مفهوم الحضارة
تمييزا لمفهوم الحضارة الإنسانبة عما قد يلتبس فيه من مفهوم كل من كلمة ( ثقافة ) و ( مدنية ) سنحاول استجلاء هذه المفاهيم و توضيح ما فيها من صلات
تعريف الحضارة الإنسانية :
الحضارة الإنسانية كل إنتاج أو عمل تنعكس فيه الخصائص الفكرية و الوجدانية و السلوكية للإنسان الاجتماعي الواعي في إطار من القيم العليا و المبادئ التي تسعد البشرية جمعاء فإذا كانت القيم والمبادئ المثالية قيما و مبادئ إسلامية كانت تلك الحضارة حضارة إسلامية .
و يتبين من هذا التعريف :
1- أن الحضارة مصاحبة للوجود الاجتماعي الإنساني
2- للحضارة جانبان : الأول هو مظهر الرقي المادي و الثاني هو مظهر الرقي المعنوي
مفهوم الثقافة :
المعنى الاصطلاحي للثقافة هو : كل ما يتصل بالقيم الروحية و القواعد الأخلاقية و الإنتاج الفكري النظري و الإبداع الأدبي الفني أي كل ما يتصل بالمعنويات فقط .
مفهوم المدنية :
مفهوم المدنية قاصر على ظواهر الرقي المادي الذي يشمل جوانب حياة المجتمع جميعها و على هذا فإن مفخوم الحضارة يشمل مفهومي الثقافة و المدنية أي مظاهر الرقي المادية و المعنوية في حياة المجتمع .
مفهوم الإنسانية :
الإنسانية : هي الخصائص التي يتصف الفرد أو مجموعة الأفراد أو الأمة في إطار من الوعي الاجتماعي الخير الذي يتدرج رقيا نحو درجات الكمال و تتجلى هذه الخصائص في الفرد أو في مجموعة الأفراد بنشاطاتهم و بعلاقاتهم بعضهم مع بعض و تتجلى هذه الخصائص في الأمة بعلاقاتها مع الأمم الأخرى
فاتلعاون على البر قيمة إنسانية لأن المجتمع الإنساني الخير لا يقوم إلا على روابط قائمة على التعاون و البر
و المحبة والمساواة و الحرية و الإحسان قيم إنسانية إذا اتصف بها المجتمع ارتقى إلى درجات الكمال
أما الأثر و الأنانية و الجشع و الاستغلال و الحقد و الكراهية فهي صفات غير إنسانية لأنها تهدم كيان المجتمع و تحطمه
و على هذا فإن العلم النظري و التجريبي لا يكون إنسانيا إلا إذا كان موجها لخدمة الإنسانية
و الدين لا يكون متصفا بالإنسانية إلا إذا كانت مبادؤه و قيمه فوق الغرض و الهوى و الطائفية و المذهبية
و لا يتضح مفهوم الإنسانية إلا إذا أخذنا فيه الاعتبارين التاليين :
1- اإنسانية تقاس بالكيف لا بالكم إن الإنسانية ليست مزيتها بالعدد و الكثرة بل في الكيف و النوعية
2- الإنسانية ليس من مقتضاها الذوبان في الغير : فإذا وصفنا أمة معينة بأنها إنسانية فليس يعني ذلك أنها تذوب في غيرها من الأمم فتفقد هذه الأمة بذلك وجودها و خصائصها و مقوماتها الذاتية و إنما نقصد بذلك أن علاقات أفرادها تسودها قيم إنسانية عليا و أن علاقات هذه الأمة مع غيرها من الأمم تقوم على أسس إنسانية تهدف إلى إسعادها و إسعاد البشرية كلها .
و نقصد أيضا أن هذه الأمة ليست عنصرية في نزعتها لأن الإنسانية تنافي العنصرية و هذا ما يؤكده قول الله تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعافوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) من أية الحجرات 13
أساس الحضارةالإنسانية
في الإسلام
سبق أن بينا أن الحضارة هي نظام اجتماعي أو (طريقة حياة ) تتسم بخصائص معينة تبرز في كل مجال من مجالات الحياة ومن الواضح أن لا بد لكل حضارة من أساس تشاد عليه فما الأساس الصحيح الذي تبنى عليه فما الأساس الصحيح الذي تبنى عليه الحضارة الإنسانية ؟ وقبل أن نذكر الأساس الصحيح الذي تبنى عليه الحضارة الإنسانية في الإسلام لابد من الإشارة إلى أهم الأراء في هذا الموضوع
الرأي الأول ( النظرية الاقتصادية أو المادية ) :
يفسر بعضهم نشأة الحضارة بالعوامل الاقتصادية أو المادية فالموقع الجغرافي الذي يسهل سبل الاتصال التجاري أو الثروات المعدنية الكامنة في الأرض هي في نظرهم نشأة الحضارة واستمرارها ونموها وكل بيئة لا يتوافر فيها شئ من هذه العوامل المادية لا تقوم فيها
حضارة ويعترض على هذا الرأي أن دولا كثيرة ذات حضارة عريقة قد دالت وزالت دون أن يكون السبب الاقتصادي هو العامل
في وجودها أو سقوطها وزوالها وأيضا هناك دول ذات نظم حضارية إنسانية قد قامت دون أن يكون العامل المادي أو الاقتصادي كافيا لقيام مثل هذه الحضارة منها الدولة الإسلامية التي هضمت كل ما جاورها من حضارات قديمة ثم أخرجت حضارة إنسانية ذات طابع متميز نشرها العرب في بقاع الأرض على الرغم من جدب بيئتهم
الرأي الثاني : ( نظرية الجنس أو العنصر ) :
ويرى بعضهم أن أساس الحضارة كامن فيها تتميز به أمة معينة من خصائص ذاتية عنصرية كما تقول النظرية النازية : إن العنصر الآري متفوق على جميع أجناس البشر وهو المؤهل لتشييد الحضارة على الأرض
والنقد الموجه لهذا الرأي أن الحضارة الإنسانية ليست حكرا لقوم بعينهم وذلك لان البشر متساوون في أصل الفطرة والطاقات وإنما الاختلاف في توجيه هذه الطاقات وفي الأهداف التي تصرف في سبيلها والواقع التاريخي يثبت أن الحضارة لم تستقر في أمة معينة من الأمم على طول التاريخ وإنما كانت تنتقل من أمة إلى أخرى الأمر الذي يؤكد أن سببا أخر ما ادعوه لقيام الحضارة واستمرارها وازدهارها وعلى فرض صحة النظرية العنصرية فإن الدماء قد اختلطت فلم يبقى مبرر للإدعاء بصفاء عنصر ما في العالم ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أصحاب النظرية أرادوا أن يتخذوا منها وسيلة لتطبيق منهج استعماري يرمي إلى السيطرة على الشرق واستغلاله عن طريق الإدعاء بأن الشرق له سماته وخصائصه التي تتسم بالذلة والخنوع وأن الغرب له له سماته وخصائصه التي تتسم بالذلة والخنوع وأن الغرب له سماته وخصائصه في الجد والذكاء وإذ لابد أن يكون مسيطرا غلابا وقالوا قولتهم المعروفة : ( الشرق شرق والغرب غرب والواقع أنه لا شرق ولا غرب وإنما هناك إنسان في الشرق والغرب على حد سواء
أساس الحضارة الإنسانية من وجهة نظر الإسلام : إن الأساس الذي تقوم عليه الحضارة هو الإنسان نفسه بما يحمل من مبادئ والقيم الإنسانية العليا وجدت الحضارة الإنسانية في أسمى مظاهرها ولذا فقد توجه الإسلام أولا إلى العناية بترسيخ المبادئ القومية والمثل العليا في النفس الإنسانية لتكون المنطلق الصالح لتشييد حضارة إنسانية صحيحة وسليمة فأساس الحضارة الإنسانية في الإسلام وروحي معنوي تنبثق عنه الفضائل الإنسانية كلها ويقوم عليها تقويم الفكر وتهذيب النفس وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا )
وبقوله تعالى : ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله شديد قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
نستخلص مما سبق الأمور التالية :
1- 1- الحضارة الإنسانية تستمد وجودها وبقاءها وأسباب نموها وتقدمها – في نظر الإسلام – من القيم الإنسانية النابعة من العقيدة الإسلامية الصالحة تلك العقيدة التي تحر الإنسان من عبوديته لغير الله ومن نزعته الفردية وتحفظ عليه خصائصه الإنسانية وتمنعه من الانحراف في ممارستها
2- 2- إن الحضارة الإنسانية لا تقاس بالتقدم العلمي أو الصناعي أو الآلي إلا بمقدار ما يكون ذلك تعبير عن نيات إنسانية صالحة وبمقدار ما يستخدم في سبيل أهداف إنسانية وذلك لان التقدم الصناعي أو الآلي لا يكون تعبيرا عن أهداف إنسانية نبيلة فقد يتخذ مثلا وسيلة لأهداف غير إنسانية كالظلم والبغي واستغلال الشعوب واستعمارها واستعبادها
3- 3- لا يلزم من وجود الرقي المادي في بيئة معينة وجود حضارة إنسانية إذ قد يعيش فرد في بيئة راقية ماديا ولكنه هو نفسه غير متحضر إنسانيا والمثال على ذلك التفرقة العنصرية التي ترفع لواءها اليوم دولة من أعظم دول العالم في الحضارة المادية فضلا عن أن هذا الرقي المادي قد استخدم في إشعال نار الحروب وفي استعمار الشعوب أو سلخها عن أوطانها أو إفنائها ليحل محلها شعب آخر ظلما وعدوانا غير أن هذا الرقي المادي لا بد أن يصيبه ما أصاب حضارات عظيمة لم تتسم بالطابع الإنساني سادت زمنا معينا ثم أخذت على حين غرة قال تعالى ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتنا أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون )
مقومات الحضارة الإنسانية
في الإسلام
إن الواقع التاريخي يثبت أن المسلمين أقاموا حضارة إنسانية تناولت مختلف جوانب الحياة المادية و المعنوية فكانت مركز إشعاع على العالم كله و مثالا يحتذى بالإنسانية جمعاء . فما المقومات التي ارتكزت عليها هذه الحضارة ؟
أولا العقيدة
العقيدة التي جاء الإسلام بها هي : الإيمان بالله وملائكته و كتبه ورسله و اليوم الآخر و القضاء و القدر خيره وشره من الله تعالى
الإيمان بالله تعالى
الإيمان بالملائكة و الرسل
الإيمان باليوم الآخر
الإيمان بالقضاء و القدر
الإيمان بالله تعالى
حقيقة الإيمان بالله تعالى :
دعا الإسلام إلى الإيمان بإله واحد لا شريك له قديم أبدي خالق السموات والأرض و هو على كل شيئ قدير
طريق الوصول إلى الإيمان بالله :
لقد طلب الإسلام إلى الإنسان أن يكون إيمانه بالله تعالى عن طريق التفكير و النظر و الاقتناع لا عن طريق التبعية و التقليد الأعمى و لا عن طريق الوراثة
فطلب إليه : أن يفكر بنفسه و ما منح من استعدادات و قوى قال تعالى ( و في أنفسكم أفلا تبصرون )
وطلب إليه ثانيا : أن يفكر في الكون من حوله و يتحسس ما فيه من تنظيم وإبداع قال تعالى ( إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر لما ينفع الناس و ما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء و الأرض لآيات لقوم يعقلون )
و طلب إليه ثالثا : أن يستنتج من كل هذا الإبداع أنه لا بد لهذا الكون من مبدع و المبدع يجب أن يكون واحدا قديرا بصيرا عليما و هذا هو الله سبحانه وتعالى إذ يستحيل أن يكون هذا الإبداع وليد المصادفة فهذا الكون و النظام و ما فيه من إبداع هو الطبيعة و محالا أن توجد الطبيعة نفسها و في جعل الإسلام التفكير و التأمل طريقا للوصول إلى الإيمان تقديرا للعقل الذي كرم الله تعالى به الإنسان على جميع المخلوقات و توجيه الإنسان ألا يؤمن بشيء إلا إذا قام البرهان على صحته قال تعالى ( و من يدعو مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون )
أثر الإيمان بالله في بناء الحضارة الإنسانية :
الإيمان بالله وحده يولد في نفس الإنسان الشعور بالمساواة : إذ إن في إفراد الله بالألوهية إشعارا لبني الإنسان أنهم متساوون أمام الله وحده و في الشعور بالمساواة دعوى لبني الإنسان إلى إقامة حياة مشتركة تسودها القيم الإنسانية من غير تفريق أو تمييز فالخلق كلهم عيال الله و احبهم إلى الله أنفعهم لعياله
و نم ثمرات الإيمان بالله وحده : الشعور بالحرية المنبثقة عن المساواة في الإيمان بالله يحرر العقلية الإنسانية من الوثنية و الطبقية و الاستعلاء و السيطرة فالإيمان بالله الواحد يبني الإنسان الحر الذي يقدر قيمة الحرية في نفسه أولا فلا يرضى أن يستعبده أحد أو يستزيله أحد و يقدر قيمتها في الآخرين فلا يمد يده إليهم بشيء من الظلم والاستعباد و لا شك أن الحرية هي الجو الصالح لتنمية المواهب و الاستعدادات التي هي منشأ التقدم و الرقي في جميع الميادين
و من ثمرات الإيمان بالله الواحد : أن يربط الإنسان بالكمال المطلق الذي هو الله سبحانه الذي تستوحى منه كل المعاني السامية و الفضائل و المثل العليا فالمؤمن يحب العدل و يكره الظلم أن الله عادل وليس بظالم و لا يحب الظلم و المؤمن رحيم يكره الغلظ و القسوة و لا يرضى أن يكون جاهلا لأنه يعلم أن الله اتصف بالعلم ودعا إليه و لا ريب أن إنسانا هذه صفاته لا بد أن يكون قوة دفع إيجابية في بناء الحضارة الإنسانية
ومن ثورات الإيمان بالله تعالى الشعور بالمراقبة و المسؤولية : هذا الشعور الذي يكون الشخصية التي تحاسب نفسها قبل أن تحاسب فتقبل على عمل كل ما هو خير لها و لغيرها و تبتعد عن ما هو شر لها و لغيرها و هذا هو أساس الحضارة الإنسانية
الإيمان بالملائكة و الرسل
إن الإيمان بهذه الأمور يعني الإيمان بعناصر الرسالة و التشريع فالملائكة هم الذين يبلغونها إلى الرسل بكتب من الله تعالى
وقد طلب الله تعالى إلينا الإيمان بها لحكمة بليغة هي : إن الله القادر الحكيم لم يترك عباده يتخبطون في اختيار المنهج الموصل للحياة الخيرة الفاضلة إذ كثير ما يقع واضعو المنهج و التشريع تحت تأثير الهوى و الشهوات و الضغوط فينحرفون عن الطريق القويم و لكنه سبحانه رسم لعباده الطريق الواضح لهذه الحياة و ما عليهم إلا أن يسلكوها في ضوء المنهج الإلهي المتجاوب مع العقل السليم و التفكير الصحيح فقد بين الله الخير و الحق و الحلال و الحرام فلا مجال لإضاعة الوقت لتعرف ذلك بل يجب أن تنصرف قوى الإنسان و طاقاته للتنفيذ و التطبيق و في هذا دفع للإنسانية إلى إنفاق الجهد في الميدان العملي المثمر و صوم عن إضاعته في ما لا يستقل العقل بمعرفته أو في ما يمكن أن يتوصل له و لكن بعد جهد طويل
الإيمان باليوم الآخر
حقيقته : اليوم الآخر هو اليوم الذي يبعث الله فيه الناس بعد أن يموتوا جميعا ليحاسبهم الله على أعمالهم التي صدرت منهم في الحياة الدنيا
فيكافئ المؤمنين المحسنين بالجنة و يعاقب الكافرين و المسيئين بالنار قال تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره )
ضرورته : إن الإيمان باليوم الآخر ضرورة يقتضيها التفكير السليم ذلك أن الإنسان يرى في هذه الحياة أناسا يقضون حياتهم في ظلم الناس والاعتداء عليهم ثم يموتون . و لا ينالون جزاء ما قاموا به من عمل و إلى جانب ذلك يرى أناسا آخرين يقدمون أقصى ما في وسعهم لخير المجتمع و سعادته ثم يموتون >ون أن ينالوا جزاء ما قاموا به من عمل
فيتساءل هذا الإنسان أليس من اللازم أن تكون ثمرة كل حسنة حسنة و ثمرة كل سيئة سيئة ؟ أليس من اللازم أن تظهر نتيجة كل سعي طيب بصورة طيبة و نتيجة كل سعي خبيث بصورة خبيثة ؟ و متى يحصل هؤلاء على نتيجة أعمالهم ؟
لا بد أن يكون هناك يوم تتحقق فيه العدالة و يعطى كل ذي حق حقه و الإسلام الذي بني على الإيمان بالله وعدالته قرر أن هذا اليوم آت لا ريب فيه قال تعالى ( و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين )
أثر الإيمان باليوم الآخر في بناء الحضارة الإنسانية :
الإيمان باليوم الآخر يغرس في نفس الإنسان الطمئنينة و ذلك بأنه يؤمن بأن جهده لن يضيع سدى و أن عمله لن يذهب هباءا و يقضي على اليأس و القنوط و يحيي في نفسه الأمل و يدفعه إلى العمل الصالح ما دام يعتقد أنه لن يحرم من ثمرات عمله عاجلا أو آجلا
يدفع الإنسان إلى التضحية بالنفس و المال في سبيل الله لإقامة الحق و العدل ما دام يعتقد أن كل ذلك مدخرا له عند ربه قال تعالى ( و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون )
الإيمان بالقضاء و القدر
وهذا الركن من الإيمان يضفي على النفس الإنسانية الرضا و يبعث فيها روحا جديدة لاستئناف العمل الصالح و مواصلته من غير توان و لا تقصير و هو واثق أن ما قدر عليه بالغه لا محالة و ينجم عن هذا العمل البناء الحضارة الإنسانية
ثانيا العبادة
حقيقة العبادة : العبادة هي نهاية الخضوع لله تعالى وحده عن رضى و طواعية و لها في العرف معنيان عام و خاص
فالعبادة بالمعنى العام : تشمل كل عمل صالح يقوم به الإنسان مبتغيا به وجه الله فالتجارة و الزراعة و الصناعة و طلب العلم …. و غير ذلك عبادة ما دام المتعبد يقصد بعمله وجه الله تعالى
و العبادة بالمعنى الخاص : تقتصر على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج .
و العبادة سواء كانت بالمعنى العام أو الخاص هي التعبير الصحيح عن العقيدة و هي الأسلوب العملي لتوثيق صلة الإنسان بربه و صلته بغيره من الفرد أو المجتمع على نحو إنساني مثمر و لذلك كان للعبادة أثر كبير في بناء الحضاة الإنسانية .
أثر العبادة في بناء الحضاة الإنسانية :
بالمعنى العام :
1- إن العبادة تحمل صاحبها على الاستمرار في مراقبة الله تعالى و استشعار عظمته في كل تصرف أو معاملة و هذا من شأنه أن يقوي الإرادة الذاتية لدى الفرد المؤمن فلا يكون أسيرا لشهواته و لا عبدا طماعا بل يندفع إلى إتقان العمل و تحسينه ليفوز بمرضاة ربه قال صلى الله عليه و سلم ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه )
2- العبادة تنشء الإنسان المستقيم المتوازن فكريا و وجدانيا و سلوكيا ذلك الإنسان الذي يبني توازنه في حياته على التقويم الصحيح لكل من المثل و الماديات فيعمل لدنياه و آخرته و يجعل دنياه سبيلا إلى آخرته و يلبي حاجاته الجسدية كما يشبع متطلباته الروحية و يحرص على أن يكون سلوكه قويما مستقيما و من خلال تحقيق هذا التوازن تتكون الحضارة الإنسانية
بالمعنى الخاص :
1- ففي الصلاة : استئصال للجزع الذي يتعرض له الإنسان و قضاء على الأثرة التي تميت في الإنسان الشعور الاجتماعي الكريم و في الصلاة إبعاد عن الفحشاء و المنكر اللذين تتوقف على النظافة منهما سلامة المجتمع و قوته قال تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر )
2- و الزكاة : فريضة مالية تعاونية اجتماعية تصرف في حصيلتها للفقراء و المساكين الذين لم تساعدهم ظروفهم على العيش في مستوى مناسب
3- و الصيام : مشاركة للفقير في شعوره بالحرمان أو الحاجة و إيقاظ لبواعث مساعدته و العطف عليه و تقوية للفضائل النفسية كالتقوى و الصبر و احتمال المشاق
4- و في الحج : دروس عملية في التضحية و نكران الذات في سبيل الاستجابة لدعوة الله و فيه إحياء لذكرى تضحية إبراهيم عليه السلام بولده إسماعيل عليهما السلام .
و مما سبق نجد أن العبادة بمفهوميها العام و الخاص هي من أقوى العوامل في بناء الحضارة الإنسانية
ثالثا التشريع الإسلامي
للتشريع الإسلامي سمات وخصائص كثيرة يتميز بها عن غيره من التشريعات و سنورد فيمايلي أهم هذه السمات مما له صلة ظاهرة بالحضارة الإنسانية في الإسلام
مرونة المعايير التشريعية :
نعني بالمعايير مصادر التشريع : و هي القرآن الكريم و السنة و الإجماع و القياس و الاستحسان و الاستصلاح و الاستصحاب و سد الذرائع و العرف
نعني بمرونتها : أنها قادرة على الوفاء بكل مقتضيات التطور الحضاري الصحيح
1- فالقرآن الكريم : اشتمل على جميع أصول التشريع بما اشتمل عليه من قواعد عامة تكفلت بقية المصادر بتفصيلها
2- و السنة النبوية : جاءت بيانا للقرآن وتفسيرا له
3- و الإجماع : و هو اتفاق علماء المسلمين في عصر من العصور على حكم شرعي لمسألة مستجدة
4- و القياس : وهو إلحاق أمر بأمر أخر في حكمة لاشتراكهما في علة الحكم
وهما مصدران شرعيان مستمدان من القرآن و السنة و لقد كانا من أهم المصادر التشريعية التي اعتمد عليها المجتهدون من الفقهاء في استنباط الأحكام للحوادث الجديدة من أجل مواكبة التطور الحضاري
فاكتسب التشريع بذلك مرونة عجيبة في الاستجابة لكل ما يستجد من ظروف الحياة العملية و في الأصول التشريعية التبعية الآخرى التي استمدت من الشريعة نفسها ما أغنى الشريعة الإسلامية بثروة هائلة من الفقه من حيث الدقة و العمق و الإحاطة بكل الأمور .
و مما لا شك فيه أن الفقه و التشريع يمثلان جانبا أساسيا من جوانب الحضارة الإنسانية
الواقعية و المثالية في التشريع الإسلامي :
خلق الله الإنسان وركز فيه عدة غرائز كلها ضرورية لبقائه و حفظ نوعه فالواقعية في التشريع الإسلامي تتجلى في الاستجابة لما تتطلبه هذه الغرائز فلم يهمل أية حاجة من حاجات الإنسان الضرورية
و أما المثالية في التشريع الإسلامي فتتجلى في نوعية الاستجابة و طريقة ممارسة هذه القوى المودعة و ربطها بمثل أعلى تحقق للفرد و المجتمع الكرامة الإنسانية و إنك لتجد في كلا من الواقعية و المثالية معا في التشريعات التالية :
1- أعتراف التشريع بكل من حق الفرد و المجتمع فتتجلى الواقعية في الاعتراف بهما و عدم إهدار أي منهما .
لأن الواقع يقول : إن هناك أفرادا لكل منهم مصلحة ذاتية مستقلة و إن هناك مجتمعا له مصلحة عامة مستقلة عن المصالح الفردية و إنكار أي منهما تجاهل لمكونات الواقع و إنكار له .
و تتجلى المثالية في أن الإسلام قد قدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند التعارض و عدم إمكانية التوفيق بين المصلحتين إلا أنه يعاد على الفرد بالتعويض العادل عن الضرر الذي لحق به فلو أنك تملك دارا و احتاج المجتمع إلى هذه الدار لتكون طريقا عاما للناس قدمت مصلحة المجتمع على مصلحتك و أخذت منك الدار و لكن يدفع لك ثمن الدار المناسب
2- الزواج : تبدو واقعية التشريع الإسلامي في تقريره للزواج استجابة لحاجة أساسية من حاجات الإنسان التي تضمن بقاء نوعه و تبدو مثالية التشريع في الارتفاع بعقد الزواج إلى المستوى الإنساني اللائق الذي يحقق كرامة الإنسان و عزته و شرفه و ذلك عن طريق تشريعات و أحكام قيد الزواج بها ليلتزم كل من الزوجين قبل الزواج و في أثنائه و بعد حل عقد الزواج
3- الأمر بالعدل و الإحسان : تبدو الواقعية في تقرير مبدأ العدل و العدل أن يتقاضى كل ذي حق حقه كاملا
وتبدو المثالية في تقرير مبدأ الإحسان و الإحسان أن يتنازل صاحب الحق عن حقه كلا أو بعضا
ففي المعاملات المالية : أن يتقاضى صاحب الدين دينه عدل ( واقعية ) و أن يتنازل عن دينه إحسان ( مثالية ) قال تعالى ( و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و إن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون )
و في الجنايات : جعل الله عقوبة القتل العمد القصاص بقتل القاتل هذا عدل ( واقعية ) إلا أنه ندب أولياء القتيل إلى التخفيف من حدة المماثلة و التنازل عن القصاص إلى العفو المطلق أو إلى مقابل بدل مالي و هو ( الدية ) بمحض إرادتهم و اختيارهم و هذا إحسان (مثالية ) قال تعالى ( و جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا و اصلح فأجره على الله )
4- مبدأ الحرية : تبدو واقعية الإسلام في تقريرها لأن ذلك استجابة لما فطر عليه الإنسان من حبه للحرية و تعشقه لها
وتبدو مثالية الإسلام في أنه قيد مبدأ الحرية بقيود تضمن حقوق اامجتمع و سعادته و تمنع التعسف في ممارسة هذا المبدأ بما يسبب ضرر الآخرين
الوسطية والاعتدال في التشريع الإسلامي :
فالإسلام ليس بذي طابع روحي محض و لا مادي بحت و بذلك وجد فيه الروحي المسرف في روحيته ما ينقصه من مقتضيات عنصره المادي ووجد فيه المادي المتفاني في ماديته ما يعاني من نقص في مقتضيات روحه فدخل كل من الروحي و المادي في الإسلام لأن كلا منهما وجد ما يفتقر إليه فطريا فأنتج لنا الإسلام ذلك الإنسان المتوازن القوي و بيان ذلك :
1- إن للإنسان جسدا يتطلب القوة و الصحة والطعام و الشراب …. فشرع الإسلام للجسد ما يحقق له تلك المطالب قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات مارزقناكم ) و حرم على الإنسان ما يضر جسده كالخمر و المخدرات و الانتحار
2- و إن للإنسان عقل يلتمس المعرفة من أبعد حدودها فحث الإسلام على طلب العلم النافع بجميع وجوهه و أنواعه قال تعالى ( هل يستوي الذين يعلمون و الذي لا يعلمون )
3- و للإنسان روح لا يروي ظمآها إلا المثل العليا التي ترتفع فوق ما هو مادي محسوس و الإيمان الذي جاء به الإسلام تتطلع إليه الروح و تتغذى به فهو الإيمان باكمال المطلق لله تعالى الذي ليس في وسع التفكير الإنساني وحده أن يقدمه للإنسان بل يبقى مقتصرا إلى هداية الله على الرغم مما أودع فيه من عقل
و لا ريب أن الاقتصار في الإيمان على المشاهد و المادي فحسب و إنكار ما ورائهما طفولة بشرية لأنه لا يفتقر إلى تأمل عميق و إدراك واع أما تصور الكمال المطلق فيعوزه تركيز عقلي لا يملك القدرة عليه إلا من جاوز مرحلة الطفولة البشرية إلى الرشد الإنساني ذلك الرشد الذي لا يتم إلا بالتفكير الموجه بهداية الله
و بذلك ترى الإسلام أنتج الإنسان السوي المتوازن الذي يعيش لدنياه و آخرته و يوفر السعادة له و لغيره قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا )
و لك يتحقق التوازن في الإنسان حارب الإسلام المادية الصرفة التي تنكر الروح و متطلباتها كما حارب الروحية السلبية التي تدعو إلى الانزواء و الزهد في الحياة و متعها و تنتهي بالناس إلى الخور والاستسلام قال تعالى ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق )
و لعل هذا المبدأ هو السر في بقاء الحضارة الإنسانية في الإسلام و خلودها على الرغم من التيارات الفكرية التي كانت تتحداها على مر العصور
رابعا الأخلاق
هي صفات في النفس البشرية تدفع الإنسان إلى فعل ما يحمد و ترك ما يذم
منزلة الأخلاق في الإسلام :
لقد مدح الإسلام الخلاق للاعتبارات التالية :
1- جعل الإسلام الأخلاق حجر الزاوية في بناء الحضارة الإنسانية
2- جعل الإسلام الأخلاق من أهداف الدعوة الإسلامية الرئيسة قال صلى الله عليه وسلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )
3- أصبحت الأخلاق الثمرة الصحيحة للعبادة في الإسلام فإذا لم تؤدي العبادات الثمرة المرجوة منها فقدت الحكمة من تشريعها و كثيرا من ثوابها لذلك حظي التوجيه الخلقي كثيرا من نصوص الشريعة في القرآن و السنة
الأخلاق في الإسلام تطبيقية عملية :
لم تكن الأخلاق في حياة المسلمين مجرد عبارات أو إشارات نظرية و إنما كانت شعورا وجدانيا عميقا يعيشه المسلمين و ينعكس سلوكا عمليا في حياتهم قولا و فعلا و ذلك لأن الدليل الواضح على إيمان المسلم هو أخلاقه يقول صلى الله عليه وسلم ( أكمل المؤمنون إيمانا أحسنهم خلقا ) قدوتهم في ذلك رسول صلى الله عليه وسلم الذي مدحه الله تعالى بقوله ( و إنك لعلى خلق عظيم )
تطبيق الأخلاق في مجالات الحياة :
شمل التوجيه الخلقي مجالات انتظم فيها الفرد و الجماعة و الإنسانية و إليك بيان ذلك
1- معاملة الفرد مع نفسه : فالإسلام ربى الفرد على أنه هو و ما فيه من قوى و مواهب و استعدادات و حواس ملك لله تعالى و الإنسان موكل عليها و مسؤول عما يفعل بها و يقدم من نشاط وعمل و هو مسؤول عن تربيتها و توجيهها في ما يرضي الله عز وجل قال تعالى ( إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) و قال عز وجل ( و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها ) و لا شك أن البدء بالإصلاح من الفرد هو منطقي و طبيعي في كل إصلاح
2- في مجال الأسرة : الأسرة هي الخلية الحية الأولى في المجتمع بصلاحها يصلح و بفسادها يفسد و لذا فقد تناولها الإسلام بالتوجيه الخلقي الكريم فحدد واجبات كل من أعضاء الأسرة و نظم علاقاتهم مع بعضهم بعض
3- في مجال المجتمع : اعتبر الإسلام أن الأفراد في المجتمع الإسلامي أخوة قال تعالى ( إنما المؤمنون أخوة ) بل ارتقى بهم فاعتبرهم كجسد واحد قال صلى الله عليه وسلم ( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم و تراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى ) ولتحقيق هذه الأخوة جعل الإسلام العلاقات و الروابط بين أفراد المجتمع تقوم على أساس من الدوافع الأخلاقية و البواعث الإنسانية ولم يترك سبيلا يوائم بين أفراد المجتمع و يؤلف بين قلوبهم إلا سلكه و حض على اتزانه و التمسك به
حض على أن يعامل الإنسان أخاه كما يجب أن يعامله الناس به قال صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )
نهى عن أن يتعرض بعض المسلمين لإهانة الآخرين أو إيذائهم قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم و لا نساءا من نساء عسى أن يكن خيرا منهن و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا )
أمر بمساعدة الجانب المهيض من المجتمع كالفقراء و المساكين و العجزة والأيتام للنهوض بهم إلى مستوى لائق من العيش
ووجه الإنسان إلى أن يحسن القول للناس قال تعالى ( و قولوا للناس حسنا )
و أرشد إلى ضرورة الاستئذان قبل الدخول إلى البيوت لئلا يسبب حرجا لأهلها قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها )
4- في مجال معاملة الحيوان : لم تقتصر الأخلاق الإسلامية على الإنسان بل تناولت أيضا الحيوان فدعت إلى الرفق به و العطف عليه قال صلى الله عليه وسلم ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها و لا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )
5- في مجال الإنسانية : شملت الأخلاق الإسلامية الإنسانية بأسرها بصرف النظر عن الجنس و اللون و الانتماء فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعامل كل من يلقاه بالخلق الحسن و يسمع كلامه و يحترم رأيه و يرشده إلى ما فيه الخير في الدنيا و الآخرة
أثر الأخلاق في بناء الحضارة الإنسانية :
نستخلص مما تقدم أن الأخلاق الإسلامية التي تستند إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر إذا رسخت في النفس فإنها تنطلق منها إرادة التغيير سوية هادفة لتحرير النفس من الهوى و الجشع و الحسد و الغرور و لتكون طاقاتها حوافز دافعة إلى العمل و ضوابط مانعة من الانحراف في جميع الميادين فيظهر الإخلاص في العمل و الثقة و محاربة التواكل و التهاون كما ينبغي أن تتجسد تلك القيم الأخلاقية لتكون سلوكا حيا إيجابيا في المجتمع تحقق الخير له وللإنسانية جمعاء
خامسا العلم
مدلول العلم في الإسلام :
لما كانت مقاصد الإسلام الأساسية هي : إسعاد البشرية في الدنيا و الآخرة فإن تعاليم الإسلام لم تفصل بين علوم الدين و علوم الدنيا بل كانت دعوتها إلى العلم عامة ومطلقة فشملت صور العلم النظرية و التجريبية جميعها إلى حد سواء و يظهر ذلك في إطلاق لفظ العلم و العلماء و في كل مكان وردى فيه من ذلك :
إطلاق لفظ العلم في قوله تعالى ( و قل ربي زدني علما ) وقوله تعالى ( هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون )
إطلاق لفظ العلماء على الجماعة الذين يفكرون بهذا الكون و ما أوضع الله فيه من قوانين ونظم قال تعالى ( إنما يخشى الله تعالى من عباده العلماء )
موقف الإسلام من العلم :
لقد فرض الله تعالى على المسلمين طلب العلم ليتعرفوا قدرة خالقهم و ليتمكنوا من الإسهام في عمارة الكون وبناء حضارته قال صلى الله عليه وسلم ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) فكلمة مسلم تشمل المسلم و المسلمة و لتقدير الإسلام للعلم بكل أشكاله أشار إلى أن العلم ليس له وطن و أن الحقائق العلمية و الحكمة يجب أن تؤخذ حيثما وجدت دون الالتفات إلى ملة أصحابها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها )
أدلة طلب العلم التجريبي :
مما لا شك فيه أن العلم التجريبي يدخل بشكل أساسي في مفهوم العلم لذلك لا بد أن يتناوله الوجوب و هناك أدلة كثيرة على وجود طلب العلم التجريبي نورد أهمها فيمايلي
1- الإيمان الصحيح يستلزم العلم التجريبي : إن تعرف أسرار الكون وقوانينه وسيلة للوصول إلى الإيمان بالله تعالى وقدرته و كل ما تم اكتشاف علمي جديد كان دليلا جديدا على قدرة الله تعالى وكلما ازداد شعور الإنسان لقدرة ربه أزداد إيمانا به و لذا كان العلماء أشد الناس خشية لله قال تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء )
2- تكريم الله للإنسان يستلزم العلم التجريبي : لقد كرم الله الإنسان بأن وهبه عقلا مفكرا و جعله خليفة له في الأرض قال تعالى ( إني جاعل في الأرض خليفة ) و سخر له ما في السموات و الأرض قال تعالى ( و سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) و جعله سيد هذا العالم و لو أمعن النظر في وجوه التكريم هذه ( العقل – الاستخلاف – التسخير و السيادة ) لوجدنا أنها لا تتحقق إلا عن طريقة معرفة أسرار الكون و سننه الثابتة المطردة التي تسير بمقتضاها فلا يتوصل إلى ذلك إلا بالعلم التجريبي
3- 3- القوة تستلزم العلم التجريبي : إن العلم قوة و نحن مأمورون بإعدادها لأن القوة من الصفات التي يجب على المؤمن تحصيلها قال تعالى ( و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) هذا و إن العلم التجريبي قد تجلت فيه القوة في العصر الحديث أكثر من أي وقت مضى
حكم تعلم العلم في الإسلام :
يتبين لنا من الأدلة المذكورة أن تحصيل العلم النظري والتجريبي مما له علاقة بالطب والزراعة والتجارة والصناعة والفضاء واجب شرعا ولذا أجمع العلماء المسلمين على أن كل علم تقتضيه حياة المجتمع هو فرض كفاية يجب تحصيله وإذا لم يقم فريق من الناس بتحصيله أثم المجتمع كله ولقد أصبح اليوم من الواجب على الدولة إعداد المتخصصين في كل حقل من حقول العلم أما العلوم الشرعية الأساسية فهي فرض عين على كل مسلم ومسلمة بالمقدار الذي يحتاج إليه لكن التخصص فيها والتعمق هو فرض كفاية كغيرها من أنواع العلوم
العلم التجريبي والحضارة الإنسانية :
يتبين مما سبق أن الدين والعلم متلازمان لأنهما أساس سعادة الإنسان في دنياه وآخرته غير أن العلم التجريبي إذا أنتج لنا ما يكون عدوانا على الإنسانية ومصدر خطر على قيمها العليا فإن الإسلام يعارضه حينئذ بل يحرمه لأنه يغدو بذلك وسيلة ( شقوة ) للإنسانية لا وسيلة إلى سعادتها وازدهارها وهو أمر مناف لمقاصد الإسلام الأساسية
تلك هي أهم مقومات الحضارة الإنسانية في الإسلام التي يجب أن نضعها موضع الاعتبار ونحن نبني حضارتنا الإنسانية الرشيدة لنستعيد عزتنا الأولى
تمييزا لمفهوم الحضارة الإنسانبة عما قد يلتبس فيه من مفهوم كل من كلمة ( ثقافة ) و ( مدنية ) سنحاول استجلاء هذه المفاهيم و توضيح ما فيها من صلات
تعريف الحضارة الإنسانية :
الحضارة الإنسانية كل إنتاج أو عمل تنعكس فيه الخصائص الفكرية و الوجدانية و السلوكية للإنسان الاجتماعي الواعي في إطار من القيم العليا و المبادئ التي تسعد البشرية جمعاء فإذا كانت القيم والمبادئ المثالية قيما و مبادئ إسلامية كانت تلك الحضارة حضارة إسلامية .
و يتبين من هذا التعريف :
1- أن الحضارة مصاحبة للوجود الاجتماعي الإنساني
2- للحضارة جانبان : الأول هو مظهر الرقي المادي و الثاني هو مظهر الرقي المعنوي
مفهوم الثقافة :
المعنى الاصطلاحي للثقافة هو : كل ما يتصل بالقيم الروحية و القواعد الأخلاقية و الإنتاج الفكري النظري و الإبداع الأدبي الفني أي كل ما يتصل بالمعنويات فقط .
مفهوم المدنية :
مفهوم المدنية قاصر على ظواهر الرقي المادي الذي يشمل جوانب حياة المجتمع جميعها و على هذا فإن مفخوم الحضارة يشمل مفهومي الثقافة و المدنية أي مظاهر الرقي المادية و المعنوية في حياة المجتمع .
مفهوم الإنسانية :
الإنسانية : هي الخصائص التي يتصف الفرد أو مجموعة الأفراد أو الأمة في إطار من الوعي الاجتماعي الخير الذي يتدرج رقيا نحو درجات الكمال و تتجلى هذه الخصائص في الفرد أو في مجموعة الأفراد بنشاطاتهم و بعلاقاتهم بعضهم مع بعض و تتجلى هذه الخصائص في الأمة بعلاقاتها مع الأمم الأخرى
فاتلعاون على البر قيمة إنسانية لأن المجتمع الإنساني الخير لا يقوم إلا على روابط قائمة على التعاون و البر
و المحبة والمساواة و الحرية و الإحسان قيم إنسانية إذا اتصف بها المجتمع ارتقى إلى درجات الكمال
أما الأثر و الأنانية و الجشع و الاستغلال و الحقد و الكراهية فهي صفات غير إنسانية لأنها تهدم كيان المجتمع و تحطمه
و على هذا فإن العلم النظري و التجريبي لا يكون إنسانيا إلا إذا كان موجها لخدمة الإنسانية
و الدين لا يكون متصفا بالإنسانية إلا إذا كانت مبادؤه و قيمه فوق الغرض و الهوى و الطائفية و المذهبية
و لا يتضح مفهوم الإنسانية إلا إذا أخذنا فيه الاعتبارين التاليين :
1- اإنسانية تقاس بالكيف لا بالكم إن الإنسانية ليست مزيتها بالعدد و الكثرة بل في الكيف و النوعية
2- الإنسانية ليس من مقتضاها الذوبان في الغير : فإذا وصفنا أمة معينة بأنها إنسانية فليس يعني ذلك أنها تذوب في غيرها من الأمم فتفقد هذه الأمة بذلك وجودها و خصائصها و مقوماتها الذاتية و إنما نقصد بذلك أن علاقات أفرادها تسودها قيم إنسانية عليا و أن علاقات هذه الأمة مع غيرها من الأمم تقوم على أسس إنسانية تهدف إلى إسعادها و إسعاد البشرية كلها .
و نقصد أيضا أن هذه الأمة ليست عنصرية في نزعتها لأن الإنسانية تنافي العنصرية و هذا ما يؤكده قول الله تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعافوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) من أية الحجرات 13
أساس الحضارةالإنسانية
في الإسلام
سبق أن بينا أن الحضارة هي نظام اجتماعي أو (طريقة حياة ) تتسم بخصائص معينة تبرز في كل مجال من مجالات الحياة ومن الواضح أن لا بد لكل حضارة من أساس تشاد عليه فما الأساس الصحيح الذي تبنى عليه فما الأساس الصحيح الذي تبنى عليه الحضارة الإنسانية ؟ وقبل أن نذكر الأساس الصحيح الذي تبنى عليه الحضارة الإنسانية في الإسلام لابد من الإشارة إلى أهم الأراء في هذا الموضوع
الرأي الأول ( النظرية الاقتصادية أو المادية ) :
يفسر بعضهم نشأة الحضارة بالعوامل الاقتصادية أو المادية فالموقع الجغرافي الذي يسهل سبل الاتصال التجاري أو الثروات المعدنية الكامنة في الأرض هي في نظرهم نشأة الحضارة واستمرارها ونموها وكل بيئة لا يتوافر فيها شئ من هذه العوامل المادية لا تقوم فيها
حضارة ويعترض على هذا الرأي أن دولا كثيرة ذات حضارة عريقة قد دالت وزالت دون أن يكون السبب الاقتصادي هو العامل
في وجودها أو سقوطها وزوالها وأيضا هناك دول ذات نظم حضارية إنسانية قد قامت دون أن يكون العامل المادي أو الاقتصادي كافيا لقيام مثل هذه الحضارة منها الدولة الإسلامية التي هضمت كل ما جاورها من حضارات قديمة ثم أخرجت حضارة إنسانية ذات طابع متميز نشرها العرب في بقاع الأرض على الرغم من جدب بيئتهم
الرأي الثاني : ( نظرية الجنس أو العنصر ) :
ويرى بعضهم أن أساس الحضارة كامن فيها تتميز به أمة معينة من خصائص ذاتية عنصرية كما تقول النظرية النازية : إن العنصر الآري متفوق على جميع أجناس البشر وهو المؤهل لتشييد الحضارة على الأرض
والنقد الموجه لهذا الرأي أن الحضارة الإنسانية ليست حكرا لقوم بعينهم وذلك لان البشر متساوون في أصل الفطرة والطاقات وإنما الاختلاف في توجيه هذه الطاقات وفي الأهداف التي تصرف في سبيلها والواقع التاريخي يثبت أن الحضارة لم تستقر في أمة معينة من الأمم على طول التاريخ وإنما كانت تنتقل من أمة إلى أخرى الأمر الذي يؤكد أن سببا أخر ما ادعوه لقيام الحضارة واستمرارها وازدهارها وعلى فرض صحة النظرية العنصرية فإن الدماء قد اختلطت فلم يبقى مبرر للإدعاء بصفاء عنصر ما في العالم ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أصحاب النظرية أرادوا أن يتخذوا منها وسيلة لتطبيق منهج استعماري يرمي إلى السيطرة على الشرق واستغلاله عن طريق الإدعاء بأن الشرق له سماته وخصائصه التي تتسم بالذلة والخنوع وأن الغرب له له سماته وخصائصه التي تتسم بالذلة والخنوع وأن الغرب له سماته وخصائصه في الجد والذكاء وإذ لابد أن يكون مسيطرا غلابا وقالوا قولتهم المعروفة : ( الشرق شرق والغرب غرب والواقع أنه لا شرق ولا غرب وإنما هناك إنسان في الشرق والغرب على حد سواء
أساس الحضارة الإنسانية من وجهة نظر الإسلام : إن الأساس الذي تقوم عليه الحضارة هو الإنسان نفسه بما يحمل من مبادئ والقيم الإنسانية العليا وجدت الحضارة الإنسانية في أسمى مظاهرها ولذا فقد توجه الإسلام أولا إلى العناية بترسيخ المبادئ القومية والمثل العليا في النفس الإنسانية لتكون المنطلق الصالح لتشييد حضارة إنسانية صحيحة وسليمة فأساس الحضارة الإنسانية في الإسلام وروحي معنوي تنبثق عنه الفضائل الإنسانية كلها ويقوم عليها تقويم الفكر وتهذيب النفس وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا )
وبقوله تعالى : ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله شديد قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
نستخلص مما سبق الأمور التالية :
1- 1- الحضارة الإنسانية تستمد وجودها وبقاءها وأسباب نموها وتقدمها – في نظر الإسلام – من القيم الإنسانية النابعة من العقيدة الإسلامية الصالحة تلك العقيدة التي تحر الإنسان من عبوديته لغير الله ومن نزعته الفردية وتحفظ عليه خصائصه الإنسانية وتمنعه من الانحراف في ممارستها
2- 2- إن الحضارة الإنسانية لا تقاس بالتقدم العلمي أو الصناعي أو الآلي إلا بمقدار ما يكون ذلك تعبير عن نيات إنسانية صالحة وبمقدار ما يستخدم في سبيل أهداف إنسانية وذلك لان التقدم الصناعي أو الآلي لا يكون تعبيرا عن أهداف إنسانية نبيلة فقد يتخذ مثلا وسيلة لأهداف غير إنسانية كالظلم والبغي واستغلال الشعوب واستعمارها واستعبادها
3- 3- لا يلزم من وجود الرقي المادي في بيئة معينة وجود حضارة إنسانية إذ قد يعيش فرد في بيئة راقية ماديا ولكنه هو نفسه غير متحضر إنسانيا والمثال على ذلك التفرقة العنصرية التي ترفع لواءها اليوم دولة من أعظم دول العالم في الحضارة المادية فضلا عن أن هذا الرقي المادي قد استخدم في إشعال نار الحروب وفي استعمار الشعوب أو سلخها عن أوطانها أو إفنائها ليحل محلها شعب آخر ظلما وعدوانا غير أن هذا الرقي المادي لا بد أن يصيبه ما أصاب حضارات عظيمة لم تتسم بالطابع الإنساني سادت زمنا معينا ثم أخذت على حين غرة قال تعالى ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتنا أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون )
مقومات الحضارة الإنسانية
في الإسلام
إن الواقع التاريخي يثبت أن المسلمين أقاموا حضارة إنسانية تناولت مختلف جوانب الحياة المادية و المعنوية فكانت مركز إشعاع على العالم كله و مثالا يحتذى بالإنسانية جمعاء . فما المقومات التي ارتكزت عليها هذه الحضارة ؟
أولا العقيدة
العقيدة التي جاء الإسلام بها هي : الإيمان بالله وملائكته و كتبه ورسله و اليوم الآخر و القضاء و القدر خيره وشره من الله تعالى
الإيمان بالله تعالى
الإيمان بالملائكة و الرسل
الإيمان باليوم الآخر
الإيمان بالقضاء و القدر
الإيمان بالله تعالى
حقيقة الإيمان بالله تعالى :
دعا الإسلام إلى الإيمان بإله واحد لا شريك له قديم أبدي خالق السموات والأرض و هو على كل شيئ قدير
طريق الوصول إلى الإيمان بالله :
لقد طلب الإسلام إلى الإنسان أن يكون إيمانه بالله تعالى عن طريق التفكير و النظر و الاقتناع لا عن طريق التبعية و التقليد الأعمى و لا عن طريق الوراثة
فطلب إليه : أن يفكر بنفسه و ما منح من استعدادات و قوى قال تعالى ( و في أنفسكم أفلا تبصرون )
وطلب إليه ثانيا : أن يفكر في الكون من حوله و يتحسس ما فيه من تنظيم وإبداع قال تعالى ( إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر لما ينفع الناس و ما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء و الأرض لآيات لقوم يعقلون )
و طلب إليه ثالثا : أن يستنتج من كل هذا الإبداع أنه لا بد لهذا الكون من مبدع و المبدع يجب أن يكون واحدا قديرا بصيرا عليما و هذا هو الله سبحانه وتعالى إذ يستحيل أن يكون هذا الإبداع وليد المصادفة فهذا الكون و النظام و ما فيه من إبداع هو الطبيعة و محالا أن توجد الطبيعة نفسها و في جعل الإسلام التفكير و التأمل طريقا للوصول إلى الإيمان تقديرا للعقل الذي كرم الله تعالى به الإنسان على جميع المخلوقات و توجيه الإنسان ألا يؤمن بشيء إلا إذا قام البرهان على صحته قال تعالى ( و من يدعو مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون )
أثر الإيمان بالله في بناء الحضارة الإنسانية :
الإيمان بالله وحده يولد في نفس الإنسان الشعور بالمساواة : إذ إن في إفراد الله بالألوهية إشعارا لبني الإنسان أنهم متساوون أمام الله وحده و في الشعور بالمساواة دعوى لبني الإنسان إلى إقامة حياة مشتركة تسودها القيم الإنسانية من غير تفريق أو تمييز فالخلق كلهم عيال الله و احبهم إلى الله أنفعهم لعياله
و نم ثمرات الإيمان بالله وحده : الشعور بالحرية المنبثقة عن المساواة في الإيمان بالله يحرر العقلية الإنسانية من الوثنية و الطبقية و الاستعلاء و السيطرة فالإيمان بالله الواحد يبني الإنسان الحر الذي يقدر قيمة الحرية في نفسه أولا فلا يرضى أن يستعبده أحد أو يستزيله أحد و يقدر قيمتها في الآخرين فلا يمد يده إليهم بشيء من الظلم والاستعباد و لا شك أن الحرية هي الجو الصالح لتنمية المواهب و الاستعدادات التي هي منشأ التقدم و الرقي في جميع الميادين
و من ثمرات الإيمان بالله الواحد : أن يربط الإنسان بالكمال المطلق الذي هو الله سبحانه الذي تستوحى منه كل المعاني السامية و الفضائل و المثل العليا فالمؤمن يحب العدل و يكره الظلم أن الله عادل وليس بظالم و لا يحب الظلم و المؤمن رحيم يكره الغلظ و القسوة و لا يرضى أن يكون جاهلا لأنه يعلم أن الله اتصف بالعلم ودعا إليه و لا ريب أن إنسانا هذه صفاته لا بد أن يكون قوة دفع إيجابية في بناء الحضارة الإنسانية
ومن ثورات الإيمان بالله تعالى الشعور بالمراقبة و المسؤولية : هذا الشعور الذي يكون الشخصية التي تحاسب نفسها قبل أن تحاسب فتقبل على عمل كل ما هو خير لها و لغيرها و تبتعد عن ما هو شر لها و لغيرها و هذا هو أساس الحضارة الإنسانية
الإيمان بالملائكة و الرسل
إن الإيمان بهذه الأمور يعني الإيمان بعناصر الرسالة و التشريع فالملائكة هم الذين يبلغونها إلى الرسل بكتب من الله تعالى
وقد طلب الله تعالى إلينا الإيمان بها لحكمة بليغة هي : إن الله القادر الحكيم لم يترك عباده يتخبطون في اختيار المنهج الموصل للحياة الخيرة الفاضلة إذ كثير ما يقع واضعو المنهج و التشريع تحت تأثير الهوى و الشهوات و الضغوط فينحرفون عن الطريق القويم و لكنه سبحانه رسم لعباده الطريق الواضح لهذه الحياة و ما عليهم إلا أن يسلكوها في ضوء المنهج الإلهي المتجاوب مع العقل السليم و التفكير الصحيح فقد بين الله الخير و الحق و الحلال و الحرام فلا مجال لإضاعة الوقت لتعرف ذلك بل يجب أن تنصرف قوى الإنسان و طاقاته للتنفيذ و التطبيق و في هذا دفع للإنسانية إلى إنفاق الجهد في الميدان العملي المثمر و صوم عن إضاعته في ما لا يستقل العقل بمعرفته أو في ما يمكن أن يتوصل له و لكن بعد جهد طويل
الإيمان باليوم الآخر
حقيقته : اليوم الآخر هو اليوم الذي يبعث الله فيه الناس بعد أن يموتوا جميعا ليحاسبهم الله على أعمالهم التي صدرت منهم في الحياة الدنيا
فيكافئ المؤمنين المحسنين بالجنة و يعاقب الكافرين و المسيئين بالنار قال تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره )
ضرورته : إن الإيمان باليوم الآخر ضرورة يقتضيها التفكير السليم ذلك أن الإنسان يرى في هذه الحياة أناسا يقضون حياتهم في ظلم الناس والاعتداء عليهم ثم يموتون . و لا ينالون جزاء ما قاموا به من عمل و إلى جانب ذلك يرى أناسا آخرين يقدمون أقصى ما في وسعهم لخير المجتمع و سعادته ثم يموتون >ون أن ينالوا جزاء ما قاموا به من عمل
فيتساءل هذا الإنسان أليس من اللازم أن تكون ثمرة كل حسنة حسنة و ثمرة كل سيئة سيئة ؟ أليس من اللازم أن تظهر نتيجة كل سعي طيب بصورة طيبة و نتيجة كل سعي خبيث بصورة خبيثة ؟ و متى يحصل هؤلاء على نتيجة أعمالهم ؟
لا بد أن يكون هناك يوم تتحقق فيه العدالة و يعطى كل ذي حق حقه و الإسلام الذي بني على الإيمان بالله وعدالته قرر أن هذا اليوم آت لا ريب فيه قال تعالى ( و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين )
أثر الإيمان باليوم الآخر في بناء الحضارة الإنسانية :
الإيمان باليوم الآخر يغرس في نفس الإنسان الطمئنينة و ذلك بأنه يؤمن بأن جهده لن يضيع سدى و أن عمله لن يذهب هباءا و يقضي على اليأس و القنوط و يحيي في نفسه الأمل و يدفعه إلى العمل الصالح ما دام يعتقد أنه لن يحرم من ثمرات عمله عاجلا أو آجلا
يدفع الإنسان إلى التضحية بالنفس و المال في سبيل الله لإقامة الحق و العدل ما دام يعتقد أن كل ذلك مدخرا له عند ربه قال تعالى ( و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون )
الإيمان بالقضاء و القدر
وهذا الركن من الإيمان يضفي على النفس الإنسانية الرضا و يبعث فيها روحا جديدة لاستئناف العمل الصالح و مواصلته من غير توان و لا تقصير و هو واثق أن ما قدر عليه بالغه لا محالة و ينجم عن هذا العمل البناء الحضارة الإنسانية
ثانيا العبادة
حقيقة العبادة : العبادة هي نهاية الخضوع لله تعالى وحده عن رضى و طواعية و لها في العرف معنيان عام و خاص
فالعبادة بالمعنى العام : تشمل كل عمل صالح يقوم به الإنسان مبتغيا به وجه الله فالتجارة و الزراعة و الصناعة و طلب العلم …. و غير ذلك عبادة ما دام المتعبد يقصد بعمله وجه الله تعالى
و العبادة بالمعنى الخاص : تقتصر على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج .
و العبادة سواء كانت بالمعنى العام أو الخاص هي التعبير الصحيح عن العقيدة و هي الأسلوب العملي لتوثيق صلة الإنسان بربه و صلته بغيره من الفرد أو المجتمع على نحو إنساني مثمر و لذلك كان للعبادة أثر كبير في بناء الحضاة الإنسانية .
أثر العبادة في بناء الحضاة الإنسانية :
بالمعنى العام :
1- إن العبادة تحمل صاحبها على الاستمرار في مراقبة الله تعالى و استشعار عظمته في كل تصرف أو معاملة و هذا من شأنه أن يقوي الإرادة الذاتية لدى الفرد المؤمن فلا يكون أسيرا لشهواته و لا عبدا طماعا بل يندفع إلى إتقان العمل و تحسينه ليفوز بمرضاة ربه قال صلى الله عليه و سلم ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه )
2- العبادة تنشء الإنسان المستقيم المتوازن فكريا و وجدانيا و سلوكيا ذلك الإنسان الذي يبني توازنه في حياته على التقويم الصحيح لكل من المثل و الماديات فيعمل لدنياه و آخرته و يجعل دنياه سبيلا إلى آخرته و يلبي حاجاته الجسدية كما يشبع متطلباته الروحية و يحرص على أن يكون سلوكه قويما مستقيما و من خلال تحقيق هذا التوازن تتكون الحضارة الإنسانية
بالمعنى الخاص :
1- ففي الصلاة : استئصال للجزع الذي يتعرض له الإنسان و قضاء على الأثرة التي تميت في الإنسان الشعور الاجتماعي الكريم و في الصلاة إبعاد عن الفحشاء و المنكر اللذين تتوقف على النظافة منهما سلامة المجتمع و قوته قال تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر )
2- و الزكاة : فريضة مالية تعاونية اجتماعية تصرف في حصيلتها للفقراء و المساكين الذين لم تساعدهم ظروفهم على العيش في مستوى مناسب
3- و الصيام : مشاركة للفقير في شعوره بالحرمان أو الحاجة و إيقاظ لبواعث مساعدته و العطف عليه و تقوية للفضائل النفسية كالتقوى و الصبر و احتمال المشاق
4- و في الحج : دروس عملية في التضحية و نكران الذات في سبيل الاستجابة لدعوة الله و فيه إحياء لذكرى تضحية إبراهيم عليه السلام بولده إسماعيل عليهما السلام .
و مما سبق نجد أن العبادة بمفهوميها العام و الخاص هي من أقوى العوامل في بناء الحضارة الإنسانية
ثالثا التشريع الإسلامي
للتشريع الإسلامي سمات وخصائص كثيرة يتميز بها عن غيره من التشريعات و سنورد فيمايلي أهم هذه السمات مما له صلة ظاهرة بالحضارة الإنسانية في الإسلام
مرونة المعايير التشريعية :
نعني بالمعايير مصادر التشريع : و هي القرآن الكريم و السنة و الإجماع و القياس و الاستحسان و الاستصلاح و الاستصحاب و سد الذرائع و العرف
نعني بمرونتها : أنها قادرة على الوفاء بكل مقتضيات التطور الحضاري الصحيح
1- فالقرآن الكريم : اشتمل على جميع أصول التشريع بما اشتمل عليه من قواعد عامة تكفلت بقية المصادر بتفصيلها
2- و السنة النبوية : جاءت بيانا للقرآن وتفسيرا له
3- و الإجماع : و هو اتفاق علماء المسلمين في عصر من العصور على حكم شرعي لمسألة مستجدة
4- و القياس : وهو إلحاق أمر بأمر أخر في حكمة لاشتراكهما في علة الحكم
وهما مصدران شرعيان مستمدان من القرآن و السنة و لقد كانا من أهم المصادر التشريعية التي اعتمد عليها المجتهدون من الفقهاء في استنباط الأحكام للحوادث الجديدة من أجل مواكبة التطور الحضاري
فاكتسب التشريع بذلك مرونة عجيبة في الاستجابة لكل ما يستجد من ظروف الحياة العملية و في الأصول التشريعية التبعية الآخرى التي استمدت من الشريعة نفسها ما أغنى الشريعة الإسلامية بثروة هائلة من الفقه من حيث الدقة و العمق و الإحاطة بكل الأمور .
و مما لا شك فيه أن الفقه و التشريع يمثلان جانبا أساسيا من جوانب الحضارة الإنسانية
الواقعية و المثالية في التشريع الإسلامي :
خلق الله الإنسان وركز فيه عدة غرائز كلها ضرورية لبقائه و حفظ نوعه فالواقعية في التشريع الإسلامي تتجلى في الاستجابة لما تتطلبه هذه الغرائز فلم يهمل أية حاجة من حاجات الإنسان الضرورية
و أما المثالية في التشريع الإسلامي فتتجلى في نوعية الاستجابة و طريقة ممارسة هذه القوى المودعة و ربطها بمثل أعلى تحقق للفرد و المجتمع الكرامة الإنسانية و إنك لتجد في كلا من الواقعية و المثالية معا في التشريعات التالية :
1- أعتراف التشريع بكل من حق الفرد و المجتمع فتتجلى الواقعية في الاعتراف بهما و عدم إهدار أي منهما .
لأن الواقع يقول : إن هناك أفرادا لكل منهم مصلحة ذاتية مستقلة و إن هناك مجتمعا له مصلحة عامة مستقلة عن المصالح الفردية و إنكار أي منهما تجاهل لمكونات الواقع و إنكار له .
و تتجلى المثالية في أن الإسلام قد قدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند التعارض و عدم إمكانية التوفيق بين المصلحتين إلا أنه يعاد على الفرد بالتعويض العادل عن الضرر الذي لحق به فلو أنك تملك دارا و احتاج المجتمع إلى هذه الدار لتكون طريقا عاما للناس قدمت مصلحة المجتمع على مصلحتك و أخذت منك الدار و لكن يدفع لك ثمن الدار المناسب
2- الزواج : تبدو واقعية التشريع الإسلامي في تقريره للزواج استجابة لحاجة أساسية من حاجات الإنسان التي تضمن بقاء نوعه و تبدو مثالية التشريع في الارتفاع بعقد الزواج إلى المستوى الإنساني اللائق الذي يحقق كرامة الإنسان و عزته و شرفه و ذلك عن طريق تشريعات و أحكام قيد الزواج بها ليلتزم كل من الزوجين قبل الزواج و في أثنائه و بعد حل عقد الزواج
3- الأمر بالعدل و الإحسان : تبدو الواقعية في تقرير مبدأ العدل و العدل أن يتقاضى كل ذي حق حقه كاملا
وتبدو المثالية في تقرير مبدأ الإحسان و الإحسان أن يتنازل صاحب الحق عن حقه كلا أو بعضا
ففي المعاملات المالية : أن يتقاضى صاحب الدين دينه عدل ( واقعية ) و أن يتنازل عن دينه إحسان ( مثالية ) قال تعالى ( و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و إن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون )
و في الجنايات : جعل الله عقوبة القتل العمد القصاص بقتل القاتل هذا عدل ( واقعية ) إلا أنه ندب أولياء القتيل إلى التخفيف من حدة المماثلة و التنازل عن القصاص إلى العفو المطلق أو إلى مقابل بدل مالي و هو ( الدية ) بمحض إرادتهم و اختيارهم و هذا إحسان (مثالية ) قال تعالى ( و جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا و اصلح فأجره على الله )
4- مبدأ الحرية : تبدو واقعية الإسلام في تقريرها لأن ذلك استجابة لما فطر عليه الإنسان من حبه للحرية و تعشقه لها
وتبدو مثالية الإسلام في أنه قيد مبدأ الحرية بقيود تضمن حقوق اامجتمع و سعادته و تمنع التعسف في ممارسة هذا المبدأ بما يسبب ضرر الآخرين
الوسطية والاعتدال في التشريع الإسلامي :
فالإسلام ليس بذي طابع روحي محض و لا مادي بحت و بذلك وجد فيه الروحي المسرف في روحيته ما ينقصه من مقتضيات عنصره المادي ووجد فيه المادي المتفاني في ماديته ما يعاني من نقص في مقتضيات روحه فدخل كل من الروحي و المادي في الإسلام لأن كلا منهما وجد ما يفتقر إليه فطريا فأنتج لنا الإسلام ذلك الإنسان المتوازن القوي و بيان ذلك :
1- إن للإنسان جسدا يتطلب القوة و الصحة والطعام و الشراب …. فشرع الإسلام للجسد ما يحقق له تلك المطالب قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات مارزقناكم ) و حرم على الإنسان ما يضر جسده كالخمر و المخدرات و الانتحار
2- و إن للإنسان عقل يلتمس المعرفة من أبعد حدودها فحث الإسلام على طلب العلم النافع بجميع وجوهه و أنواعه قال تعالى ( هل يستوي الذين يعلمون و الذي لا يعلمون )
3- و للإنسان روح لا يروي ظمآها إلا المثل العليا التي ترتفع فوق ما هو مادي محسوس و الإيمان الذي جاء به الإسلام تتطلع إليه الروح و تتغذى به فهو الإيمان باكمال المطلق لله تعالى الذي ليس في وسع التفكير الإنساني وحده أن يقدمه للإنسان بل يبقى مقتصرا إلى هداية الله على الرغم مما أودع فيه من عقل
و لا ريب أن الاقتصار في الإيمان على المشاهد و المادي فحسب و إنكار ما ورائهما طفولة بشرية لأنه لا يفتقر إلى تأمل عميق و إدراك واع أما تصور الكمال المطلق فيعوزه تركيز عقلي لا يملك القدرة عليه إلا من جاوز مرحلة الطفولة البشرية إلى الرشد الإنساني ذلك الرشد الذي لا يتم إلا بالتفكير الموجه بهداية الله
و بذلك ترى الإسلام أنتج الإنسان السوي المتوازن الذي يعيش لدنياه و آخرته و يوفر السعادة له و لغيره قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا )
و لك يتحقق التوازن في الإنسان حارب الإسلام المادية الصرفة التي تنكر الروح و متطلباتها كما حارب الروحية السلبية التي تدعو إلى الانزواء و الزهد في الحياة و متعها و تنتهي بالناس إلى الخور والاستسلام قال تعالى ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق )
و لعل هذا المبدأ هو السر في بقاء الحضارة الإنسانية في الإسلام و خلودها على الرغم من التيارات الفكرية التي كانت تتحداها على مر العصور
رابعا الأخلاق
هي صفات في النفس البشرية تدفع الإنسان إلى فعل ما يحمد و ترك ما يذم
منزلة الأخلاق في الإسلام :
لقد مدح الإسلام الخلاق للاعتبارات التالية :
1- جعل الإسلام الأخلاق حجر الزاوية في بناء الحضارة الإنسانية
2- جعل الإسلام الأخلاق من أهداف الدعوة الإسلامية الرئيسة قال صلى الله عليه وسلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )
3- أصبحت الأخلاق الثمرة الصحيحة للعبادة في الإسلام فإذا لم تؤدي العبادات الثمرة المرجوة منها فقدت الحكمة من تشريعها و كثيرا من ثوابها لذلك حظي التوجيه الخلقي كثيرا من نصوص الشريعة في القرآن و السنة
الأخلاق في الإسلام تطبيقية عملية :
لم تكن الأخلاق في حياة المسلمين مجرد عبارات أو إشارات نظرية و إنما كانت شعورا وجدانيا عميقا يعيشه المسلمين و ينعكس سلوكا عمليا في حياتهم قولا و فعلا و ذلك لأن الدليل الواضح على إيمان المسلم هو أخلاقه يقول صلى الله عليه وسلم ( أكمل المؤمنون إيمانا أحسنهم خلقا ) قدوتهم في ذلك رسول صلى الله عليه وسلم الذي مدحه الله تعالى بقوله ( و إنك لعلى خلق عظيم )
تطبيق الأخلاق في مجالات الحياة :
شمل التوجيه الخلقي مجالات انتظم فيها الفرد و الجماعة و الإنسانية و إليك بيان ذلك
1- معاملة الفرد مع نفسه : فالإسلام ربى الفرد على أنه هو و ما فيه من قوى و مواهب و استعدادات و حواس ملك لله تعالى و الإنسان موكل عليها و مسؤول عما يفعل بها و يقدم من نشاط وعمل و هو مسؤول عن تربيتها و توجيهها في ما يرضي الله عز وجل قال تعالى ( إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) و قال عز وجل ( و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها ) و لا شك أن البدء بالإصلاح من الفرد هو منطقي و طبيعي في كل إصلاح
2- في مجال الأسرة : الأسرة هي الخلية الحية الأولى في المجتمع بصلاحها يصلح و بفسادها يفسد و لذا فقد تناولها الإسلام بالتوجيه الخلقي الكريم فحدد واجبات كل من أعضاء الأسرة و نظم علاقاتهم مع بعضهم بعض
3- في مجال المجتمع : اعتبر الإسلام أن الأفراد في المجتمع الإسلامي أخوة قال تعالى ( إنما المؤمنون أخوة ) بل ارتقى بهم فاعتبرهم كجسد واحد قال صلى الله عليه وسلم ( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم و تراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى ) ولتحقيق هذه الأخوة جعل الإسلام العلاقات و الروابط بين أفراد المجتمع تقوم على أساس من الدوافع الأخلاقية و البواعث الإنسانية ولم يترك سبيلا يوائم بين أفراد المجتمع و يؤلف بين قلوبهم إلا سلكه و حض على اتزانه و التمسك به
حض على أن يعامل الإنسان أخاه كما يجب أن يعامله الناس به قال صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )
نهى عن أن يتعرض بعض المسلمين لإهانة الآخرين أو إيذائهم قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم و لا نساءا من نساء عسى أن يكن خيرا منهن و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا )
أمر بمساعدة الجانب المهيض من المجتمع كالفقراء و المساكين و العجزة والأيتام للنهوض بهم إلى مستوى لائق من العيش
ووجه الإنسان إلى أن يحسن القول للناس قال تعالى ( و قولوا للناس حسنا )
و أرشد إلى ضرورة الاستئذان قبل الدخول إلى البيوت لئلا يسبب حرجا لأهلها قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها )
4- في مجال معاملة الحيوان : لم تقتصر الأخلاق الإسلامية على الإنسان بل تناولت أيضا الحيوان فدعت إلى الرفق به و العطف عليه قال صلى الله عليه وسلم ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها و لا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )
5- في مجال الإنسانية : شملت الأخلاق الإسلامية الإنسانية بأسرها بصرف النظر عن الجنس و اللون و الانتماء فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعامل كل من يلقاه بالخلق الحسن و يسمع كلامه و يحترم رأيه و يرشده إلى ما فيه الخير في الدنيا و الآخرة
أثر الأخلاق في بناء الحضارة الإنسانية :
نستخلص مما تقدم أن الأخلاق الإسلامية التي تستند إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر إذا رسخت في النفس فإنها تنطلق منها إرادة التغيير سوية هادفة لتحرير النفس من الهوى و الجشع و الحسد و الغرور و لتكون طاقاتها حوافز دافعة إلى العمل و ضوابط مانعة من الانحراف في جميع الميادين فيظهر الإخلاص في العمل و الثقة و محاربة التواكل و التهاون كما ينبغي أن تتجسد تلك القيم الأخلاقية لتكون سلوكا حيا إيجابيا في المجتمع تحقق الخير له وللإنسانية جمعاء
خامسا العلم
مدلول العلم في الإسلام :
لما كانت مقاصد الإسلام الأساسية هي : إسعاد البشرية في الدنيا و الآخرة فإن تعاليم الإسلام لم تفصل بين علوم الدين و علوم الدنيا بل كانت دعوتها إلى العلم عامة ومطلقة فشملت صور العلم النظرية و التجريبية جميعها إلى حد سواء و يظهر ذلك في إطلاق لفظ العلم و العلماء و في كل مكان وردى فيه من ذلك :
إطلاق لفظ العلم في قوله تعالى ( و قل ربي زدني علما ) وقوله تعالى ( هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون )
إطلاق لفظ العلماء على الجماعة الذين يفكرون بهذا الكون و ما أوضع الله فيه من قوانين ونظم قال تعالى ( إنما يخشى الله تعالى من عباده العلماء )
موقف الإسلام من العلم :
لقد فرض الله تعالى على المسلمين طلب العلم ليتعرفوا قدرة خالقهم و ليتمكنوا من الإسهام في عمارة الكون وبناء حضارته قال صلى الله عليه وسلم ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) فكلمة مسلم تشمل المسلم و المسلمة و لتقدير الإسلام للعلم بكل أشكاله أشار إلى أن العلم ليس له وطن و أن الحقائق العلمية و الحكمة يجب أن تؤخذ حيثما وجدت دون الالتفات إلى ملة أصحابها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها )
أدلة طلب العلم التجريبي :
مما لا شك فيه أن العلم التجريبي يدخل بشكل أساسي في مفهوم العلم لذلك لا بد أن يتناوله الوجوب و هناك أدلة كثيرة على وجود طلب العلم التجريبي نورد أهمها فيمايلي
1- الإيمان الصحيح يستلزم العلم التجريبي : إن تعرف أسرار الكون وقوانينه وسيلة للوصول إلى الإيمان بالله تعالى وقدرته و كل ما تم اكتشاف علمي جديد كان دليلا جديدا على قدرة الله تعالى وكلما ازداد شعور الإنسان لقدرة ربه أزداد إيمانا به و لذا كان العلماء أشد الناس خشية لله قال تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء )
2- تكريم الله للإنسان يستلزم العلم التجريبي : لقد كرم الله الإنسان بأن وهبه عقلا مفكرا و جعله خليفة له في الأرض قال تعالى ( إني جاعل في الأرض خليفة ) و سخر له ما في السموات و الأرض قال تعالى ( و سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) و جعله سيد هذا العالم و لو أمعن النظر في وجوه التكريم هذه ( العقل – الاستخلاف – التسخير و السيادة ) لوجدنا أنها لا تتحقق إلا عن طريقة معرفة أسرار الكون و سننه الثابتة المطردة التي تسير بمقتضاها فلا يتوصل إلى ذلك إلا بالعلم التجريبي
3- 3- القوة تستلزم العلم التجريبي : إن العلم قوة و نحن مأمورون بإعدادها لأن القوة من الصفات التي يجب على المؤمن تحصيلها قال تعالى ( و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) هذا و إن العلم التجريبي قد تجلت فيه القوة في العصر الحديث أكثر من أي وقت مضى
حكم تعلم العلم في الإسلام :
يتبين لنا من الأدلة المذكورة أن تحصيل العلم النظري والتجريبي مما له علاقة بالطب والزراعة والتجارة والصناعة والفضاء واجب شرعا ولذا أجمع العلماء المسلمين على أن كل علم تقتضيه حياة المجتمع هو فرض كفاية يجب تحصيله وإذا لم يقم فريق من الناس بتحصيله أثم المجتمع كله ولقد أصبح اليوم من الواجب على الدولة إعداد المتخصصين في كل حقل من حقول العلم أما العلوم الشرعية الأساسية فهي فرض عين على كل مسلم ومسلمة بالمقدار الذي يحتاج إليه لكن التخصص فيها والتعمق هو فرض كفاية كغيرها من أنواع العلوم
العلم التجريبي والحضارة الإنسانية :
يتبين مما سبق أن الدين والعلم متلازمان لأنهما أساس سعادة الإنسان في دنياه وآخرته غير أن العلم التجريبي إذا أنتج لنا ما يكون عدوانا على الإنسانية ومصدر خطر على قيمها العليا فإن الإسلام يعارضه حينئذ بل يحرمه لأنه يغدو بذلك وسيلة ( شقوة ) للإنسانية لا وسيلة إلى سعادتها وازدهارها وهو أمر مناف لمقاصد الإسلام الأساسية
تلك هي أهم مقومات الحضارة الإنسانية في الإسلام التي يجب أن نضعها موضع الاعتبار ونحن نبني حضارتنا الإنسانية الرشيدة لنستعيد عزتنا الأولى
تعليق