إلى سدرة المنتهى
طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة وهو في جوار المطعم بن عدي ، وقد رفضته مكة بأشرافها وساداتها، ورفضته الطائف بعظمائها وزعمائها، رفضته الأرض فاستقبلته السماء وتلقاه الملأ الأعلى، رفضه الناس فاستقبله ربه تبارك وتعالى، وكل يوم يمر عليه يكون فيه أحسن وأفضل وأعز وأكرم وأجل من اليوم السابق، يزداد كل يوم عن سابقه رفعة ومكانة ودرجة وعلواً وشأناً، حتى إن بعض المفسرين فسر قوله تعالى: ((وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى))، قال الشيخ ابن سعدي : أي يومك أحسن من أمسك، وغدك أحسن من يومك. وهكذا كلما أتى عليه يوم؛ كان أحسن وأرفع منزلة، بدأ صلى الله عليه وسلم بحالة شريفة طيبة طاهرة، وانتهى بحال أرفع ومآل أفضل، ومنزلة أعظم، وحادثة الإسراء حادثة جليلة عظيمة، قال الله سبحانه: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى))، بدأ الله السورة بـ (سبحان) وهي تأتي للتعجب من عظمة هذا الفعل، وعظمة هذا الخلق، وعظمة هذا الحدث، والله عز وجل بين عظمة هذه الرحلة، فلم يسمع بمثلها من قبل، فهي رحلة من الفناء إلى البقاء، من الأرض إلى السماء، من الطين إلى رب العالمين؛ (سبحان الذي أسرى) ذكر سبحانه أسرى ولم يقل: ذهب أو ارتحل؛ لأنه كان في الليل، واختير الليل؛ لأنه أخفى للحدث، ولأن فيه النفحات، وفيه البركات، وأحسن العبادة: القيام في الليل، وذكر الليل أخفى للسير، وأحفظ للحدث من أعين الحساد، حتى يقول بعضهم:
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
وقال سبحانه: (بعبده) ولم يقل: برسوله، ولا بنبيه؛ لأنه مقام تشريف وتعظيم، شرفه الله بالعبودية، ولقد ذكر صلى الله عليه وسلم بالعبودية في مقامات ثلاثة:
1) في مقام إنزال الوحي، قال سبحانه وتعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)).
2) في مقام التبليغ، قال سبحانه وتعالى: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ)).
3) في مقام الإسراء، قال سبحانه وتعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)).
فهو صلى الله عليه وسلم عبد من عباد الله، وهو أعبد من عبد الله، وهو أخلص العباد لربه، وأعرفهم بما تقتضيه مراتب العبودية، وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم جلوسه كما يجلس العبد، وأكله كما يأكل العبد، وكان لا يرضى أن يرفعه أحد فوق منزلته التي أنزله الله إياها، وكان يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) (1) .
فمقام العبودية لله أعظم المقامات، وأرقى المقامات أن يكون الإنسان عبداً لله عز وجل، فأي تعظيم وتشريف يضاهي هذا التعظيم وهذا التشريف؟
ومن لا يعبد الله؛ يعبد غيره لا محالة، وليس هناك حالة ثالثة: إما عبد لله، وإما عبد للطاغوت وللشيطان وللهوى ولكل شيء سوى الله.
ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم شق صدره، والظاهر من السياق أنه شق في ليلة الإسراء، وأخذ قلبه وغسل بماء زمزم، ثم أودع حكمة بالغة وإيماناً.
كان جبريل عليه السلام رفيق النبي في إسرائه وصاحبه، وهو الذي يتنزل عليه بالوحي من السماء، وهو الروح الأمين، وهو المؤتمن على الوحي، وهو من أعظم الملائكة.
أما الراحلة التي ركبها، فهي البراق، وهي خلق من خلق الله عز وجل بين البغل والفرس، يضع حافره حيث ينتهي بصره.
انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هانئ ، ثم مر به في الحرم، وكان ذلك بعد صلاة العشاء، لتكون الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم إلى سدرة المنتهى، فهي أعظم رحلة في التاريخ، وأقصر رحلة في التاريخ، أعظمها عجائب، وأرفعها غرائب، وأكبرها معجزات، ما سمع الناس بمثلها، وما وصل العقل إلى إدراكها، وما دار في الخيال، ولا صار في البال، ولا وصل اكتشاف، أو اختراع إلى مثل هذه الرحلة، فسبحان الباري العظيم، يقول شوقي :
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكة والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتمم
لما حضرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
وقيل كل نبي عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلم
حتى وصلت مكاناً لا يطار له على جناح ولا يسعى على قدم
ذكر بعض أهل السير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ركب البراق اضطرب البراق ولم يستقر، فقال له جبريل : اثبت فوالذي نفسي بيده لا يركبك خير من هذا. وركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأردف خلفه جبريل ، فهو رفيقه في هذه الرحلة، فكان يحدثه ويؤنسه، وهو الذي ينزل عليه بالوحي، وحضر معه الغزوات، حتى إن أفخر بيت قاله حسان ومجده الأصمعي وغيره، قال:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس على البراق، وقطع المسافات الطويلة التي تقطع في شهور، قطعها في وقت قصير، وقد جمع الله الأنبياء، وصلى بهم محمد إماماً، وهذه هي إرادة الله وقدرته، يفعل ما يشاء، وهو الفعال لما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لأمره، ولا غالب لحكمه، سبحانه وتعالى.
صلى عليه الصلاة والسلام بالأنبياء ركعتين، والتفت إليهم وتذكر قوله تعالى: ((وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ))، فلما صلى بهم والتفت إليهم ورأى وجوههم حيث الطهر والنبوة وأضواء الرسالة، وهو خيرهم وإمامهم وخاتمهم، لما رأى الجلال والجمال والكمال؛ عرف أنه لم يجعل إلهاً غيره يعبد من دونه، واكتفي بالجواب بما رآه. وقد قدموه إماماً؛ لأنه أفضلهم وأعرفهم بربه، وهو سيدهم وخطيبهم، وصاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء المعقود.
صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل ربطا البراق عند الصخرة، وبعد الانتهاء من الصلاة؛ فعرج بالرسول وجبريل على البراق إلى السماء، وسبحان الذي خلق، بين السماء والسماء مقدار مسيرة خمسمائة عام، ولكن بأي مسافة -الله أعلم- بالعلم المعاصر تذهب ستة أشهر بعض المراكب أو أكثر أو أقل، ولا تصل إلى القمر أو المريخ: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ))، يعني بإذن الواحد الأحد.
وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل إلى السماء الدنيا فاستأذن للدخول، قيل له: من؟
قال: جبريل . استدل به العلماء على أن المستأذن للدخول يسمي اسمه، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر وغيره.
قال ابن كثير : وأسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من قولي الصحابة والعلماء من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، راكباً البراق في صحبة جبريل عليه السلام، فنزل ثم، وأم الأنبياء بـبيت المقدس ، فصلى بهم.
ثم عرج به تلك الليلة من هناك إلى السماء الدنيا، ثم التي تليها، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم التي تليها، ثم السابعة، ورأى الأنبياء في السموات على منازلهم، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، ورأى عندها جبريل على الصورة التي خلقه الله عليها، وفرض الله عليه الصلوات تلك الليلة (1) (1) .
وقال ابن القيم رحمه الله: ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ؛ راكباً على البراق، صحبه جبريل عليهما الصلاة والسلام فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماماً وربط البراق بحلقة بباب المسجد.
وقد قيل: أنه نزل بـبيت لحم ، وصلى فيه، ولم يصح ذلك عنه البتة.
ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ، ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرد عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته، وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له؛ فرأى فيها يحيى بن زكريا ، وعيسى بن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما؛ فردا عليه ورحبا به، وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة؛ فرأى فيها يوسف ، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى بن عمران فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، فلما جاوزه؛ بكى موسى ، فقيل له: ما يبكيك؟
قال: أبكي؛ لأن غلاماً بعث من بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم ، فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور ثم عرج به إلى الجبار عز وجل فدنا منه حتى كان ((قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى))، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى ، فقال له: (بم أمرت؟
قال: بخمسين صلاة. قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه، هذا لفظ البخاري في بعض الطرق، فوضع عنه عشراً، ثم أنزل حتى مر بـموسى فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى والله عز وجل حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم، فلما بعد نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) (1) (1) .
فكان عبد الله بن مسعود يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق، وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في منتهى طرفها، فحمل عليها ثم خرج به صاحبه، يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فوجد فيه إبراهيم الخليل ، وموسى و عيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له، فصلى بهم، ثم أتى بثلاثة أواني: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فسمعت قائلاً يقول حين عرضت علي: أن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هدي وهديت أمته. قال: فأخذت اللبن، فشربت منه، فقال لي جبريل عليه السلام: هديت وهديتك أمتك يا محمد). (1)
واللبن دليل على الفطرة، فمن رأى في منامه لبناً وأنه يشربه فهو مهتدٍ إن شاء الله، ويدل أيضاً على صلاح وعلم وخير وسنة، فالحمد لله الذي هدى رسولنا لاختيار اللبن، والظاهر أنه لم يكن يدري صلى الله عليه وسلم أن في الإناء خمراً أو لبناً فوقعت يده على اللبن توفيقاً من الله وتسديداً.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟
قال: العلم) (1) ، لذلك كان عمر من أعلم الصحابة بعد أبي بكر رضي الله عنهما.
التقى آدم موسى عليهما الصلاة والسلام فقال موسى : أأنت آدم ؟
قال: نعم أنا آدم ، قال: أنت أبونا الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، خيبتنا وأهبطتنا من الجنة.
كان موسى عليه السلام جريئاً في حواره مع أبيه آدم عليه السلام وأسئلته تنبئ بالهمة العالية، وهذه طبيعته، فقد سأل ربه الكلام فكلمه، وسأل الرؤية فقال: لن تراني، فعتب موسى على آدم لأنه أخرجنا من الجنة، فقال آدم لـموسى : أنت موسى بن عمران ؟
قال: نعم. قال: الذي كتب الله لك التوراة بيده، واصطفاك على الناس بكلامه؟
قال: نعم. قال: بكم وجدت أن الله كتب علي ذلك. قال: بأربعين عاماً. قال: أتلومني على شيء كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً. فحج آدم موسى (1) . أي غلبه، وكانت له الحجة عليه.
وصل جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلى السماء السابعة، واجتازها محمد ووقف جبريل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجباً: (أين يا جبريل ؟
يريد أن يكون معه في هذه الرحلة الغريبة العجيبة، فقال جبريل: وما منا إلا له مقام معلوم، هذا مكاني، ولو تقدمت؛ لاحترقت).
سبحان الخالق الواحد الأحد! سبحان العظيم في عليائه! سبحان الذي على العرش استوى! هذا جبريل الذي دمر الأمم والقرى، واقتلعها من جذورها، وله ستمائة جناح، كل جناح يسد ما بين المشرق والمغرب، يصل إلى منزلة ما يستطيع أن يجتازها، فيقول: لو تقدمت؛ لاحترقت.
فاجتاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصل إلى سدرة المنتهى إلى مكان يسمع فيه صرير الأقلام: أقلام الحسنات والسيئات، والأرزاق والآجال. عالم علوي مشتغل بالعالم السفلي، وقضاء وقدر ومحاسبة ومراقبة، وأرزاق تنزل، وآجال تنتهي، وحسنات تسجل، وسيئات تكتب وتمحى: ((يَمْحُوا الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))، وهو سبحانه الفعال لما يريد، القطر ينزل بحسبان، وما يموت ميت إلا بقدر، ولا يولد مولود إلا بقضاء، وما تمحى سيئة إلا بحساب، ولا تكتب حسنة إلا بأجل، حكمة العزيز الحكيم: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، لا تغيب عنه غائبة، جل في علاه، والله: ((وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)).
ثم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، قال الله: ((إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى))، لم يسم لنا ما يغشى من هولها.
قال: عليها أشياء عظيمة، لا يملك أحد وصفها أو نعتها، ولكن أوراقها مثل آذان الفيلة، والعقل يحتار عندها، وفرض الله عليه الصلوات لشرفها وعظمها، ولم يفرض عليه فريضة غيرها، فكل شرائع الإسلام نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم في الأرض، إلا الصلاة لعظم أمرها، وخطورة شأنها، وأنها صلة بين العبد وربه، حيث إنها علامة الإيمان والحبل المديد، وهي رأس العمل، وهي التي لا تنقطع عنك، فالحج في العمر مرة، والصيام في العام شهر، والزكاة على من عنده مال بشروطه، إلا الصلاة، فهي على المريض والسليم، والمقيم والمسافر، والرجل والأنثى، وفي الحرب والسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: واختلف الصحابة: هل رأى ربه تلك الليلة أم لا؟
فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: [رآه بفؤاده] (1)
وصح عن عائشة و ابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى))، إنما هو جبريل (1) .
وصح عن أبي ذر أنه سأله: (هل رأيت ربك: فقال: نور أنى أراه)؛ أي حال بيني وبين رؤيته النور، كما قال في لفظ آخر: (رأيت نوراً) (1) .
وقد حكى عثمان بن سعيد الدرامي اتفاق الصحابة على أنه لم يره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وليس قول ابن عباس : أنه رآه مناقضاً لهذا، ولا قوله: (رآه بفؤاده). وقد صح عنه أنه قال: (رأيت ربي تبارك وتعالى) (1) ، ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله تعالى وقال: نعم رآه حقاً، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد، ولكن لم يقل أحمد رحمه الله تعالى: أنه رآه بعيني رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك، فقد وهم، ولكن قال مرة: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده. فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه: أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك.
وأما قول ابن عباس : إنه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله سبحانه وتعالى: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))، ثم قال: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى))، والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل ، رآه مرتين في صورته التي خلقه الله عليه، وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد في قوله: رآه بفؤاده، والله أعلم.
وأما قوله تعالى في سورة النجم: ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى))، فهو غير الدنو والتدلي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم، هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة ، وابن مسعود ، والسياق يدل عليه، فإنه قال: ((عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى))، وهو جبريل ((ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * ((وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى))، فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو ذو المرة أي القوة، وهو الذي استوى ((بِالأُفُقِ الأَعْلَى))، وهو الذي دنى فتدلى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر (قوسين أو أدنى)، فأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تعرض في سورة النجم لذلك، بل فيها أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، وهذا هو جبريل ، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين: مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى، والله أعلم (1) .
وقال ابن كثير رحمه الله: واختلف العلماء: هل رأى ربه عز وجل أم لا؟
على قولين:
فصح عن ابن عباس أنه قال: رأى ربه. وجاء في رواية عنه أنه رآه بفؤاده. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت ذلك على قائله.
وقالت هي وابن مسعود : إنما رأى جبريل .
وروى حديث مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟
قال: نورٌ أنى أراه؟
) وفي رواية: (رأيت نوراً) فهذا الحديث كاف في هذه المسألة (1) (1) .
أنكر كفار قريش هذه الرحلة، ولم يصدقوا بهذا الحدث العظيم الجليل، وقال أبو جهل ، وهو في ملأ من كفار قريش وصناديدها من المشركين: إنا نذهب يا محمد إلى بيت المقدس في شهر، ونعود في شهر، وأنت تزعم أنك ذهبت إلى هناك، وصعدت إلى السموات السبع، وسدرة المنتهى، وعدت إلى هنا، كل ذلك في ليلة؟
إن هذا لا يصدقه عقل، ولكن صف لنا بيت المقدس ، فإنا نعرفه باباً باباً، وسرداباً سرداباً، وطريقاً طريقاً.
فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف لهم بيت المقدس جزءاً جزءاً. فقال الوليد : والله ما زدت على ما رأينا ولا نقصت.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وأزيدكم، لكم روائح القافلة، يرعاها رجل منكم، سوف تقدم عليكم بعد طلوع الشمس غداً، انكسر رجل بعير فيها، ويتقدمها جمل أوراق عليه غراراتان. قالوا: نرتقب، ولما جاء الصباح، فإذا بالقافلة تأتي، وإذا بالجمل الأورق في أولها. قالوا: ما بال البعير الفلاني؟
قالوا: انكسرت رجله)
قال ابن القيم رحمه الله: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه؛ أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذبيهم له وأذاهم وضراوتهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس ؛ فجلاه الله له حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئاً (1) .
وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفوراً، وأبى الظالمون إلا كفوراً (1) .
ولكن هل كان الإسراء والمعراج بالروح فقط، أم بالروح والجسد معاً؟
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وأسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من قولي الصحابة والعلماء.
ثم قال محققاً لـابن كثير في الحاشية: بل هو كما قال القاضي عياض : الحق الذي عليه أكثر الناس، ومعظم السلف، وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: أنه أسري بجسده صلى الله عليه وسلم، والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها، ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل. (1).
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح : الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه بعد البعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليها ظاهر الأخبار الصحيحة (1)
تعليق