قصة إبراهيم عليه السلام
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ؛ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ، وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ؛ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: ((رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) حَتَّى بَلَغَ ((يَشْكُرُونَ)) وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَت الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَت الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِن الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَت الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَت الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَت الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا"، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صَهٍ؛ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ؛ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِن الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِن الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا"، قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِن الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ! فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ، فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ؛ وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَت: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَت: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ" قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ، ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ ،فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ! إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِن الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ))قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))(1).
شرح المفردات (2)
(الْمِنْطَق): بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفَتْح الطَّاء هُوَ مَا يُشَدّ بِهِ الْوَسَط.
(عِنْد دَوْحَة): بِفَتْح الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْوَاو ثُمَّ مُهْمَلَة: الشَّجَرَة الْكَبِيرَة.
(فِي أَعْلَى الْمَسْجِد): أي: مَكَان الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بُنِيَ.
(وَسِقَاء): السِّقَاء بِكَسْرِ أَوَّله؛ قِرْبَة صَغِيرَة.
(ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيم): أي: وَلَّى رَاجِعًا إِلَى الشَّام.
(يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّط): وَمَعْنَى "يَتَلَبَّط" وَهُوَ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَة يَتَمَرَّغ وَيَضْرِب بِنَفْسِهِ الْأَرْض.
(ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ): أي: الَّذِي أَصَابَهُ الْجَهْد وَهُوَ الْأَمْر الْمُشِقُّ.
(فَقَالَتْ: صَهٍ): بِفَتْح الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْهَاء وَبِكَسْرِهَا مُنَوَّنَة، كَأَنَّهَا خَاطَبَتْ نَفْسهَا فَقَالَتْ لَهَا: اُسْكُتِي.
(غَوَاثٍ): بِفَتْح أَوَّله لِلْأَكْثَرِ وَتَخْفِيف الْوَاو وَآخِره مُثَلَّثَة، قِيلَ: وَلَيْسَ فِي الْأَصْوَات فَعَالٍ بِفَتْح أَوَّله غَيْره، وَحَكَى ابن الْأَثِير ضَمَّ أَوَّله، وَالْمُرَاد بِهِ عَلَى هَذَا الْمُسْتَغِيث، وَجَزَاء الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره فَأَغِثْنِي.
(فَجَعَلَتْ تُحَوِّضهُ): بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَضَاد مُعْجَمَة وَتَشْدِيد، أي: تَجْعَلهُ مِثْل الْحَوْض.
(لَوْ تَرَكْت زَمْزَم، أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِف مِنْ زَمْزَم): شَكّ مِن الرَّاوِي، وَهَذَا الْقَدْر صَرَّحَ ابن عَبَّاس بِرَفْعِهِ عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ إِشْعَار بِأَنَّ جَمِيع الْحَدِيث مَرْفُوع.
(عَيْنًا مَعِينًا): أي: ظَاهِرًا جَارِيًا عَلَى وَجْه الْأَرْض.
(لَا تَخَافُوا الضَّيْعَة): بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة أي: الْهَلَاك.
(رُفْقَة): بِضَمِّ الرَّاء وَسُكُون الْفَاء ثُمَّ قَاف وَهُم الْجَمَاعَة المخْتَلِطُونَ سَوَاء كَانُوا فِي سَفَر أَمْ لَا.
(عَائِفًا): بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاء هُوَ الَّذِي يَحُوم عَلَى الْمَاء وَيَتَرَدَّد وَلَا يَمْضِي عَنْهُ.
(فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا): بِفَتْح الْجِيم وَكَسْر الرَّاء وَتَشْدِيد التَّحْتَانِيَّة أيْ رَسُولًا، وَقَدْ يُطْلَق عَلَى الْوَكِيل وَعَلَى الْأَجِير، قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مُرْسِله أَوْ مُوَكِّله، أَوْ لِأَنَّهُ يَجْرِي مُسْرِعًا فِي حَوَائِجه.
(فَأَلْفَى ذَلِكَ): بِالْفَاءِ أَي: وَجَدَ.
(وَهِيَ تُحِبّ الْأُنْسَ): بِضَمِّ الْهَمْزَة ضِدّ الْوَحْشَة، وَيَجُوز الْكَسْر أي: تُحِبّ جِنْسَهَا.
(وَأَنْفَسهمْ): بِفَتْح الْفَاء بِلَفْظِ أَفْعَل التَّفْضِيل مِن النَّفَاسَة، أي: كَثُرَتْ رَغْبَتهمْ فِيهِ.
(يُطَالِع تَرِكَته): بِكَسْرِ الرَّاء أي، يَتَفَقَّد حَال مَا تَرَكَهُ هُنَاكَ.
(خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا): أي: يَطْلُب لَنَا الرِّزْق.
(عَتَبَة بَابك): بِفَتْح الْمُهْمَلَة وَالْمُثَنَّاة وَالْمُوَحَّدَة كِنَايَة عَن الْمَرْأَة، وَسَمَّاهَا بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِن الصِّفَات الْمُوَافِقَة لَهَا؛ وَهُوَ حِفْظ الْبَاب، وَصَوْن مَا هُوَ دَاخِله، وَكَوْنهَا مَحَلّ الْوَطْء.
(يَبْرِي نَبْلًا): بِفَتْحِ أَوَّله وَسُكُون الْمُوَحَّدَة، وَالنَّبْل بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْمُوَحَّدَة السَّهْم قَبْل أَنْ يُرَكَّب فِيهِ نَصْله وَرِيشه، وَهُوَ السَّهْم الْعَرَبِيّ.
(فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَع الْوَالِد بِالْوَلَدِ وَالْوَلَد بِالْوَالِدِ): يَعْنِي: مِن الِاعْتِنَاق وَالْمُصَافَحَة وَتَقْبِيل الْيَد وَنَحْو ذَلِكَ.
(جَاءَ بِهَذَا الْحَجَر): يَعْنِي الْمَقَام.
من فوائد الحديث
1- المؤمن يستسلم لأوامر الله، ويؤثر طاعته ومحبته على كل شئ، ولو كان الزوجة الصالحة أو الولد الوحيد، فإبراهيم ينفذ أمر الله تعالى حينما أمره أن يحمل زوجته (هاجر) وولدها الرضيع (إسماعيل) إلى واد غير ذي زرع، لا أنيس فيه ولا زاد.
2- أن هاجرة كانت مطيعةً لزوجها ومؤمنةً بربها، ومتوكلةً عليه حق التوكل، حيث صبرت وصابرت، ورضيت بالإقامة في واد غير ذي زرع لا أنيس فيه ولا زاد، بعد أن اطمأنت أن إبراهيم عليه السلام أسكنها في هذا الوادي بأمر من الله تبارك وتعالى، ففي الحديث: " ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا, فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ, فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا, وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا, فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ".
وهكذا المرأة الصالحة تستجيب لأمر الله، على قضائه، وتعين زوجها على طاعة الله تعالى.
3- إبراهيم يترك زوجته الوفية، وولده الصغير في الوادي بعد أن زودهم بكيس من التمر، وسقاء فيه ماء، ثم دعا لهم: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادي غير ذي زرع عند بيتك المحرم). وبذلك يعلمنا إبراهيم عليه السلام أن نجمع بين الدعاء والأخذ بالأسباب.
4- أن الله تعالى سنّ للحجاج والمعتمرين أن يسعوا بين الصفا والمروة لكي يتذكروا ما جرى لأمهم هاجر، فصار ذلك الفعل منسكًا إلى يوم القيامة يتعبد ويتقرب به إلى الله تبارك وتعالى.
5- أم إسماعيل تبحث عن الماء عندما نفد من عندها، وتأخذ بالأسباب وتسعى بين الصفا والمروة عدة مرات حتى يسر الله تعالى لها ولولدها الماء (زمزم).
6- أن الله تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حيث إن إبراهيم ترك أهله في مكة امتثالاً لربه تعالى، ومؤمنًا به ومتوكلاً عليه، ولا يوجد يومئذ هناك أحد من بني آدم غيرهم، فلم يضيع الله أهله، بل رزقهم من عنده، وأجرى لهم بئر زمزم ماءً مباركاً يستقي منه الناس إلى اليوم، وجاء بأناس من قبيلة جرهم لكي يسكنوا معهم فيأنسون بهم، وتذهب وحشتهم.
7- يجوز للإنسان أن يطلب الغوث والعون من غيره فيما يقدر عليه كما فعلت أم إسماعيل، وأما سؤال الميت والغائب، أو فيما لا يقدر عليه الإنسان فلا يجوز ذلك وهو من الشرك.
8- إن الله اصطفى آل إبراهيم، وجعل من ذريته الأنبياء والمرسلين، فكيف يرضى إبراهيم لولده إسماعيل بزوجة لا تحيا بروحها، بل تعيش لجسدها، ولا يهمها إلا الطعام والشراب، فتزدري ضيفها أبا زوجها، فتجحد نعمة ربها، وتشكو سوء معيشتها، لذلك أشار إبراهيم على ولده إسماعيل بفراقها، والتخلص منها.
9- الزوجة الثانية لإسماعيل صالحة، تحترم ضيفها، وتشكر نعمة ربها، لذلك يشير إبراهيم على ولده إسماعيل بإمساكها ورعايتها.
10- الطاعة والصبر لهما عاقبة محمودة، وذكرى خالدة، فالمكان الموحش الذي نزلت فيه هاجر أم إسماعيل، وهو مجدب يصبح فيما بعد حرماً آمناً، وبلداً مسكوناً، فيه ماء مبارك)زمزم) تهوي إليه أفئدة الناس، وتأتيه الثمرات، وتقصده الوفود للحج من كل فج عميق، ليشهدوا المنافع الدنيوية والآخروية.
11- أن التربية الحسنة لها أثر كبير في صلاح الأولاد - بعد توفيق الله تبارك وتعالى - وقد تجلى هذا في امتثال إسماعيل أوامر أبيه إبراهيم - عليهما السلام-؛ في طلاق زوجته، وفي إعانته على بناء الكعبة، وقبل ذلك حين قال له أبوه: ((يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) [الصافات:102].
12- مشروعية سؤال الله تعالى قبول الأعمال الصالحة فقد بنى إبراهيم الكعبة بيديه وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يدعوان الله تبارك وتعالى أن يتقبل منهما، قال عز وجل: ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:127-128]. فتقبل الله منهم هذا الدعاء ورفع شأنهم، وأعلى منزلتهم.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ؛ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ، وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ؛ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: ((رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) حَتَّى بَلَغَ ((يَشْكُرُونَ)) وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَت الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَت الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِن الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَت الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَت الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَت الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا"، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صَهٍ؛ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ؛ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِن الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِن الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا"، قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِن الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ! فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ، فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ؛ وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَت: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَت: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ" قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ، ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ ،فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ! إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِن الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ))قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))(1).
شرح المفردات (2)
(الْمِنْطَق): بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفَتْح الطَّاء هُوَ مَا يُشَدّ بِهِ الْوَسَط.
(عِنْد دَوْحَة): بِفَتْح الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْوَاو ثُمَّ مُهْمَلَة: الشَّجَرَة الْكَبِيرَة.
(فِي أَعْلَى الْمَسْجِد): أي: مَكَان الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بُنِيَ.
(وَسِقَاء): السِّقَاء بِكَسْرِ أَوَّله؛ قِرْبَة صَغِيرَة.
(ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيم): أي: وَلَّى رَاجِعًا إِلَى الشَّام.
(يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّط): وَمَعْنَى "يَتَلَبَّط" وَهُوَ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَة يَتَمَرَّغ وَيَضْرِب بِنَفْسِهِ الْأَرْض.
(ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ): أي: الَّذِي أَصَابَهُ الْجَهْد وَهُوَ الْأَمْر الْمُشِقُّ.
(فَقَالَتْ: صَهٍ): بِفَتْح الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْهَاء وَبِكَسْرِهَا مُنَوَّنَة، كَأَنَّهَا خَاطَبَتْ نَفْسهَا فَقَالَتْ لَهَا: اُسْكُتِي.
(غَوَاثٍ): بِفَتْح أَوَّله لِلْأَكْثَرِ وَتَخْفِيف الْوَاو وَآخِره مُثَلَّثَة، قِيلَ: وَلَيْسَ فِي الْأَصْوَات فَعَالٍ بِفَتْح أَوَّله غَيْره، وَحَكَى ابن الْأَثِير ضَمَّ أَوَّله، وَالْمُرَاد بِهِ عَلَى هَذَا الْمُسْتَغِيث، وَجَزَاء الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره فَأَغِثْنِي.
(فَجَعَلَتْ تُحَوِّضهُ): بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَضَاد مُعْجَمَة وَتَشْدِيد، أي: تَجْعَلهُ مِثْل الْحَوْض.
(لَوْ تَرَكْت زَمْزَم، أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِف مِنْ زَمْزَم): شَكّ مِن الرَّاوِي، وَهَذَا الْقَدْر صَرَّحَ ابن عَبَّاس بِرَفْعِهِ عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ إِشْعَار بِأَنَّ جَمِيع الْحَدِيث مَرْفُوع.
(عَيْنًا مَعِينًا): أي: ظَاهِرًا جَارِيًا عَلَى وَجْه الْأَرْض.
(لَا تَخَافُوا الضَّيْعَة): بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة أي: الْهَلَاك.
(رُفْقَة): بِضَمِّ الرَّاء وَسُكُون الْفَاء ثُمَّ قَاف وَهُم الْجَمَاعَة المخْتَلِطُونَ سَوَاء كَانُوا فِي سَفَر أَمْ لَا.
(عَائِفًا): بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاء هُوَ الَّذِي يَحُوم عَلَى الْمَاء وَيَتَرَدَّد وَلَا يَمْضِي عَنْهُ.
(فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا): بِفَتْح الْجِيم وَكَسْر الرَّاء وَتَشْدِيد التَّحْتَانِيَّة أيْ رَسُولًا، وَقَدْ يُطْلَق عَلَى الْوَكِيل وَعَلَى الْأَجِير، قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مُرْسِله أَوْ مُوَكِّله، أَوْ لِأَنَّهُ يَجْرِي مُسْرِعًا فِي حَوَائِجه.
(فَأَلْفَى ذَلِكَ): بِالْفَاءِ أَي: وَجَدَ.
(وَهِيَ تُحِبّ الْأُنْسَ): بِضَمِّ الْهَمْزَة ضِدّ الْوَحْشَة، وَيَجُوز الْكَسْر أي: تُحِبّ جِنْسَهَا.
(وَأَنْفَسهمْ): بِفَتْح الْفَاء بِلَفْظِ أَفْعَل التَّفْضِيل مِن النَّفَاسَة، أي: كَثُرَتْ رَغْبَتهمْ فِيهِ.
(يُطَالِع تَرِكَته): بِكَسْرِ الرَّاء أي، يَتَفَقَّد حَال مَا تَرَكَهُ هُنَاكَ.
(خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا): أي: يَطْلُب لَنَا الرِّزْق.
(عَتَبَة بَابك): بِفَتْح الْمُهْمَلَة وَالْمُثَنَّاة وَالْمُوَحَّدَة كِنَايَة عَن الْمَرْأَة، وَسَمَّاهَا بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِن الصِّفَات الْمُوَافِقَة لَهَا؛ وَهُوَ حِفْظ الْبَاب، وَصَوْن مَا هُوَ دَاخِله، وَكَوْنهَا مَحَلّ الْوَطْء.
(يَبْرِي نَبْلًا): بِفَتْحِ أَوَّله وَسُكُون الْمُوَحَّدَة، وَالنَّبْل بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْمُوَحَّدَة السَّهْم قَبْل أَنْ يُرَكَّب فِيهِ نَصْله وَرِيشه، وَهُوَ السَّهْم الْعَرَبِيّ.
(فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَع الْوَالِد بِالْوَلَدِ وَالْوَلَد بِالْوَالِدِ): يَعْنِي: مِن الِاعْتِنَاق وَالْمُصَافَحَة وَتَقْبِيل الْيَد وَنَحْو ذَلِكَ.
(جَاءَ بِهَذَا الْحَجَر): يَعْنِي الْمَقَام.
من فوائد الحديث
1- المؤمن يستسلم لأوامر الله، ويؤثر طاعته ومحبته على كل شئ، ولو كان الزوجة الصالحة أو الولد الوحيد، فإبراهيم ينفذ أمر الله تعالى حينما أمره أن يحمل زوجته (هاجر) وولدها الرضيع (إسماعيل) إلى واد غير ذي زرع، لا أنيس فيه ولا زاد.
2- أن هاجرة كانت مطيعةً لزوجها ومؤمنةً بربها، ومتوكلةً عليه حق التوكل، حيث صبرت وصابرت، ورضيت بالإقامة في واد غير ذي زرع لا أنيس فيه ولا زاد، بعد أن اطمأنت أن إبراهيم عليه السلام أسكنها في هذا الوادي بأمر من الله تبارك وتعالى، ففي الحديث: " ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا, فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ, فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا, وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا, فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ".
وهكذا المرأة الصالحة تستجيب لأمر الله، على قضائه، وتعين زوجها على طاعة الله تعالى.
3- إبراهيم يترك زوجته الوفية، وولده الصغير في الوادي بعد أن زودهم بكيس من التمر، وسقاء فيه ماء، ثم دعا لهم: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادي غير ذي زرع عند بيتك المحرم). وبذلك يعلمنا إبراهيم عليه السلام أن نجمع بين الدعاء والأخذ بالأسباب.
4- أن الله تعالى سنّ للحجاج والمعتمرين أن يسعوا بين الصفا والمروة لكي يتذكروا ما جرى لأمهم هاجر، فصار ذلك الفعل منسكًا إلى يوم القيامة يتعبد ويتقرب به إلى الله تبارك وتعالى.
5- أم إسماعيل تبحث عن الماء عندما نفد من عندها، وتأخذ بالأسباب وتسعى بين الصفا والمروة عدة مرات حتى يسر الله تعالى لها ولولدها الماء (زمزم).
6- أن الله تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حيث إن إبراهيم ترك أهله في مكة امتثالاً لربه تعالى، ومؤمنًا به ومتوكلاً عليه، ولا يوجد يومئذ هناك أحد من بني آدم غيرهم، فلم يضيع الله أهله، بل رزقهم من عنده، وأجرى لهم بئر زمزم ماءً مباركاً يستقي منه الناس إلى اليوم، وجاء بأناس من قبيلة جرهم لكي يسكنوا معهم فيأنسون بهم، وتذهب وحشتهم.
7- يجوز للإنسان أن يطلب الغوث والعون من غيره فيما يقدر عليه كما فعلت أم إسماعيل، وأما سؤال الميت والغائب، أو فيما لا يقدر عليه الإنسان فلا يجوز ذلك وهو من الشرك.
8- إن الله اصطفى آل إبراهيم، وجعل من ذريته الأنبياء والمرسلين، فكيف يرضى إبراهيم لولده إسماعيل بزوجة لا تحيا بروحها، بل تعيش لجسدها، ولا يهمها إلا الطعام والشراب، فتزدري ضيفها أبا زوجها، فتجحد نعمة ربها، وتشكو سوء معيشتها، لذلك أشار إبراهيم على ولده إسماعيل بفراقها، والتخلص منها.
9- الزوجة الثانية لإسماعيل صالحة، تحترم ضيفها، وتشكر نعمة ربها، لذلك يشير إبراهيم على ولده إسماعيل بإمساكها ورعايتها.
10- الطاعة والصبر لهما عاقبة محمودة، وذكرى خالدة، فالمكان الموحش الذي نزلت فيه هاجر أم إسماعيل، وهو مجدب يصبح فيما بعد حرماً آمناً، وبلداً مسكوناً، فيه ماء مبارك)زمزم) تهوي إليه أفئدة الناس، وتأتيه الثمرات، وتقصده الوفود للحج من كل فج عميق، ليشهدوا المنافع الدنيوية والآخروية.
11- أن التربية الحسنة لها أثر كبير في صلاح الأولاد - بعد توفيق الله تبارك وتعالى - وقد تجلى هذا في امتثال إسماعيل أوامر أبيه إبراهيم - عليهما السلام-؛ في طلاق زوجته، وفي إعانته على بناء الكعبة، وقبل ذلك حين قال له أبوه: ((يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) [الصافات:102].
12- مشروعية سؤال الله تعالى قبول الأعمال الصالحة فقد بنى إبراهيم الكعبة بيديه وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يدعوان الله تبارك وتعالى أن يتقبل منهما، قال عز وجل: ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:127-128]. فتقبل الله منهم هذا الدعاء ورفع شأنهم، وأعلى منزلتهم.
الهوامش:
(1)صحيح البخاري، برقم: (3364)، ص: (561-563).
(2) ينظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني، 6/ 400- 406.
(1)صحيح البخاري، برقم: (3364)، ص: (561-563).
(2) ينظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني، 6/ 400- 406.
تعليق