجارتهم اليمن، إن لم يكونوا تجاوزوها إلى الهند، أما شرقا فقد كانت صلاتهم التجارية تجعلهم يرودون موانئ شرق الجزيرة العربية لينقلوا السلع القادمة من الهند أو من أواسط آسيا إلى هجر أو (الجرعاء)، ومن المرجح أن " جرعاء " هي نفسها الواقعة على الخليج العربي .
أقاليم دولة الأنباط:
ونظرا لامتداد رقعة الأنباط، فإنه يمكن تقسيم بلادهم حسب طبيعتها الجغرافية كما يلي:
أولاً- منطقة جبال الشراة شرقي الأردن:
وهي نواة الدولة النبطية وفيها عاصمتها الخالدة البتراء، وجبال الشراة كانت موئل حضارتي المؤابيين وعاصمتهم "ديبون – ديبان" في مأدبا حاليا والأدوميين وعاصمتهم "بصرى - بصيرة" في محافظة الطفيلة حاليا. وتتكون المنطقة من سلسلة جبلية تنتهي إلى الجنوب من مأدبا شمالا (وادي أرنون – الموجب) وإلى خليج العقبة جنوبا ثم تتجه إلى الشرق قبل أن تعرج شمالا إلى جبل رم الذي يكاد يفصل حدود المملكة العربية السعودية عن المملكة الأردنية الهاشمية، وبذلك فإن هذه المنطقة تتكون من سلسلة من الجبال إلى الشرق من البحر الميت وشريط صحراوي في الجنوب (النقب) وشريط أخر في الشرق ويعتبر امتدادا لشمال شبه الجزيرة العربية.
ثانياً- المنطقة الشمالية الغربية لشبه الجزيرة العربية:
أي المنطقة الجنوبية لمملكة الأنباط: تشمل هذه المنطقة الجغرافية شمال غرب المملكة العربية السعودية، والمنطقة المتممة لها الواقعة جنوب الأردن من رأس النقب إلى العقبة، وتمتد من وادي القرى جنوبا إلى رأس النقب والعقبة (إيلة) شمالا وهذه المنطقة الممتدة تضم جبال الحجاز الشمالية، ويطلق عليها "مدين" ويعد جبل رم في الأردن الحد الشمالي لها، وتضم أيضا حوض تبوك، وصحراء حسما التي تتألف من هضاب حجرية رملية منفصلة، وتمتد جنوب شرق سلسلة جبال مدين (الحجاز)، وإلى الجنوب من هذه الصحراء تقع واحة تبوك. وتضم هذه المنطقة مركزين مهمين من مراكز الأنباط: مدينة الحجر وميناء "لوكي كومي" الذي يقدر موقعه بموقع "أم لج" على البحر الأحمر.
ثالثاً- حوض صحراء الحماد:
يشكل القسم الأكبر منها الجزء الشرقي من الأردن حاليا، وهي تمتد من رأس النقب جنوبا إلى الحًرة عند جبل العرب شمالا، ومن المرتفعات الأردنية المطلة على وادي الأردن غربا إلى وادي السرحان شرقا، وتعرف الحماد بأرض الصُوان، خاصة منطقة الجفًر، ويعبر هذه الصحراء عدة طرق قديمة، أهمها: الطريق التجاري البتراء – بُصرى الشام. ثم طريق دومة الجندل – باير – البتراء. ثم طريق وادي السرحان – الأزرق – بصرى الشام.
رابعاً- وادي السرحان:
ويقع إلى الشرق من حسما والحَماد، ويمتد من الجوف جنوبا إلى الأزرق شمالا، ونظرا لانخفاضه، فإن الأودية تصب فيه من كل الجهات، مما ساعد على تشكل واحات متعددة، مثل: دومة الجندل (الدومة )، الأزرق وبعض السبخات المالحة مثل "قرَياتْ الملح"، وكانت دومة الجندل تشكل عقدة الطرق التجارية من الاتجاهات المختلفة، ولهذا كله اتخذ الوادي طريقا للقوافل والهجرات البشرية على مر العصور.
خامساً- حَرة جبل العرب:
تمتد من جنوب شرق دمشق إلى جبل العرب في سوريا، ثم تستمر باتجاه الجنوب الشرقي إلى الصفاوي في الأردن حتى طريف في السعودية، وتعتبر من اكبر الحَرات في شبه الجزيرة العربية، حيث تبلغ مساحتها أكثر من 45 ألف كيلومتر مربع، يغطي سطحها الحجارة البازلتية السوداء، وتتألف من هضاب مستوية، وفي بعض الأحيان تختفي لتشكل القيعان.
سادساً- سهل حوران:
وحوران هي الهضبة الواقعة جنوب دمشق في الشمال ووادي اليرموك وجبال عجلون في الجنوب ومنخفض الأزرق في الجنوب الشرقي إلى هضبة الجولان وجبل الشيخ غربا وصحراء الحماد وجبل العرب شرقا..
وحوران سهل يقع إلى الجنوب الغربي من الجزء الشمالي للحرة، ويشكل أرضا خصبة كانت تنتج كميات كبيرة من الحبوب، حيث كانت تسـمى " أهراء روما " في الفترة الرومانية، وأهم قراها سَيْع وصَلخَد وبُصرى (من أعمال محافظة السويداء في سوريا) وأم الجِمال، وتمر منها شبكة طرق تجارية.
وفي الشمال ضمت منطقة الأنباط منطقة حوران بكاملها وفق غالب الشواهد، وإن كان ذلك قد تم بصورة تدريجية أو في وقت متأخر من قيام المملكة النبطية. ويعود وجود الأنباط في حوران إلى زمن مقارب للوجود النبطي في النقب، وتشير " بردية زينون " إلى وجود الأنباط هنالك حوالي سنة 259 ق.م، ولكن طبيعة ذلك الوجود المبكر غير واضحة، ولعل سيطرة الأنباط بالمعنى الصحيح على حوران لم تتم قبل عهد عبادة الأول حين اصطدم بينايوس سنة 93 ق.م في النزاع على الجولان، وعهد حارثة الثالث الذي استولى على دمشق سنة 85 ق.م .
وتكمن أهمية المنطقة في كونها همزة وصل بين وادي السرحان، وهي الطريق الآتي من الجزيرة العربية إلى سوريا، وبين شمال سوريا وجنوبها، إضافة إلى أهميتها الزراعية؛ حيث كانت تشكل مستودعا لمنتجات الحبوب والفواكه. وقد عرفت عند الأنباط باسم "باشان"، وذكرها الأشوريون باسم "حورانو"، وقد تبع القسم الأكبر منه مملكة الأنباط، وكانت بصرى عاصمتهم الثانية، ومن أهم مراكزهم التجارية. وقد أسس الأنباط فيها عدة مدن ومستوطنات مثل: أم الجمال وسيع وقنوات واللجاة وغيرها، وتبعت دمشق لهم في بعض الأحيان، وربطها الأنباط بشبكة من الطرق . وقد وجد في مدينة السويداء السورية خرائب وآثار نبطية منها معبد، مثلما وجد في صلخد أيضا مبانٍ ومعبد تعود للأنباط.
ويشير د.إحسان عباس إلى أن الأنباط أقاموا في حوران مصالح تجارية في المقام الأول بغض النظر عن مدى نفوذهم السياسي والشاهد على ذلك أنهم لم يصطدموا بالرومان حين احتل هؤلاء سوريةعام 64 ق.م، ولم نسمع عن أية مواجهة بينهم وبين البارثيين (الفرتيين) حين دخلوا سورية(البقاع) سنة 51 ق.
والنظرية الأكثر قبولا في هذا الصعيد هي أن دور الأنباط في فترة القلاقل التي مرت بها في منطقة أواسط الشام (دمشق) لم يكن بمعزل عن السياسات الجديدة للدولة العظمي روما التي بدأت تحل محل السلوقيين والبطالمة الذين أنهكهم الصراع وصاروا هم أنفسهم يدورون في مدار السياسات الرومانية الزاحفة إلى المنطقة رغم انشغالاتها في صراعات أخرى داخلية وخارجية.
وثمة اسئلة كثيرة بحاجة إلى توضيحات جادة بشأن العلاقات النبطية بمناطق نفوذهم في الشمال، أي في سورية، ذلك أن تلك المناطق تكاد تكون منفصلة عنهم جغرافيا بسبب حاجزين كبيرين، هما: حلف المدن العشر (الديكابولس) والمنطقة التي تسـمى بيرايا (البرية)، وكانت الطريق إليها عبر المدن العشرة، وطريق وادي السرحان الذي يبتعد شرقا ثم ليعاود التفافه ليصل إلى حوران.
سابعاً- وادي عربة:
وهو الجزء الجنوبي من حفرة الانهدام الأردنية، حيث تمتد من الحافة الجنوبية للبحر الميت شمالا إلى خليج العقبة جنوبا مسافة 180 كيلومتراً، ويتراوح مستوى هذا الوادي من 400 م تحت سطح البحر عند طرفه الشمالي قرب البحر الميت إلى 400 م فوق سطح البحر عند الريشة في منتصف المسافة تقريبا، ثم ينخفض ليصل إلى مستوى سطح البحر عند إيلة- العقبة، وتحيط الجبال بهذا الوادي من الجهتين، الشرقية والغربية مثل الجدار، فجبال الشراة من الشرق وهي جبال رملية تتخللها الأودية السحيقة التي تحوي بين جنباتها مدينة البتراء، ويحده من الجانب الغربي جبال صحراء النقب، مما جعل طرق التنقل بين الشرق والغرب محدودة.
ثامناً- صحراء النقب:
هي القسم الجنوبي من فلسطين، تقع إلى الغرب من وادي عربة، تشكل مثلثا رأسه خليج إيلة (المرشرش) في الجنوب وعلى خليج العقبة، وقاعدته بين غزة على البحر المتوسط في الغرب والخليل في الشرق، وتشكل هذه الصحراء نصف مساحة فلسطين تقريبا (577،12كيلو متر مربع)، بالرغم من طبيعتها الصحراوية الجافة، إلا أنها شهدت نهضة زراعية في عهد الأنباط، ويبلغ معدل الأمطار السنوي فيه نحوا من (120 ملم) وعدد الأيام الماطرة 10- 30 يوما ولعل أهم مدنها غزة ذات الميناء الشهير، وعبودة، ونتسانا (عوجا الحفير) والخلصة، ومن مدنها الحالية التي بنيت في عهد الكنعانيين بئر السبع ، ومن غزة تمر الطريق الساحلية بين مصر وسوريا، وبها ينتهي طريق البخور الآتي من جنوب الجزيرة، وتمتد سلسلة جبال صخرية من الخليل باتجاه الغرب لتصل إلى شرق غزة تسمى محدودبات النقب.
وتعتبر الخلصة Elussaالعاصمة الإقليمية للنقب زمن الأنباط، تجاورها من الشرق "كرنب" وعبودة من الجنوب على الطريق التجاري النبطي المؤدي إلى غزة. أما كرنب فتقع على تلة صغيرة ترتفع 479 م عن سطح البحر، وتقع على بعد عدة كيلومترات جنوب ديمونا ملتقى الطرق القديمة، ويعود أبكر استيطان في كرنب إلى النصف الأول من القرن الأول الميلادي. وتقع عبودة على الطريق التجاري الرئيس بين البتراء وغزة، وتحتوي على معبد وقلعة نبطية وحي سكني مبني بشكل منظم يحيط به مع القلعة سور دفاعي، يشتمل على برجين دفاعيين يتكون كل منهما من ثلاثة طوابق، ويبدو أن الاستيطان في عبودة استمر حتى الفترة البيزنطية.
تاسعاً- صحراء سيناء:
تقع هذه الصحراء إلى الغرب من صحراء النقب وهي شبه جزيرة على شكل مثلث رأسه في الجنوب عند رأس محمد، وقاعدته على البحر المتوسط ما بين رفح في الشرق وبور سعيد في الغرب، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مناطق:
أ- المنطقة الساحلية المحاذية للبحر المتوسط.
ب- منطقة التيه: وهي سهل صحراوي عظيم تتخلله بعض الجبال التي تفصله عن منطقة الطور، ويمر عبر وادي العريش متجها إلى الشمال، كذلك يمر منه وادي فيران الذي تقع فيه مدينة فيران، وقد عثر في هذا الوادي على الكثير من النقوش النبطية.
ج – منطقة الطور: وهي المنطقة المحصورة ما بين جبال التيه على شكل قوس والمنطقة الممتدة من السويس إلى إيلة، وتتألف من جبال عالية وأودية عميقة.
ويكاد الوجود النبطي في سيناء يكون امتدادا لوجودهم في النقب، وإن لم يكن ذلك الوجود مشمولا بالاستثمار الزراعي الواسع، وقد كان المرجح أن سيناء لم تكن منطقة استقرار لهم، وإنما كانت طريقهم إلى مصر، ولكن يبدو من متابعة البحث والكشوف في شبه الجزيرة أنها كانت جزءا مكملا من النبطية. ويكاد وجود الأنباط في سيناء يعود إلى العهد الهلنستي، ولذلك تكون صلتهم بسيناء موازية – زمنيا – لصلتهم بالنقب ومنطقة إيدوم وجنوبي سوريا، وكانت أهم مواطنهم فيها إلى الشرق من قناة السويس وإلى الجنوب الغربي من إيلة في الشمال، وفي المنطقة الجبلية الجنوبية.
وإذا ما نظرنا نظرة شاملة لجغرافيا الأنباط فسـنراها ذات امتداد واسع شمل رقعة واسعة من المملكة الأردنية الحالية باستثناء مدن تحالف الديكابولس، وهذا التحالف يقتطع من الأنباط منطقة غنية ومهمة تبدأ من حدود مدينة مادبا جنوبا إلى مدينتي جرش ثم إربد في الشمال، وهذه المدن تشكل نحو نصف السلسلة الجبلية الغربية لشرقي الأردن فيما تشكل جبال الشراة الجزء الجنوبي منها، والسلسلة تتكون من جبال وهضاب ترتفع بين (660- 1200) م فوق مستوى سطح البحر، ويكون نهر الأردن حدها الغربي شمال البحر الميت. أما بخصوص ما كان يسمى منطقة "بيرايا "، وربما هي أصل كلمة "البرية" العربية، فهي كانت منطقة متغيرة السيادة ما بين الأنباط ودولة اليهود خصوصا، في عهد المكابيين، وهي المنطقة الجافة التي تحاذي البحر الميت من الشرق، حتى حدود جبال الشراة من الغرب.
مناطق التواجد النبطي
وتشكل الصحراء الحد الشرقي لمملكة الأنباط ويمتد إلى شمال شبه الجزيرة، حتى حدود دولة العراق المعاصرة شرقا وبادية الشام شمالا وتتكون منطقة الصحراء من الحجر الجيري والصوان في الوسط، والحجر الرملي والغرانيت في الجنوب، والحجر البازلتي البركاني في الشمال والشمال الشرقي ، لكن الأنباط ظلوا يسيطرون على الصحراء الممتدة إلى الشرق من مدن الديكابوليس ليصلوا عبر هذا الطريق إلى حوران وجنوب سوريا حيث مصالحهم الحيوية.
أما مناطق الأنباط في سوريا الحالية، فقد أسهبنا في استعراضها، ويمكن إيجازها في ثلاث مناطق رئيسية:
1- المدن الواقعة على المنحدر الغربي لجبل حوران.
2- المدن الكبيرة والصغيرة والقرى الواقعة على الجانب الجنوبي من الجبل وفي السهل الزراعي الممتد غربا نحو درعا وجنوبا وشرقا نحو الحماد.
3- في بعض مناطق اللجاة وهي تركونيا (تراخونيا القديمة) ويقع خط الحدود الشمالي للأنباط على خط في الجمهورية العربية السورية، ويمتد هذا الخط بين صلخد وبصرى، وأما ما يقع شمال هذا الخط، فإن سيطرتهم عليه فيما يبدو تجارية محضة أو سيطرة سياسية آنية، وتضم بصرى أعظم الآثار النبطية، فقد صارت عاصمة الولاية العربية التي ينتشر فيها الأنباط، وصارت المركز التجاري والسياسي الذي ورث مجد البتراء في العهد الروماني. ووجدت أيضا آثار مهمة في السويداء وصلخد وسيع (سيعا) ومدينة دوبو/ تل دبة المكتشف مؤخرا، وسنعود لاستعراض المزيد من المعلومات عن هذه المواقع في الفصل المتعلق بالمدن النبطية.
أما المناطق الجنوبية لمملكة الأنباط فهي تتوزع على ثلاث من الدول الحالية، وأقصى هذه المناطق صحراء سيناء الواقعة في الأراضي المصرية، وقد أشرنا إلى أن الوجود النبطي في هذه المنطقة كان موازيا لوجودهم في صحراء النقب الفلسطينية، وأن الاهتمام النبطي فيها كان يندرج في إطار تأمين طرق التجارة عبر مصر خصوصا مينائها الهام الإسكندرية، وكان خط سير القوافل النبطية يسير من إيلة – على البحر الأحمر عبر النقب إلى غزة، ومن غزة إلى الاسكندرية عبر حواف صحراء سيناء مرورا بوادي العريش ووادي فينان الذي عثر فيه على الكثير من النقوش النبطية.
ومن خلال الرقعة الجغرافية الواسعة لبلاد الأنباط، يتبين لنا بيسر أن معظم هذه البلاد تقع على قفار شحيحة المياه، تكثر فيها المرتفعات الصخرية المتنوعة، ففي حوران الحجارة البازلتية، وفي النقب الحجارة الجيرية، وفي جنوب الأردن وشمال غرب المملكة العربية السعودية الحجارة الرملية والجيرية، كما تتوافر في بعض المناطق أنواع مختلفة من الأشجار التي وفرت مادة الخشب التي استخدمت في البناء، وتتميز بلاد الأنباط بوقوعها بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، مما أعطاها أهمية استراتيجية، جعلها تتحكم بطرق التجارة الدولية القديمة البرية والبحرية بين الشرق والغرب.
- الملوك الذين حكموا الدولة النبطية:
ملوك الأنباط
• الملك الحارث الأول ويعود تاريخ حكمه إلى حوالي عام 168ق.م.
• الملك الحارث الثاني يعود تاريخ حكمه إلى حوالي عام 100 ق.م.
• الملك عبادة الأول يعود تاريخ حكمه من (69-84) قبل الميلاد.
• الملك الحارث الثالث (84-76ق.م) التي كانت للملكة النبطية في عهده في أوج قوتها وعظمتها كماسك عدد من العملات النبطية.
• الملك مالك الأول(58ق.م-30ق.م).
• الملك عبادة الثاني (30ق.م-9م).
• الملك الحارث الرابع من (9ق.م-40م) حكم 49 عاما دون أن تضعف المملكة أو تخضع للحكم الروماني وهي من أكثر الفترات ازدهارا وهناك اهتمام واضح في البناء والزراعة.
• الملك مالك الثاني (40-70م).
• الملك رابيل الثاني (70-106م) آخر ملوك الأنباط.
ملوك الأنباط
• الملك الحارث الأول ويعود تاريخ حكمه إلى حوالي عام 168ق.م.
• الملك الحارث الثاني يعود تاريخ حكمه إلى حوالي عام 100 ق.م.
• الملك عبادة الأول يعود تاريخ حكمه من (69-84) قبل الميلاد.
• الملك الحارث الثالث (84-76ق.م) التي كانت للملكة النبطية في عهده في أوج قوتها وعظمتها كماسك عدد من العملات النبطية.
• الملك مالك الأول(58ق.م-30ق.م).
• الملك عبادة الثاني (30ق.م-9م).
• الملك الحارث الرابع من (9ق.م-40م) حكم 49 عاما دون أن تضعف المملكة أو تخضع للحكم الروماني وهي من أكثر الفترات ازدهارا وهناك اهتمام واضح في البناء والزراعة.
• الملك مالك الثاني (40-70م).
• الملك رابيل الثاني (70-106م) آخر ملوك الأنباط.
الأنباط وعلاقتهم بالإمبراطورية الرومانية من(30ق.م-106م)
إن الكتابات التي تطرقت إلى تاريخ وحضارة الأنباط كثيرة ويصعب إحصاؤها غير أنه يمكن القول من ناحية أخرى إن هذه الكثرة ما كانت لتقف حائلاً دون دراسة علاقة الأنباط بالرومان ، منذ بداية العصر الإمبراطوري وإلى سقوط الدولة النبطية في بداية القرن الميلادي الثاني ولاسيما أن الجزء الأكبر من الكتابات السابقة – حسب تقديري المتواضع- يتسم إما بالعمومية في التناول أو التركيز على آثار وحضارة الأنباط معاً .
وعلى فرض أن هناك كتابات متخصصة سبق لها التطرق إلى بعض جوانب هذا الموضوع، فلا يمكن منطقياً القول بأن أصحاب هذه الكتابات قد انتهوا في تناولهم إلى نتائج قطعية ونهائية، ويمكن القول أن المجهول من تاريخ الأنباط يفوق كثيراً ما هو معروف عنه وبما في ذلك تحديداً علاقة الأنباط بالقوى السياسية المختلفة . وقد كانت هذه القناعة من بين العوامل الرئيسة التي دفعتني لدراسة موضوع العلاقات النبطية الرومانية في الحقبة الإمبراطورية .
وقد اقتضت الدراسة تقسيم هذا الموضوع إلى أربعة فصول، وخاتمة وتدعيمه بملاحق وخرائط ولوحات تاريخية .
الفصل الأول – وهو فصل تمهيدي - وعنوانه " تاريخ ونشاط الأنباط الاقتصادي قبيل قيام الإمبراطورية الرومانية" فهو يتناول العوامل التي دعت الأنباط إلى استيطان البتراء، واتخاذ أغلبهم التجارة حرفة رئيسة ، وعلاقة هذا الأمر بمحاولة القائد المقدوني انتيجنوس إخضاع الأنباط لسيطرته بعد وفاة الإسكندر الأكبر ، ودلالة نجاح الأنباط في مقاومة الحملتين الحربيتين اللتين أرسلهما هذا القائد المقدوني إلى عمق بلادهم . وإضافة إلى تناوله علاقة الأنباط بكل من البطالمة والسلوقيين والمكابيين ؛ قبيل التدخل الروماني في سورية فقد خُصِّص جزءٌ كبيرٌ من هذا الفصل لدراسة العلاقات النبطية الرومانية في الحقبة السابقة لإعلان أوكتافيوس أغسطس التحول إلى نظام الحكم الإمبراطوري .
وأما الفصل الثاني الموسوم بـ" علاقة الأنباط بالرومان في عهد الإمبراطور أغسطس" فهو يشمل بالدراسة أثر الأنباط في الحملة العسكرية الرومانية التي استهدفت بلاد العرب السعيدة، بأمر من الإمبراطور أغسطس وقد جرى التركيز بشكل خاص على توضيح مسئولية الوزير النبطي سيلايوس عن دفع الأنباط إلى الإسهام في هذه الحملة وتقديم المصالح الرومانية على مصالح المملكة النبطية التجارية .
وقد استدعى هذا الأمر تتبع خطى الحملة الرومانية في مختلف مراحلها ، ومناقشة الاتهامات التي ألصقها سترابو بالوزير سيلايوس والأنباط، ومحاولة هذا الكاتب الإغريقي تحميل هذا الوزير النبطي مسئولية الإخفاق الذريع الذي انتهت إليه محاولة الرومان غزو جنوب شبه الجزيرة العربية ويتضمن الفصل أيضاً مناقشة جملة من الإشكالات المتعلقة بأحداث هذه الحملة ، بما في ذلك حقيقة وصولها إلى مأرب عاصمة السبئيين الشهيرة .
وفيما يتعلق بطبيعة العلاقات النبطية الرومانية بعد هذه الحملة ، يتناول الفصل التأثير السلبي الذي خلفه دخول سيلايوس في صراع مصالح مع الملك هيرود "الكبير" ، ومحاولة هذا الوزير النبطي الوصول إلى عرش المملكة النبطية بعد وفاة الملك عبادة ، وعلاقة هذا الأمر باتخاذ أغسطس قراره بالتخلص من سيلايوس ، والموافقة على تولي حارثة الرابع مقاليد العرش النبطي. ويختم الفصل بتناول دور الأنباط في إخماد الثورة اليهودية التي تعرض لها الرومان عقب وفاة هيرود "الكبير" ، والتأثير الإيجابي الذي خلفته هذه المشاركة في العلاقات النبطية الرومانية في سنوات حكم أغسطس الأخيرة .
أما الفصل الثالث وهو بعنوان " علاقة الأنباط بالرومان حتى سنة70 ميلادية"،فيتناول علاقة الأنباط بالرومان في عهود حكم الأباطرة : تبيريوس ، جايوس قيصر، كلاوديوس ، نيرون . وهو يركز على إظهار جوانب السياسة التي أتبعها الملك حارثة الرابع في تعامله مع الرومان، ومحاولته تأمين كيان المملكة النبطية من تقلبات السياسة الرومانية وإمكانية تحول علاقة التحالف إلى علاقة عداء ومحاولة سيطرة من جانب الرومان .
وقد أقتضى الأمر التطرق إلى تفاصيل سياسة هذا الملك النبطي ، ابتداء من محاولة إيجاد طرق تجارية بديلة للطرق التي توقّع تعرضها لخطر السيطرة الرومانية ، والاعتماد على الزراعة مورداً إضافياً وانتهاءً بمحاولة إعداد منطقة الحجر (مدائن صالح) ، لتكون مقراً بديلاً للحكم إذا تعرضت البتراء لأية مخاطر.
وقد ركز الفصل أيضاً على إبراز الوسيلة التي أعتمدها حارثة الرابع على إبقاء السلام قائماً بين الأنباط واليهود ، وعدم إعطاء أي ذريعة للرومان للتدخل في شئون بلاده ، وعلاقة فشل المصاهرة التي كانت بينه وبين الملك هيرود انتيباس بانحياز الرومان إلى جانب هذا الأخير ، في نهاية عهد الإمبراطور تيبريوس . وقد جرى التركيز على توضيح الظروف التي مكنت الأنباط من استعادة مدينة دمشق مرة أخرى ، والتأثير الإيجابي الذي خلفه تمسك مالك الثاني بسياسة والده حارثة الرابع ، ومساهمته في ازدهار أحوال الأنباط ، واستمرار علاقة التحالف بين الأنباط والرومان وتوثقها أكثر وأكثر بعد مشاركة الأنباط في إخماد الثورة اليهودية التي شهدتها فلسطين في أواخر عهد الإمبراطور نيرون ، واستمرت إلى ما بعد سنة 70ميلادية .
أما الفصل الرابع الموسوم بـ" علاقة الأنباط بالرومان إلى نهاية عهد الملك رب إيل الثاني" ، فهو يتناول بدايةً التمرد الداخلي الذي قام به أهالي الحجر على الأسرة المالكة النبطية عقب وفاة الملك مالك الثاني ، وعلاقة هذا التمرد بقيام الملك رب إيل الثاني بنقل مقر الحكم من البتراء إلى مدينة بصرى ، وإهمال منطقة الحجر وإخراجها من حساباته في أن تكون مقراً بديلاً للحكم كما كان مرسوماً لها .
وقد اقتضى الأمر مناقشة العوامل والأسباب التي يرى المؤرخون المحدثون أن لها صلة بعملية نقل مقر الحكم إلى بصرى وليس إلى أي مكان آخر . كما تناول الفصل وضع العلاقات النبطية - الرومانية في زمن حكم أباطرة أسرة فسباسيان ، وطبيعة أحوال المملكة النبطية في سنوات حكم رب أيل الثاني الأخيرة، وعلاقة هذه الأوضاع ، وحالة الضعف التي لحقت البتراء والحجر من جراء نقل مقر الحكم إلى بصرى ، وإهمال منطقة الحجر ، بتبدل سياسة الرومان تجاه الأنباط ، وإجبارهم رب إيل الثاني على الموافقة بتسليم بلاده إليهم ، مقابل موافقتهم على بقائه في سدة الحكم إلى حين وفاته . ويتضمن هذا الفصل محاولة لإزالة الغموض المحيط بكيفية سقوط الدولة النبطية ، وإبراز الأسباب التي مكنت الرومان من الاستيلاء على البتراء وبصرى دون الدخول في مواجهة عسكرية كبرى مع القوات النبطية .
وقد اقتضت الدراسة توضيح الظروف التي دعت الإمبراطور تراجان إلى تأجيل إعلان ضم ممتلكات الدولة النبطية إلى ما بعد سنة 111 ميلادية وعلاقة هذا الأمر بالحرب الفرثية وعدم تمكن قواته من بسط سيطرتها إلا على الأجزاء الشمالية من بلاد الأنباط وبقاء الحجر وبقية المناطق تحت سيطرة أحد أفراد الأسرة النبطية وقد ختم هذا الفصل بالإشارة إلى الترتيبات التي اتخذها الرومان بعد سيطرتهم على الأجزاء الشمالية من بلاد الأنباط .
وقد تضمنت الخاتمة أبرز النتائج التي انتهت إليها دراسة هذا الموضوع.
جديد الدراسة :
برغم أن أولية المرحلة العملية تجعل الباحث المبتدئ يكتفي فقط بجمع أطراف الموضوع في دراسة شاملة أظهرت لي دراسة هذا الموضوع إمكانية الإتيان بجديد ولو على المستوى الجزئي ، وتصويب بعض الأخطاء الواردة في الكتابات العامة وشبه المتخصصة . ونظراًَ لأن المجال لا يتسع لذكر كثير من التفاصيل سوف نكتفي هنا بالإشارة إلى الأمثال الآتية :
أولاً : الجديد على المستوى الجزئي : ويمكن أن نلمسه بوضوح في الأجزاء المخصصة لدراسة دور الأنباط في الحملة الرومانية التي قام بها أيلوس جالوس على جنوب الجزيرة ، والعوامل الفعلية التي أدت إلى سقوط الدولة النبطية ، وكيفية هذا السقوط .
ثانياً : الجديد من ناحية تصويب الأخطاء :
وأبرز مثل لهذه الحالة يتمثل في وصف بعض الكتابات العامة وشبه المتخصصة الحملتين اللتين أرسلهما القائد المقدوني انتيجنوس نحو بلاد الأنباط في أواخر القرن الرابع ق.م على أنهما حملتان سلوقيتان ، والثابت أن الأنباط لم يتعرضوا لهجوم هاتين الحملتين ، إلا لأنهم كانوا محالفين للسلوقيين والبطالمة. والراجح أن أصحاب هذه الكتابات خلطوا بين هاتين الحملتين والحملتين اللتين قام بهما الملك السلوقي انطيوخوس الثاني عشر – ضد بلاد الأنباط - في أوائل القرن الأول ق.م . وليس ذلك وحسب بل إنه يمكن القول إن حملة انطيوخوس الثاني عشر الثانية ، والتي انتهت بمقتله على أيدي الأنباط في موقعة موتو ، من بين الأحداث التي اهتمت هذه الدراسة بتصويب بعض الكتابات التي تناولتها ، ولاسيما تلك التي تحدثت عنها وكأنها حملتان مختلفتان وليس حملة واحدة لا غير .
نخلص مما سبق عرضه ،إلى أن موقع وطبيعة البتراء الجغرافية والطبوغرافية كان لها الأثر الأكبر في احتراف الأنباط مهنة التجارة بشكل أساسي ، وتحديد طبيعة علاقتهم بالقوى الكبرى التي توارثت السيطرة على مصر وسورية وفلسطين .
وقد أظهروا منذ بداياتهم الأولى مهارة فائقة في التعامل مع القوى السياسية الكبرى . فبرغم أن اتخاذهم جانب البطالمة والسلوقيين كان أحد العوامل التي دعت انتيجنوس المقدوني إلى مهاجمة بلادهم إلا أن الطريقة التي تعاملوا بها مع الحملتين الحربيتين اللتين أرسلهما هذا القائد المقدوني تؤكد أنهم كانوا على قدر كبير من الحنكة السياسية ، وأنهم كانوا مهرة في توظيف تضاريس بلادهم الطبيعية في المواجهات العسكرية .
ومعرفة البطالمة بهذا الأمر دفعتهم إلى اتخاذ وسائل أخرى في محاولتهم انتزاع تجارة الجزيرة العربية من يد الأنباط ، غير أن الأنباط أظهروا مقدرة على المقاومة ، سواء من خلال استخدام القوة ، أو عقد التحالفات السياسية الضامنة لتحقيق مصالحهم ، ولعل ما يؤكد قدرتهم على التعامل مع المتغيرات الطارئة ؛ أنهم لم يترددوا في استخدام القوة البحرية ضد سفن البطالمة التجارية ، والدخول في تحالف وثيق مع السلوقيين .
وإذا كانوا قد خسروا الجولة الأولى في صراعهم مع البطالمة ، فقد مكنهم نجاح حلفائهم السلوقيين في استرداد سورية من أيدي البطالمة ، من أن يحققوا الجزء الأكبر من الطموحات التي كانوا يحلمون بتحقيقها . فإضافة إلى معاودتهم نشاطهم التجاري مع المراكز السورية التي آلت إلى السلوقيين ، لم يترددوا في استثمار تغير موازين الصراع في التوسع نحو النقب ، ومنطقة الحجر ، ووضع أيديهم على الطرق والمراكز التجارية المؤدية إلى مصر وشمال الجزيرة .
وبرغم التقلبات التي شهدتها علاقتهم بالقوى السياسية المختلفة في المرحلة الهلنستية إلا أنهم لم يسمحوا لهذه التقلبات بأن تهدد مصالحهم ونفوذهم السياسي. وغالباً ما كان النصر حليفهم في الحروب التي خاضوها ضد المكابيين والسلوقيين.
وقد جاء انتصارهم على السلوقيين في معركة موتو ، وتمكنهم بعد ذلك من دخول دمشق ليؤكد بأنهم أصبحوا القوة الرئيسة في سورية. ولو لم يبادر الرومان بالتحرك نحو سورية لكانت السيطرة النبطية طالت جميع أجزائها .
وبرغم محاولة المكابيين دفع الرومان للتحرك ضد الأنباط خلال هذه المرحلة إلا أن خلفاء بومبي لم يتمكنوا من المساس باستقلال المملكة النبطية. واقتصر الأمر على دفع الأنباط لبعض المال للرومان في مقابل عدم التدخل في شؤونهم ؛ وقد ساهمت الظروف بعد ذلك في تحول العلاقة بين الجانبين إلى علاقة تحالف وولاء كامل في عهد كل من يوليوس قيصر وأوكتافيوس (أغسطس). واللذين استمدا دعم الأنباط في أصعب مراحل الصراع على العرش الروماني في المرحلة التي سبقت تبني نظام الحكم الإمبراطوري في إدارة الدولة الرومانية .
وقد ازدادت العلاقات بين الجانبين توثقاً بعد انفراد أغسطس قيصر (اوكتافيوس) بمقاليد الأمور ، ودخول الدولة الرومانية في العهد الإمبراطوري. وكان للوزير سيلايوس النبطي الدور الأكبر في مشاركة الأنباط في الحملة الحربية ، التي أمر أغسطس قائده جالوس بقيادتها نحو جنوب شبه الجزيرة . وتناول هذه الحملة يؤكد أن هذا الوزير النبطي قدم مصالحه الذاتية على مصالح بني جلدته من نبط وعرب جنوبيين . ولم يكن أقل إخلاصاً لأغسطس من قائد الحملة الروماني أيلوس جالوس. وإذا كانت هذه الحملة قد حققت شيئاً يذكر من أهدافها فالفضل في ذلك يعود إلى سيلايوس ، الذي تكفل بمهمة إرشاد الحملة في البر والبحر ، وتوفير المؤن والمياه ووسائل النقل البرية . والاحتمال الأكبر أن هذه الحملة ردت على أعقابها بعد مدة قصيرة من مغادرتها ممتلكات الأنباط المؤدية إلى جنوب الجزيرة .والمرجح إنها لم تصل مطلقاً إلى مأرب ، ولم تتمكن من الاستيلاء على أية مدينة جنوبية كبرى . ولو كان لسيلايوس والأنباط أي دور في إخفاقها ، لما تركهم الإمبراطور أغسطس دون عقاب . وإذا كان قد حدث بعض التبدل السلبي على طبيعة علاقة الأنباط بالرومان بعد زمن هذه الحملة ، فما ذاك إلا نتيجة لمحاولة سيلايوس تحقيق مصالحه الذاتية على حساب الملك عبادة والملك الأدومي هيرود "الكبير" .
وبرغم أنه حقق بعض النجاح في هذا الأمر إلا أن أغسطس اقتنع في آخر المطاف أن القلاقل والاضطرابات التي شهدتها علاقة الأنباط بكل من الرومان والهيروديين من صنع الوزير النازل في ضيافته . ومن ثم فقد آثر التخلص منه والموافقة على تولي حارثة الرابع مقاليد العرش النبطي. وقد كان للدعم الحربي الذي قدمه هذه الملك النبطي (حارثة) للرومان ، في عملية إخماد التمرد اليهودي الذي نشب ضدهم ، عقب وفاة الملك هيرود الكبير ، الأثر الأكبر في إعادة العلاقات النبطية الرومانية إلى حالة الوفاق التي كانت عليه سابقاً ، وإبقائها على هذا الحال إلى نهاية عهد الإمبراطور أغسطس .
وفيما يخص علاقات الجانبين من نهاية عهد أغسطس حتى عام 70 ميلادي ، كانت أقرب إلى الاستقرار التام . ولم يعط الملك حارثة الرابع أي مجال لتعكير صفو هذه العلاقات ، وكان حكيماً في تعامله مع الأباطرة الرومان والملوك الهيروديين ، سواء باكتساب صداقتهم بواسطة الهدايا وإظهار الولاء للأباطرة،أو الدخول في علاقة مصاهرة مع الملوك الهيروديين . ولإدراكه بأن مطامع الرومان في السيطرة على مصادر الثروة في بلاده ستظل قائمةً استثمر حالة السلم الطويل في تقوية بلاده ، وإيجاد بدائل لمقر الحكم ، وطرق التجارة ، وموارد الثروة المادية . وبرغم أن تزويج إحدى بناته من الملك هيرود انتيباس الأدومي قد كفل له بقاء حالة السلم مع اليهود والأدوميين مدة طويلة إلا أن محاولة هيرود التخلص من ابنة الحارثه بعد العلاقة الزوجية الطويلة أعادت العلاقة بين الجانبين إلى حالة الحرب . وكان ذلك مدعاة لتدخل الرومان ووقوفهم إلى جانب انتيباس المهزوم،في السنة الأخيرة من حكم الامبراطور تيبريوس . غير أن وفاة هذا الإمبراطور جنبت الأنباط والرومان عواقب الصدام . وساهمت سياسية الإمبراطور جايوس قيصر في إعادة العلاقات بين الجانبين إلى سابق عهدها. وتوجت بقيام هذا الإمبراطور بإعادة مدينة دمشق إلى الأنباط. ولم تشهد مرحلة حكم مالك الثاني أي تغير يذكر على علاقة الأنباط بالرومان. وكان ذلك نتيجة لتمسك مالك الثاني بسياسة حارثه الرابع. وقد أدت مساهمة مالك الثاني في إخماد الثورة اليهودية التي واجهها الرومان أواخر عهد الإمبراطور نيرون إلى تعميق العلاقات النبطية الرومانية ، والقضاء على التهديد المستمر الذي كان يشكله اليهود على كيان المملكة النبطية ، واستمرار حالة السلم بين الأنباط والرومان.
وقد كان في وسع الملك رب أيل الثاني السير على السياسة التي رسم خطوطها جده حارثه ، والتزم بمعالمها والده مالك الثاني ، والتي كان هدفها الأول تأمين كيان الدولة النبطية وتجارتها من مخاطر تقلبات السياسة الرومانية.غير أن حالة السلم الطويلة الذي شهدتها علاقة الأنباط بالرومان ، وتمرد أهالي الحجر في بداية حكمه دفعته إلى إهمال منطقة الحجر ، ونقل مقر الحكم من البتراء إلى مدينة بصرى ، المحادة لأملاك الإمبراطورية الرومانية في سوريه ، وتؤكد هذه الدراسة أن هذه الخطوة غير الحكيمة كانت في مقدمة العوامل التي شجعت الإمبراطور تراجان على وضع حد لاستقلال المملكة النبطية ، وتحقيق ما لم يتمكن من تحقيقه من سبقه من قادة وأباطرة ، من إغريق وبطالمة وسلوقيين ورومان .
وقد اهتمت هذه الدراسة بإزالة الغموض المحيط بعملية سقوط الدولة النبطية ، وتبيان الوسائل التي استخدمها الرومان في عملية الاستيلاء على كل من البتراء ، وبصرى .
ومن أهم النقاط التي انتهت إليها هذه الدراسة ، أن السيطرة الرومانية اقتصرت على البتراء ، وبصرى ، ومراكز الأنباط الشمالية الرئيسة . وأن منطقة الحجر والمراكز النبطية القريبة منها ، ظلت بعيدة عن السيطرة الرومانية . وترجح لدينا أنها بقيت تحت سيطرة أحد أفراد الأسرة النبطية المالكة لمدة طويلة .
أما الترتيبات والإجراءات التي أتخذها الرومان بعد الاستيلاء على البتراء وبصرى ، فإن هدفها الأول كان فرض السيادة الرومانية الفعلية على الأجزاء النبطية التي تم الاستيلاء عليها . ولذلك اقتصر الأمر على إنشاء شبكة من الطرق الفرعية ، إلى جانب طريق كبير (حمل اسم طريق تراجان الجديد) ، يمتد من دمشق إلى ميناء إيلة على خليج العقبة ، واقتضت المصلحة أيضاً إنشاء مجموعة من القلاع على طول هذا الطريق ، وتجديد الطرق والقلاع القديمة التي كان يستخدمها الأنباط قبل خضوع بلادهم الشمالية للسيطرة الرومانية ، والتي ثبت لنا أنها (أي السيطرة) لم تؤكد رسميا إلا في عام 111م .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع :
- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج3، ط3، بيروت – مكتبة النهضة، 1976 / ص12
2 - سماح بركات، حروب الأنباط ،(رسالة ماجستير غير منشورة) الجامعة الأردنية، 2002. ص 5.
3-
Hammond.P.C, The Nabataeans,Their History,Culture &
Archaelogy(Gothenburg,Sweden,Paul Astrom Forag,1973). p.12
4 - د.إحسان عباس، تاريخ دولة الأنباط، عمان – منشورات وزارة الثقافة، 2007/ص 23.
5 -Kuhlenthaland Fischer,20
6 - سماح بركات، حروب الأنباط / ص8.
7 - محمد خطاطبة ، عمارة الأنباط السكنية، ط1، الرياض – مطبعة فهد الوطنية، 2006/ص48.
8 - د.خير نمر ياسين، الأدوميون: تاريخهم وآثارهم، عمان – الجامعة الأردنية، 1994،ص 99-100.
9- - هشام أبو حاكمة، الأساطير المؤسسة للتاريخ الإسرائيلي القديم، ط1، عمان – دار الجليل، 2007/ص217
10- زيدان عبد الكافي الكفافي، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة (العصور البرونزية والحديدية)، ط1، 2006/ص 327
11 - محمد الخطاطبة، 2006/ ص48
12-
المصدر: The Architecture of Petra,1990,Newyork-oxford Mckenize.,Judith, Gluck ,N.The Other Side of Jordan
- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج3، ط3، بيروت – مكتبة النهضة، 1976 / ص12
2 - سماح بركات، حروب الأنباط ،(رسالة ماجستير غير منشورة) الجامعة الأردنية، 2002. ص 5.
3-
Hammond.P.C, The Nabataeans,Their History,Culture &
Archaelogy(Gothenburg,Sweden,Paul Astrom Forag,1973). p.12
4 - د.إحسان عباس، تاريخ دولة الأنباط، عمان – منشورات وزارة الثقافة، 2007/ص 23.
5 -Kuhlenthaland Fischer,20
6 - سماح بركات، حروب الأنباط / ص8.
7 - محمد خطاطبة ، عمارة الأنباط السكنية، ط1، الرياض – مطبعة فهد الوطنية، 2006/ص48.
8 - د.خير نمر ياسين، الأدوميون: تاريخهم وآثارهم، عمان – الجامعة الأردنية، 1994،ص 99-100.
9- - هشام أبو حاكمة، الأساطير المؤسسة للتاريخ الإسرائيلي القديم، ط1، عمان – دار الجليل، 2007/ص217
10- زيدان عبد الكافي الكفافي، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة (العصور البرونزية والحديدية)، ط1، 2006/ص 327
11 - محمد الخطاطبة، 2006/ ص48
12-
المصدر: The Architecture of Petra,1990,Newyork-oxford Mckenize.,Judith, Gluck ,N.The Other Side of Jordan
تعليق