ذكر ذرية نوح عليه السلام
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله تعالى: «وجعلنا ذريته هم الباقين» «الصافات: 7» . إنهم سام وحام ويافث وقال وهب بن منبّه: إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم وإن حامًا أبو السودان وإنّ يافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وقيل: إنّ القبط من ولد قوط بن حام وإنما كان السواد في نسل حام لأن نوحًا نام فانكشفت سوأته فرآها حام فلم يغطها ورآها سام قال ابن إسحاق: فكانت امرأة سام بن نوح صل ابنة بتأويل بن محويل بن خانوخ بن قين بن آدم فولدت له نقرًا: أرفخشذ واشوذ ولاوذ وإرم قال: ولا أدري أإرم لأمّ أرفخشذ وإخوته أم لا فمن لود لاوذ بن سام فارس وجرجان وطسم وعميلق وهو أبو العماليق ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون والفراعنة بمصر وكان أهل البحرين وعمان منهم ويسمون جاشم وكان منهم بنو أميم بن لاوذ أهل وبار بأرض الرمل وهي بين اليمامة والشحر وكانوا قد كثروا فأصابتهم نقمة من الله من معصية أصابوها فهلكوا وبقيت منهم بقيّة وهم الذين يقال لهم النسناس وكان طسم ساكني اليمامة الى البحرين فكانت طسم والعماليق وأميم وجاشم قومًا عربًا لسانهم عربيّ ولحقت عبيل بيثرب قبل أن تبنى ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء وانحدر بعضهم الى يثرب فأخرجوا منها عبيلًا فنزلوا موضع الجحفة فأقبل سيل فاجتحفهم أي أهلكهم فسميت الجحفة.
قال: وولد إرم بن سام عوضًا وغائرًا وحويلًا فولد عوض غاثرًا وعادًا وعبيلًا وولد غائر بن إم ثمود وجديسًا وكانوا عربًا يتكلّمون بهذا اللسان المصريّ وكانت العرب تقول لهذه الأمم ولجرهم العرب العاربة ويقولون لبني إسماعيل العرب المتعربة لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أطهرهم فكانت عاد بهذا الرمل الى حضرموت وكانت ثمود بالحجر بين الحجاز والشام الى وادي القرى ولحقت جديس بطسم وكانوا معهم باليمامة إلى البحرين واسم اليمامة إذ ذاك جوّ وسكنت جاشم عمام والنبط من ولد نبيط بن ماش بن إرم بن سام والفرس بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام.
قال: وولد لأرفخشذ بن سام ابنه قينان كان ساحرًا وولد لقينان شالخ بن أرفخشذ من غير ذكر قينان لما ذكر من سحره وولد لشالخ غابر ولغابر فالغ ومعناه القاسم لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه وقحطان بن غابر فولد لقحطان يعرب ويقظان فنزلا اليمن وكان أول من سكن اليمن وأول من سلم عليه بأبيت اللعن وولد لفالغ بن غابر أرغو وولد لأرغو ساروغ وولد لساروغ ناخور وولد لناخور تارخ واسمه بالعربية آزر وولد لآزر إبراهيم عليه السلام وولد لأرفخشذ أيضًا نمرود وقيل هو نمرود بن كوش بن حام بن نوح.
قال هشام بن الكلبي: السند والهند بنو توقير بن يقطن بن غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وجرهم من ولد يقطن بن غابر وحضرموت ابن يقطن ويقطن هو قحطان في قول من نسبه الى غير إسماعيل والبربر من ولد ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لاود بن سام بن نوح ما خلا صنهاجة وكتامة فإنهما بنو فريقش بن صيفي بن سبأ.
وأما يافث فمن ولده جامر وموعع ومورك وبوان وفوبا وماشج وتيرش فمن ولد جامر ملوك فارس في قول ومن ولد تيرش الترك والخزر ومن ولد ماشج الأشبان كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع بها من وقع من ولد العيص بن إسحاق وغيرهم وقصد كلّ فريق من هؤلاء الثلاثة سام وحام ويافث أرضًا فسكنوها ودفعوا غيرهم عنها ومن ولد يافث الروم وهم بنو لنطى بن يوان بن نافث بن نوح.
وأما حام فولد له كوش ومصرايم وقوط كنعان فمن ولد كوش نمرود بن كوش وقيل: هو من ولد سام وصارت بقية ولد حام بالسواحل من النوبة والحبشة والزنج ويقال: إن مصرايم ولد القبط والبربر.
وأما قوط فقيل إنه سار الى الهند والسند فنزلها وأهلها من ولده.
وأما الكنعانيون فلحق بعضهم بالشام ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها ونفوهم عنها وصار الشام لبني إسرائيل ثمّ وثبت الروم على بني إسرائيل فأجلوهم عن الشام الى العراق إلا قليلًا منهم ثم جاءت العرب فغلبوا على الشام وكان يقال لعاد عاد إرم فلمّا هلكوا قيل لثمود ثمود إرم قال: وزعم أهل التوراة أن أرفخشذ ولد لسام بعد أن مضى من عمر سام مائة سنة وسنتان وكان جميع عمر سام ستمائة سنة.ثم ولد لأرفخشذ قينان بعد أن مضى من عمر أرفخشذ خمس وثلاثون سنة وكان عمره أربعمائة وثمانيًا وثلاثين سنة ثم ولد لقينان شالخ بعد أن مضي من عمره تسع وثلاثون سنة ولم تذكر مدّة عمر قينان في الكتب لما ذكرنا من سحره ثمّ ولد لشالخ غابر بعدما مضى من عمره ثلاثون سنة وكان عمره كله أربعمائة وثلاثًا وثلاثين سنة ثم ولد لغابر فالغ وأخوه قحطان وكان مولد فالغ بعد الطوفان بمائة وأربعين سنة وكان عمره أربعمائة وأربعًا وسبعين سنة ثم ولد لفالغ أرغو بعد ثلاثين سنة من عمر فالغ وكان عمره مائتين وتسعًا وثلاثين سنة وولد لأرغو ساروغ بعدما مضى من عمره اثنتان وثلاثون سنة وكان عمره مائتين وتسعًا وثلاثين سنة وولد لساروغ ناخور بعد ثلاثين سنة من عمره وكان عمره كلّه مائتين وثلاثين سنة ثمّ ولد لناخور تارخ أبو إبراهيم بعدما مضى من عمره سبع وعشرون سنة وكان عمره كله مائتين وثمانيًا وأربعين سنة وولد لتارخ وهو آزر إبراهيم عليه السلام وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستون سنة وذلك بعد خلق آدم بثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثين سنة وولد لقحطان بن غابر يعرب فولد ليعرب يشجب فولد يشجب سبأ فولد سبأ حمير وكهلان وعمرًا والأشعر وأنمار ومرًّا فولد عمرو بن سبأ عديًّا وولد عديّ لخمًا وجذامًا.وهو أفريدون بن اثغيان وهو من ولد جم شيد وقد زعم بعض نسّابة الفرس أن نوحًا هو أفريدون الذي قهر الضحّاك وسلبه ملكه وزعم بعضهم أنّ أفريدون هو ذو القرنين صاحب إبراهيم الذي ذكره الله في كلامه العزيز وإنما ذكرته في هذا الموضع لأن قصته في أولاده الثلاثة شبيهة بقصة نوح على ما سيأتي ولحسن سيرته وهلاك الضحّاك على يديه ولأنه قيل إنّ هلاك الضحّاك كان على يد نوح.
وأما باقي نسابة الفرس فإنهم ينسبون أفريدون إلى جم شيد الملك وكان بينهما عشرة آباء كلهم يسمى اثغيان خوفًا من الضحّاك وإنما كانوا يتميزون بألقاب لقبوها فكان يقال لأحهم اثغيان صاحب البقر الحمر واثغيان صاحب البقر البلق وأشباه ذلك وكان أفريدون أول من ذلّل الفيلة وامتطاها ونتج البغال واتخذ الإوز والحمام وعلم الترياق وردّ المظالم وأمر النّاس بعبادة الله والإنصاف والإحسان وردّ على الناس ما كان الضحّاك غصبه من الأرض وغيرها إلاّ ما لم يجد له صاحبًا فإنه وقفه على المساكين.
وقيل: إنه أول من سمّي الصوفي وهو أوّل من نظر في علم الطبّ وكان له ثلاثة بنين اسم الأكبر شرم والثاني طوج والثالث إيرج فخاف أن يختلفوا بعده فقسم ملكه بينهم أثلاثًا وجعل ذلك في سهام كتب أسماءهم عليها وأمر كلّ واحد منهم فأخذ سهمًا فصارت الروم وناحية العرب لشرم وصارت الترك والصين لطوج وصارت العراق والسند والهند والحجاز وغيرها لإيرج وهو الثالث وكان يحبّه وأعطاه التاج والسرير ومات أفريدون ونشبت العداوة بين أولاده وأولادهم من بعدهم ولم يزل التحاسد ينمو بينهم إلى أن وثب طوج وشرم على أخيهما إيرج فقتلاه وقتلا ابنين كانا لإيرج وملكا الأرض بينهما ثلاثمائة سنة ولم يزل أفريدون يتبع من بقي بالسواد من آل نمرود والنبط وغيرهم حتى أتى على وجوههم ومحا أعلامهم وكان ملكه خمسمائة سنة.
ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم قد ذكرنا ما كان من أمر نوح وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده ومساكن كلّ فريق منهم فكان ممن طغى وبغى فأرسل الله إليهم رسولًا فكذبوه فأهلكهم الله هذان الحيّان من ولد إرم بن سام بن نوح أحدهما عاد والثاني ثمود.
فأمّا عاد: فهو عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح وهو عاد الأولى وكانت مساكنهم ما بين الشحر وعمان وحضرموت بالأحقاف فكانوا جبّارين طوال القامة لم يكن مثلهم يقول الله تعالى: «واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوحٍ وزادكم في الخلق بسطة» «الأعراف: 69» . فأرسل الله إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض ومن الناس من يزعم أنه هو دوهو غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وكانوا أهل أوثان ثلاثة يقال لأحدها ضرًا وللآخر ضمور وللثالث الهبا فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره وترك ظلم الناس فكذّبوه وقالوا: من أشدُّ منا قوّةً ولم يؤمن بهود منهم إلاّ قليل وكان من أمرهم ما ذكره ابن إسحاق قال: إن عادًا أصابهم قحط تتابع عليهم بتكذيبهم هودًا فلمّا أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفدًا الى مكة يستسقون لكم فبعثوا قيل بن عير ولقيم بن هزّال ومرثد بن سعد وكان مسلمًا يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ولقمان بن عاد بن فلان بن عاد الأكبر في سبعين رجلًا من قومهم فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر بظاهر مكّة خارجًا عن الحرم فأكرمهم وكانوا أخواله وصهره لأنّ لقيم بن هزال كان تزوّج هزيلة بنت بكر أخت معاوية فأولدها أولادًا كانوا عند خالهم معاوية بمكّة وهم: عبيد وعمرو وعامر وعمير بنو لقيم وهم عاد الآخرة التي بقيت بعد عاد الأولى فلمّا نزلوا على معاوية أقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان فينتان لمعاوية فلما رأى معاوية طول مقامهم وتركهم ما أرسلوا له شقّ عليه ذلك وقال: هلك أخوالي واستحيا أن يأمر الوفد بالخروج إلى ما بعثوا له فذكر ذلك للجرادتين فقال: قل شعرًا نغنّيهم به لا يدرون من قائله لعلّهم يتحركون فقال معاوية: فيسقي أرض عاد إنّ عادًا قد أمسوا لا يُبينون الكلاما في أبيات ذكرها والهيمنة: الكلام الخفي فلما غنتهم الجرادتان ذلك الشعر وسمعه القوم قال بعضهم لبعض: يا قوم بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم فأبطأتم عليها فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد: إنهم والله لا يسقون بدعائكم ولكن أطيعوا نبيكم فأنتم تسقون وأظهر إسلامه عند ذلك فقال جلهمة بن الخيبري خال معاوية لمعاوية بن بكر: احبس عنّا مرثد بن سعد وخرجوا الى مكة يستسقون بها لعاد فدعوا الله تعالى لقومهم واستسقوا فأنشأ الله سحائب ثلاثًا بيضاء وحمراء وسوداء ونادى منادٍ منها: يا قيل اختر لنفسك وقومك فقال: قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر ماء فناداه مناد: اخترت رمادًا رمددا لا تبقي من عاد أحدًا لا ولدًا تترك ولا والدًا إلا جعلته همدا إلا بني اللوذيّة المهدى وبنو اللوذية: بنو لقيم بن هزّال كاوا بمكة عندهم خالهم معاوية ابن بكر وساق الله السحابة السوداء بما فيها من العذاب الى عاد فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلمّا رأوها استبشروا بها وقالوا: «هذا عارض ممطرنا» «الأحقاف: 24» . يقول الله تعالى: «بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كل شيءٍ بأمر ربها» «الأحقاف: 24 - 25» . أي كل شيء أمرت به وكان أول من رأى ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها فهدد فلمّا رأت ما فيها صاحت وصعقت فلمّا خرجت الريح ن الوادي قال سبعة رهط منهم أحدهم الخلجان: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردّها فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله ثم ترمي به فتدقّ عنقه وبقي الخلجان فمال إلى الجبل وقال: لم يق إلا الخلجان نفسه يالك من يوم دهاني أمسه بثابت الوطء شديدٍ وطسه لو لم يجئني جئته أجسّه فقال له هود: أسلم تسلم فقال: ومالي قال: الجنة فقال: فما هؤلاء الذين في السحاب كأنهم البخت قال: الملائكة قال: أيعيذني ربك منهم إن أسلمت قال: هل رأيت ملكًا يعيذ من جنده قال: لو فعل ما رضيت.
ثم جاءت الريح وألحقته بأصحابه و «سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا» «الحاقة: 7» . كما قال تعالى والحسوم: الدائمة فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك واعتزل هود والمؤمنون في حظيرة لم يصبه ومن معه منها إلاّ تليين الجلود وإنها لتمرّ من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وعاد وفد عاد الى معاوية بن بكر فنزلوا عليه فأتاهم رجل على ناقة فأخبرهم بمصاب عاد وسلامة هود.
قال: وكان قد قيل للقمان بن عاد: اختر لنفسك إلا أنه لا سبيل الى الخلود فقال: يا ربّ أعطني عمرًا فقيل له: اختر فاختار عمر سبعة أنسر فعمّر فيما يزعمون عمر سبعة أنسر فكان يأخذ الفرخ الذكر حين يخرج من بيضته حتى إذا مات أخذ غيره وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة فلما مات السابع مات لقمان معه وكان السابع يسمى لبدًا قال: وكان عمر هود مائة وخمسين سنة وقبره بحضرموت وقيل بالحجر من مكّة فلمّا هلكوا أرسل الله طيرًا سودًا فنقلتهم الى البحر فذلك قوله تعالى: «فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» «الأحقاف: 46: 25» . ولم تخرج ريح قطّ إلا بمكيال إلا يومئذٍ فإنها عتت على الخزنة فذلك قوله: «أهلكوا بريح صرصر عاتية» «الحاقة: 6» . وكانت الريح تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم البيت على من فيه.
وأما ثمود: فهم ولد ثمود بن جاثر بن إرم بن سام وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز والشام وكانوا بعد عاد قد كثروا وكفروا وعتوا فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود وقيل أسف بن كماشج بن اروم بن ثمود يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة فـ «قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا قبل هذا» «هود: 62» . الآية وكان الله قد أطال أعمارهم حتى إن كان أحدهم يبني البيت من المدر فينهدم وهو حيّ فلمّا رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بويتًا فارهين فنحتوها وكانوا في سعة من معايشهم ولم يزل صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدّعاء والتحذير والتخويف سألوه فقالوا: يا صالح اخرج معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم فأرنا آية فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال: نعم فخرجوا بأصنامهم وصالح معهم فدعوا أصنامهم أن لا يستجاب لصالح ما يدعو به وقال له سيّد قومه: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة - لصخرة منفردة - ناقة جوفاء عشراء فإن فعلت ذلك صدّقناك.
فأخذ عليهم المواثيق بذلك وأتى الصخرة وصلّى ودعا ربّه عز وجل فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل ثم انفجرت وخرجت من وسطها الناقة كما طلبوا وهم ينظرون ثمّ نتجت سقبًا مثلها في العظم فآمن به سيد قومه واسمه جندع بن عمرو ورهط من قومه فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: «هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم» «الشعراء: 155» . ومتى عقرتموها أهلككم الله فكان شربها يومًا وشربهم يومًا معلومًا فإذا كان يوم شربها خلّوا بينها وبين الماء وحلبوا لبنها وملأوا كلّ وعاء وإناء وإذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئًا وتزوّدوا من الماء للغد.
فأوحى الله الى صالح أن قومك سيعقرون الناقة فقال لهم ذلك فقالوا: ما كنّا لنفعل قال: إلاّ تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها قالوا: وما علامته فوالله لا نجده إلا قتلناه قال: فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر قال: فكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لأحدهما ابن رغب له عن المناكح وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا فزوّج أحدهما ابنه بابنة الآخر فولد بينهما المولود فلمّا قال لهم صالح إنما يعقرها مولود فيكم اختاروا قوابل من القرية وجعلوا معهنّ شرطًا يطوفون في القرية فإذا وجدوا امرأة تلد نظروا ولدها ما هو فلّما وجدوا ذلك المولد صرخ النسوة وقلن: هذا الذي يريد نبيّ الله صالح فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جدّاه بينهم وبينه وقالا: لو أراد صالح هذا لقتلناه فكان شرّ مولود وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في الجمعة فاجتمع تسعة رهط منهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون كانوا قتلوا أبناءهم حين ولدوا خوفًا أن يكون عاقر الناقة منهم ثمّ ندموا فأقسموا ليقتلنَّ صالحًا وأهله وقالوا: نخرج فترى الناس أننا نريد السفر فنأتي الغار الذي على طريق صالح فنكون فيه فإذا جاء الليل وخرج صالح الى مسجده قتلناه ثمّ رجعنا الى الغار ثم انصرفنا الى رحالنا وقلنا ما شهدنا قتله فيصدّقنا قومه وكان صالح لا يبيت معهم كان يخرج إلى مسجد له يعرف بمسجد صالح فيبيت فيه فلمّا دخلوا الغار سقطت عليهم صخرة فقتلتهم فانطلق رجال ممن عرف الحال إلى الغار فرأوهم هلكى فعادوا يصيحون: إنّ صالحًا أمرهم بقتل أولادهم ثمّ قتلهم.
وقيل: إنما كان تقاسم التسعة على قتل صالح بعد عقر الناقة وإنذار صالح إيّاهم بالعذاب وذلك أنّ التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: تعالوا فلنقتل صالحًا فإن كان صادقًا عجّلنا قتله وإن كان كاذبًا ألحقناه بالناقة فأتوه ليلًا في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فهلكوا فأتى أصحابهم فرأوهم هلكى فقالوا لصالح: أنت قتلتهم وأرادوا قتله فمنعهم عشيرته وقالوا: إنه قد أنذركم العذاب فإن كان صادقًا فلا تزيدوا ربّكم غضبًا وإن كان كاذبًا فنحن نسلّمه إليكم فعادوا عنه فعلى القول الأوّل يكون التسعة الذين تقاسموا غير الذين عقروا الناقة والثاني أصح والله أعلم.
وأما سبب قتل الناقة فقيل: إن قدار بن سالف جلس مع نفر يشربون الخمر فلم يقدروا على ماء يمزجون به خمرهم لأنه كان يوم شرب الناقة فحرّض بعضهم بعضًا على قتلها وقيل: إنّ ثمودًا كان فيهم امرأتان يقال لإحداهما قطام وللأخرى قبال وكان قدار يهوى قطام ومصدع يهوى قبال ويجتمعان بهما ففي بعض الليالي قالتا لقدار ومصدع: لا سبيل لكما إلينا حتى تقتلا الناقة فقالا: نعم وخرجا وجمعا أصحابهما وقصدا الناقة وهي على حوضها فقال الشقيّ لأحدهم: اذهب فاعقرها فأتاها فتعاظمه ذلك فأضرب عنه وبعث آخر فأعظم ذلك وجعل لا يبعث أحدًا إلاّ تعاظمه قتلها حتى مشى هو إليها فتطاول فضرب عرقوبها فوقعت تركض وكان قتلها يوم الأربعاء واسمه بلغتهم جبّار وكان هلاكهم يوم الأحد وهو عندهم أوّل فلمّا قتلت أتى رجل منهم صالحًا فقال: أدرك الناقة فقد عقروها فأقبل وخرجوا يتلقّونه يعتذرون إليه: يا نبيّ الله إنما عقرها فلان إنّه لا ذنب لنا قال: انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه ولما رأى الفصيل أمّه تضطرب قصد جبلًا يقال له القارة قصيرًا فصعده وذهبوا يطلبونه فأوحى الله الى الجبل فطال في السماء حتى ما يناله الطير ودخل صالح القرية فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحًا فرغًا ثلاثًا فقال صالح: لكلّ رغوة أجل يوم «تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب» «هود: 65» . وآية العذاب أن وجوهكم تصبح في اليوم الأول مصفرة وتصبح في اليوم الثاني محمرّة وتصبح في اليوم الثالث مسودّة فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم وأنثاهم فلمّا أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرّة فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنما طليت بالقار فتكفّنوا وتحنّطوا وكان حنوطهم الصبر والمر وكانت أكفانهم الأنطاع ثمّ ألقوا أنفسهم الى الأرض فجعلوا يقلبّون أبصارهم الى السماء والأرض لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلمّا أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كالصاعقة فتقطّعت قلوبهم في صدورهم «فأصبحوا في ديارهم جاثمين» «هود: 67» . وأهلك الله من كان بين المشارق والمغارب منهم إلا رجلًا كان في الحرم فمنعه الحرم قيل: ولا سار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتى على قرية ثمود فقال لأصحابه: لا يدخلنّ أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها وأراهم مرتقى الفصيل في الجبل وأراهم الفجّ الذي كانت الناقة ترد منه الماء.
وأمّا صالح عليه السلام فإنّه سار الى الشام فنزل فلسطين ثمّ انتقل الى مكة فأقام بها يعبد الله حتى مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة وكان قد أقام في قومه يدعوهم عشرين سنة.
وأما أهل التوراة فإنهم يزعمون أنه لا ذكر لعاد وهود وثمود وصالح في التوراة قال: وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم الخليل عليه السلام.
قلت: وليس إنكارهم ذلك بأعجب من إنكارهم نبوّة إبراهيم الخليل ورسالته وكذلك إنكارهم حال المسيح عليه السلام.
الكامل في التاريخ_عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله تعالى: «وجعلنا ذريته هم الباقين» «الصافات: 7» . إنهم سام وحام ويافث وقال وهب بن منبّه: إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم وإن حامًا أبو السودان وإنّ يافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وقيل: إنّ القبط من ولد قوط بن حام وإنما كان السواد في نسل حام لأن نوحًا نام فانكشفت سوأته فرآها حام فلم يغطها ورآها سام قال ابن إسحاق: فكانت امرأة سام بن نوح صل ابنة بتأويل بن محويل بن خانوخ بن قين بن آدم فولدت له نقرًا: أرفخشذ واشوذ ولاوذ وإرم قال: ولا أدري أإرم لأمّ أرفخشذ وإخوته أم لا فمن لود لاوذ بن سام فارس وجرجان وطسم وعميلق وهو أبو العماليق ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون والفراعنة بمصر وكان أهل البحرين وعمان منهم ويسمون جاشم وكان منهم بنو أميم بن لاوذ أهل وبار بأرض الرمل وهي بين اليمامة والشحر وكانوا قد كثروا فأصابتهم نقمة من الله من معصية أصابوها فهلكوا وبقيت منهم بقيّة وهم الذين يقال لهم النسناس وكان طسم ساكني اليمامة الى البحرين فكانت طسم والعماليق وأميم وجاشم قومًا عربًا لسانهم عربيّ ولحقت عبيل بيثرب قبل أن تبنى ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء وانحدر بعضهم الى يثرب فأخرجوا منها عبيلًا فنزلوا موضع الجحفة فأقبل سيل فاجتحفهم أي أهلكهم فسميت الجحفة.
قال: وولد إرم بن سام عوضًا وغائرًا وحويلًا فولد عوض غاثرًا وعادًا وعبيلًا وولد غائر بن إم ثمود وجديسًا وكانوا عربًا يتكلّمون بهذا اللسان المصريّ وكانت العرب تقول لهذه الأمم ولجرهم العرب العاربة ويقولون لبني إسماعيل العرب المتعربة لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أطهرهم فكانت عاد بهذا الرمل الى حضرموت وكانت ثمود بالحجر بين الحجاز والشام الى وادي القرى ولحقت جديس بطسم وكانوا معهم باليمامة إلى البحرين واسم اليمامة إذ ذاك جوّ وسكنت جاشم عمام والنبط من ولد نبيط بن ماش بن إرم بن سام والفرس بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام.
قال: وولد لأرفخشذ بن سام ابنه قينان كان ساحرًا وولد لقينان شالخ بن أرفخشذ من غير ذكر قينان لما ذكر من سحره وولد لشالخ غابر ولغابر فالغ ومعناه القاسم لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه وقحطان بن غابر فولد لقحطان يعرب ويقظان فنزلا اليمن وكان أول من سكن اليمن وأول من سلم عليه بأبيت اللعن وولد لفالغ بن غابر أرغو وولد لأرغو ساروغ وولد لساروغ ناخور وولد لناخور تارخ واسمه بالعربية آزر وولد لآزر إبراهيم عليه السلام وولد لأرفخشذ أيضًا نمرود وقيل هو نمرود بن كوش بن حام بن نوح.
قال هشام بن الكلبي: السند والهند بنو توقير بن يقطن بن غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وجرهم من ولد يقطن بن غابر وحضرموت ابن يقطن ويقطن هو قحطان في قول من نسبه الى غير إسماعيل والبربر من ولد ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لاود بن سام بن نوح ما خلا صنهاجة وكتامة فإنهما بنو فريقش بن صيفي بن سبأ.
وأما يافث فمن ولده جامر وموعع ومورك وبوان وفوبا وماشج وتيرش فمن ولد جامر ملوك فارس في قول ومن ولد تيرش الترك والخزر ومن ولد ماشج الأشبان كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع بها من وقع من ولد العيص بن إسحاق وغيرهم وقصد كلّ فريق من هؤلاء الثلاثة سام وحام ويافث أرضًا فسكنوها ودفعوا غيرهم عنها ومن ولد يافث الروم وهم بنو لنطى بن يوان بن نافث بن نوح.
وأما حام فولد له كوش ومصرايم وقوط كنعان فمن ولد كوش نمرود بن كوش وقيل: هو من ولد سام وصارت بقية ولد حام بالسواحل من النوبة والحبشة والزنج ويقال: إن مصرايم ولد القبط والبربر.
وأما قوط فقيل إنه سار الى الهند والسند فنزلها وأهلها من ولده.
وأما الكنعانيون فلحق بعضهم بالشام ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها ونفوهم عنها وصار الشام لبني إسرائيل ثمّ وثبت الروم على بني إسرائيل فأجلوهم عن الشام الى العراق إلا قليلًا منهم ثم جاءت العرب فغلبوا على الشام وكان يقال لعاد عاد إرم فلمّا هلكوا قيل لثمود ثمود إرم قال: وزعم أهل التوراة أن أرفخشذ ولد لسام بعد أن مضى من عمر سام مائة سنة وسنتان وكان جميع عمر سام ستمائة سنة.ثم ولد لأرفخشذ قينان بعد أن مضى من عمر أرفخشذ خمس وثلاثون سنة وكان عمره أربعمائة وثمانيًا وثلاثين سنة ثم ولد لقينان شالخ بعد أن مضي من عمره تسع وثلاثون سنة ولم تذكر مدّة عمر قينان في الكتب لما ذكرنا من سحره ثمّ ولد لشالخ غابر بعدما مضى من عمره ثلاثون سنة وكان عمره كله أربعمائة وثلاثًا وثلاثين سنة ثم ولد لغابر فالغ وأخوه قحطان وكان مولد فالغ بعد الطوفان بمائة وأربعين سنة وكان عمره أربعمائة وأربعًا وسبعين سنة ثم ولد لفالغ أرغو بعد ثلاثين سنة من عمر فالغ وكان عمره مائتين وتسعًا وثلاثين سنة وولد لأرغو ساروغ بعدما مضى من عمره اثنتان وثلاثون سنة وكان عمره مائتين وتسعًا وثلاثين سنة وولد لساروغ ناخور بعد ثلاثين سنة من عمره وكان عمره كلّه مائتين وثلاثين سنة ثمّ ولد لناخور تارخ أبو إبراهيم بعدما مضى من عمره سبع وعشرون سنة وكان عمره كله مائتين وثمانيًا وأربعين سنة وولد لتارخ وهو آزر إبراهيم عليه السلام وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستون سنة وذلك بعد خلق آدم بثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثين سنة وولد لقحطان بن غابر يعرب فولد ليعرب يشجب فولد يشجب سبأ فولد سبأ حمير وكهلان وعمرًا والأشعر وأنمار ومرًّا فولد عمرو بن سبأ عديًّا وولد عديّ لخمًا وجذامًا.وهو أفريدون بن اثغيان وهو من ولد جم شيد وقد زعم بعض نسّابة الفرس أن نوحًا هو أفريدون الذي قهر الضحّاك وسلبه ملكه وزعم بعضهم أنّ أفريدون هو ذو القرنين صاحب إبراهيم الذي ذكره الله في كلامه العزيز وإنما ذكرته في هذا الموضع لأن قصته في أولاده الثلاثة شبيهة بقصة نوح على ما سيأتي ولحسن سيرته وهلاك الضحّاك على يديه ولأنه قيل إنّ هلاك الضحّاك كان على يد نوح.
وأما باقي نسابة الفرس فإنهم ينسبون أفريدون إلى جم شيد الملك وكان بينهما عشرة آباء كلهم يسمى اثغيان خوفًا من الضحّاك وإنما كانوا يتميزون بألقاب لقبوها فكان يقال لأحهم اثغيان صاحب البقر الحمر واثغيان صاحب البقر البلق وأشباه ذلك وكان أفريدون أول من ذلّل الفيلة وامتطاها ونتج البغال واتخذ الإوز والحمام وعلم الترياق وردّ المظالم وأمر النّاس بعبادة الله والإنصاف والإحسان وردّ على الناس ما كان الضحّاك غصبه من الأرض وغيرها إلاّ ما لم يجد له صاحبًا فإنه وقفه على المساكين.
وقيل: إنه أول من سمّي الصوفي وهو أوّل من نظر في علم الطبّ وكان له ثلاثة بنين اسم الأكبر شرم والثاني طوج والثالث إيرج فخاف أن يختلفوا بعده فقسم ملكه بينهم أثلاثًا وجعل ذلك في سهام كتب أسماءهم عليها وأمر كلّ واحد منهم فأخذ سهمًا فصارت الروم وناحية العرب لشرم وصارت الترك والصين لطوج وصارت العراق والسند والهند والحجاز وغيرها لإيرج وهو الثالث وكان يحبّه وأعطاه التاج والسرير ومات أفريدون ونشبت العداوة بين أولاده وأولادهم من بعدهم ولم يزل التحاسد ينمو بينهم إلى أن وثب طوج وشرم على أخيهما إيرج فقتلاه وقتلا ابنين كانا لإيرج وملكا الأرض بينهما ثلاثمائة سنة ولم يزل أفريدون يتبع من بقي بالسواد من آل نمرود والنبط وغيرهم حتى أتى على وجوههم ومحا أعلامهم وكان ملكه خمسمائة سنة.
ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم قد ذكرنا ما كان من أمر نوح وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده ومساكن كلّ فريق منهم فكان ممن طغى وبغى فأرسل الله إليهم رسولًا فكذبوه فأهلكهم الله هذان الحيّان من ولد إرم بن سام بن نوح أحدهما عاد والثاني ثمود.
فأمّا عاد: فهو عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح وهو عاد الأولى وكانت مساكنهم ما بين الشحر وعمان وحضرموت بالأحقاف فكانوا جبّارين طوال القامة لم يكن مثلهم يقول الله تعالى: «واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوحٍ وزادكم في الخلق بسطة» «الأعراف: 69» . فأرسل الله إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض ومن الناس من يزعم أنه هو دوهو غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وكانوا أهل أوثان ثلاثة يقال لأحدها ضرًا وللآخر ضمور وللثالث الهبا فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره وترك ظلم الناس فكذّبوه وقالوا: من أشدُّ منا قوّةً ولم يؤمن بهود منهم إلاّ قليل وكان من أمرهم ما ذكره ابن إسحاق قال: إن عادًا أصابهم قحط تتابع عليهم بتكذيبهم هودًا فلمّا أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفدًا الى مكة يستسقون لكم فبعثوا قيل بن عير ولقيم بن هزّال ومرثد بن سعد وكان مسلمًا يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ولقمان بن عاد بن فلان بن عاد الأكبر في سبعين رجلًا من قومهم فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر بظاهر مكّة خارجًا عن الحرم فأكرمهم وكانوا أخواله وصهره لأنّ لقيم بن هزال كان تزوّج هزيلة بنت بكر أخت معاوية فأولدها أولادًا كانوا عند خالهم معاوية بمكّة وهم: عبيد وعمرو وعامر وعمير بنو لقيم وهم عاد الآخرة التي بقيت بعد عاد الأولى فلمّا نزلوا على معاوية أقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان فينتان لمعاوية فلما رأى معاوية طول مقامهم وتركهم ما أرسلوا له شقّ عليه ذلك وقال: هلك أخوالي واستحيا أن يأمر الوفد بالخروج إلى ما بعثوا له فذكر ذلك للجرادتين فقال: قل شعرًا نغنّيهم به لا يدرون من قائله لعلّهم يتحركون فقال معاوية: فيسقي أرض عاد إنّ عادًا قد أمسوا لا يُبينون الكلاما في أبيات ذكرها والهيمنة: الكلام الخفي فلما غنتهم الجرادتان ذلك الشعر وسمعه القوم قال بعضهم لبعض: يا قوم بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم فأبطأتم عليها فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد: إنهم والله لا يسقون بدعائكم ولكن أطيعوا نبيكم فأنتم تسقون وأظهر إسلامه عند ذلك فقال جلهمة بن الخيبري خال معاوية لمعاوية بن بكر: احبس عنّا مرثد بن سعد وخرجوا الى مكة يستسقون بها لعاد فدعوا الله تعالى لقومهم واستسقوا فأنشأ الله سحائب ثلاثًا بيضاء وحمراء وسوداء ونادى منادٍ منها: يا قيل اختر لنفسك وقومك فقال: قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر ماء فناداه مناد: اخترت رمادًا رمددا لا تبقي من عاد أحدًا لا ولدًا تترك ولا والدًا إلا جعلته همدا إلا بني اللوذيّة المهدى وبنو اللوذية: بنو لقيم بن هزّال كاوا بمكة عندهم خالهم معاوية ابن بكر وساق الله السحابة السوداء بما فيها من العذاب الى عاد فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلمّا رأوها استبشروا بها وقالوا: «هذا عارض ممطرنا» «الأحقاف: 24» . يقول الله تعالى: «بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كل شيءٍ بأمر ربها» «الأحقاف: 24 - 25» . أي كل شيء أمرت به وكان أول من رأى ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها فهدد فلمّا رأت ما فيها صاحت وصعقت فلمّا خرجت الريح ن الوادي قال سبعة رهط منهم أحدهم الخلجان: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردّها فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله ثم ترمي به فتدقّ عنقه وبقي الخلجان فمال إلى الجبل وقال: لم يق إلا الخلجان نفسه يالك من يوم دهاني أمسه بثابت الوطء شديدٍ وطسه لو لم يجئني جئته أجسّه فقال له هود: أسلم تسلم فقال: ومالي قال: الجنة فقال: فما هؤلاء الذين في السحاب كأنهم البخت قال: الملائكة قال: أيعيذني ربك منهم إن أسلمت قال: هل رأيت ملكًا يعيذ من جنده قال: لو فعل ما رضيت.
ثم جاءت الريح وألحقته بأصحابه و «سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا» «الحاقة: 7» . كما قال تعالى والحسوم: الدائمة فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك واعتزل هود والمؤمنون في حظيرة لم يصبه ومن معه منها إلاّ تليين الجلود وإنها لتمرّ من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وعاد وفد عاد الى معاوية بن بكر فنزلوا عليه فأتاهم رجل على ناقة فأخبرهم بمصاب عاد وسلامة هود.
قال: وكان قد قيل للقمان بن عاد: اختر لنفسك إلا أنه لا سبيل الى الخلود فقال: يا ربّ أعطني عمرًا فقيل له: اختر فاختار عمر سبعة أنسر فعمّر فيما يزعمون عمر سبعة أنسر فكان يأخذ الفرخ الذكر حين يخرج من بيضته حتى إذا مات أخذ غيره وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة فلما مات السابع مات لقمان معه وكان السابع يسمى لبدًا قال: وكان عمر هود مائة وخمسين سنة وقبره بحضرموت وقيل بالحجر من مكّة فلمّا هلكوا أرسل الله طيرًا سودًا فنقلتهم الى البحر فذلك قوله تعالى: «فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» «الأحقاف: 46: 25» . ولم تخرج ريح قطّ إلا بمكيال إلا يومئذٍ فإنها عتت على الخزنة فذلك قوله: «أهلكوا بريح صرصر عاتية» «الحاقة: 6» . وكانت الريح تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم البيت على من فيه.
وأما ثمود: فهم ولد ثمود بن جاثر بن إرم بن سام وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز والشام وكانوا بعد عاد قد كثروا وكفروا وعتوا فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود وقيل أسف بن كماشج بن اروم بن ثمود يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة فـ «قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا قبل هذا» «هود: 62» . الآية وكان الله قد أطال أعمارهم حتى إن كان أحدهم يبني البيت من المدر فينهدم وهو حيّ فلمّا رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بويتًا فارهين فنحتوها وكانوا في سعة من معايشهم ولم يزل صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدّعاء والتحذير والتخويف سألوه فقالوا: يا صالح اخرج معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم فأرنا آية فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال: نعم فخرجوا بأصنامهم وصالح معهم فدعوا أصنامهم أن لا يستجاب لصالح ما يدعو به وقال له سيّد قومه: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة - لصخرة منفردة - ناقة جوفاء عشراء فإن فعلت ذلك صدّقناك.
فأخذ عليهم المواثيق بذلك وأتى الصخرة وصلّى ودعا ربّه عز وجل فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل ثم انفجرت وخرجت من وسطها الناقة كما طلبوا وهم ينظرون ثمّ نتجت سقبًا مثلها في العظم فآمن به سيد قومه واسمه جندع بن عمرو ورهط من قومه فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: «هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم» «الشعراء: 155» . ومتى عقرتموها أهلككم الله فكان شربها يومًا وشربهم يومًا معلومًا فإذا كان يوم شربها خلّوا بينها وبين الماء وحلبوا لبنها وملأوا كلّ وعاء وإناء وإذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئًا وتزوّدوا من الماء للغد.
فأوحى الله الى صالح أن قومك سيعقرون الناقة فقال لهم ذلك فقالوا: ما كنّا لنفعل قال: إلاّ تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها قالوا: وما علامته فوالله لا نجده إلا قتلناه قال: فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر قال: فكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لأحدهما ابن رغب له عن المناكح وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا فزوّج أحدهما ابنه بابنة الآخر فولد بينهما المولود فلمّا قال لهم صالح إنما يعقرها مولود فيكم اختاروا قوابل من القرية وجعلوا معهنّ شرطًا يطوفون في القرية فإذا وجدوا امرأة تلد نظروا ولدها ما هو فلّما وجدوا ذلك المولد صرخ النسوة وقلن: هذا الذي يريد نبيّ الله صالح فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جدّاه بينهم وبينه وقالا: لو أراد صالح هذا لقتلناه فكان شرّ مولود وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في الجمعة فاجتمع تسعة رهط منهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون كانوا قتلوا أبناءهم حين ولدوا خوفًا أن يكون عاقر الناقة منهم ثمّ ندموا فأقسموا ليقتلنَّ صالحًا وأهله وقالوا: نخرج فترى الناس أننا نريد السفر فنأتي الغار الذي على طريق صالح فنكون فيه فإذا جاء الليل وخرج صالح الى مسجده قتلناه ثمّ رجعنا الى الغار ثم انصرفنا الى رحالنا وقلنا ما شهدنا قتله فيصدّقنا قومه وكان صالح لا يبيت معهم كان يخرج إلى مسجد له يعرف بمسجد صالح فيبيت فيه فلمّا دخلوا الغار سقطت عليهم صخرة فقتلتهم فانطلق رجال ممن عرف الحال إلى الغار فرأوهم هلكى فعادوا يصيحون: إنّ صالحًا أمرهم بقتل أولادهم ثمّ قتلهم.
وقيل: إنما كان تقاسم التسعة على قتل صالح بعد عقر الناقة وإنذار صالح إيّاهم بالعذاب وذلك أنّ التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: تعالوا فلنقتل صالحًا فإن كان صادقًا عجّلنا قتله وإن كان كاذبًا ألحقناه بالناقة فأتوه ليلًا في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فهلكوا فأتى أصحابهم فرأوهم هلكى فقالوا لصالح: أنت قتلتهم وأرادوا قتله فمنعهم عشيرته وقالوا: إنه قد أنذركم العذاب فإن كان صادقًا فلا تزيدوا ربّكم غضبًا وإن كان كاذبًا فنحن نسلّمه إليكم فعادوا عنه فعلى القول الأوّل يكون التسعة الذين تقاسموا غير الذين عقروا الناقة والثاني أصح والله أعلم.
وأما سبب قتل الناقة فقيل: إن قدار بن سالف جلس مع نفر يشربون الخمر فلم يقدروا على ماء يمزجون به خمرهم لأنه كان يوم شرب الناقة فحرّض بعضهم بعضًا على قتلها وقيل: إنّ ثمودًا كان فيهم امرأتان يقال لإحداهما قطام وللأخرى قبال وكان قدار يهوى قطام ومصدع يهوى قبال ويجتمعان بهما ففي بعض الليالي قالتا لقدار ومصدع: لا سبيل لكما إلينا حتى تقتلا الناقة فقالا: نعم وخرجا وجمعا أصحابهما وقصدا الناقة وهي على حوضها فقال الشقيّ لأحدهم: اذهب فاعقرها فأتاها فتعاظمه ذلك فأضرب عنه وبعث آخر فأعظم ذلك وجعل لا يبعث أحدًا إلاّ تعاظمه قتلها حتى مشى هو إليها فتطاول فضرب عرقوبها فوقعت تركض وكان قتلها يوم الأربعاء واسمه بلغتهم جبّار وكان هلاكهم يوم الأحد وهو عندهم أوّل فلمّا قتلت أتى رجل منهم صالحًا فقال: أدرك الناقة فقد عقروها فأقبل وخرجوا يتلقّونه يعتذرون إليه: يا نبيّ الله إنما عقرها فلان إنّه لا ذنب لنا قال: انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه ولما رأى الفصيل أمّه تضطرب قصد جبلًا يقال له القارة قصيرًا فصعده وذهبوا يطلبونه فأوحى الله الى الجبل فطال في السماء حتى ما يناله الطير ودخل صالح القرية فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحًا فرغًا ثلاثًا فقال صالح: لكلّ رغوة أجل يوم «تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب» «هود: 65» . وآية العذاب أن وجوهكم تصبح في اليوم الأول مصفرة وتصبح في اليوم الثاني محمرّة وتصبح في اليوم الثالث مسودّة فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم وأنثاهم فلمّا أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرّة فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنما طليت بالقار فتكفّنوا وتحنّطوا وكان حنوطهم الصبر والمر وكانت أكفانهم الأنطاع ثمّ ألقوا أنفسهم الى الأرض فجعلوا يقلبّون أبصارهم الى السماء والأرض لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلمّا أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كالصاعقة فتقطّعت قلوبهم في صدورهم «فأصبحوا في ديارهم جاثمين» «هود: 67» . وأهلك الله من كان بين المشارق والمغارب منهم إلا رجلًا كان في الحرم فمنعه الحرم قيل: ولا سار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتى على قرية ثمود فقال لأصحابه: لا يدخلنّ أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها وأراهم مرتقى الفصيل في الجبل وأراهم الفجّ الذي كانت الناقة ترد منه الماء.
وأمّا صالح عليه السلام فإنّه سار الى الشام فنزل فلسطين ثمّ انتقل الى مكة فأقام بها يعبد الله حتى مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة وكان قد أقام في قومه يدعوهم عشرين سنة.
وأما أهل التوراة فإنهم يزعمون أنه لا ذكر لعاد وهود وثمود وصالح في التوراة قال: وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم الخليل عليه السلام.
قلت: وليس إنكارهم ذلك بأعجب من إنكارهم نبوّة إبراهيم الخليل ورسالته وكذلك إنكارهم حال المسيح عليه السلام.
الكامل في التاريخ_عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري
تعليق