نتابع ما توقفنا عنده في قضية الهم بين يوسف وامرأة العزيز
الفحشاء
ثم أظهرت إصرارها وتحديها لفعل الفاحشة مع يوسف في جرأة أمام النسوة ، لأنها وجدت في النسوة ميل إلي يوسف ، فأعلنت تحديها له: ﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ يوسف 32
فأصبح الطلب مكشوفا ، ومفضوحا ، وبلا حياء لأنها وجدت نفسها وقد انهزمت من قبل أمام يوسف ، إذا فعليه الآن أن يفعل وبالأمر ، وإن لم يطع أمرها فإنه سيعاقب بالسجن ، وسينزل من المنزلة التي هو عليها الآن من كونه المقرب إليها في حاشيتها ، ورأى من مظاهر العز والترف ما لم يره غيره ، إلي السجن ، ويفعل أشياء تصغر من شأنه.
وهذا يظهر لنا ما لنساء علية القوم من تأثير في القرارات التي تصدر وتخص العامة والدولة .
وجد يوسف نفسه أمام تحد جديد ، وهو من اختبار الله له ، واختبار لإيمانه وصبره ، ويعلمنا الله من خلاله كيف نقف أمام الشدائد ، وكيف ومتى نلجأ إلي الركن الشديد .
فالمرأة مازالت مصرة على الفعل ، وهذه المرة ليست كسابقتها ، فإن لم يفعل فالسجن أمامه ، وليس السجن فقط ، ولكن سينزل من المكانة التي هو فيها الآن من ترف العيش ورغده ، إلي منازل الذين يقومون بالأعمال المشينة ، وهو غير معتاد على هذا .
أي شاب هذا الذي يترك النعيم والترف بجوار امرأة العزيز ، وينزل إلي منازل الصاغرين ، هل من أجل ليلة مع امرأة ، وأي امرأة إنها امرأة العزيز التي إن وافق على طلبها فسيكون في منزلة يحسده عليها العزيز نفسه.
وليس مع امرأة العزيز وحدها ولكن مع نساء علية القوم أيضا.
ثم أليست هذه هي الفحشاء التي تكلم الله فيها وقال فيها :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ﴾ يوسف 24.
ولكن يوسف له رأى أخر:وليتعلم منه رجال الأمة وشبابها ، الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ، ونسوا أن لهم ربا مطلع على أفعالهم ، وسيحاسبهم بها يوم العرض عليه.
ماذا قال يوسف:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ يوسف 33
الطبري:
وهذا الخبر من الله يدل على أن امرأة العزيز قد عاودت يوسف في المراودة عن نفسه ، وتوعدته بالسجن والحبس إن لم يفعل ما دعته إليه ، فاختار السجن على ما دعته إليه من ذلك ؛ لأنها لو لم تكن عاودته وتوعدته بذلك ، كان محالا أن يقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ وهو لا يدعى إلي شيء ولا يخوف بحبس . والسجن هو الحبس نفسه ، وهو بيت الحبس .. وتأويل الكلام: قال يوسف: يا رب الحبس في السجن أحب إلي مما يدعونني إليه من معصيتك ويراودنني عليه من الفاحشة . كما:
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال: قال يوسف ، وأضاف إلي ربه واستعانة على ما نزل به: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ : أي السجن أحب إلي من أن آتي ما تكره
وقوله: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ يقول: وإن لم تدفع عني يا رب فعلهن الذي ويفعلن بي في مراودتهن أي على أنفسهن﴿ أصب إليهن﴾ ، يقول: أميل إليهن ، وأتابعهن على ما يردن مني ، ويهوين
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ﴾ : أي ما أتخوف منهن ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾
- حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد ، في قوله: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ قال: إلا يكن منك أنت العون والمنعة ، لا يكن مني ولا عندي
وقوله: ﴿ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ يقول: وأكن بصبوتي إليهن من الذين جهلوا حقك وخالفوا أمرك ونهيك . كما:
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق: ﴿ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ : أي جاهلا إذا ركبت معصيتك.
القرطبي :
قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ أي دخول السجن، فحذف المضاف؛ قاله الزجاج والنحاس. ﴿ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾أي أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية؛ لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق.
﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ﴾ أي كيد النسوان. وقيل: كيد النسوة اللاتي رأينه؟ فإنهن أمرنه بمطاوعة امرأة العزيز، وقلن له: هي مظلومة وقد ظلمتها. وقيل: طلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز؛ والقصد بذلك أن تعذله في حقها، وتأمره بمساعدتها، فلعله يجيب؛ فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له: يا يوسف! اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك؛ تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده؛ فقال: يا رب كانت واحدة فصرن جماعة. وقيل: كيد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة؛ وكنى عنها بخطاب الجمع إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلي التعريض. والكيد الاحتيال والاجتهاد؛ ولهذا سميت الحرب كيدا لاحتيال الناس فيها
قوله تعالى: ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ جواب الشرط، أي أمل إليهن، من صبا يصبو - إذا مال واشتاق - صبوا وصبوة
أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها. ﴿ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال؛ ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله؛ ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه.
ابن كثير:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ أي من الفاحشة ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي إن وكلتني إلي نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك أنت المستعان وعليك التكلان فلا تكلني إلي نفسي﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ﴾الآية وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة وحماه فامتنع منها أشد الامتناع واختار السجن على ذلك وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهى امرأة عزيز مصر وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفا من الله ورجاء ثوابه ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه. .
الشعراوي :
ولسائل أن يقول :ولماذا جاء قول يوسف بالجمع ؛وقال
﴿ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾على الرغم من أن امرأة عزيز هي التي قالت:﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ﴾يوسف32.
ونقول ؛لابد أن يوسف عليه السلام قد رأى منهن إشارات أو غمزات توحي له بألا يعرض نفسه لتلك الورطة التي ستؤدى به إلى السجن ؛ لذلك أدخل يوسف عليه السلام في قوله المفرد - امرأة العزيز –في جمع النسوة اللاتي جمعتهن امرأة العزيز ؛وهن اللاتي طلبن منه غمزا أو إشارة أن يخرج نفسه من هذا الموقف .
ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لاستمالته ؛ وللعيون والانفعالات وقسمات الوجه تعبير ابلغ من تعبير العبارات.
وقد تكون إشارات عيونهن قد دلت يوسف على المراد الذي تطلبه كل واحدة منهن ؛وفى مثل هذه الاجتماعات تلعب لغة العيون دورا هاما.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلام قد جمع امرأة العزيز مع النسوة ؛فقال : ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾أي أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء ؛ أو يوافق النسوة على دعوتهن له أن يحرر نفسه من السجن بأن يستجيب لها ؛ثم يخرج إليهن من القصر من بعد ذلك .
ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه ؛فقال: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ فيوسف عليه السلام بعرف أنه من البشر ؛ وإن لم يصرف الله عنه كيدهن ؛لاستجاب لغوايتهن ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفتون إلى عواقب الأمور...... انتهى.
ونقول وبالله التوفيق :
أصبح يوسف في موقف صعب ، وهو على مفترق طريقين .
أحدهما فيه هناء الدنيا ورغدها ونعيمها ، وفيه الضغوط شديدة لفعل الفاحشة ، ولكن فيه غضب الله سبحانه.والآخر فيه السجن ، والشقاء ، والعذاب ، والتصغير من الشأن في الدنيا ، ولكن فيه رضاء الله سبحانه وتعالى ، ونعيم الآخرة . . والكيد :هو ما أضمرته امرأة العزيز والنسوة في الضغط علي يوسف لفعل الفاحشة معهن .
حسم يوسف أمره ، واتجه إلي الله بالدعاء ، وكأني أسمعه.
*يارب ، اشتد الخطب ، وزادت الأمور تعقيدا .
يارب: قد خيروننى في عمل الفاحشة معهن ، بين رغد العيش وهناء الدنيا ونعيمها ، في مقابل معصيتك ؛أو السجن والصغار في الدنيا في عدم الفعل ، في مقابل طاعتك .فأحببت السجن ودخوله ، في مقابل طاعتك ، وعدم معصيتك
يارب : قد أحببت رضاك ، وعفوك ، ونعيمك الأبدي ، على نعيم زائل ، فيه غضبك ، ومذلة ، وخزي يوم ألقاك .
يارب :اصرفهن عنى ، واصرف كيدهن عنى ، لأنك إن لم تصرف عنى كيدهن سأكون ضعيفا أمامهن ، وليس لي قوة في مقاومتهن إلي ما يردن منى ، فأميل إليهن وأكون من الذين جهلوا أمرك فهلكوا وخسروا الدنيا والآخرة *.
.................................................. ............................
بين النجمتين * * بتصرف
.................................................. ..........................
وهنا نجد أن يوسف عليه السلام قد قال كلمة لها مدلول كبير على براءته من الهم لعمل الفاحشة مع امرأة العزيز حيث قال:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ يوسف 33
هنا جمع يوسف النسوة في محاولة فعل الفاحشة معه ، ولم يتكلم عن امرأة العزيز ، وهذا يؤكد أن يوسف لم تتحرك غريزته تجاه امرأة العزيز في مراودتها الأولى:
ولكن تكالب النسوة عليه ، كاد أن يغلبه فكان دعائه وتضرعه إلي الله.
صرف الفحشاء
الفحشاء
ثم أظهرت إصرارها وتحديها لفعل الفاحشة مع يوسف في جرأة أمام النسوة ، لأنها وجدت في النسوة ميل إلي يوسف ، فأعلنت تحديها له: ﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ يوسف 32
فأصبح الطلب مكشوفا ، ومفضوحا ، وبلا حياء لأنها وجدت نفسها وقد انهزمت من قبل أمام يوسف ، إذا فعليه الآن أن يفعل وبالأمر ، وإن لم يطع أمرها فإنه سيعاقب بالسجن ، وسينزل من المنزلة التي هو عليها الآن من كونه المقرب إليها في حاشيتها ، ورأى من مظاهر العز والترف ما لم يره غيره ، إلي السجن ، ويفعل أشياء تصغر من شأنه.
وهذا يظهر لنا ما لنساء علية القوم من تأثير في القرارات التي تصدر وتخص العامة والدولة .
وجد يوسف نفسه أمام تحد جديد ، وهو من اختبار الله له ، واختبار لإيمانه وصبره ، ويعلمنا الله من خلاله كيف نقف أمام الشدائد ، وكيف ومتى نلجأ إلي الركن الشديد .
فالمرأة مازالت مصرة على الفعل ، وهذه المرة ليست كسابقتها ، فإن لم يفعل فالسجن أمامه ، وليس السجن فقط ، ولكن سينزل من المكانة التي هو فيها الآن من ترف العيش ورغده ، إلي منازل الذين يقومون بالأعمال المشينة ، وهو غير معتاد على هذا .
أي شاب هذا الذي يترك النعيم والترف بجوار امرأة العزيز ، وينزل إلي منازل الصاغرين ، هل من أجل ليلة مع امرأة ، وأي امرأة إنها امرأة العزيز التي إن وافق على طلبها فسيكون في منزلة يحسده عليها العزيز نفسه.
وليس مع امرأة العزيز وحدها ولكن مع نساء علية القوم أيضا.
ثم أليست هذه هي الفحشاء التي تكلم الله فيها وقال فيها :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ﴾ يوسف 24.
ولكن يوسف له رأى أخر:وليتعلم منه رجال الأمة وشبابها ، الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ، ونسوا أن لهم ربا مطلع على أفعالهم ، وسيحاسبهم بها يوم العرض عليه.
ماذا قال يوسف:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ يوسف 33
الطبري:
وهذا الخبر من الله يدل على أن امرأة العزيز قد عاودت يوسف في المراودة عن نفسه ، وتوعدته بالسجن والحبس إن لم يفعل ما دعته إليه ، فاختار السجن على ما دعته إليه من ذلك ؛ لأنها لو لم تكن عاودته وتوعدته بذلك ، كان محالا أن يقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ وهو لا يدعى إلي شيء ولا يخوف بحبس . والسجن هو الحبس نفسه ، وهو بيت الحبس .. وتأويل الكلام: قال يوسف: يا رب الحبس في السجن أحب إلي مما يدعونني إليه من معصيتك ويراودنني عليه من الفاحشة . كما:
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال: قال يوسف ، وأضاف إلي ربه واستعانة على ما نزل به: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ : أي السجن أحب إلي من أن آتي ما تكره
وقوله: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ يقول: وإن لم تدفع عني يا رب فعلهن الذي ويفعلن بي في مراودتهن أي على أنفسهن﴿ أصب إليهن﴾ ، يقول: أميل إليهن ، وأتابعهن على ما يردن مني ، ويهوين
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ﴾ : أي ما أتخوف منهن ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾
- حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد ، في قوله: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ قال: إلا يكن منك أنت العون والمنعة ، لا يكن مني ولا عندي
وقوله: ﴿ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ يقول: وأكن بصبوتي إليهن من الذين جهلوا حقك وخالفوا أمرك ونهيك . كما:
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق: ﴿ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ : أي جاهلا إذا ركبت معصيتك.
القرطبي :
قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ أي دخول السجن، فحذف المضاف؛ قاله الزجاج والنحاس. ﴿ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾أي أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية؛ لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق.
﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ﴾ أي كيد النسوان. وقيل: كيد النسوة اللاتي رأينه؟ فإنهن أمرنه بمطاوعة امرأة العزيز، وقلن له: هي مظلومة وقد ظلمتها. وقيل: طلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز؛ والقصد بذلك أن تعذله في حقها، وتأمره بمساعدتها، فلعله يجيب؛ فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له: يا يوسف! اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك؛ تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده؛ فقال: يا رب كانت واحدة فصرن جماعة. وقيل: كيد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة؛ وكنى عنها بخطاب الجمع إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلي التعريض. والكيد الاحتيال والاجتهاد؛ ولهذا سميت الحرب كيدا لاحتيال الناس فيها
قوله تعالى: ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ جواب الشرط، أي أمل إليهن، من صبا يصبو - إذا مال واشتاق - صبوا وصبوة
أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها. ﴿ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال؛ ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله؛ ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه.
ابن كثير:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ أي من الفاحشة ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي إن وكلتني إلي نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك أنت المستعان وعليك التكلان فلا تكلني إلي نفسي﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ﴾الآية وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة وحماه فامتنع منها أشد الامتناع واختار السجن على ذلك وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهى امرأة عزيز مصر وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفا من الله ورجاء ثوابه ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه. .
الشعراوي :
ولسائل أن يقول :ولماذا جاء قول يوسف بالجمع ؛وقال
﴿ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾على الرغم من أن امرأة عزيز هي التي قالت:﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ﴾يوسف32.
ونقول ؛لابد أن يوسف عليه السلام قد رأى منهن إشارات أو غمزات توحي له بألا يعرض نفسه لتلك الورطة التي ستؤدى به إلى السجن ؛ لذلك أدخل يوسف عليه السلام في قوله المفرد - امرأة العزيز –في جمع النسوة اللاتي جمعتهن امرأة العزيز ؛وهن اللاتي طلبن منه غمزا أو إشارة أن يخرج نفسه من هذا الموقف .
ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لاستمالته ؛ وللعيون والانفعالات وقسمات الوجه تعبير ابلغ من تعبير العبارات.
وقد تكون إشارات عيونهن قد دلت يوسف على المراد الذي تطلبه كل واحدة منهن ؛وفى مثل هذه الاجتماعات تلعب لغة العيون دورا هاما.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلام قد جمع امرأة العزيز مع النسوة ؛فقال : ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾أي أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء ؛ أو يوافق النسوة على دعوتهن له أن يحرر نفسه من السجن بأن يستجيب لها ؛ثم يخرج إليهن من القصر من بعد ذلك .
ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه ؛فقال: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ فيوسف عليه السلام بعرف أنه من البشر ؛ وإن لم يصرف الله عنه كيدهن ؛لاستجاب لغوايتهن ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفتون إلى عواقب الأمور...... انتهى.
ونقول وبالله التوفيق :
أصبح يوسف في موقف صعب ، وهو على مفترق طريقين .
أحدهما فيه هناء الدنيا ورغدها ونعيمها ، وفيه الضغوط شديدة لفعل الفاحشة ، ولكن فيه غضب الله سبحانه.والآخر فيه السجن ، والشقاء ، والعذاب ، والتصغير من الشأن في الدنيا ، ولكن فيه رضاء الله سبحانه وتعالى ، ونعيم الآخرة . . والكيد :هو ما أضمرته امرأة العزيز والنسوة في الضغط علي يوسف لفعل الفاحشة معهن .
حسم يوسف أمره ، واتجه إلي الله بالدعاء ، وكأني أسمعه.
*يارب ، اشتد الخطب ، وزادت الأمور تعقيدا .
يارب: قد خيروننى في عمل الفاحشة معهن ، بين رغد العيش وهناء الدنيا ونعيمها ، في مقابل معصيتك ؛أو السجن والصغار في الدنيا في عدم الفعل ، في مقابل طاعتك .فأحببت السجن ودخوله ، في مقابل طاعتك ، وعدم معصيتك
يارب : قد أحببت رضاك ، وعفوك ، ونعيمك الأبدي ، على نعيم زائل ، فيه غضبك ، ومذلة ، وخزي يوم ألقاك .
يارب :اصرفهن عنى ، واصرف كيدهن عنى ، لأنك إن لم تصرف عنى كيدهن سأكون ضعيفا أمامهن ، وليس لي قوة في مقاومتهن إلي ما يردن منى ، فأميل إليهن وأكون من الذين جهلوا أمرك فهلكوا وخسروا الدنيا والآخرة *.
.................................................. ............................
بين النجمتين * * بتصرف
.................................................. ..........................
وهنا نجد أن يوسف عليه السلام قد قال كلمة لها مدلول كبير على براءته من الهم لعمل الفاحشة مع امرأة العزيز حيث قال:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ يوسف 33
هنا جمع يوسف النسوة في محاولة فعل الفاحشة معه ، ولم يتكلم عن امرأة العزيز ، وهذا يؤكد أن يوسف لم تتحرك غريزته تجاه امرأة العزيز في مراودتها الأولى:
ولكن تكالب النسوة عليه ، كاد أن يغلبه فكان دعائه وتضرعه إلي الله.
صرف الفحشاء
نتوقف عند صرف الفحشاء لنتابع فيما بعد بإذن الله تعالى
تعليق