من حكمة الله عز وجل أن جعل من أسباب ثبات هذا الدين أن يقوم علم الجهاد، يقول سبحانه وتعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)) فالرسل تأتي بالبينات، وهذه البينات لا يقوى بنيانها إلا بحديد، وقوة، وهو: الجهاد.
فديننا مصحف وسيف.
قال شيخ الإسلام : إنما كان قوام هذا الدين: كتاباً يهدي؛ وسيفاً ينصر، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
وكان رسولنا، عليه الصلاة والسلام، يصلي بالناس ويقاتل أمام الناس.
يحمل المصحف في الليل: قارئاً، وتالياً، وعابداً، وناسكاً.
ويحمل السيف في النهار: مجاهداً، ومقاتلاً، ومتقدماً للصفوف.
وكان من لوازم هذه الفترة التي نعيشها: أن نتكلم عن الجهاد؛ الذي عاشه أسلافنا، والناس جميعاً لا يعترفون إلا بالقوي، ولا يحترمون إلا القوي، إذا لم يكن هناك دين، وورع، ومخافة من الله.
والعرب في الجاهلية، كان بعضهم يزري على بعض بجبنه، وعدم قتاله.
يقول أحد شعرائهم، وقد سرق العدو إبله، فذهب إلى قبيلته يستنجدهم، فما لبوا لنجدته، وما نصروه، فقال في مقطوعة له:
لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من زهد بن شيبانا
يقول: أنا لو كنت من آل فلان ما أخذوا إبلي، لكنني منكم، وأنتم جبناء، ثم أخذ يمدح أولئك:
قوم إذا الشر أبدر ناجذيه لهم هبوا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
فلامهم على ضعفهم، وعلى جبنهم، وعلى ذلتهم.
واستدعى عمر ، رضي الله عنه وأرضاه، شاعراً شكاه الناس؛ لأنه كان يسب قبيلتهم.
فقال عمر : [ماذا قال فيكم؟
].
قالوا: يا أمير المؤمنين، سبنا، وشتمنا، وجدعنا.
قال: [ماذا قال فيكم؟
]
قالوا:
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
أي: أنهم قبيلة صغيرة، حقيرة، لا تظلم أحداً، وهذا عندهم من الضعف والخور.
فقال عمر : [يا ليتني منهم: هؤلاء لا يظلمون أحداً، وماذا يقول؟
]
قالوا:
ولا يردون الماء إلا عشيةً إذا ورد الصدار عن كل منهل
أي: أنهم لا يأتون للماء إلا في الليل، بعد أن ينتهي الناس من إصدار الماء لضعفهم.
فقال عمر بذكاء: [هذا أبعد عن الزحام].
فلما أصروا أدب الشاعر.
إذاً، الناس لا يعترفون إلا بالقوة، والآراء الحازمة.
عندما ارتد من ارتد من العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أراد بعض الصحابة أن يختاروا سبيل المفاوضة معهم.
ولكن أبا بكر ، رضي الله عنه، تحول إلى أسد، وصعد المنبر، وقال: [والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم عليه، والذي نفسي بيده لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة].
ثم استدعى خالداً أبا سليمان، وأعطاه الراية من على المنبر، واستدعى عكرمة ، وأعطاه الراية من على المنبر.
فذهبوا، فأدبوهم تأديباً عظيماً، فعادوا ودخلوا في دين الله.
و عمر بن الخطاب أتاه الهرمزان يفاوضه على الصلح يقول: نعطيكم بعض الأراضي، واتركوا لنا بعض الأراضي.
فأرسل عمر سعد بن أبي وقاص بجيش عرمرم، عداده: اثنان وثلاثون ألفاً، وكل واحد منهم، في قلبه لا إله إلا الله.
ولذلك قال الشاعر عن عمر ، رضي الله عنه:
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
ويختلف معاوية رضي الله عنه، مع علي رضي الله عنه، وكل مجتهد، والحق مع علي ، فيكتب ملك الروم لـمعاوية كتاباً يقول فيه: يا معاوية! يا أمير المؤمنين اجتمع أنا وإياك على علي لتستتب لك الخلافة.
عجيب!
يريد أن ينتهزها فرصة ثمينة، فيأكلهما واحداً تلو الآخر، ولو كان غير معاوية ، رضي الله عنه، لقال: حيهلا بك؛ لأن المنصب قبل الدين، عند البعض.
فكتب له معاوية قائلاً: [من معاوية بن أبي سفيان إلى كلب الروم، أما بعد، فوالذي نفسي بيده، لو تقدمت في الإقليم، أو عبرت بسفينة البحر، لأجتمعن أنا وابن عمي: علي بن أبي طالب عليك، فالحذر الحذر]
ويستمر الحال، ويحاول الروم أهل الصليب: أن يجربوا حظهم مع المسلمين، فتحرش صليبي فاجر من عمورية بإحدى النساء المسلمات، فصاحت قائلة: (وامعتصماه)؟
تنادي الخليفة المعتصم ؛ الذي كان بـبغداد .
فانتقل الخبر، حتى وصل إلى مسمع المعتصم .
فقال لها الروم: انتظري المعتصم حتى يأتي على فرسه الأبلق لينصرك! فأما المعتصم ، فقال: والله، لا أغتسل من جنابة حتى أغيث هذه المرأة المسلمة.
يستهزؤون بها.
فأعلن القتال، والجهاد ضد الروم.
وجهز جيشاً عرمرماً؛ عداده: تسعون ألفاً، وكان إمامهم في الصلاة: أبو يوسف القاضي الحنفي العالم.
وبدأ في الاستغفار، والتوبة، والعودة إلى الله، ثم مضى بالجيش، وعندما وصل حدود الروم، بدأ يحرقها مدينة مدينة، فكانت النيران تشتعل في الحصون.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
فلما وصل إلى عمورية في الشمال حاصرها طويلاً، فطلب أهلها الصلح، فلم يوافق حتى أحرقها، واقتحمها، وأخرج الرجل الذي آذى المرأة من بين الروم، وأعطاه للمرأة المسلمة؛ ليكون رقيقاً لها وعبداً، وقال: أنا المعتصم ، وقد نصرتك.
فلله دره.
وهكذا تكون الشجاعة.
ولذلك كان الإمام أحمد ، رحمه الله، يدعو للمعتصم على رغم ما بينهما من خلاف؛ لأنه قد نصر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عدد من المواطن، وكان يتبنى رأي المعتزلة عن جهل، لا عن اقتناع، فرحمه الله، وغفر له.
ولذلك قال الشاعر، في عالمنا اليوم، يتذكر ذاك اليوم المجيد، ويتمنى أن يتكرر:
رب وامعتصماه انطلقت ملأ أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
فكم من امرأة تصيح: (وامعتصماه) اليوم في فلسطين ، وفي الفلبين ، وفي غيرها، ولا يجيبها مجيب؟
وكم من طفل يقتل؟
وكم من مسجد يهدم؟
وكم من شعيرة لله عز وجل تسحق؟
ثم لا يجيب مجيب.
لقد بلغت الأمة في الذلة والمهانة: الشيء الكثير، يوم تركت الجهاد، وتخلت عن الدين.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم) (1) .
وبيع العينة: منتشر اليوم، وهو: أن تشتري السلعة من الرجل ديناً، ثم يشتريها من باعها منك بأقل من ثمنها فوراً.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأخذتم أذناب البقرة).
أي: أن تتحول الأمة من أمة جهاد، إلى أمة زراعة.
والزراعة ليست حراماً، لكن من العيب: أن يتحول أبطال الإسلام، وشباب لا إله إلا الله، وحفظة التوحيد، إلى باعة بطاطس، وباعة خيار، وباذنجان، وجرجير، وخس في الأسواق، والأمة تمزق في كل مكان.
وبعد عمورية وقف أبو تمام الشاعر، يحيي المعتصم بهذا النصر العظيم فيقول:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلاً معسولة الحلب
تدبير معتصم بالله منتقم لله مرتقب لله محتسب
أين الرواية أم أين الدراية وكم صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
طلاسم وأحاديث منمقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
فالنصر في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
فالنصر في السيوف، وليس في النجوم، إلى آخر ما قال.
إنه تدبير الله، وقوة الله: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ))، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)).
((إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)) إن يخذلكم بأعمالكم، وبتصرفاتكم، وبأكلكم الربا، وبسكوتكم عن المنكرات، وبتبرج النساء، وبانتشار المخدرات، وبضياع الشباب: ((فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)) من يثبت معكم في الساحة؟
.
من يقدم لكم النصر؟
لا أحد.
و هارون الرشيد كانت الجزية تسلم له من كل الأقاليم حيث كان يحكم ثلاثة أرباع الدنيا.
وكان يحج عاماً، ويغزو عاماً.
وكان يقول للسحابة: أمطري أنى شئت؛ فإن خراجك سوف يأتيني.
ماتت ملكة الروم في عهده، فتولى بعدها خليفتها: نقفور ، فأرسل رسالة إلى هارون يقول فيها: أما بعد، فإن المرأة التي كانت قبلي، كانت ضعيفة العقل، وكانت تدفع لك الجزية، وأما أنا الآن، فلن أدفع لك درهماً ولا ديناراً.
فوصل الكتاب، فقرأه هارون الرشيد ، فقلب الكتاب استهتاراً به؛ لئلا يكتب في ورقة أخرى، وأخرج القلم، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون الرشيد : أمير المؤمنين، إلى نقفور : كلب الروم، أما بعد: فالجواب ما تراه دون ما تسمعه!!
ثم قال لقائده: جهز الجيش، فما مرت أيام، إلا وهو قد طوق الكلب في بلاده، وجعله يدفع الجزية مضاعفة!
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الضاري
إذاً: فلا حياة للأمة إلا بالجهاد، وبتربية أبنائها على خوض الصعاب، والمنايا؛ لتعود الأمة عزيزة من جديد.
يقول تعالى: ((انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)).
ويقول سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)).
فلما علم الله من أوليائه أنه يحبهم وأنهم يحبونه قال: ((وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)).
فتقدم أهل السلع؛ يحملون أرواحهم على أكفهم، فقبل الله عز وجل منهم ما قدموا لدينه وشرعته، حيث عرضوا سلعتهم على الله تعالى وقالوا: نبيع، ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.
والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا قد وجب البيع!
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أمن رمى نار المجوس فأطفأت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الذي دكوا بعزم أكفهم بات المدينة يوم غزوة خيبرا
حضر المسلمون معركة تستر ، وكان قائدهم: أبا موسى الأشعري العابد.
فالتقوا، فإذا جيش الكفار: أكثر من المسلمين، فقالوا: يا براء بن مالك ، نسألك بالله، اليوم، أن تقسم على الله أن ينصرنا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إذا أقسم على الله أبره.
فقال: [انتظروني قليلاً].
فذهب، واغتسل، ولبس أكفانه، وتحنط، وتطيب وقال: [اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم: أن تنصرنا، وأن تجعلني أول قتيل] وبدأت المعركة فقتل أول الناس وانتصر المسلمون: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)).
مهر المحبة، والجنة: بذل النفس.
والمال لمالكهما؛ الذي اشتراها من المؤمنين.
فما للجبان المعرض المفلس وسوق هذه السلعة؟
والله، ما هزلت فيستامها المفلوس.
وما كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون.
لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد.
فلم يرض ربها لها ثمناً دون بذل النفوس.
فتأخر البطالون: أهل الأغنيات الماجنات، والمجلات الخليعات، وترك الصلوات.
وتقدم لها أهل لا إله إلا الله وأهل: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))، من أمثال خالد ، و سعد ، و علي ، و بلال .
فدارت السلعة بينهم فتقدم الصحابة.
فأتى أبو بكر بجسمه النحيف، فباعه من الله، فكان صديقاً.
وأتى عمر ، فقاتل في الغزوات، فاغتيل في المحراب.
وأتى عثمان ، فضرج بالدماء على المصحف.
وأتى علي ، فاغتيل في الكوفة مع صلاة الفجر؛ لأن أنفسهم قد بيعت بعقد سابق، والله رضي العقد، وشهده جبريل والملائكة.
وأما أرواحهم؛ ففي حواصل طير خضر، ترد الجنة، وتشرب من مائها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بالبينة على صحة الدعوى، ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي.
بكى جابر على أبيه في معركة أحد ، لما قتل، وضرب بثمانين ضربة.
قال: [فأخذ الناس ينهونني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني].
فقال له صلى الله عليه وسلم: (يا جابر، ابك أو لا تبك، والذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها، حتى رفعته، والذي نفسي بيده يا جابر لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان فقال الله له: تمن.
قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية.
قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن.
قال: أتمنى أن ترضى عني، فإني قد رضيت عنك.
قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبدأ) (1) .
فأنزل الله قوله: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)).
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زاداً إليهم وسر على طريق الهدى والحب تصبح واصلا
وأحي بذكراهم شراك إذا دنت ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبساً من نورهم ثم سر به فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحى على وادي الأراك فقل به عساك تراهم ثم إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عندي معرف الـ ـلأحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن تفت فمني يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحي على يوم المزيد بجنة الـ ـخلود فجد بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوماً دارسات فما بها مقيل وجاوزها فليست منازلا
رسوماً عفت ينتابها الخلق كم بها قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي عليه سرى وفد الأحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعند اللقاء ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصح ذو الأحزان فرحان جاذلا
يقول صلى الله عليه وسلم: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي- أي: بالله-) أي: ليس من أجل التراب، ولا من أجل القومية، ولكن من أجل لا إله إلا الله (وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم) (1) ، أي: قائم الليل، القانت بآيات الله؛ الذي لا يفتر من صيام، ولا من صلاة.
لما نودي بالجهاد على حدود الروم، كان ابن المبارك المحدث، الزاهد، العابد، يفتي في الحرم، فسمع دعاء الجهاد، فخرج من الحرم، وأخذ بغلته، وركبها، وأخذ السيف والدرع.
فقال له أهل مكة : ابق معنا، يا ابن المبارك .
قال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
يقول عنه تلاميذه: كان من أشجع الناس، فقد قتل في اليوم الأول، مبارزة، سبعة فرسان.
وأتته في أثناء المعركة رسالة من الفضيل بن عياض ، الذي كان في الحرم، يقول فيها: يا ابن المبارك ، تترك الحرم، وتترك العلم، وتترك الفتيا، وتخرج.
فكتب ابن المبارك إليه رسالة يقول فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
فلما أتت الرسالة إلى الفضيل ، بكى حتى بلها بالدموع.
وخرج سعيد بن عثمان بن عفان غازياً في سبيل الله، بجيش مؤمن موحد، فرآهم مالك بن الريب الشاعر، وكان قاطع طريق، ولص مشهور.
فقال له سعيد: من أنت؟
قال: مالك بن الريب .
قال: ماذا عملك؟
قال: الله أدرى بعملي!
قال: ألا تتوب؟
قال: كيف؟
قال: نحن خرجنا في سبيل الله، فكن معنا.
فقال: سبحان الله! أنا آخذ أموال الناس سرقة، وأنتم تبيعون أنفسكم من الله، اللهم إني أشهدك أني تبت إليك.
فتاب وأناب، وذهب معهم، وقاتل معهم الكفار.
وفي أثناء العودة بعد أن فارقهم لدغته حية، فقال قصيدة من أعجب ما قيل من القصائد العربية، يرثي فيها نفسه فيقول:
وأشقر خنذيذ يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
يقولون لا تبعد وهم يدفونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
إلى آخر ما قال.
يقول صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) (1) .
وسبب الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ودع الصحابة صباح الجمعة للغزو في سبيل الله، في معركة مؤتة بعد صلاة الفجر.
فتأخر ابن رواحة ، رضي الله عنه، اجتهاداً منه حيث يريد أن يكسب أجر صلاة الجماعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة .
فلما علم صلى الله عليه وسلم، ورآه قال له ذلك.
يقول أنس بن مالك : لما التقى المسلمون في اليمامة مع مسيلمة الكذاب ، قال ثابت بن قيس بن شماس : يا أيها الأنصار، انتظروني، فانتظروه.
فذهب، واغتسل، وتحنط، ثم أخذ سيفه، وقال: [بئس ما عودتم أقرانكم، وبئس ما فعلتم] أي: أصحاب مسيلمة - ثم قاتل حتى فتل.
وقال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم) (1) .
فالمجاهد لا يجد هماً ولا غماً وهذا مجرب.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً ولا من الشر مهرباً يموت حيث شاء أن يموت) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم مثل فواق ناقة -أي مقدار ما تحلب الناقة- وجبت له الجنة) (1) .
كان أبو بكر ، رضي الله عنه، يودع أسامة ، رضي الله عنه وأرضاه عندما كان قائداً للجيش، بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
فقال أسامة : [يا خليفة رسول الله، كيف تمشي وأنا راكب؟
]
فأراد أن ينزل، فقال أبو بكر : [والله، لا تنزل، ووالله، وقدمه مغبرة في سبيل الله].
يقول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم لـأبي سعيد : (من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وجبت له الجنة فعجب أبو سعيد ، فقال: أعدها علي يا رسول الله. فأعادها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. قال: وما هي يا رسول الله؟
قال: الجهاد في سبيل الله) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمي، يا رسول الله، ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟
قال: نعم وأرجو أن تكون منهم) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له سبعمائة ضعف) (1) .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وألسنتكم) (1) .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعان مجاهداً في سبيل الله أو غارماً في غرمه أو مكاتباً في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) (1) .
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمها الله على النار) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكاً يوم القيامة) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما خالط قلب امرئ رهج في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار) (1) .
هذه بعض أحاديث الجهاد، جمعت ما تيسر منها للقارئ الكريم، لعلنا نعلم فضل هذه الشعيرة العظيمة؛ التي في إحيائها إحياء للأمة، ونصر لها على أعدائها، وقيام لها من كبوتها وغفلتها.
أسأل الله أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يحيي الجهاد في نفوسهم.
والله أعلم.
تعليق