مخطوطات البحر الميت
مخطوطات البحر الميت تضم ما يزيد على 850 قطعة مخطوطة، بعضها مما سمي لاحقا (الكتاب المقدس) وبعضها لم تكن تعرف أو كانت مفقودة، أول من عثر عليها الراعي (محمد الديب) خلال بحثه عن ماعز ضلت منهم، اثرها باعوا المخطوطات لـ (دكان الانتيكات) فاشتراها سوريون ثم حملوها لمطرانهم الأرثوذكي الذي حملها بدوره إلى الولاياتالمتحدة الامريكية عام 1948. واكتشف بعدئذ المزيد من المخطوطات بين عامي 1947 و 1956 في 11 كهف في (وادي قمران) شمال البحر الميت، فأثارت هذه اهتمام الباحثين والمتخصصين بدراسة نصوص (العهد القديم) لأنها تعود لما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأول منه. وتعرف ايضا ( لفائف قمران) وتعود لطائفة (الأسينيين) اليهودية التي أنعزلت وبنت مدينة صغيرة في هذا المكان لكنها تحطمت بزلزال حدث عام 31 ق م وأعيد بناء الموقع عام 4 ق م الا ان الرومان أحرقوا البناء عام 68 م والمرجح أن أفراد هذه الملة لم يكونوا يعيشون في هذه الأبنية، بل في الكهوف المجاورة وفي أكواخ أو خيام من الجلود أوالطين. عندما احتلت اسرائيل القدس والضفة الغربية عام 1967م، حملوا المخطوطات الى (المدرسة التوراتية الفرنسية) و (متحف روكفلر) أو (المتحف الوطني) في القدس المحتوي على بقية المخطوطات وهي لم ترحل لأمريكا اذ بقيت تحت السيطرة الإسرائيلية. كتبت بعض المخطوطات المكتشفة المكتوبة على البردي وبعضها على جلود الماعز وبعضها على صفائح نحاسية وكانت قد وضعت في جرار فخارية ودفنت في كهوف منطقة صحراوية. عثروا على من أكثر من 800 نص مخطوط وتقسم النصوص إلى 30% منها من التوراة بالعبرية وقطع من كل الأسفار عدا (سفر استر) و 25% منها نصوص يهودية ليست من الكتاب المقدس، كـ (سفر اخنوخ) و (شهادة لاوي). و 30% منها من تفاسير (الكتاب المقدس) اي (العهد القديم). و 15% منها من نصوص لم تترجم أو لم تعرف هويتها بعد.أغلب النصوص كتب بالعبرية بعض منها الآرامية وقليلها باليونانية.
في العثور على المخطوطات قصة مثيرة، فقبل نهاية الحرب العالمية الثانية عثر على الكهف الأول في ربيع 1947 بالقرب من البحر الميت وكان الكهف في المنطقة الفلسطينية يوم كانت تحت الحماية البريطانية منها القدس والضفة الغربية، ففي يوم ضاعت معزة الراعي الحدث (محمد الديب) الذي ينتمي إلى (قبيلة التعامرة) التي تتجول في المنطقة الممتدة بين بيت لحم والبحر الميت. وصعد الصبي فوق الصخر باحثا على معزته، فشهد فتحة صغيرة مرتفعة في واجهة سفح الجبل، وعندما ألقى (محمد الديب) حجرا داخل الفتحة سمعها تصطدم بمادة فخارية في الداخل، فأعاد الكرة وألقى بعدة أحجار أخرى فكان في كل مرة يسمع ذات الصوت الذي يحدث عند ارتطام الأحجار بالفخار. عندها تسلق (محمد الديب) سفح الجبل وأطل برأسه داخل الكوة وفي ظلام الكهف شاهد عددا من الأوعية الفخارية مصفوفة على أرضية الكهف. وفى صباح أليوم التالي عاد (محمد الديب) ومعه أحد أصدقائه إلى موقع الكهف، الذي ساعده على الصعود إلى الكوة وعند دخول الكهف عثروا على عدد من الأوعية الفخارية وبداخلها لفافات سبع. بعد حين ظهرت اللفافات المخطوطة للبيع عند احد بائعي الأنتيكات في بيت لحم فاشتراها احد السوريين السريان ثم اشترى منهم اربع منها (مار أثاناسيوس صموئيل) رئيس (دير سانت مارك للكاثوليك) واشترى الأستاذ (إليعازر سوكينوك) الثلاث الباقية لحساب الجامعة العبرية بالقدس. وباشتعال الحرب العربية الإسرائيلية أثر إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 خشي (مار أثاناسيوس صموئيل) على مصير المخطوطات التي اشتراها، فأرسل المخطوطات الأربع إلى الولايات المتحدة لعرضها للبيع فبيعت بربع مليون دولار اذ اشتراها (إيغال يادين) ابن الأستاذ (سوكينوك) للجامعة العبرية في القدس. وبهذا غدت المخطوطات السبع الأولى ملكا للجامعة العبرية. [/font]
عندما اعلنت الهدنة مع إسرائيل عام 1949 عادت منطقة قمران والثلث الشمالي من منطقة البحر الميت للمملكة الأردنية. فبدأ الأردنيون ينقبون عن المخطوطات في الكهوف، كانت (عشيرة التعامرة) تحفظ موقع الكهف سراً الا ان الأردن عرفت الكهف. اثرها نظم الأردنيون عمليات تنقيب بإشراف الخبير البريطاني (هاردنك) مدير الآثار الأردنية، والكاهن (رولآند دى فو) الذي كان مدير (الإيكول بيبليك دى فرانس) بالقدس الشرقية. اثرها عثر الأثريون على مئات القصاصات الصغيرة داخل الكهف مع قطع من الفخار والقماش والخشب، مما ساعد على تحديد تاريخ المخطوطات. عمليات التنقيب الأثرية بدأت في بقايا خربة قمران الواقعة في أسفل الكهف عام1951 اذ عثر على أطلال القرية القديمة التي عاش فيها (العيسويون) وبها بقايا رومانية من بينها عملات نقدية، يشير تاريخها على ان هذا الموقع كان مسكوناً إلي ان قامت حركة التمرد اليهودية ضد الرومان في الفترة ما بين 66 و 70 ميلادية، والتي انتهت بحرق مدينة القدس واخراج اليهود من المنطقة المحيطة بها. انتشرت (عشيرة التعامرة) في كل وديان البحر الميت بحثا عن مخطوطات أخرى قد تكون مخبأة في الكهوف العديدة الموجودة في هذه المنطقة الجبلية طمعاً في الحصول على الربح ، وفى عام 1952 استطاع البدو العثور على كهف أخر به العديد من المخطوطات التي تحللت إلى قصاصات صغيرة باعوها إلي السلطات الأردنية واتبعت سلطات الآثار الأردنية الطريقة التي اتبعتها (عشيرة التعامرة) في البحث داخل كهوف البحر الميت عن المخطوطات، اثرها في عام 1956 اكتشفوا مجموعة في 11 كهفا في منطقة قمران وابناء (عشيرة التعامرة) عثروا على أربعة كهوف منها رقم 1، و 4، و 6، و 11، اما الآثار الأردنية فقد عثرت على السبعة الباقية. (المار أثاناسيوس) في المدرسة الأمريكية للدراسات الشرقية في القدس وجماعته صوروا ونشروا المخطوطات الأربع التي يملكونها بين 1950 و 1951 كي يستطيع الباحثين الإطلاع عليها ثم نشروا ترجمتها الإنكليزية. كذلك فعلت الجامعة العبرية بنشر صور المخطوطات التي حصلت عليها مع ترجمة لها عام 1954.
كان الحصول على مخطوطات عبرية وآرامية قديمة في كهوف قمران حدثا تاريخيا بالغ الاهمية للتعرف على أحداث التاريخ القديم في الفترة بين القرن الثانى ق . م ونهاية القرن الأول الميلادى وهي فترة انتهاء يهودية الكهنة وبدأية يهودية الأحبار والتلمود وهي الفترة التي ولدت المسيحية فيها وساد الاعتقاد بميلاد تعاليم المسيح. وهي قضايا شكلت ألغازا لألفى عام. بعد نشر المجموعة الأولى من المخطوطات توقفت التخمينات الأخرى. حدث الصمت حول المخطوطات وأسرار جماعة قمران. وفى هذا الجو انتشرت الشائعات ودبرت المؤامرات ولا شك أن الجماعة المشرفة على إعداد المخطوطات قد ساعدت على حدوث هذه التطورات السلبية. بعد ان سيطرت عليها جماعة (الإيكول بايبليك – مدرسة الكتاب القدس) الفرنسية نشب صراع خفي بين لجنة المخطوطات وبين سلطة الآثار الإسرائيلية منذ اليوم الأول لسقوط متحف القدس تحت سلطة الاحتلال الاسرائيلى بعد حرب 67 إلا أن الأمور استمرت على ما كانت عليه لأكثر من عشرين عاما حتى اخذتها سلطة الأثار الإسرائيلية مكانها عام 1991. فى هذا العام نشر في لندن كتاب (خداع مخطوطات البحر الميت) للكاتبين (مايكل بيجنت) و (ريتشارد لى) اعتمد المؤلفان في أدلتهما على التأخير الذى زاد على أربعين عاما في نشر مخطوطات كهف قمران رقم (4) ..فمن بين 500 نص عثر عليها في هذا الكهف لم ينشر منها إلا مائة فقط. ثم بدأت حملة إعلامية كبرى في أواخر عام 90 وأوائل عام 1991 م خاصة في الصحف الأمريكية مثل (النيويورك تايمز) و (الواشنطون بوست) تهاجم مجموعة الباحثين المسئولين عن ترجمة ونشر المخطوطات وتتهمهم بالاشتراك في مؤامرة لمنع نشر بعض ما ورد بنصوص قمران. كما انتشرت شائعات بوجود مؤامرة لإخفاء بعض محتويات مخطوطات قمران لأن محتوياتها سيكون لها تأثير سلبى على بعض المعتقدات اليهودية والمسيحية, ولم تكن لجنة المخطوطات تضم بين أعضائها أيا من اليهود أو المسلمين أو حتى المسيحيين التابعين للكنائس الشرقية!!!. أصبح الأب (دى فو) المسؤول عن عمليات البحث الأردنية عن مخطوطات قمران، و بالتالي عن عمليات إعداد وترجمة ونشر النصوص التي عثر عليها، فأوكل قصاصات الكهف رقم 1 إلى (دومينيك بارثيلمى) و(ميليك) فنشرت الترجمة الإنكليزية من جامعة أكسفورد عام 1955. الحكومة الأردنية بدورها شكلت عام 1953 لجنة عالمية من ثمانية باحثين ليس بينهم عربي لتولى عملية إعداد المخطوطات ونشرها برئاسة (دى فو) وكان الاعضاء من فرنسا وانكلترا والولايات المتحدة والمانيا حيث دعوا الى القدس للعمل. استخدمت بعض الترجمات الإنكليزية الحديثة للكتاب المقدس لتنقيح النص الكتابي للعهد القديم، بفضل مخطوطات البحر الميت كما في الترجمة العالمية الحديثة. وهذا ليس مثالا على تحريف متعمد للنصوص بل يظن المختصون خطأ في نقل النسخ غير مقصود، والاية محفوظة في الترجمة السبعينية والارامية ويمكن قرائتها في الترجمة الكاثوليكية العربية (الرَّبُ أَمين في كُلَ أَقْوالِه وبار في جَميعَ أَعمالِه).
الخلاصة ان أثار اكتشاف مخطوطات عبرية وآرامية قديمة بمنطقه قمران حمس الباحثين في تاريخ الكتب المقدسة، للعثور على معلومات تزيل الغموض عن مرحلة هامة من التاريخ الإنساني. ذلك أن أقدم نسخة عبرية موجودة الآن من كتب العهد القديم ترجع إلى القرن العاشر بعد الميلاد، كما أن المعلومات التي وصلتنا عن المسيح جاءت كلها من كتابات كتبت بعد نصف قرن من الوقت الذي حددته لوفاته. وازداد الحماس عندما تبين أنها تنتمي إلى جماعة (العيسويين) اليهودية - المسيحية. كانت الخلافات بين اليهود والمسيحيين الأوائل تتعلق بتفسير ما ورد في كتب العهد القديم، تحتوى مكتبة قمران على ثلاثة أنواع من الكتابات: كتابات توراتية من أسفار العهد القديم، وكتابات لأسفار لم تدخل في قانون العهد القديم، وكتابات جماعة قمران (العيسوية). عندما انشأ الملك بطليموس الثاني (فلاديلفيوس) مكتبة الإسكندرية استحضر مجموعة من كتبهَ القدس إلى الإسكندرية خلال القرن الثالث قبل الميلاد، الذين جلبوا معهم كتبهم وترجموها إلى اليونانية، وتعرف بـ (النص السبعيني) وفي ذاك العهد استخدمت الكنيسة المسيحية اليونانية النص السبعيني للعهد القديم وجميع الكنائس المسيحية حتى القرون الوسطي، وهناك نص عبري ترجم إلي اللاتينية واللغات الأخرى في القرن السادس عشر. تبين وجود عدة خلافات بينه وبين النص السبعيني فى أسماء الأعلام والتواريخ.[/font]
خلاصة الخلاصة ان النصوص الي اكتشفت في (كهوف قمران) كانت هزة تاريخية في الاسفار اليهودية بشكل خاص والمسيحية. النصوص محت معلومات واوردت معلومات جديدة لم تكن في الحسبان عرفنا منها ان الجرة كانت رفا من رفوف المكتبات الحديثة حفظت عبر ألف عام او اكثر ماكان فيها من لفائف البردي او جلود الحيوانات او صفائح النحاس وكانت بالعبرية والآرامية وقليل منها باليونانية. وظهر منها آنذاك تواجد فرقة (العيسويون) وهم يهود تنصروا وليس هذا بالغريب ففي التاريخ نجد يهودا تنصروا وبقوا على بعض معتقداتهم منها كانوا يرون المسيحيين من الاقوام الاخرى (نجسون) الا ان تلميذ المسيح (بولص) وحد المسيحية. الاكثرية من هذه المخطوطات في حيازة الجامعة العبرية في اسرائيل واكثرها لم ينشر بسبب تعارضها مع الاسفار اليهودية القائمة الآن رغم ان الجامعات الغربية كاكسفورد تطالب بنشرها. على اي حال فان مخطوطات (كهوف قمران) لا تزال تحمل معلومات غير مكشوفة.
توما شماني – تورونتو
عضو اتحاد المؤرخين العرب
عضو اتحاد المؤرخين العرب
تعليق