مرت نماذج خيرة في حياته عليه الصلاة والسلام، سطرها أصحابه رضوان الله عليهم ومن هذه النماذج:
الخلاف بين بلال وأبي ذر
فهذا أبو ذر رضي الله عنه عير بلالاً بأمه، فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم ندم أبو ذر على ما بدر منه من قول، فوضع خده على التراب، وقال لـبلال : [والله لا أرفع خدي حتى تطأه بقدمك!] فتعانقا وتصافحا.
الخلاف بين المهاجرين والأنصار
كاد المهاجرون والأنصار أن يقتتلوا وذلك بعد الإسلام!
وسلوا السيوف، وتهيئوا للقتال! فخرج عليهم الرسول صلى الله عيه وسلم وقال: (ما بال دعوى جاهلية) ثم قال: (دعوها فإنها منتنة). (1)
فبكوا، وأسقطوا السيوف من أيديهم، وتعانقوا فهذه الأخوة المعتصمة بالله نعمة يمتن الله بها على المسلمين، وهي نعمة يهيئها الله لمن يحبهم من عباده، وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة، وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع، فمصبحون بنعمة الله إخواناً، وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية!
((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)).
ذكر أهل التاريخ بسند صحيح أن الصحابة خرجوا في غزوة بني المصطلق، وكان لـعمر مولى اسمه جهجاه ، فقام فاختصم مع رجل من الأنصار اسمه سنان بن وبرة ، فغضب الأخير غضباً شديداً حتى تصايحا، فقال مولى عمر : يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فبلغت في النفوس حزازات، وأخبروا بها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول فقال: صدق المثل القائل: جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك! لو أنا صرفناهم عن دارنا ما فعلوا هذا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وبلغت الكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بها زيد بن الأرقم ، وأتى صلى الله عليه وسلم فأمر أصحابه بالرحيل لئلا يتحدث أهل النفاق في القضية، فأهل النفاق يحبون الشائعات، وهناك أناس في المجتمع لا هم لهم إلا نشر الشائعات، وتصيد العثرات والزلات، فيصنفون فيها المصنفات، ويزيدون فيها، ويتشاغلون بها، ويلغون في الأعراض كما يلغ الكلب في الماء.
فانظر إلى التصرف الحكيم منه صلى الله عليه سلم بأن أمر الصحابة بالرحيل لئلا يتحدثوا في المسألة، فيشغلهم بذلك!
ولذلك فمن أعظم الحلول التي تدحض الشائعات، وتنهي ما قد يحدث بين الأحبة، أن تشغل الناس بالجد، وبالعلم، وبالمسائل العلمية، وتطرح عليهم قضايا الأمة الكبرى، لأن قضايا الأمة والإسلام أعظم من قضايانا هذه، وأعظم من المهاترات.
قضايا نشر الإسلام، قضايا محاربة اليهودية العالمية، والعلمانية والشيوعية والنصرانية ، قضايا تأليف هذه الأمة المقدسة الخالدة التي جعلها الله أمة وسطاً، شاهدة على الأمم، تعمل بالكتاب والسنة.
وأتى صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة فأخبره بالخبر، فقال: [يا رسول الله! والله إن شئت لنقتلنه، أو لنمنعنه من دخول المدينة ، فإنك الأعز، وهو الأذل] فقال عمر : [ائذن لي أن أقتله يا رسول الله] فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). (1)
هذا هو المنهج الصحيح في التعامل مع الخصوم في هذه المرحلة من مراحل الدعوة المباركة، فالنبي صلى الله عليه وسلم عنده منهج دعوي يسير عليه، يريد مصلحة هذه الدعوة، ما عليه من دمه ولا من نفسه، ولا من ماله، ولا من زوجه، ولا من أهله، لأنه يريد للدعوة أن تستمر، وأن يستفيد الناس، وأن يسمع الناس، وأن يتعظ الناس، وأن يهتدي على يديه بشر كثير، أما قضية الانتقام الشخصي أو أن يقوم الإنسان ويغضب لنفسه، فليست من صفاته صلى الله عليه وسلم.
ومنع عليه الصلاة والسلام عمر ، فأتى عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول فقال: [يا رسول الله! سمعت أنك تريد قتل أبي، فإنك إن أرسلت رجلاً لقتل أبي، والله لا تطمئن نفسي أن أرى قاتل أبي يمشي على وجه الأرض حتى أقتله، لكن يا رسول الله! ائذن لي أن أذهب الآن وآتيك برأس أبي! والله يا رسول الله! لئن شئت لأقتلنه، فإنك الأعز وهو الأذل!!].
انظر إلى الإسلام! وإلى عظمة الانتساب إليه؛ فصل بين الولد وأبيه، وهو من صلبه، من دمه، من عروقه! ثم انظر إلى الإيمان الذي تغلغل في أحشاء هذا الصحابي الجليل، وتسرب إلى عروقه ومشاعره، وجرى منه مجرى الروح والدم! حقاً، بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يظهر من روائع الإيمان واليقين والشجاعة، وخوارق الأفعال والأخلاق، ما يحير العقول والألباب، ويعجز عن تفسيره أهل البصائر والعقلاء.
ويموت هذا الشقي، فيجيء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟
] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما خيرني الله فقال: ((اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)) وسأزيده على السبعين) (1)
قال عمر : [إنه منافق!!] فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه المسلمون.
فأنزل الله عليه قوله: ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)) ويأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متخلفون من المنافقين الذين أساءوا وتركوا الغزو، وخالفوا أمره، وعصوا الله، فيقول أحدهم: يا رسول الله، إني مريض! فيقول له: صدقت. وهو ليس مريضاً في جسمه، لكنه مريض القلب.
ويأتيه الثاني فيقول له: امرأتي مرضت في الغزوة! فيقول له: صدقت ويأتيه الثالث يقول له: فقير ما استطعت أن أشتري جملاً! فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: صدقت، فيقول تعالى: ((عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)).
فماذا أحدث عليه الصلاة والسلام بهذا الخلق؟
جمع القلوب بدعوته، وألف بين الأرواح بحكمته، أتاه أحدهم فقال له: والذي لا إله إلا هو إنك أحب إلي من نفسي!! وقال الثاني: والله ما ملأت عيني منه إجلالاً له، والله لو سألتموني أن أصفه لكم، ما استطعت أن أصفه من حبي وإجلالي له.
ولقد كانوا رضي الله عنهم يتمنون أن تسيل دماؤهم، وتندق أعناقهم، ولا يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة.. هذا هو الحب!
الخلاف بين معاوية وابن الزبير
كان لـمعاوية مزرعة في المدينة ، وله عمال، وكان لـابن الزبير مزرعة بجانبها، و معاوية آنذاك يحكم ما يقارب العشرين دولة، و ابن الزبير راع من رعيته، وكان بينهما حزازات قديمة، فأتى عمال معاوية ودخلوا في مزرعة ابن الزبير ، فكتب ابن الزبير لـمعاوية كتاباً، وكان رضي الله عنه غضوباً، فقال له: [بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن الزبير ابن حواري الرسول، و ابن ذات النطاقين ، إلى معاوية بن هند بن آكلة الأكباد! أما بعد: فقد دخل عمالك مزرعتي، فوالذي لا إله إلا هو إن لم تمنعهم ليكونن لي معك شأن!!] فقرأ معاوية الرسالة -وكان حليماً- فاستدعى ابنه يزيد ، وكان يزيد متهوراً، فعرض عليه معاوية الرسالة، وقال: [ماذا ترى أن نجيبه؟
] قال: أرى أن ترسل له جيشاً أوله في المدينة ، وآخره عندك في دمشق يأتونك برأسه!!
فقال معاوية : لا، خير من ذلك وأقرب رحماً، فكتب معاوية : [بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن أبي سفيان ، إلى عبد الله بن الزبير ابن حواري الرسول ، و ابن ذات النطاقين ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فلو كانت الدنيا بيني وبينك، ثم سألتها لسلمتها لك، فإذا أتاك كتابي هذا، فضم مزرعتي إلى مزرعتك، وعمالي إلى عمالك فهي لك، والسلام!!] وصلت الرسالة إلى ابن الزبير ، فقرأها وبلها بدموعه، وذهب إلى معاوية في دمشق، وقبل رأسه، وقال له: [لا أعدمك الله عقلاً أنزلك هذا المنزل من قريش].
تعليق