ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام
ومن كان في عصره من ملوك العجم وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام واختلف في الموضع الذي كان فيه والموضع الذي ولد فيه فقيل: ولد بالسوس من أرض الأهواز وقيل: ولد ببابل وقيل: بكوثى وقيل: بحرّان ولكن أباه نقله قال عامة أهل العلم: كان مولده في عهد نمرود بن كوش ويقول عامّة أهل الأخبار: إنّ نمرود كان عاملًا للازدهاق الذي زعم بعض من زعم أن نوحًا أرسل إليه وأمّا جماعة من سلف من العلماء فإنهم يقولون: كان ملكًا برأسه.
قال ابن إسحاق: وكان ملكه قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها وكان ببابل قال: ويقال: لم يجتمع ملك الأرض إلا لثلاثة ملوك: نمرود وذي القرنين وسليمان بن داود وأضاف غيره إليهم بخت نصرّ وسنذكر بطلان هذا القول.
فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حجة على خلقه ورسولًا إلى عباده ولم يكن فيما بينه وبين نوح نبيّ إلا هود وصالح فلمّا تقارب زمان إبراهيم أتى أصحابُ النجوم نمرود فقالوا له: إنها نجد غلامًا يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم يفارق دينكم ويكسّر أصنامكم في شهر كذا من سنة كذا فلمّا دخلت السنة التي ذكروا حبس نمرود الحبالى عنده إلاّ أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنه لم يظهر عليها أثره فذبح كلّ غلام ولد في ذلك الوقت فلمّا وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلًا الى مغارة وكانت قريبة منها فولدت إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ثم سعت الى بيتها راجعة ثمّ كانت تطالعه لتنظر ما فعل فكان يشبّ في اليوم ما وكان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت: ولدتُ غلامًا فمات فصدّقها وقيل: بل علم آزر بولادة إبراهيم وكتمه حتى نسي الملك ذكر ذلك فقال آزر: إنّ لي ابنًا قد خبأته أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به فقالوا: لا فانطلق فأخرجه من السرب فلما نظر الى الدواب والى الخلق ولم يكن رأى قبل ذلك غير أبيه وأمه جعل يسأل أباه عما يراه فيقول أبوه: هذا بعير أو بقرة أو غير ذلك فقال: ما لهؤلاء الخلق بدّ من أن يكون لهم ربّ وكان خروجه بعد غروب الشمس فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري فقال: هذا ربي فلم يلبث أن غاب فقال: لا أحب الآفلين وكان خروجه في آخر الشهر فلهذا رأى الكوكب قبل القمر.
وقيل: كان تفكّر وعمره خمسة عشر شهرًا قال لأمّه وهو في المغارة: أخرجيني أنظر فأخرجته عشاء فنظر فرأى الكوكب وتفكّر في خلق السموات والأرض وقال في الكوكب ما تقدّم «فلما رأى القمر بازغًا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين» «الأنعام: 77» . فلما جاء النهار وطلعت الشمس رأى نورًا أعظم من كلّ ما رأى فقال: «هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون» «الأنعام: 78» . ثم رجع إبراهيم الى أبيه وقد عرف ربه وبريء من دين قومه إلاّ أنه لم ينادهم بذلك فأخبرته أمّه بما كانت صنعت من كتمان حاله فسرّه ذلك. وكان آزر يصنع الأصنام التي يعبدونها ويعطيها إبراهيم ليبيعها فكان إبراهيم يقول: من يشري ما لا يضرّه ولا ينفعه فلا يشتريها منه أحد وكان يأخذها وينطلق بها الى نهر فيصوّب رؤوسها فيه ويقول: اشربي استهزاء بقومه حتى فشا ذلك عنه في قومه غير أنّه لم يبلغ خبره نمرود فلمّا بدا لإبراهيم أن يدعو قومه الى ترك ما هم عليه ويأمرهم بعبادة الله تعالى دعا أباه الى التوحيد فلم يجبه ودعا قومه فقالوا: من تعبد أنت قال: ربّ العالمين قالوا: نمرود قال: بل أعبد الذي خلقني فظهر أمره وبلغ نمرود أنّ إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي يعبدونها ليلزمهم الحجّة فجعل يتوقّع فرصة ينتهي بها ليفعل بأصنامهم ذلك فنظر نظرة في النجوم فقال: إنيّ سقيم أي طعين ليهربوا منه إذا سمعوا به وإنما يريد إبراهيم ليخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم وكان لهم عيد يخرجون إليه جميعهم فلما خرجوا قال هذه المقالة فلم يخرج معهم الى العيد وخالف الى أصنامهم وهو يقول: «تالله لأكيدنّ أصنامكم» «الأنبياء: 57» . فسمعه ضعفي الناس ومن هو في آخرهم ورجع الى الأصنام وهي في بهو عظيم بعضها الى جنب بعض كلّ صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعامًا بين يدي آلهتهم وقالوا: نترك الآلهة إلى حين نرجع فتأكله فلما نظر إبراهيم إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: «ألا تأكلون» فلما لم يجبه أحد قال: «ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربًا باليمين» «الصافات: 91 :93» . فكسرها بفأس في يده حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ثمّ تركهنّ.
فلما رجع قومه ورأوا ما فعل بأصنامهم راعهم ذلك وأعظموه وقالوا: «من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم» «الأنبياء: 59: 60» . يعنون يسبّها ويعيبها ولم نسمع ذلك من غيره وهو الذي نظنّه صنع بها هذا وبلغ ذلك نمرود وأشراف قومه فقالوا: «فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون» «الأنبياء: 61» . ما نفعل به وقيل: يشهدون عليه كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة فلما أُتي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود وقالوا: «أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون» «الأنبياء: 62» . غضب من أن يعبدوا هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرها فارعووا ورجعوا عنه فيما ادّعوا عليه من كسرها إلى أنفسهم فيما بينهم فقالوا: لقد ظلمناه وما نراه إلاّ كما قال ثم قالوا وعرفوا أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطش: «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» «الأنبياء: 65» . أي لا يتكلمون فتخبرنا من صنع هذا بها وما تبطش بالأيدي فنصدّقك يقول الله تعالى: «ثم نكسوا على رؤوسهم» في الحجة عليهم لإبراهيم فقال لهم إبراهيم عند قولهم «ما هؤلاء ينطقون» : «أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم أُفّ لكم ولما تعبدون من دون الله» ثم إنّ نمرود قال لإبراهيم: أرأيت إلهك الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ما هو قال: «ربي الذي يحيي ويميت» «البقرة: 258» . قال نمرود: «أنا أحيي وأميت» «البقرة: 258» . قال إبراهيم وكيف ذلك قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته فقال إبراهيم: «إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت» «البقرة: 258» . عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئًا ثمّ إنه وأصحابه أجمعوا على قتل إبراهيم فقالوا: «حرقوه وانصروا آلهتكم» «الأنبياء: 68» .
قال عبد الله بن عمر: أشار بتحريقه رجل من أعراب فارس قيل له: وللفرس أعراب قال: نعم الأكراد هم أعرابهم قيل: كان اسمه هيزن فخسف به فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة.
فأمر نمرود بجمع الحطب من أصناف الخشب حتيإن كانت المرأة لتنذر ب: إن بلغت ما تطلب أن تحتطب لنار إبراهيم حتى إذا أرادوا أن يلقوه فيها قدّموه وأشعلوا النّار حتى إن كانت الطير لتمرّ بها فتحترق من شدّتها وحرّها فلمّا أجمعوا لقذفه فيها صاحت السماء والأرض وما فيها من الخلق إلاّ الثقلين إلى الله صيحة واحدة: أي ربّنا إبراهيم ليس في أرضك من يعبدك غيره يحرق بالنار فيك فأذن لنا في نصره قال الله تعالى: إن استغاث بشيء منكم فلينصره وإنه لم يدعُ غيري فأنا له فلما رفعوه على رأس البنيان رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ أنت الواحد في المساء وأنت الواحد في الأرض حسبي الله ونعم الوكيل وعرض له جبرائيل وهو يوثق فقال: ألك حاجة يا إبراهيم قال: أما إليك فلا فقذفوه في النّار فناداها فقال: «يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم» «الأنبياء: 96» . وقيل: ناداها جبرائيل فلو لم يتبع بردها سلام لمات إبراهيم من شدة بردها فلم يبق يومئذٍ نارٌ إلاّ طفئت ظنت أنها هي وبعث الله ملك الظلّ في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنبه يؤنسه.
فمكث نمرود أيامًا لا يشكّ أن النار قد أكلت إبراهيم فرأى كأنه نظر فيها وهي تحرق بعضها بعضًا وإبراهيم جالس إلى جنبه رجل مثله فقال لقومه: لقد رأيتُ كأنّ إبراهيم حيّ ولقد شبّه عليّ ابنوا لي صرحًا يشرف بي على النار فبنوا له وأشرف منه فرأى إبراهيم جالسًا وإلى جانبه رجل في صورته فناداه نمرود: يا إبراهيم كبيرٌ إلهك الذي بلغت قدرته وعزّته أن حال بينك وبين ما أرى هل تستطيع أن تخرج منها قال: نعم قال: أتخشى إن أقمت فيها أن تضرك قال: لا فقام إبراهيم فخرج منها فلما خرج قال له: يا إبراهيم من الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك قال: ذلك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني قال نمرود: إني مقرّب إلى إلهك قربانًا لما رأيت من قدرته وعزّته وما صنع بك حين أبيت إلا عبادته.
فقال إبراهيم: إذًا لا يقبل الله منك ما كنت على شيء من دينك فقال: يا إبراهيم لا استطيع ترك ملكي وقرّب أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم ومنعه الله منه وآمن مع إبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود وملإهم وآمن له لوط بن هاران وهو ابن أخي إبراهيم وكان لهم أخ ثالث يقال له ناخور بن تارَخ وهو أبو بتويل وبتويل أبو لابان وأبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أمّ يعقوب ولابان أبو ليا وراحي زوجتي يعقوب وآمنت به سارة وهي ابنة عمّه وهي سارة ابنة هاران الأكبر عمّ إبراهيم وقيل: كانت ابنة ملك حرّان فآمنت بالله تعالى مع إبراهيم.
ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام ومن آمن معه ثم إنّ إبراهيم والذين اتبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم فخرج مهاجرًا حتيقدم مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى كان اسمه سنان بن علوان بين عبيد بن عولج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح وقيل: كان أخا الضحّاك استعمله على مصر وكانت سارة من أحسن النساء وجهًا وكانت لا تعصي إبراهيم شيئًا فلما وصفت لفرعون أرسل الى إبراهيم فقال: من هذه التي معك قال: أختي يعني في الإسلام وتخوّف إن قال هي امرأتي أن يقتله فقال له: زيّنها وأرسلها إليّ فأمر بذلك إبراهيم فتزيّنت وأرسلها إليه فلمّا دخلت عليه أهوى بيده إليها وكان إبراهيم حين أرسلها قام يصلّي فلمّا أهوى إليها أخذ أخذًا شديدًا فقال: ادعي الله ولا أضرّك فدعت له فأرسل فأهوى إليها فأخذ أخذًا شديدًا فقال: ادعي الله ولا أضرك فدعت له فأرسل ثمّ فعل ذلك الثالثة فذكر مثل المرّتين فدعا أدنى حجّابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان وإنك أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر ففعل فأقبلت بهاجر فلما أحسّ إبراهيم بها انفتل من صلاته فقال: مهيم فقالت: كفى الله كيد الكافرين وأخدم هاجر.
وكان أبو هريرة يقول: تلك أمكم يا بني ماء السماء وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث مرات اثنتين في ذات الله قوله: «إني سقيم» «الصافات: 89» . وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» «الأنبياء: 63» . وقوله في سارة: هي أختي).
ذكر ولادة إسماعيل عليه السلام وحمله الى مكة قيل: كانت هاجر جارية ذات هيئة فوهبتها سارة لإبراهيم وقالت: خذها لعلّ الله يرزقك منها ولدًا وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت فوقع إبراهيم على هاجر فولدت إسماعيل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرًا فإنّ لهم ذمّة ورحمًا» . يعني ولادة هاجر.
فكان إبراهيم قد خرج بها إلى الشام من مصر خوفًا من فرعون فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع مسيرة يوم وليلة فبعثه الله نبيًّا وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئرًا ومسجدًا وكان ماء البئر معينًا طاهرًا فآذاه أهل السبع فانتقل عنهم فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز وقال: إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معينًا طاهرًا فاشربوا منه ولا تغترف منه امرأة حائض فخرجوا بالأعنز فلمّا وقفت على الماء ظهر إليها وكانوا يشربون منه إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء الى الذي هو عليه اليوم وأقام إبراهيم بين الرملة وإيليا ببلد يقال له قطّ أوقطّ.
قال: فلما ولد إسماعيل حزنت سارة حزنًا شديدًا فوهبها الله إسحاق وعمرها سبعون سنة فعمر إبراهيم مائة وعشرون سنة فلما كبر إسماعيل وإسحاق اختصما فغضبت سارة على هاجر فأخرجتها ثم أعادتها فغارت منها فأخرجتها وحلفت لتقطعن منهابضعة فتركت أنفها وأذنها لئلا تشينها ثم خفضتها فمن ثمّ خفض النساء وقيل: كان إسماعيل صغيرًا وإنما أخرجتها سارة غيرةً منها وهو الصحيح وقالت سارة: لا تساكنني في بلد فأوحى الله الى إبراهيم أن يأتي مكة وليس بها يومئذ نبت فجاء إبراهيم بإسماعيل وأمّه هاجر فوضعهما بمكة بموضع زمزم فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ضرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس قال: ربي أمرني قالت: فإنّه لن يضيعنا فلما ولّى قال: «ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن» «إبراهيم: 38» . يعني من الحزن وقال: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم» الآية «إبراهيم: 38» .
فلمّا ظمئ إسماعيل جعل يدحض الأرض برجله فانطلقت هاجر حتى صعدت الصفا لتنظر هل ترى شيئًا فلم تر شيئًا فانحدرت الى الوادي فسعت حتى أتت المروة فاستشرفت هل ترى شيئًا فلم تر شيئًا ففعلت ذلك سبع مرات فذلك أصل السعي ثمّ جاءت الى إسماعيل وهو يدحض الأرض بقدميه وقد نبعت العين وهي زمزم فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء وكلّما اجتمع أخذته وجعلته في سقائها قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحمها الله لو تركتها لكانت عينًا سائحة» .
وكانت جرهم بوادٍ قريب من مكّة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء فجاؤوا الى هاجر فقالوا: لو شئت لكنّا معك فآنسناك والماء ماؤك قالت: نعم فكانوا معها حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فتعلم العربية منهم هو وأولاده فهم العرب المتعرّبة.
واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه ألا ينزل فقدم وقد ماتت هاجر فذهب الى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك قالت: ليس ههنا ذهب يتصيّد وكان إسماعيل بخرج من الحرم يتصيّد ثم يرجع قال إبراهيم: هل عندك ضيافة قالت: ليس عندي ضيافة وما عندي أحد فقال إبراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه.
وعاد إبراهيم وجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل عندك أحد قالت: جاءني شيخ كذا وكذا كالمستخفّة بشأنه قال: فما قال لك قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه فطلّقها وتزوج أخرى.
فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فجاء إبراهيم حتى انتهى الى باب إسماعيل فقال لأمرأته: أين صاحبك قالت: ذهب ليتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله تعالى فانزل يرحمك الله فقال لهاك فعندك ضيافة قالت: نعم قال: فهل عندك خبز أوبرٌّ أو شعير لكانت أكثر أرض الله من ذلك فقالت: انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بالمقام بالإناء فوضعته عند شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه فبقي أثر قدمه فيه فغسلت شقّ رأسه الأيمن ثمّ حوّلت المقام الى شقه الأيسر ففعلت به كذلك فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه عني السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك - فلمّا جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لأمرأته: هل جاءكِ أحد قالت: نعم شيخ أحسن النّاس وجهًا وأطيبهم ريحًا فقال لي كذا وكذا وقلتُ له كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدمه وهو يُقرئك السلام ويقول: قد استقامت عتبة بابك قال: ذلك إبراهيم.
وقيل: إنّ الذي أنبع الماء جبرائيل فإنه نزل الى هاجر وهي تسعى في الوادي فسمعت حسّه فقالت: قد أسمعتني فأغثني فقد هلكتُ أنا ومن معي فجاء بها الى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينًا فتعجلت فجعلت تفرغ في شنّها فقال لها: لا تخافي الظمأ.
ذكر عمارة البيت الحرام بمكة قيل: ثم أمر الله إبراهيم ببناء البيت الحرام فضاق بذلك ذرعًا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج وهي الليّنة الهبوب لها رأسان فسار معها إبراهيم حتى انتهت الى موضع البيت وقيل: أرسل الله مثل الغمامة له رأس فكلّمه وقال: يا إبراهيم ابن على ظلّي أو على قدري لا تزدْ ولا تنقص فبنى وهذان القولان نُقِلا عن عليّ وقال السّدّيّ: الذي دلّه على موضع البيت جبرائيل.
فسار إبراهيم الى مكّة فلمّا وصلها وجد إسماعيل يصلح نبلًا له وراء زمزم فقال له: يا إسماعيل إنّ الله قد أمرني أن أبني له بيتًا قال إسماعيل: فأطع ربّك فقال إبراهيم: قد أمرك أن تعينني على بنائه قال: إذن أفعل قال فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة ثمّ قال إبراهيم لإسماعيل: إيتني بحجر حسن أضعه على الركن فيكون للناس علمًا فناداه أبو قبيس: إنّ لك عندي وديعة وقيل: بل جبرائيل أخبره بالحجر الأسود فأخذه ووضعه موضعه وكانا كلّما بنيا دعوا الله: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» «البقرة: 127» .
فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم فجعل يناوله فلمّا فرغ من بناء البيت أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحج فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتي قال: أذّنْ وعليّ البلاغ فنادى: أيها الناس إنّ الله قد كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من آمن ممن سبق فيعلم الله أن يحج إلى يوم القيامة فأجيب: لبيّك لبيك ثم خرج بإسماعيل معه الى التروية فنزل به منىً ومن معه من المسلمين فصلّى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ثمّ بات حتى أصبح فصلّى بهم الفجر ثمّ سار الى عرفة فأقام بهم هناك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثمّ راح بهم الى الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام فوقف به على الأراك فلما غربت الشمس دفع به ون معه حتى أتى المزدلفة فجمع بها الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة ثمّ بات بها ومن معه حتى إذا طلع الفجرُ صلّى الغداة ثمّ وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرة وأراه المنحر ثمّ نحر وحلق وأراه كيف يوطف ثمّ عاد به الى منىً ليريه كيف رميُ الجمار حتى فرغ من الحجّ.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل هو الذي أرى إبراهيم كيف يحجّ ورواه عنه ابن عمر ولم يزل البيت على ماب ناه إبراهيم عليه السلام إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الكامل في التاريخ_عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري
ومن كان في عصره من ملوك العجم وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام واختلف في الموضع الذي كان فيه والموضع الذي ولد فيه فقيل: ولد بالسوس من أرض الأهواز وقيل: ولد ببابل وقيل: بكوثى وقيل: بحرّان ولكن أباه نقله قال عامة أهل العلم: كان مولده في عهد نمرود بن كوش ويقول عامّة أهل الأخبار: إنّ نمرود كان عاملًا للازدهاق الذي زعم بعض من زعم أن نوحًا أرسل إليه وأمّا جماعة من سلف من العلماء فإنهم يقولون: كان ملكًا برأسه.
قال ابن إسحاق: وكان ملكه قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها وكان ببابل قال: ويقال: لم يجتمع ملك الأرض إلا لثلاثة ملوك: نمرود وذي القرنين وسليمان بن داود وأضاف غيره إليهم بخت نصرّ وسنذكر بطلان هذا القول.
فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حجة على خلقه ورسولًا إلى عباده ولم يكن فيما بينه وبين نوح نبيّ إلا هود وصالح فلمّا تقارب زمان إبراهيم أتى أصحابُ النجوم نمرود فقالوا له: إنها نجد غلامًا يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم يفارق دينكم ويكسّر أصنامكم في شهر كذا من سنة كذا فلمّا دخلت السنة التي ذكروا حبس نمرود الحبالى عنده إلاّ أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنه لم يظهر عليها أثره فذبح كلّ غلام ولد في ذلك الوقت فلمّا وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلًا الى مغارة وكانت قريبة منها فولدت إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ثم سعت الى بيتها راجعة ثمّ كانت تطالعه لتنظر ما فعل فكان يشبّ في اليوم ما وكان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت: ولدتُ غلامًا فمات فصدّقها وقيل: بل علم آزر بولادة إبراهيم وكتمه حتى نسي الملك ذكر ذلك فقال آزر: إنّ لي ابنًا قد خبأته أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به فقالوا: لا فانطلق فأخرجه من السرب فلما نظر الى الدواب والى الخلق ولم يكن رأى قبل ذلك غير أبيه وأمه جعل يسأل أباه عما يراه فيقول أبوه: هذا بعير أو بقرة أو غير ذلك فقال: ما لهؤلاء الخلق بدّ من أن يكون لهم ربّ وكان خروجه بعد غروب الشمس فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري فقال: هذا ربي فلم يلبث أن غاب فقال: لا أحب الآفلين وكان خروجه في آخر الشهر فلهذا رأى الكوكب قبل القمر.
وقيل: كان تفكّر وعمره خمسة عشر شهرًا قال لأمّه وهو في المغارة: أخرجيني أنظر فأخرجته عشاء فنظر فرأى الكوكب وتفكّر في خلق السموات والأرض وقال في الكوكب ما تقدّم «فلما رأى القمر بازغًا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين» «الأنعام: 77» . فلما جاء النهار وطلعت الشمس رأى نورًا أعظم من كلّ ما رأى فقال: «هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون» «الأنعام: 78» . ثم رجع إبراهيم الى أبيه وقد عرف ربه وبريء من دين قومه إلاّ أنه لم ينادهم بذلك فأخبرته أمّه بما كانت صنعت من كتمان حاله فسرّه ذلك. وكان آزر يصنع الأصنام التي يعبدونها ويعطيها إبراهيم ليبيعها فكان إبراهيم يقول: من يشري ما لا يضرّه ولا ينفعه فلا يشتريها منه أحد وكان يأخذها وينطلق بها الى نهر فيصوّب رؤوسها فيه ويقول: اشربي استهزاء بقومه حتى فشا ذلك عنه في قومه غير أنّه لم يبلغ خبره نمرود فلمّا بدا لإبراهيم أن يدعو قومه الى ترك ما هم عليه ويأمرهم بعبادة الله تعالى دعا أباه الى التوحيد فلم يجبه ودعا قومه فقالوا: من تعبد أنت قال: ربّ العالمين قالوا: نمرود قال: بل أعبد الذي خلقني فظهر أمره وبلغ نمرود أنّ إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي يعبدونها ليلزمهم الحجّة فجعل يتوقّع فرصة ينتهي بها ليفعل بأصنامهم ذلك فنظر نظرة في النجوم فقال: إنيّ سقيم أي طعين ليهربوا منه إذا سمعوا به وإنما يريد إبراهيم ليخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم وكان لهم عيد يخرجون إليه جميعهم فلما خرجوا قال هذه المقالة فلم يخرج معهم الى العيد وخالف الى أصنامهم وهو يقول: «تالله لأكيدنّ أصنامكم» «الأنبياء: 57» . فسمعه ضعفي الناس ومن هو في آخرهم ورجع الى الأصنام وهي في بهو عظيم بعضها الى جنب بعض كلّ صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعامًا بين يدي آلهتهم وقالوا: نترك الآلهة إلى حين نرجع فتأكله فلما نظر إبراهيم إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: «ألا تأكلون» فلما لم يجبه أحد قال: «ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربًا باليمين» «الصافات: 91 :93» . فكسرها بفأس في يده حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ثمّ تركهنّ.
فلما رجع قومه ورأوا ما فعل بأصنامهم راعهم ذلك وأعظموه وقالوا: «من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم» «الأنبياء: 59: 60» . يعنون يسبّها ويعيبها ولم نسمع ذلك من غيره وهو الذي نظنّه صنع بها هذا وبلغ ذلك نمرود وأشراف قومه فقالوا: «فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون» «الأنبياء: 61» . ما نفعل به وقيل: يشهدون عليه كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة فلما أُتي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود وقالوا: «أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون» «الأنبياء: 62» . غضب من أن يعبدوا هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرها فارعووا ورجعوا عنه فيما ادّعوا عليه من كسرها إلى أنفسهم فيما بينهم فقالوا: لقد ظلمناه وما نراه إلاّ كما قال ثم قالوا وعرفوا أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطش: «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» «الأنبياء: 65» . أي لا يتكلمون فتخبرنا من صنع هذا بها وما تبطش بالأيدي فنصدّقك يقول الله تعالى: «ثم نكسوا على رؤوسهم» في الحجة عليهم لإبراهيم فقال لهم إبراهيم عند قولهم «ما هؤلاء ينطقون» : «أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم أُفّ لكم ولما تعبدون من دون الله» ثم إنّ نمرود قال لإبراهيم: أرأيت إلهك الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ما هو قال: «ربي الذي يحيي ويميت» «البقرة: 258» . قال نمرود: «أنا أحيي وأميت» «البقرة: 258» . قال إبراهيم وكيف ذلك قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته فقال إبراهيم: «إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت» «البقرة: 258» . عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئًا ثمّ إنه وأصحابه أجمعوا على قتل إبراهيم فقالوا: «حرقوه وانصروا آلهتكم» «الأنبياء: 68» .
قال عبد الله بن عمر: أشار بتحريقه رجل من أعراب فارس قيل له: وللفرس أعراب قال: نعم الأكراد هم أعرابهم قيل: كان اسمه هيزن فخسف به فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة.
فأمر نمرود بجمع الحطب من أصناف الخشب حتيإن كانت المرأة لتنذر ب: إن بلغت ما تطلب أن تحتطب لنار إبراهيم حتى إذا أرادوا أن يلقوه فيها قدّموه وأشعلوا النّار حتى إن كانت الطير لتمرّ بها فتحترق من شدّتها وحرّها فلمّا أجمعوا لقذفه فيها صاحت السماء والأرض وما فيها من الخلق إلاّ الثقلين إلى الله صيحة واحدة: أي ربّنا إبراهيم ليس في أرضك من يعبدك غيره يحرق بالنار فيك فأذن لنا في نصره قال الله تعالى: إن استغاث بشيء منكم فلينصره وإنه لم يدعُ غيري فأنا له فلما رفعوه على رأس البنيان رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ أنت الواحد في المساء وأنت الواحد في الأرض حسبي الله ونعم الوكيل وعرض له جبرائيل وهو يوثق فقال: ألك حاجة يا إبراهيم قال: أما إليك فلا فقذفوه في النّار فناداها فقال: «يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم» «الأنبياء: 96» . وقيل: ناداها جبرائيل فلو لم يتبع بردها سلام لمات إبراهيم من شدة بردها فلم يبق يومئذٍ نارٌ إلاّ طفئت ظنت أنها هي وبعث الله ملك الظلّ في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنبه يؤنسه.
فمكث نمرود أيامًا لا يشكّ أن النار قد أكلت إبراهيم فرأى كأنه نظر فيها وهي تحرق بعضها بعضًا وإبراهيم جالس إلى جنبه رجل مثله فقال لقومه: لقد رأيتُ كأنّ إبراهيم حيّ ولقد شبّه عليّ ابنوا لي صرحًا يشرف بي على النار فبنوا له وأشرف منه فرأى إبراهيم جالسًا وإلى جانبه رجل في صورته فناداه نمرود: يا إبراهيم كبيرٌ إلهك الذي بلغت قدرته وعزّته أن حال بينك وبين ما أرى هل تستطيع أن تخرج منها قال: نعم قال: أتخشى إن أقمت فيها أن تضرك قال: لا فقام إبراهيم فخرج منها فلما خرج قال له: يا إبراهيم من الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك قال: ذلك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني قال نمرود: إني مقرّب إلى إلهك قربانًا لما رأيت من قدرته وعزّته وما صنع بك حين أبيت إلا عبادته.
فقال إبراهيم: إذًا لا يقبل الله منك ما كنت على شيء من دينك فقال: يا إبراهيم لا استطيع ترك ملكي وقرّب أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم ومنعه الله منه وآمن مع إبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود وملإهم وآمن له لوط بن هاران وهو ابن أخي إبراهيم وكان لهم أخ ثالث يقال له ناخور بن تارَخ وهو أبو بتويل وبتويل أبو لابان وأبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أمّ يعقوب ولابان أبو ليا وراحي زوجتي يعقوب وآمنت به سارة وهي ابنة عمّه وهي سارة ابنة هاران الأكبر عمّ إبراهيم وقيل: كانت ابنة ملك حرّان فآمنت بالله تعالى مع إبراهيم.
ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام ومن آمن معه ثم إنّ إبراهيم والذين اتبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم فخرج مهاجرًا حتيقدم مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى كان اسمه سنان بن علوان بين عبيد بن عولج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح وقيل: كان أخا الضحّاك استعمله على مصر وكانت سارة من أحسن النساء وجهًا وكانت لا تعصي إبراهيم شيئًا فلما وصفت لفرعون أرسل الى إبراهيم فقال: من هذه التي معك قال: أختي يعني في الإسلام وتخوّف إن قال هي امرأتي أن يقتله فقال له: زيّنها وأرسلها إليّ فأمر بذلك إبراهيم فتزيّنت وأرسلها إليه فلمّا دخلت عليه أهوى بيده إليها وكان إبراهيم حين أرسلها قام يصلّي فلمّا أهوى إليها أخذ أخذًا شديدًا فقال: ادعي الله ولا أضرّك فدعت له فأرسل فأهوى إليها فأخذ أخذًا شديدًا فقال: ادعي الله ولا أضرك فدعت له فأرسل ثمّ فعل ذلك الثالثة فذكر مثل المرّتين فدعا أدنى حجّابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان وإنك أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر ففعل فأقبلت بهاجر فلما أحسّ إبراهيم بها انفتل من صلاته فقال: مهيم فقالت: كفى الله كيد الكافرين وأخدم هاجر.
وكان أبو هريرة يقول: تلك أمكم يا بني ماء السماء وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث مرات اثنتين في ذات الله قوله: «إني سقيم» «الصافات: 89» . وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» «الأنبياء: 63» . وقوله في سارة: هي أختي).
ذكر ولادة إسماعيل عليه السلام وحمله الى مكة قيل: كانت هاجر جارية ذات هيئة فوهبتها سارة لإبراهيم وقالت: خذها لعلّ الله يرزقك منها ولدًا وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت فوقع إبراهيم على هاجر فولدت إسماعيل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرًا فإنّ لهم ذمّة ورحمًا» . يعني ولادة هاجر.
فكان إبراهيم قد خرج بها إلى الشام من مصر خوفًا من فرعون فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع مسيرة يوم وليلة فبعثه الله نبيًّا وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئرًا ومسجدًا وكان ماء البئر معينًا طاهرًا فآذاه أهل السبع فانتقل عنهم فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز وقال: إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معينًا طاهرًا فاشربوا منه ولا تغترف منه امرأة حائض فخرجوا بالأعنز فلمّا وقفت على الماء ظهر إليها وكانوا يشربون منه إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء الى الذي هو عليه اليوم وأقام إبراهيم بين الرملة وإيليا ببلد يقال له قطّ أوقطّ.
قال: فلما ولد إسماعيل حزنت سارة حزنًا شديدًا فوهبها الله إسحاق وعمرها سبعون سنة فعمر إبراهيم مائة وعشرون سنة فلما كبر إسماعيل وإسحاق اختصما فغضبت سارة على هاجر فأخرجتها ثم أعادتها فغارت منها فأخرجتها وحلفت لتقطعن منهابضعة فتركت أنفها وأذنها لئلا تشينها ثم خفضتها فمن ثمّ خفض النساء وقيل: كان إسماعيل صغيرًا وإنما أخرجتها سارة غيرةً منها وهو الصحيح وقالت سارة: لا تساكنني في بلد فأوحى الله الى إبراهيم أن يأتي مكة وليس بها يومئذ نبت فجاء إبراهيم بإسماعيل وأمّه هاجر فوضعهما بمكة بموضع زمزم فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ضرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس قال: ربي أمرني قالت: فإنّه لن يضيعنا فلما ولّى قال: «ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن» «إبراهيم: 38» . يعني من الحزن وقال: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم» الآية «إبراهيم: 38» .
فلمّا ظمئ إسماعيل جعل يدحض الأرض برجله فانطلقت هاجر حتى صعدت الصفا لتنظر هل ترى شيئًا فلم تر شيئًا فانحدرت الى الوادي فسعت حتى أتت المروة فاستشرفت هل ترى شيئًا فلم تر شيئًا ففعلت ذلك سبع مرات فذلك أصل السعي ثمّ جاءت الى إسماعيل وهو يدحض الأرض بقدميه وقد نبعت العين وهي زمزم فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء وكلّما اجتمع أخذته وجعلته في سقائها قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحمها الله لو تركتها لكانت عينًا سائحة» .
وكانت جرهم بوادٍ قريب من مكّة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء فجاؤوا الى هاجر فقالوا: لو شئت لكنّا معك فآنسناك والماء ماؤك قالت: نعم فكانوا معها حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فتعلم العربية منهم هو وأولاده فهم العرب المتعرّبة.
واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه ألا ينزل فقدم وقد ماتت هاجر فذهب الى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك قالت: ليس ههنا ذهب يتصيّد وكان إسماعيل بخرج من الحرم يتصيّد ثم يرجع قال إبراهيم: هل عندك ضيافة قالت: ليس عندي ضيافة وما عندي أحد فقال إبراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه.
وعاد إبراهيم وجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل عندك أحد قالت: جاءني شيخ كذا وكذا كالمستخفّة بشأنه قال: فما قال لك قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه فطلّقها وتزوج أخرى.
فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فجاء إبراهيم حتى انتهى الى باب إسماعيل فقال لأمرأته: أين صاحبك قالت: ذهب ليتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله تعالى فانزل يرحمك الله فقال لهاك فعندك ضيافة قالت: نعم قال: فهل عندك خبز أوبرٌّ أو شعير لكانت أكثر أرض الله من ذلك فقالت: انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بالمقام بالإناء فوضعته عند شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه فبقي أثر قدمه فيه فغسلت شقّ رأسه الأيمن ثمّ حوّلت المقام الى شقه الأيسر ففعلت به كذلك فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه عني السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك - فلمّا جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لأمرأته: هل جاءكِ أحد قالت: نعم شيخ أحسن النّاس وجهًا وأطيبهم ريحًا فقال لي كذا وكذا وقلتُ له كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدمه وهو يُقرئك السلام ويقول: قد استقامت عتبة بابك قال: ذلك إبراهيم.
وقيل: إنّ الذي أنبع الماء جبرائيل فإنه نزل الى هاجر وهي تسعى في الوادي فسمعت حسّه فقالت: قد أسمعتني فأغثني فقد هلكتُ أنا ومن معي فجاء بها الى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينًا فتعجلت فجعلت تفرغ في شنّها فقال لها: لا تخافي الظمأ.
ذكر عمارة البيت الحرام بمكة قيل: ثم أمر الله إبراهيم ببناء البيت الحرام فضاق بذلك ذرعًا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج وهي الليّنة الهبوب لها رأسان فسار معها إبراهيم حتى انتهت الى موضع البيت وقيل: أرسل الله مثل الغمامة له رأس فكلّمه وقال: يا إبراهيم ابن على ظلّي أو على قدري لا تزدْ ولا تنقص فبنى وهذان القولان نُقِلا عن عليّ وقال السّدّيّ: الذي دلّه على موضع البيت جبرائيل.
فسار إبراهيم الى مكّة فلمّا وصلها وجد إسماعيل يصلح نبلًا له وراء زمزم فقال له: يا إسماعيل إنّ الله قد أمرني أن أبني له بيتًا قال إسماعيل: فأطع ربّك فقال إبراهيم: قد أمرك أن تعينني على بنائه قال: إذن أفعل قال فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة ثمّ قال إبراهيم لإسماعيل: إيتني بحجر حسن أضعه على الركن فيكون للناس علمًا فناداه أبو قبيس: إنّ لك عندي وديعة وقيل: بل جبرائيل أخبره بالحجر الأسود فأخذه ووضعه موضعه وكانا كلّما بنيا دعوا الله: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» «البقرة: 127» .
فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم فجعل يناوله فلمّا فرغ من بناء البيت أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحج فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتي قال: أذّنْ وعليّ البلاغ فنادى: أيها الناس إنّ الله قد كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من آمن ممن سبق فيعلم الله أن يحج إلى يوم القيامة فأجيب: لبيّك لبيك ثم خرج بإسماعيل معه الى التروية فنزل به منىً ومن معه من المسلمين فصلّى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ثمّ بات حتى أصبح فصلّى بهم الفجر ثمّ سار الى عرفة فأقام بهم هناك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثمّ راح بهم الى الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام فوقف به على الأراك فلما غربت الشمس دفع به ون معه حتى أتى المزدلفة فجمع بها الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة ثمّ بات بها ومن معه حتى إذا طلع الفجرُ صلّى الغداة ثمّ وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرة وأراه المنحر ثمّ نحر وحلق وأراه كيف يوطف ثمّ عاد به الى منىً ليريه كيف رميُ الجمار حتى فرغ من الحجّ.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل هو الذي أرى إبراهيم كيف يحجّ ورواه عنه ابن عمر ولم يزل البيت على ماب ناه إبراهيم عليه السلام إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الكامل في التاريخ_عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري
تعليق