الأحاديث القدسية الصحيحة الصريحة
حديث :
قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
"يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَاسِ، خَلَقَكَ اللَّه بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ ملائِكَتَهُ، وَعَاَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِ شَيْءٍ لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِكَ حَتَى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، قَالَ: فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، قَالَ: وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَتِي أَصَابَ، أَكْلَهُ مِنْ الشَجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا، وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحاً أوَّل نَبِيٍ بَعَثَهُ اللَّه إِلَى أَهْلِ الأرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَتِي أَصَابَ، سُؤَالَهُ رَبَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَن ، قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: إِنِي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ ثلاثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَ، وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى عَبْداً آتَاهُ اللَّه التَوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيَّاً، قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: إِنِي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَتِي أَصَابَ، قَتْلَهُ النَفْسَ، وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّه وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّه وَكَلِمَتَهُ، قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَمَ، عَبْداً غَفَرَ اللَّه لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِداً، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَدَعَنِي، فَيَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدَّاً فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الجَنَّة ـ قَالَ قَتَادَةُ رضي الله عنه: وَسَمِعْتُهُ أَيْضاً يَقُولُ: فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّار وَأُدْخِلُهُمْ الجنَةَ ـ ثُمَ أَعُودُ الثَانِيَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِداً فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، قَالَ: ثُمَ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدَّاً فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الجَنَّة ـ قَالَ قَتَادَةُ رضي الله عنه: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَأخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّار وَأُدْخِلُهُمْ الجنَة ـ ثُمَ أَعُودُ الثَالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِداً فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، قَالَ: ثُمَ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدَّاً فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الجَنَّة ـ قَالَ قَتَادَةُ رضي الله عنه: وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّار وَأُدْخِلُهُمْ الجنَة ـ حَتَى مَا يَبْقَى فِي النَّار إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، قَالَ: ثُمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ـ قَالَ قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهما: وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَذِي وُعِدَهُ نَبِيُكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم ـ".
رواه البخاري.
شرح الحديث
قَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية:
أوَّل مَن يستفتح باب الجَنَّة محمدٌ صَلَّى الله عليه وسلَم، وأوَّل من يدخل الجَنَّة من الأمم أمته، وله صَلَّى الله عليه وَسَلَّم في القيامة ثلاثُ شفاعاتٍ:
أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يُقضَى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء ( آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ) من الشفاعة حتى تنتهي إليه.
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجَنَّة أن يدخلوا الجنة.
وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النَّار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.
ويُخرِج الله من النَّار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته.
وقَالَ الإمَامُ ابن حجر في فتح الباري:
قَالَ عياض: قوله ( لست هناكم ) أو لست لها كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة، قالها تواضعاً وإكباراً لِمَا يسألونه، وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس لي بل لغيري.
وعن قوله " ولكن ائتوا نوحا أوَّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.فيأتون نوحا " قَالَ الإمَامُ ابن حجر:
لقد استشكلت هذه الأوَّلية بأن آدم نبيٌ مُرسَل، وكذا شيث وإدريس، وهم قبل نوح، ومحصل الأجوبة عن الإشكال المذكور أن الأوَّليَة مُقَيَّدَة بقوله: " أهل الأرض " لأن آدم ومن ذُكِرَ معه لم يُرسَلُوا إلى أهل الأرض، ويُجَاب بأن بعثته إلى أهل الأرض باعتبار الواقع لصدق أنهم قومه بخلاف عموم بعثة نبينا محمد صَلَّى الله عليه وَسَلَّم لقومه ولغير قومه، أو الأوَّلية مقيدة بكونه أهلك قومه، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلاً.
وقَالَ الإمَامُ النووي:
ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد.
وقَالَ الإمَامُ ابن حجر:
يُستَفَاد من قول عيسى في حق نبينا هذا، ومن قول موسى فيما تقدَّم " إني قتلت نفسا بغير نفس وإن يغفر لي اليوم حسبي " مع أن الله قد غفر له بنص القرآن، التفرقة بين مَن وقع منه شيءٌ ومَن لم يقع شيءٌ أصلاً، فإِنَّ موسى عليه السَّلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المُؤَاخَذَة بذلك، ورأى في نفسه تقصيراً عن مقام الشفاعة مع وجود مَا صدر منه، بخلاف نبينا صَلَّى الله عليه وَسَلَّم في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة لأنه قد غُفِرَ له مَا تقدَم من ذنبه وما تأخر بمعنى أن الله أخبر أنه لا يُؤاخِذُه بذنبٍ لو وقع منه.
وقَالَ الإمَامُ ابن حجر:
قَالَ عياض: استُدِلَّ بهذا الحديث مِن جَوْزِ الخطايا على الأنبياء، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلافَ في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا قبلها على الصحيح.
وقَالَ الإمَامُ النووي:
ذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم من الصغائر مطلقا، وأوَّلوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروبٍ من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادِرَ عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم أو بسهوٍ أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المُعَاتَبَة.
وقَالَ الإمَامُ النووي:
قَالَ عياض: وجميع مَا ذُكِرَ في الحديث لا يخرج عن ذلك؛ لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافراً.
وقَالَ الإمَامُ ابن حجر:
عن قوله (فأستأذن على ربي ) قَالَ عياض: أي في الشفاعة، وظاهر مَا تقدَّم أن استئذانه والإذن له إنما هو في دخول الدار وهي الجنة، وأضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف، ومنه (والله يدعو إلى دار السَّلام) على القول بأن المراد بالسلام هنا الاسم العظيم وهو من أسماء الله تعالى، قيل الحكمة في انتقَالَ النبي صَلَّى الله عليه وَسَلَّم من مكانه إلى دار السَّلام أن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مكان مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام، ومن ثم يستحب أن يتحرَّى للدعاء المكان الشريف، لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة.
وقَالَ الإمَامُ ابن حجر:
ورد في سبب إخراج بقية الموحدين من النَّار أن الكفار يقولون لهم: مَا أغنى عنكم قول لا إله إلا الله وأنتم معنا، فيغضب الله لهم فيُخرِجهم.
وقَالَ الإمَامُ ابن حجر:
وقوله " حبسه القرآن " يتناول الكفار وبعض العصاة ممن ورد في القرآن في حقه التخليد، ثم يخرج العصاة في القبضة وتبقى الكفار، ويكون المراد بالتخليد في حق العصاة المذكورين البقاء في النَّار بعد إخراج من تقدمهم.
وقَالَ الإمَامُ ابن حجر عن المراد بقوله (إلا من حبسه القرآن): أي من أخبر القرآن بأنه يخلد في النار.
تعليق