الارتـــــــــداد (خصـــــوصــــاً التنصــــــــر)
(Apostasy (especially Conversion to Christianty
«الارتداد» بالعبرية «مينوت» من كلمة «مين» التي تعني «كُفْر» و«زندقة» مصطلح يطلقه أتباع أي دين على من يترك هذا الدين. ولا يتحدث العهد القديم قط عن أشخاص ارتدُّوا عن اليهودية (عبادة يسـرائيل)، وإنما يتحـدث عن سـقوط الشـعب، أو قطاعات كبيرة منه، في الوثنية (حادثة العجل الذهبي والحوادث الأخرى المشابهة في تاريخ الملوك العبرانيين). وقد كان معظم جهد الأنبياء موجهاً للحرب ضد هذا الابتعاد عن التوحيد، أي السقوط في الشرك والوثنية والارتداد عن عبادة يهوه.
ويُلاحَظ أن «الارتداد» هنا كان يحمل أحياناً معنى الخيانة القومية باعتبار أن كل إله كان مقصوراً على شعب واحد بعينه ويحل فيه. ولم يُطبَّق مصطلح «الارتداد» في اليهودية إلا ابتداءً من العصر الهيليني، فقبل ذلك الوقت لم تكن اليهودية قد تحددت معالمها تماماً، ولم يكن الكتاب المقدَّس قد تم تدوينه بأكمله. ومع هذا، يجب أن نشير إلى عدة سمات في اليهودية تجعل لفظ «مرتد» دالاً غير مستقر الدلالة عبر تاريخها الطويل يجعل استخدامه صعباً:
1 ـ اليهودية، كنسق ديني، له طابع جيولوجي تراكمي تتعايش داخله طبقات متباينة. وقد كان الصدوقيون ينكرون البعث حتى آخر العصر الهيليني، وهم القيادة الكهنوتية. وقد ظلت الأفكار اليهودية الأخروية غير مستقرة بصورة غير محدَّدة.
2 ـ لم تُحدِّد اليهودية العقائد الأساسية الملزمة لليهودي، ولم تضع أصولاً للدين. ولعل أول محاولة جادة هي محاولة موسى بن ميمون في القرن الحادي عشر، وهي محاولة تقبَّلتها اليهودية وحوَّلتها إلى طبقة جيولوجية أخرى تراكمت على ما قبلها من طبقات، دون أن تلغي ما قبلها ودون أن تمنع تكوُّن طبقات أخرى بعدها.
3- عرَّفت الشريعة اليهودية اليهودي بأنه « من وُلد لأم يهودية »، وإن ارتد اليهودي عن دينه فإنه يظل يهودياً.
لذا، ظل اصطلاح «مرتد» غير مستقر. ومع هذا، يُلاحَظ أن المصطلح بدأ يتواتر ابتداءً من العصر الهيليني. ولكنه ظل ذا بُعْد إثني، بمعنى أن المرتد ليس من ترك دينه وإنما من ترك قومه. وهذا أمر مفهوم في الإطار الحلولي، حيث يحل الإله في الشعب تماماً، ويصبح الشعب موضع القداسة ومصدر المطلقية. ولذا، فإننا نجد إشارة إلى اليهود المتأغرقين في أيام أنطيوخوس الرابع (القرن الثاني قبل الميلاد) باعتبارهم «مرتدين» حرضوا على اضطهاد السلوقيين لليهود. وفي الواقع، فإن العبارة تحمل معنى الارتداد عن الدين وتحمل في الوقت نفسه معنى الخيانة القومية (ولعل استخدام لفظ «يورديم» العبري بمعنى «المرتدين» للإشارة للإسرائيليين الذين يهاجرون من أرض الميعاد هو بعث لهذا المعنى). ومن المعروف أن التمرد الحشموني بدأ حين قام الكاهن ماثياس بذبح «المرتد». وثمة إشارة أخرى إلى مريم (من بيت بيلجا) التي ارتدت وتزوجت أحد موظفي القصر الملكي، وحينما دخل السلوقيون الهيكل دخلت معهم وخربت المذبح بيدها « لأن الإله هجر شعبه». ومن الواضح أن موقف مريم من الإله موقف عملي وثني. ومن أشهر المرتدين تايبريوس يوليوس ألكسندر أحد قادة جيش تيتوس حين قام بحصار القدس وهدم الهيكل الثاني. ومن أهم المرتدين العَالم الديني أليشاه بن أبوياه، الذي أصبح، فيما بعد (في كتابات ليلينبلوم وغيره من دعاة التنوير).
ومع ظهور كلٌّ من المسيحية والإسلام، اختلف الوضع تماماً، إذ لم تَعُد اليهودية ديانة توحيدية في محيط وثني بل أصبحت ديانة توحيدية في محيط توحيدي يرى الخالق باعتباره القوة الكامنة وراء الطبيعة والتاريخ المتجاوزة لهما.
وقد أسـلم عدد من يهـود الجزيرة العربية، مثل: عبـد الله بن سلام، وعبد الله بن سبأ، وكعب الأحبار. ويبدو أن أعداداً كبيرة من اليهود، وخصوصاً في العراق، اعتنقت الإسلام، ويُقال إن كثيراً من الإسرائيليات دخلت الإسلام من خلالهم. وقد حكم علاقة الإسلام باليهود مفهوم أهل الذمة الذي لا يُحرِّم الدعوة إلى الإسلام بينهم، وإن كان يحرم فرض الإسلام عليهم عنوة. وتجب ملاحظة أن انتقال اليهودي من اليهودية إلى الإسلام لم يكن يشكل صعوبة بالغة في الماضي، لأن العنصر التوحيدي في اليهودية كان لا يزال قوياً، ولذلك فإن الرموز الإسلامية لم تكن غريبة عليه، على عكس الرموز المسيحية (الصليب والتثليث)، وخصوصاً أن لحم الخنزير، رمز الدنس عند اليهود، مُحرَّم في الإسلام. ولا يساوي الشرع اليهودي بين اليهودي الذي يعتنق الإسلام واليهودي الذي يعتنق المسيحية، إذ يضع الأول في منزلة أعلى باعتبار أنه لم يشرك، أما المسيحية فقد وصفها بأنها شكل من أشكال الشرك. ورغم عدم وجود إحصاءات أو دراسات في الموضوع، فإننا نميل إلى القول بأن عدم تزايد عدد يهود العالم الإسلامي يعود إلى أن الكثيرين منهم اعتنقوا الإسلام. كما نعتقد أن الحركة القرّائية لعبت دوراً أساسياً في هذا الاتجاه، إذ صبغت اليهودية ببعض السمات الإسلامية إلى حدٍّ ما، وهو اتجاه تَعمَّق على المستوى الفكري في كتابات موسى بن ميمون حين طرح أصول اليهودية بشكل يجعلها لا تختلف، في كثير من أساسياتها، عن أصول الدين الإسلامي. وقد حاول ابنه من بعده (في القاهرة) أن يصبغ الشعائر اليهودية بالصبغة الإسلامية وأن يُقرِّبها من الشعائر الإسلامية. وفي تاريخ المسلمين، هناك حالات فُرض فيها الإسلام على اليهود عنوة. ولكن تيار التحول إلى الإسلام تراجَع ولا شك مع تراجُع الدولة الإسلامية نفسها ومع انتقال مركز اليهودية إلى أوربا المسيحية.
أما علاقة اليهودية بالمسيحية، فهي علاقة متوترة للغاية، وثمة عناصر مشتركة كثيرة بين الديانتين أشرنا إليها في مدخل «تنصير اليهودية». وقد ظهرت المسيحية في وقت كانت فيه أعداد كبيرة من اليهود قد تأغرقت وبعُدت عن المركز الديني في القدس بهيكلها، كما أن اليهود المتأغرقين كانوا يعرفون الترجمة السبعينية التي تبنتها الكنيسة ككتاب مقدَّس. وقد أشارت الترجمة السبعينية إلى يهوه باعتباره رب العالمين، أي أنها ترجمة ابتعدت عن الإطار الحلولي. وكان التفكير الديني اليهودي قد بدأ يتخلص من كثير من حدوده الضيقة على يد فيلون الذي كان قد طوَّر مفهوم اللوجوس (الذي تبنته المسيحية فيما بعد وأصبح جزءاً من ثالوثها).
ويبدو أن الحُمَّى المشيحانية آنذاك كانت قد تصاعدت بين اليهود في فلسطين، وهي الحُمَّى التي اندلعت على هيئة التمرد اليهودي الأول ضد روما وانتهى بتحطيم الهيكل عام 70 ميلادية فكان بمثابة ضربة قاضية لليهودية. ولكل هذه الأسباب، تنصَّر كثير من اليهود. لكن هذه الجماعات كانت جماعات مسيحية يهودية أو يهودية مسيحية، بمعنى أنها كانت جمـاعات من اليهود تؤمن بالمسـيح عيـسى بن مريم، مثل الأبيونيين، كما كانت ترى أن المسـيح نبي وليـس الكريسـتوس أو الماشيَّح. وكان بعضهم يرى أنه الماشيَّح، ولكنهم رفضوا الاعتراف بألوهيته وبنوته للرب كما أنكروا مفهوم التثليث وأن الشريعة اليهودية قد تم نسخها. وقد ظلت هذه الفرق قائمة إلى أن انفصلت تماماً عن اليهودية، وخصوصاً بعد أن أدخل الحاخامات في الثمانية عشر دعاء (شمونة عسريه - وهي أهم أجزاء الصلاة اليهودية) الدعاء الثاني عشر الذي يشير إلى المينيم (الكفرة) ويلعنهم. وكان الهدف من إدخال هذا الدعاء منع المسيحيين اليهود من المشاركة في الصلاة. والواقع أنه لا يمكن تفسير نقصان عدد اليهود في العالم من سبعة ملايين في القرن الأول الميلادي إلى أقل من مليون في بداية العصور الوسطى (في الغرب) إلا بتنصر أعداد هائلة منهم.
وقد بلورت الكنيسة موقفها في مفهوم الشعب الشاهد الذي يقرر أن التنصر لابد أن يتم بكامل حرية اليهودي. ولذا، فحينما كانت تحدث مذابح تؤدي إلى تنصر بعض اليهود، فإن السلطات كانت تسمح لهم بالعودة إلى دينهم. ومع هذا، كانت هناك أعداد كبيرة من اليهود تتنصر مع بدايات العصور الوسطى لأسباب عدة: روحية (مثل الإعجاب بالمسيحية)، ومادية (مثل الرغبة في الثروة أو الحراك الاجتماعي أو الخوف من السلطة). ولا توجد إحصاءات عن عدد المتنصرين، ولكن يبدو أن أعداد المتنصرين في إسبانيا المسيحية كانت عالية للغاية، خصوصاً بين أعضاء النخبة. والواقع أن يهود إسبانيا تنصروا بكامل حريتهم، نظراً لأنهم كانوا مندمجين أصلاً في المحيط الحضاري الإسباني الكاثوليكي، ونظراً لتآكل اليهودية بين أعضاء النخبة. بل ذهب بعض الحاخامات إلى القول بأن طرد اليهود من إسبانيا هو عقاب لهم على تَرْكهم للدين وعلى ارتداد نخبتهم. وقد ظهرت العقيدة الاسترجاعية في عصر النهضة والإصلاح الديني. وهي عقيدة تذهب إلى أن الخلاص لن يتم إلا بجمع شمل اليهود في فلسطين بعودتهم إليها، ثم تنصيرهم. وأصبحت العودة والتنصير من علامات الساعة. وهذا يفسر إبهام الموقف البروتستانتي من اليهود حيث ينحو منحى صهيونياً ويتخذ موقفاً معادياً لليهود في آن واحد. وقد قام يهود المارانو بدور حاسم في عملية تنصير اليهودية،فقد أشاعوا القبَّالاه (وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية) المتأثرة بالمسيحية لدرجة أن أتباع أبي العافية تنصروا لاكتشافهم الشبه بين نسقه الفكري والمسيحية،كما أن كثيراً منهم كانوا مسيحيين صادقين في إيمانهم،وفُرضت عليهم اليهودية فرضاً بسبب غباء محاكم التفتيش وعنصريتها.ولذا،فإنهم كانوا يفكرون من خلال إطار مسيحي كاثوليكي.وحتى أولئك اليهود المتخفون الذين احتفظوا بيهوديتهم سراً،أصبح إطارهم المفاهيمي كاثوليكياً. فهم، على سبيل المثال، كانوا يؤمنون بالقديسة «سانت إستير»، بل إن بعض شعائرهم تأثرت بالشعائر المسيحية. وقد تأثر كثير من يهود اليديشية بالجو المسيحي السلافي الصوفي حولهم، وبخاصة هؤلاء الذين كانوا يعيشون بعيداً عن مراكز الدراسات التلمودية في المدن الكبرى.
وكان كثير من المرتدين عن اليهودية يتحولون إلى أعداء شرسين لدينهم ولبني جلدتهم، فكانوا يحرضون الكنيسة عليهم ويكشفون لهم مواطن التعصب في العقيدة اليهودية التي يحرص اليهود على إخفائها.
هكـذا كـان وضـع اليهـوديـة حتـى ظهـرت الحـركـات الشـبتانية، وأهمها من منظور هذا المدخل الحركة الفرانكية التي كان لها ثالـوثها الواضـح وإيمانهـا بالتجسد. وقد انتهى الأمر بأعضاء هذه الحركة إلى أن تنصروا بشكل جماعي ودخلوا الكنيسة الكاثوليكية.
ومع ظهور حركة الاستنارة والتنوير، تغيَّر الموقف في أوربا، فلم يَعُد هناك ضغط مباشر على اليهود ليتنصروا، ولكن ظهر نوع آخر من الضغط هو التسامح نحوهم. وكانت اليهودية الحاخامية قد دخلت مرحلة أزمتها وتكلست، فلم تَعُد تزود اليهودي بالإجابات عن الأسئلة الكونية التي تواجهه، كما لم يكن بوسعها أن تشفي غليله الديني. كما أن تأكيدها على الشعائر، جعل من الصعب على كثير من اليهود أن يقيموا هذه الشعائر ويحتفظوا بإنسانيتهم في آن واحد. ومن ناحية أخرى، فإن ثراء الحضارة الغربية، قياساً إلى الفقر الحضاري الشديد داخل الجيتو، جعل منها نقطة جذب قوية. وقد بدأت، داخل اليهودية في ألمانيا، حركة إصـلاح على نمـط حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، فعُدِّلت بعض الشعائر، وأُلغي بعضها الآخر. ولكن، حينما أُنجزت هذه العملية، لم يبق سوى هيكل جاف من العقائد العامة لا يختلف في كثير من أساسياته عن العقائد المسيحية الأساسية. ويمكن أن نضيف إلى كل هذا دافع الرغبة في الحراك الاجتماعي، فالتنصر (على حد قول هايني) تذكرة الدخول إلى الحضارة الغربية. ولهذا، فإن كثيراً من أعضاء النخبة والقيادات اليهودية كانوا قد اندمجوا في محيطهم الحضاري الغربي. ولكل هذا، كان من المتوقع أن يتنصر اليهود بأعداد كبيرة. وهذا ما حدث بالفعل، حيث يذكر جرايتز أن نصف يهود برلين قد تنصروا في أواخر القرن الثامن عشر. ونحن نعرف أن أعضاء أسرة موسى مندلسون تنصروا جميعاً، وتنصر كثير من أعضاء أسرة فرايدلندر (الذي اقترح تنصيراً جماعياً لليهود). وقد بدأ هرتزل أحلامه الصهيونية، في تخليص أوربا من يهودها، باقتراح تنصيرهم كما تنصر معظم أولاده. ومن أهم اليهود الذين تنصروا: هايني، ووالد كارل ماركس، ووالد بنجامين دزرائيلي. كما تنصَّر كثير من يهود روسيا، وخصوصاً هؤلاء الذين تم تجنيدهم في سن مبكرة. وكان من المتوقع أن يزيد عدد المتنصرين، لكن ظهور النظريات العرْقية أوقف هذه العملية لأن اليهودي الذي يتنصر يمكنه أن يهرب من هويته ويغيرها حسب التعريف الديني، أما النظريات العرْقية فتجعل الانتماء مسألة ميراث عرْقي، وبالتالي تصبح الهوية مسألة بيولوجية ولا يُجدي فيها التنصُّر فتيلاً.
وفيما يلي، إحصاءٌ بعدد المتنصرين في القرن التاسع عشر والبالغ 204.542 :
آسيا وأفريقيا / 600
أستراليا / 200
النمسا / المجر / 44.756
فرنسا / 2400
ألمانيا / 22.520
بريطانيا العظمى / 28.830
هولندا / 1.800
إيطاليا 300 /
أمريكا الشمالية / 13.000
السويد والنرويج / 500
رومانيا 1.500 /
روسيا / 48.536
تركيا / 3.300
ويميل كثير من الدارسين إلى القول بأن هذا العدد أقل من العدد الحقيقي بسبب صعوبة جمع الإحصاءات الدقيقة بالنسبة لموضوع مثل هذا. فالمتنصر يفضل ألا يجاهر بموقفه لاعتبارات اجتماعية عديدة. ولعل أصدق مثل على هذا ما حدث للوزير الإسرائيلي موشيه أرينز حينما مات أخوه في ولاية كونتيكت في الولايات المتحدة. فقد ذهب ليحضر جنازته، فإذا به يكتشف أنه كان تنصر. فامتنع أرينز عن حضور جنازته (هذا هو الموقف اليهودي التقليدي. وفي أحيان أخرى، كانت تُقام مراسم الدفن للمتهود فور تهوده).
وابتداءً من القرن التاسع عشر، كان كثير من اليهود المتنصرين يدخلون في الدين الجديد ولا يشغلون بالهم بالعقيدة القديمة. ولكن البعض الآخر كان يتخذ موقفاً متحيزاً، إما مع دينهم القديم أو ضده. ولكن يبدو أن النمط الأول كان هو الأغلب.
ومن نمط المتحيزين ضد الدين القديم، فلهلم مار الذي قام بسك مصطلح «معاداة السامية» الغربي، أي «معاداة اليهود». ويُقال إن كثيراً من أعـداء اليهـود، ومنهـم أيخمان وهتلر، تجـري في عروقهم دماء يهودية. لكن العداء لا يتخذ بالضرورة مثل هذا الشكل الشرس، فالروائي الروسي بوريس باسترناك رفض اليهودية بسبب فكرة الشعب اليهودي، ودعا اليهود إلى التنصر ليصبحوا أفراداً بدلاً من أن يظلوا شعباً. أما الأخ دانيال (أوزوالد روفايزين) اليهودي الذي تنصر وأصبح راهباً كاثوليكياً، فقد أصر على انتمائه للشعب اليهودي وطلب الجنسية بناء على قانون العودة (لكن طلبه رُفض). وبطـبيعة الحال، فإن المرتدين يثيرون قضـية الهـوية بكل حدة.
ومع هذا، فإن اليهود المتنصرين والمرتدين قد ينقلون معهم، وبشكل غير واع، أفكارهم اليهودية الحلولية التي تشكل بصورة محددة إطاراً معرفياً كامناً، وهذا ما حدث مع كل من إسبينوزا وكافكا وفرويد. بل حدث الشيء نفسه مع ماركس بنزعته المشيحانية (تماماً كما حدث في صدر الإسلام مع اليهود الذين أسلموا وأدخلوا الإسرائيليات).
ومع تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، لم يعد من الضروري اعتناق دين ما، وأصبح بوسع اليهودي أن يرفض يهوديته دون أن يعتنق ديناً آخر، على طريقة إسبينوزا، ومن هنا تأتي زيادة عدد اليهود الإثنيين واليهود الملحدين وتناقص عدد اليهود المتنصرين. وحالياً يتنصر اليهود، في الغالب، بسبب الزواج المختلط. كما أن بعض اليهود، ممن يكابدون عطشاً دينياً ويشعرون بأزمة المعنى، يجدون إجابة عن أسئلتهم في العقيدة المسيحية (كما حدث في حالة سكرتيرة هايدجر التي اعتنقت المسيحية وأصبحت راهبة وأحرقها النازيون بسبب إيمانها الديني). وقد طرحت الكنائس المسيحية إطاراً جديداً يُسهِّل على اليهود عملية التنصر، فأصبح بإمكان اليهودي أن يتنصر دون الإيمان بألوهية المسيح (فيمكنهم اعتباره الماشيَّح). ولعل هذا سر نجاح جماعة الموحداينة (بالإنجليزية: يونيتريان Unitarian)، وهي جماعة مسيحية ربوبية تؤمن بوجود الإله الواحد المتجاوز دون تثليث، ولا تهتم بالشعائر ولا بالوحي. وهناك جماعة تُدعَى «اليهود من أجل المسيح»، وهي من أنشط الجماعات التبشيرية المسيحية التي تحاول أن تنشر المسيحية بين اليهود بهذه الطريقة.
ويبدو أن هناك بُعْداً مسيحياً قوياً في يهودية الفلاشاه، فهم يتعبدون باللغة الجعزية (لغة الكنيسة القبطية في إثيوبيا) ولديهم رهبان، كما أن حاخاماتهم يسمَّون «قسيم» (صيغة جمع عبرية لكلمة «قسيس»)، وكذلك يضم كتابهم المقدَّس أجزاءً من العهد الجديد. ولذا، فقد نصحهم مندوب الوكالة اليهودية عام 1973 بأن يحلوا مسألتهم اليهودية عن طريق التنصر! وقد تنصرت أعداد كبيرة منهم منذ القرن التاسع عشر، ويُسمَّى المتنصرون «الفلاشاه موراه».
وقد كان التنـصر من أكثر أسـباب موت الشعب اليهودي في الماضي، وهو لا يزال عنصراً قوياً يساهم في عملية موت الشعب اليهودي في الوقت الحاضر، لكن أهميته قد تناقصت بسبب تزايد معدلات العلمنة.
(Apostasy (especially Conversion to Christianty
«الارتداد» بالعبرية «مينوت» من كلمة «مين» التي تعني «كُفْر» و«زندقة» مصطلح يطلقه أتباع أي دين على من يترك هذا الدين. ولا يتحدث العهد القديم قط عن أشخاص ارتدُّوا عن اليهودية (عبادة يسـرائيل)، وإنما يتحـدث عن سـقوط الشـعب، أو قطاعات كبيرة منه، في الوثنية (حادثة العجل الذهبي والحوادث الأخرى المشابهة في تاريخ الملوك العبرانيين). وقد كان معظم جهد الأنبياء موجهاً للحرب ضد هذا الابتعاد عن التوحيد، أي السقوط في الشرك والوثنية والارتداد عن عبادة يهوه.
ويُلاحَظ أن «الارتداد» هنا كان يحمل أحياناً معنى الخيانة القومية باعتبار أن كل إله كان مقصوراً على شعب واحد بعينه ويحل فيه. ولم يُطبَّق مصطلح «الارتداد» في اليهودية إلا ابتداءً من العصر الهيليني، فقبل ذلك الوقت لم تكن اليهودية قد تحددت معالمها تماماً، ولم يكن الكتاب المقدَّس قد تم تدوينه بأكمله. ومع هذا، يجب أن نشير إلى عدة سمات في اليهودية تجعل لفظ «مرتد» دالاً غير مستقر الدلالة عبر تاريخها الطويل يجعل استخدامه صعباً:
1 ـ اليهودية، كنسق ديني، له طابع جيولوجي تراكمي تتعايش داخله طبقات متباينة. وقد كان الصدوقيون ينكرون البعث حتى آخر العصر الهيليني، وهم القيادة الكهنوتية. وقد ظلت الأفكار اليهودية الأخروية غير مستقرة بصورة غير محدَّدة.
2 ـ لم تُحدِّد اليهودية العقائد الأساسية الملزمة لليهودي، ولم تضع أصولاً للدين. ولعل أول محاولة جادة هي محاولة موسى بن ميمون في القرن الحادي عشر، وهي محاولة تقبَّلتها اليهودية وحوَّلتها إلى طبقة جيولوجية أخرى تراكمت على ما قبلها من طبقات، دون أن تلغي ما قبلها ودون أن تمنع تكوُّن طبقات أخرى بعدها.
3- عرَّفت الشريعة اليهودية اليهودي بأنه « من وُلد لأم يهودية »، وإن ارتد اليهودي عن دينه فإنه يظل يهودياً.
لذا، ظل اصطلاح «مرتد» غير مستقر. ومع هذا، يُلاحَظ أن المصطلح بدأ يتواتر ابتداءً من العصر الهيليني. ولكنه ظل ذا بُعْد إثني، بمعنى أن المرتد ليس من ترك دينه وإنما من ترك قومه. وهذا أمر مفهوم في الإطار الحلولي، حيث يحل الإله في الشعب تماماً، ويصبح الشعب موضع القداسة ومصدر المطلقية. ولذا، فإننا نجد إشارة إلى اليهود المتأغرقين في أيام أنطيوخوس الرابع (القرن الثاني قبل الميلاد) باعتبارهم «مرتدين» حرضوا على اضطهاد السلوقيين لليهود. وفي الواقع، فإن العبارة تحمل معنى الارتداد عن الدين وتحمل في الوقت نفسه معنى الخيانة القومية (ولعل استخدام لفظ «يورديم» العبري بمعنى «المرتدين» للإشارة للإسرائيليين الذين يهاجرون من أرض الميعاد هو بعث لهذا المعنى). ومن المعروف أن التمرد الحشموني بدأ حين قام الكاهن ماثياس بذبح «المرتد». وثمة إشارة أخرى إلى مريم (من بيت بيلجا) التي ارتدت وتزوجت أحد موظفي القصر الملكي، وحينما دخل السلوقيون الهيكل دخلت معهم وخربت المذبح بيدها « لأن الإله هجر شعبه». ومن الواضح أن موقف مريم من الإله موقف عملي وثني. ومن أشهر المرتدين تايبريوس يوليوس ألكسندر أحد قادة جيش تيتوس حين قام بحصار القدس وهدم الهيكل الثاني. ومن أهم المرتدين العَالم الديني أليشاه بن أبوياه، الذي أصبح، فيما بعد (في كتابات ليلينبلوم وغيره من دعاة التنوير).
ومع ظهور كلٌّ من المسيحية والإسلام، اختلف الوضع تماماً، إذ لم تَعُد اليهودية ديانة توحيدية في محيط وثني بل أصبحت ديانة توحيدية في محيط توحيدي يرى الخالق باعتباره القوة الكامنة وراء الطبيعة والتاريخ المتجاوزة لهما.
وقد أسـلم عدد من يهـود الجزيرة العربية، مثل: عبـد الله بن سلام، وعبد الله بن سبأ، وكعب الأحبار. ويبدو أن أعداداً كبيرة من اليهود، وخصوصاً في العراق، اعتنقت الإسلام، ويُقال إن كثيراً من الإسرائيليات دخلت الإسلام من خلالهم. وقد حكم علاقة الإسلام باليهود مفهوم أهل الذمة الذي لا يُحرِّم الدعوة إلى الإسلام بينهم، وإن كان يحرم فرض الإسلام عليهم عنوة. وتجب ملاحظة أن انتقال اليهودي من اليهودية إلى الإسلام لم يكن يشكل صعوبة بالغة في الماضي، لأن العنصر التوحيدي في اليهودية كان لا يزال قوياً، ولذلك فإن الرموز الإسلامية لم تكن غريبة عليه، على عكس الرموز المسيحية (الصليب والتثليث)، وخصوصاً أن لحم الخنزير، رمز الدنس عند اليهود، مُحرَّم في الإسلام. ولا يساوي الشرع اليهودي بين اليهودي الذي يعتنق الإسلام واليهودي الذي يعتنق المسيحية، إذ يضع الأول في منزلة أعلى باعتبار أنه لم يشرك، أما المسيحية فقد وصفها بأنها شكل من أشكال الشرك. ورغم عدم وجود إحصاءات أو دراسات في الموضوع، فإننا نميل إلى القول بأن عدم تزايد عدد يهود العالم الإسلامي يعود إلى أن الكثيرين منهم اعتنقوا الإسلام. كما نعتقد أن الحركة القرّائية لعبت دوراً أساسياً في هذا الاتجاه، إذ صبغت اليهودية ببعض السمات الإسلامية إلى حدٍّ ما، وهو اتجاه تَعمَّق على المستوى الفكري في كتابات موسى بن ميمون حين طرح أصول اليهودية بشكل يجعلها لا تختلف، في كثير من أساسياتها، عن أصول الدين الإسلامي. وقد حاول ابنه من بعده (في القاهرة) أن يصبغ الشعائر اليهودية بالصبغة الإسلامية وأن يُقرِّبها من الشعائر الإسلامية. وفي تاريخ المسلمين، هناك حالات فُرض فيها الإسلام على اليهود عنوة. ولكن تيار التحول إلى الإسلام تراجَع ولا شك مع تراجُع الدولة الإسلامية نفسها ومع انتقال مركز اليهودية إلى أوربا المسيحية.
أما علاقة اليهودية بالمسيحية، فهي علاقة متوترة للغاية، وثمة عناصر مشتركة كثيرة بين الديانتين أشرنا إليها في مدخل «تنصير اليهودية». وقد ظهرت المسيحية في وقت كانت فيه أعداد كبيرة من اليهود قد تأغرقت وبعُدت عن المركز الديني في القدس بهيكلها، كما أن اليهود المتأغرقين كانوا يعرفون الترجمة السبعينية التي تبنتها الكنيسة ككتاب مقدَّس. وقد أشارت الترجمة السبعينية إلى يهوه باعتباره رب العالمين، أي أنها ترجمة ابتعدت عن الإطار الحلولي. وكان التفكير الديني اليهودي قد بدأ يتخلص من كثير من حدوده الضيقة على يد فيلون الذي كان قد طوَّر مفهوم اللوجوس (الذي تبنته المسيحية فيما بعد وأصبح جزءاً من ثالوثها).
ويبدو أن الحُمَّى المشيحانية آنذاك كانت قد تصاعدت بين اليهود في فلسطين، وهي الحُمَّى التي اندلعت على هيئة التمرد اليهودي الأول ضد روما وانتهى بتحطيم الهيكل عام 70 ميلادية فكان بمثابة ضربة قاضية لليهودية. ولكل هذه الأسباب، تنصَّر كثير من اليهود. لكن هذه الجماعات كانت جماعات مسيحية يهودية أو يهودية مسيحية، بمعنى أنها كانت جمـاعات من اليهود تؤمن بالمسـيح عيـسى بن مريم، مثل الأبيونيين، كما كانت ترى أن المسـيح نبي وليـس الكريسـتوس أو الماشيَّح. وكان بعضهم يرى أنه الماشيَّح، ولكنهم رفضوا الاعتراف بألوهيته وبنوته للرب كما أنكروا مفهوم التثليث وأن الشريعة اليهودية قد تم نسخها. وقد ظلت هذه الفرق قائمة إلى أن انفصلت تماماً عن اليهودية، وخصوصاً بعد أن أدخل الحاخامات في الثمانية عشر دعاء (شمونة عسريه - وهي أهم أجزاء الصلاة اليهودية) الدعاء الثاني عشر الذي يشير إلى المينيم (الكفرة) ويلعنهم. وكان الهدف من إدخال هذا الدعاء منع المسيحيين اليهود من المشاركة في الصلاة. والواقع أنه لا يمكن تفسير نقصان عدد اليهود في العالم من سبعة ملايين في القرن الأول الميلادي إلى أقل من مليون في بداية العصور الوسطى (في الغرب) إلا بتنصر أعداد هائلة منهم.
وقد بلورت الكنيسة موقفها في مفهوم الشعب الشاهد الذي يقرر أن التنصر لابد أن يتم بكامل حرية اليهودي. ولذا، فحينما كانت تحدث مذابح تؤدي إلى تنصر بعض اليهود، فإن السلطات كانت تسمح لهم بالعودة إلى دينهم. ومع هذا، كانت هناك أعداد كبيرة من اليهود تتنصر مع بدايات العصور الوسطى لأسباب عدة: روحية (مثل الإعجاب بالمسيحية)، ومادية (مثل الرغبة في الثروة أو الحراك الاجتماعي أو الخوف من السلطة). ولا توجد إحصاءات عن عدد المتنصرين، ولكن يبدو أن أعداد المتنصرين في إسبانيا المسيحية كانت عالية للغاية، خصوصاً بين أعضاء النخبة. والواقع أن يهود إسبانيا تنصروا بكامل حريتهم، نظراً لأنهم كانوا مندمجين أصلاً في المحيط الحضاري الإسباني الكاثوليكي، ونظراً لتآكل اليهودية بين أعضاء النخبة. بل ذهب بعض الحاخامات إلى القول بأن طرد اليهود من إسبانيا هو عقاب لهم على تَرْكهم للدين وعلى ارتداد نخبتهم. وقد ظهرت العقيدة الاسترجاعية في عصر النهضة والإصلاح الديني. وهي عقيدة تذهب إلى أن الخلاص لن يتم إلا بجمع شمل اليهود في فلسطين بعودتهم إليها، ثم تنصيرهم. وأصبحت العودة والتنصير من علامات الساعة. وهذا يفسر إبهام الموقف البروتستانتي من اليهود حيث ينحو منحى صهيونياً ويتخذ موقفاً معادياً لليهود في آن واحد. وقد قام يهود المارانو بدور حاسم في عملية تنصير اليهودية،فقد أشاعوا القبَّالاه (وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية) المتأثرة بالمسيحية لدرجة أن أتباع أبي العافية تنصروا لاكتشافهم الشبه بين نسقه الفكري والمسيحية،كما أن كثيراً منهم كانوا مسيحيين صادقين في إيمانهم،وفُرضت عليهم اليهودية فرضاً بسبب غباء محاكم التفتيش وعنصريتها.ولذا،فإنهم كانوا يفكرون من خلال إطار مسيحي كاثوليكي.وحتى أولئك اليهود المتخفون الذين احتفظوا بيهوديتهم سراً،أصبح إطارهم المفاهيمي كاثوليكياً. فهم، على سبيل المثال، كانوا يؤمنون بالقديسة «سانت إستير»، بل إن بعض شعائرهم تأثرت بالشعائر المسيحية. وقد تأثر كثير من يهود اليديشية بالجو المسيحي السلافي الصوفي حولهم، وبخاصة هؤلاء الذين كانوا يعيشون بعيداً عن مراكز الدراسات التلمودية في المدن الكبرى.
وكان كثير من المرتدين عن اليهودية يتحولون إلى أعداء شرسين لدينهم ولبني جلدتهم، فكانوا يحرضون الكنيسة عليهم ويكشفون لهم مواطن التعصب في العقيدة اليهودية التي يحرص اليهود على إخفائها.
هكـذا كـان وضـع اليهـوديـة حتـى ظهـرت الحـركـات الشـبتانية، وأهمها من منظور هذا المدخل الحركة الفرانكية التي كان لها ثالـوثها الواضـح وإيمانهـا بالتجسد. وقد انتهى الأمر بأعضاء هذه الحركة إلى أن تنصروا بشكل جماعي ودخلوا الكنيسة الكاثوليكية.
ومع ظهور حركة الاستنارة والتنوير، تغيَّر الموقف في أوربا، فلم يَعُد هناك ضغط مباشر على اليهود ليتنصروا، ولكن ظهر نوع آخر من الضغط هو التسامح نحوهم. وكانت اليهودية الحاخامية قد دخلت مرحلة أزمتها وتكلست، فلم تَعُد تزود اليهودي بالإجابات عن الأسئلة الكونية التي تواجهه، كما لم يكن بوسعها أن تشفي غليله الديني. كما أن تأكيدها على الشعائر، جعل من الصعب على كثير من اليهود أن يقيموا هذه الشعائر ويحتفظوا بإنسانيتهم في آن واحد. ومن ناحية أخرى، فإن ثراء الحضارة الغربية، قياساً إلى الفقر الحضاري الشديد داخل الجيتو، جعل منها نقطة جذب قوية. وقد بدأت، داخل اليهودية في ألمانيا، حركة إصـلاح على نمـط حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، فعُدِّلت بعض الشعائر، وأُلغي بعضها الآخر. ولكن، حينما أُنجزت هذه العملية، لم يبق سوى هيكل جاف من العقائد العامة لا يختلف في كثير من أساسياته عن العقائد المسيحية الأساسية. ويمكن أن نضيف إلى كل هذا دافع الرغبة في الحراك الاجتماعي، فالتنصر (على حد قول هايني) تذكرة الدخول إلى الحضارة الغربية. ولهذا، فإن كثيراً من أعضاء النخبة والقيادات اليهودية كانوا قد اندمجوا في محيطهم الحضاري الغربي. ولكل هذا، كان من المتوقع أن يتنصر اليهود بأعداد كبيرة. وهذا ما حدث بالفعل، حيث يذكر جرايتز أن نصف يهود برلين قد تنصروا في أواخر القرن الثامن عشر. ونحن نعرف أن أعضاء أسرة موسى مندلسون تنصروا جميعاً، وتنصر كثير من أعضاء أسرة فرايدلندر (الذي اقترح تنصيراً جماعياً لليهود). وقد بدأ هرتزل أحلامه الصهيونية، في تخليص أوربا من يهودها، باقتراح تنصيرهم كما تنصر معظم أولاده. ومن أهم اليهود الذين تنصروا: هايني، ووالد كارل ماركس، ووالد بنجامين دزرائيلي. كما تنصَّر كثير من يهود روسيا، وخصوصاً هؤلاء الذين تم تجنيدهم في سن مبكرة. وكان من المتوقع أن يزيد عدد المتنصرين، لكن ظهور النظريات العرْقية أوقف هذه العملية لأن اليهودي الذي يتنصر يمكنه أن يهرب من هويته ويغيرها حسب التعريف الديني، أما النظريات العرْقية فتجعل الانتماء مسألة ميراث عرْقي، وبالتالي تصبح الهوية مسألة بيولوجية ولا يُجدي فيها التنصُّر فتيلاً.
وفيما يلي، إحصاءٌ بعدد المتنصرين في القرن التاسع عشر والبالغ 204.542 :
آسيا وأفريقيا / 600
أستراليا / 200
النمسا / المجر / 44.756
فرنسا / 2400
ألمانيا / 22.520
بريطانيا العظمى / 28.830
هولندا / 1.800
إيطاليا 300 /
أمريكا الشمالية / 13.000
السويد والنرويج / 500
رومانيا 1.500 /
روسيا / 48.536
تركيا / 3.300
ويميل كثير من الدارسين إلى القول بأن هذا العدد أقل من العدد الحقيقي بسبب صعوبة جمع الإحصاءات الدقيقة بالنسبة لموضوع مثل هذا. فالمتنصر يفضل ألا يجاهر بموقفه لاعتبارات اجتماعية عديدة. ولعل أصدق مثل على هذا ما حدث للوزير الإسرائيلي موشيه أرينز حينما مات أخوه في ولاية كونتيكت في الولايات المتحدة. فقد ذهب ليحضر جنازته، فإذا به يكتشف أنه كان تنصر. فامتنع أرينز عن حضور جنازته (هذا هو الموقف اليهودي التقليدي. وفي أحيان أخرى، كانت تُقام مراسم الدفن للمتهود فور تهوده).
وابتداءً من القرن التاسع عشر، كان كثير من اليهود المتنصرين يدخلون في الدين الجديد ولا يشغلون بالهم بالعقيدة القديمة. ولكن البعض الآخر كان يتخذ موقفاً متحيزاً، إما مع دينهم القديم أو ضده. ولكن يبدو أن النمط الأول كان هو الأغلب.
ومن نمط المتحيزين ضد الدين القديم، فلهلم مار الذي قام بسك مصطلح «معاداة السامية» الغربي، أي «معاداة اليهود». ويُقال إن كثيراً من أعـداء اليهـود، ومنهـم أيخمان وهتلر، تجـري في عروقهم دماء يهودية. لكن العداء لا يتخذ بالضرورة مثل هذا الشكل الشرس، فالروائي الروسي بوريس باسترناك رفض اليهودية بسبب فكرة الشعب اليهودي، ودعا اليهود إلى التنصر ليصبحوا أفراداً بدلاً من أن يظلوا شعباً. أما الأخ دانيال (أوزوالد روفايزين) اليهودي الذي تنصر وأصبح راهباً كاثوليكياً، فقد أصر على انتمائه للشعب اليهودي وطلب الجنسية بناء على قانون العودة (لكن طلبه رُفض). وبطـبيعة الحال، فإن المرتدين يثيرون قضـية الهـوية بكل حدة.
ومع هذا، فإن اليهود المتنصرين والمرتدين قد ينقلون معهم، وبشكل غير واع، أفكارهم اليهودية الحلولية التي تشكل بصورة محددة إطاراً معرفياً كامناً، وهذا ما حدث مع كل من إسبينوزا وكافكا وفرويد. بل حدث الشيء نفسه مع ماركس بنزعته المشيحانية (تماماً كما حدث في صدر الإسلام مع اليهود الذين أسلموا وأدخلوا الإسرائيليات).
ومع تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، لم يعد من الضروري اعتناق دين ما، وأصبح بوسع اليهودي أن يرفض يهوديته دون أن يعتنق ديناً آخر، على طريقة إسبينوزا، ومن هنا تأتي زيادة عدد اليهود الإثنيين واليهود الملحدين وتناقص عدد اليهود المتنصرين. وحالياً يتنصر اليهود، في الغالب، بسبب الزواج المختلط. كما أن بعض اليهود، ممن يكابدون عطشاً دينياً ويشعرون بأزمة المعنى، يجدون إجابة عن أسئلتهم في العقيدة المسيحية (كما حدث في حالة سكرتيرة هايدجر التي اعتنقت المسيحية وأصبحت راهبة وأحرقها النازيون بسبب إيمانها الديني). وقد طرحت الكنائس المسيحية إطاراً جديداً يُسهِّل على اليهود عملية التنصر، فأصبح بإمكان اليهودي أن يتنصر دون الإيمان بألوهية المسيح (فيمكنهم اعتباره الماشيَّح). ولعل هذا سر نجاح جماعة الموحداينة (بالإنجليزية: يونيتريان Unitarian)، وهي جماعة مسيحية ربوبية تؤمن بوجود الإله الواحد المتجاوز دون تثليث، ولا تهتم بالشعائر ولا بالوحي. وهناك جماعة تُدعَى «اليهود من أجل المسيح»، وهي من أنشط الجماعات التبشيرية المسيحية التي تحاول أن تنشر المسيحية بين اليهود بهذه الطريقة.
ويبدو أن هناك بُعْداً مسيحياً قوياً في يهودية الفلاشاه، فهم يتعبدون باللغة الجعزية (لغة الكنيسة القبطية في إثيوبيا) ولديهم رهبان، كما أن حاخاماتهم يسمَّون «قسيم» (صيغة جمع عبرية لكلمة «قسيس»)، وكذلك يضم كتابهم المقدَّس أجزاءً من العهد الجديد. ولذا، فقد نصحهم مندوب الوكالة اليهودية عام 1973 بأن يحلوا مسألتهم اليهودية عن طريق التنصر! وقد تنصرت أعداد كبيرة منهم منذ القرن التاسع عشر، ويُسمَّى المتنصرون «الفلاشاه موراه».
وقد كان التنـصر من أكثر أسـباب موت الشعب اليهودي في الماضي، وهو لا يزال عنصراً قوياً يساهم في عملية موت الشعب اليهودي في الوقت الحاضر، لكن أهميته قد تناقصت بسبب تزايد معدلات العلمنة.
تعليق