إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

جنون رسام شهير دفعه لقطع أذنه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جنون رسام شهير دفعه لقطع أذنه



    جنون رسام شهير دفعه لقطع أذنه





    في أحد أيام صيف عام 1890؛ أطلق الفنان الهولندي فينسنت فان جوخ الرصاص على نفسه، في حقل يقع بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس. فما الذي يمكن لنا أن نستشفه إذاً من اللوحة التي كان يرسمها في صبيحة ذلك اليوم البعيد، بشأن حالته العقلية؟

    في السابع والعشرين من يوليو/تموز عام 1890؛ دلف فينسنت فان جوخ إلى حقلٍ للقمح، خلف بيت ريفي ضخم، في قرية أوفير شيرواز الفرنسية الواقعة على بعد بضعة أميال إلى الشمال من باريس.
    وهناك؛ أطلق النار على صدره، وذلك بعد 18 شهراً من معاناته من اضطرابات نفسية وعقلية، منذ أن بتر أذنه اليسرى بشفرة، في إحدى ليالي شهر ديسمبر/كانون الأول 1888، عندما كان يعيش في مدينة آرل بمنطقة بروفانس.
    وفي أعقاب هذا الحادث سيء الصيت الذي انطوى على إيذاءٍ للنفس؛ ظل فان جوخ يعاني من نوبات عصبية متفرقة ومنهكة، كانت كل منها تصيبه بالتشوش وعدم القدرة على التعبير عن نفسه بشكل مترابط لأيام أو حتى لأسابيع. ورغم ذلك، فقد نَعُمَ بين هذه الأزمات الصحية، بفترات من الهدوء ووضوح الفكر، تسنى له خلالها رسم لوحاته.
    وكان فان جوخ قد وصل إلى قرية أوفير في مايو/أيار 1890، بعد مغادرته لإحدى المصحات النفسية الواقعة على مشارف منطقة "سا ريميه دو بروفانس" شمال شرقي مدينة آرل.
    وكانت فترة إقامته في تلك القرية الأخصب على الإطلاق على مدار مسيرته الفنية؛ ففي غضون 70 يوماً فحسب، أنهى رسم 75 لوحة مرسومة بالفرشاة أو الألوان السائلة، وأكثر من 100 من اللوحات المرسومة بالقلم أو الفحم، وغيرها.
    رغم ذلك، فقد انتابه شعورٌ متزايد بالوحدة والقلق، وبات على قناعة بأن حياته ليست سوى فشل. في نهاية المطاف، نجح في الحصول على مسدس صغير الحجم، يعود إلى صاحب المنزل الذي كان يقيم فيه في أوفير. وكان هذا هو المسدس الذي أخذه معه حينما توجه إلى الحقول، بعد ظهر ذاك الأحد الملحمي في أواخر يوليو/تموز.




    غير أنه لم يكن سوى مسدس جيبٍ صغير الحجم للغاية، ذي قوة نيرانية محدودة، ولذا فعندما ضغط فان جوخ على الزناد، انطلقت رصاصة سرعان ما ارتدت إثر اصطدامها بأحد ضلوعه دون أن تخترق قلبه. رغم ذلك، فقد فان جوخ الوعي وانهار على الأرض.
    وعندما حل المساء؛ عاد أدراجه وبحث عن المسدس للإجهاز على نفسه. وبعدما فشل في العثور عليه؛ عاد مترنحاً إلى حانة القرية، حيث استُدعيّ طبيب لفحصه، كما استُدعيّ شقيقه ثيو، الذي كان يحبه بشدة، والذي وصل في اليوم التالي.
    ولفترة وجيزة؛ حَسِبَ ثيو إن شقيقه سيسترد قواه. لكن في النهاية لم يتسن له فعل شيء؛ وفارق الرسام الشهير الحياة في الليلة نفسها، وهو في السابعة والثلاثين من عمره.
    وكتب ثيو لزوجته جَو تفاصيل اللحظات الأخيرة في عمر شقيقه قائلا: "ظللت إلى جواره حتى انتهى كل شيء. كان من بين أخر ما قاله 'هذه هي الشاكلة التي أردت أن أمضي بها'. ثم لم تمض ثوانٍ قليلة، حتى انتهى الأمر، ووجد السلام الذي لم يتسن له العثور عليه على الأرض".
    الآن؛ يستضيف متحف فان جوخ في العاصمة الهولندية أمستردام معرضاً جديداً يحمل اسم "على حافة الجنون". ويقدم المعرض سرداً لتفاصيل العام ونصف العام الأخيريّن في حياة هذا الفنان، على نحو متوازن وشديد الدقة.

    ورغم هذا، لا يتضمن ذاك السرد تشخيصاً دقيقاً للمرض الذي كان الرسام الراحل يعاني منه. ولعدة عقود؛ اقْتُرِح العديد من الأسباب في هذا الشأن؛ بدءاً من الصرع، والانفصام في الشخصية، والإفراط في معاقرة الكحول، والاضطراب العقلي، وصولاً إلى ما يُعرف بـ"اضطراب الشخصية الحدية أو البينية".
    لكن المعرض يحتوي على مسدس يكسوه صدأ شديد، عُثِرَ عليه في عام 1960 تقريبا، في الحقول الواقعة خلف المنزل الريفي الكائن في قرية أوفير شيرواز. ويشير محللون إلى أن هذا المسدس، الذي ثَبُتَ أن رصاصاتٍ أطُلقت منه في السابق، ظل في العراء لفترة تتراوح ما بين 50 و80 عاماً.
    بعبارة أخرى، يعني ذلك أن من المحتمل أن يكون هذا السلاح، هو نفسه الذي استخدمه فان جوخ، عندما أطلق النار على نفسه.

    قضية الجذور
    كما يحتوي المعرض على رسالة عُثِرَ عليها مؤخرا، وحظيت بتغطية مكثفة للغاية من قبل وسائل الإعلام، وقد كتبها الطبيب الذي تولى علاج فان جوخ في آرل، ويُدعى فِليكس رَي. وتتضمن الرسالة رسماً بيانياً يوضح بدقة الجزء الذي بتره الرسام الشهير من أذنه اليسرى.


    رسالة من فِليكس رَي، الطبيب الذي كان يُعالج فان جوخ خلال وجوده في آرل، وهي توضح الجزء الذي بتره الرسام من أذنه اليسرى في ديسمبر/كانون الأول
    1888

    وقد ظل كُتّاب السيرة الذاتية لفان جوخ يتجادلون لسنوات بشأن ما إذا كان قد بتر أذنه كاملة، أم أنه قطع شحمتها فحسب، إلى أن أثبتت الرسالة بما لا يدع مجالاً للشك أن البتر طال الأذن كلها. وقد ألفت الباحثة المستقلة برنادِت مُرفي، التي عثرت على تلك الرسالة، كتاباً جديداً صدر مؤخراً حول اكتشافها هذا باسم "أذن فان جوخ: القصة الحقيقية".
    وبطبيعة الحال، تشكل هذه الرسالة الكشف الأهم الذي يحتوي عليه المعرض المُقام في متحف فان جوخ. لكن شيئاً آخر استرعى انتباهي خلال زيارتي للمعرض مؤخراً؛ ألا وهي لوحة غير مكتملة يبلغ عرضها نحو متر، ويُطلق عليها اسم "جذور الشجرة" (1890).
    وقد عَمِل الرسام في هذه اللوحة، في صباح السابع والعشرين من يوليو/تموز؛ قبل ساعات قلائل من إطلاقه الرصاص على نفسه، ولذا فهي أخر لوحاته على الإطلاق.
    للوهلة الأولى؛ تبدو تلك اللوحة الحافلة بالتفاصيل، ذات طابع تجريدي بحت تقريباً. وهنا يتساءل المرء كيف ينبغي له أن "يقرأ" ضربات الفرشاة الغنية بالألوان؛ الزرقاء والخضراء والصفراء، التي تنطبع بقوة على هذه اللوحة الزيتية، وهي الضربات التي لا تزال ظاهرة في أماكن مختلفة منها.

    بمزيد من التأمل، تكشف اللوحة عن طبيعتها تدريجياً، ليتضح أنها عبارة عن منظرٍ طبيعي، يُصوّر جذوراً عارية وأجزاء من مناطق سفلية من جذوع الأشجار، تبدو مرسومة على خلفية من تربة رملية فاتحة اللون تقع على جُرف من الحجر الجيري منحدرٍ بشكل حاد. ويظهر جزءٌ صغير من رقعة السماء، في الطرف العلوي من الجانب الأيسر للوحة.
    وبغض النظر عن ذلك؛ تُكرس اللوحة كاملةً لكتلة متشابكة بشدة من الجذور والجذوع والأغصان كثيرة الالتواءات والانحناءات، إلى جانب نباتات محتشدة ومتراصة جنباً إلى جنب.
    وفي هذا الشأن، يقول المؤرخ الفني مارتِن بايلي، الذي سيصدر له قريباً كتابٌ بعنوان "مرسم الجنوب: فان جوخ في بروفانس"، إن الأجزاء العليا من الأشجار الظاهرة في اللوحة "مقطوعة على شاكلة غير معتادة، تشبه تلك التي يمكن أن يجدها المرء، في اللوحات اليابانية التي كان فان جوخ معجباً بها بشدة".



    لوحة "جذور الشجرة" لفان جوخ تظهر تكويناً معقداً يرتسم على كامل مساحتها، دون وجود أي نقطة بعينها، تستحوذ على تركيز الناظر إليها
    في واقع الأمر، فإن "جذور الشجرة" لوحةٌ ذات طابع استثنائي من نواحٍ عدة. فهي عبارة عن تكوينٍ مبتكر، يرتسم على طول اللوحة وعرضها، دون نقطة مركزية واحدة، تستحوذ بعينها على الاهتمام.
    وبوسع المرء القول إن هذا العمل يستشرف ما سيظهر في السنوات التالية من نزعات فنية في عالم الفن الحديث؛ مثل المدرسة التجريدية وغيرها.
    لكن يستحيل في الوقت نفسه، ألا ننظر إلى هذه اللوحة بأثر رجعي، من زاوية معرفتنا بحقيقة أنها رُسمت قبل وقت قصير للغاية، من إطلاق الرسام النار على نفسه. فما الذي يمكن لنا أن نستشفه من ذلك بخصوص الحالة العقلية لذاك الرجل؟ هل كانت رسالة وداع لكل شيء؟

    بالقطع تبدو اللوحة جياشة بالمشاعر والانفعالات، وكذلك مفعمة بالاضطراب العاطفي. وهنا يقول بايلي: "إنها من بين تلك اللوحات التي يمكن للمرء أن يستشعر من خلالها الحالة الذهنية التي كانت تعتري فان جوخ أحياناً من كرب وعذاب".
    علاوة على ذلك، يبدو موضوعها ذا مغزى ودلالة في حد ذاته. فقبل سنوات من إقدام فان جوخ على رسمها، كان قد أجرى دراسة بشأن جذور الأشجار؛ استهدفت التعبير عن جانب من "صراعات الحياة"، كما قال في رسالة كتبها لشقيقه ثيو.
    وقبل وقت قصير من وفاته، كتب الرسام الهولندي خطاباً آخر لشقيقه، قال فيه إن حياته "هوجمت في جذورها". بناءً على ذلك؛ هل كان فان جوخ يرسم "جذور الشجرة" كوداعٍ لكل شيء في حياته؟


    لوحة "حقل القمح والغربان"، التي تعود إلى يوليو/تموز 1890، تظهر نفس الأسلوب القلق والمضطرب، ولكن الأجواء فيها تبدو أكثر قتامة

    وطرحت هذه الأفكار على أمينة المتحف نينكه بَكِر، وهي مسؤولة عن مجموعة اللوحات الموجودة في متحف فان جوخ، لأجدها ترد ناصحةً بتوخي الحذر إزاء هذا الأمر، قائلة: "هناك الكثير من الجيشان العاطفي في الأعمال التي رُسمت خلال الأسابيع الأخيرة من حياة فان جوخ، مثل 'حقل القمح والغربان' و'حقل القمح تحت الغيوم الرعدية'."
    وتمضي بَكِر قائلة: "من الواضح أنه كان يحاول التعبير عن الانفعالات التي كانت تعصف بعقله. رغم ذلك، فإن لوحة 'جذور الشجرة' تتسم كذلك بأنها مفعمة بالحيوية للغاية، وتعج بالحياة، وتكتسي بطابعٍ مغامرٍ بشدة".
    وتتابع: "ومن العسير تصور أن شخصاً رسم هذه اللوحة في صباح يومٍ ما سيحاول أن يُجهز على حياته بحلول نهاية اليوم نفسه. بالنسبة لي، يصعب القول إن فان جوخ عَمِدَ إلى رسم تلك اللوحة بمثابة وداع، (لأن) ذلك سيصبح أمراً ذا طابع عقلاني أكثر من اللازم".
    في نهاية المطاف، بدت أمينة المتحف حريصةً على أن تدحض تماماً فكرة أن مرض فان جوخ كان سبب عظمته كرسام. وقالت في هذا الصدد: "كل هذه الجذور المُعذبة كثيرة العقد والالتواءات، تجعل 'جذور الشجرة' لوحةً ذات طابع محموم ومتوتر وعاطفي بشدة".
    وتتابع قائلة: "لكنها ليست باللوحة التي يبدعها عقل مجنون. فقد كان مدركاً للغاية لما يفعله. فحتى النهاية، كان فان جوخ يرسم رغم مرضه، وليس بسببه. من الأهمية بمكان أن نتذكر ذلك".



  • #2
    كل الشكر أخي محمد عامر
    على هذا الطرح الممتع و المميز

    تعليق


    • #3


      فينسنت فيليم فان غوخ
      (30 مارس1853 - 29 يوليو1890) كان رساماً هولندياً، مصنف كأحد فناني الانطباعية . تتضمن رسومه بعضاً من أكثر القطع شهرة وشعبية وأغلاها سعراً في العالم . كان من أشهر فناني التصوير التشكيلي. اتجه للرسم التشكيلي للتعبير عن مشاعره وعاطفته. في آخر خمس سنوات من عمره رسم ما يفوق 800 لوحة زيتية.


      حياته الأولى
      ولد فينسنت فان غوخ في جروت زندرتبهولندا في 30 مارس/آذار 1853 جاءت ولادة فان غوخ بعد سنة واحدة من اليوم الذي ولدت فيه أمه طفلاً ميتاً بالولادة، سمي أيضاً بفينسنت. لقد كان هناك توقع كبير لحدوث صدمة نفسية لفينسنت فان غوخ لاحقاً كنتيجة لكونه "بديل طفل" وسيكون له أخ ميت بنفس الاسم وتاريخ الولادة. ولكن هذه النظرية بقت غير مؤكدة، وليس هناك دليل تاريخي فعلي لدعمها.
      كان فان غوخ ابن ثيودوروس فان غوخ (1822 - 1885)، قس كنيسة منصلحة هولندية، وأمه آنا كورنيليا كاربنتوس (1819 - 1907). عملياً لا توجد معلومات حول سنوات فينسنت فان غوخ العشر الأوائل. حضر فان غوخ مدرسة داخلية في زيفينبيرجين لسنتين وبعد ذلك استمر بحضور مدرسة الملك ويليم الثاني الثانوية في تيلبيرغ لسنتين أخرتين. في ذلك الوقت أي في عام 1868، ترك فان غوخ دراسته في سن الخامسة عشرة ولم يعد إليها.

      في عام 1869 انضم فينسنت فان غوخ إلى مؤسسة غووبيل وسي (Goupil & Cie)، وهي شركة لتجار الفن في لاهاي. كانت عائلة فان غوخ لفترة طويلة مرتبطة بعالم الفن، فقد كان أعمام فينسنت، كورنيليس ("العم كور") وفينسنت ("العم سنت")، كانا تاجرين فنيين. أمضى أخوه الأصغر ثيو فان غوخ حياته كتاجر فني، ونتيجة لذلك كان له تأثير كبير على مهنة فينسنت اللاحقة كفنان.
      فينسنت كان ناجحاً نسبياً كتاجر فني، وبقى مع غووبيل وسي لسبع سنوات إضافية. في عام 1873 نقل إلى فرع الشركة في لندن وأعجب سريعاً بالمناخ الثقافي الإنجليزي. في أواخر شهر أغسطس/آب، انتقل فينسنت إلى طريق هاكفورد وعاش مع أورسولا لوير وابنتها يوجيني. قيل بأن فينسنت كان مهتماً بيوجيني عاطفياً، ولكن العديد من كتاب السير الأوائل نسبوا اسم يوجيني بشكل خاطئ لأمها أورسولا. بقى فينسينت فان غوخ في لندن لسنتين أخرىين. خلال تلك الفترة زار العديد من المعارض الفنية والمتاحف، وأصبح معجباً كثيراً بالكتاب البريطانيين أمثال جورج إليوتوتشارلز ديكينز. كان فان غوخ أيضاً معجباً كثيراً بالنقاشين البريطانيين. أعمالهم ألهمت وأثرت في حياة فان غوخ الفنية اللاحقة.




      أصبحت العلاقة بين فينسنت وغووبيل أكثر توتراً على مر السنوات، وفي مايو/مايس في عام 1875 نقل إلى فرع الشركة في
      باريس. ترك فينسنت غووبيل في أواخر شهر مارس/آذار من عام 1876، وقرر العودة إلى إنجلترا حيث كانت السنتان اللتان قضاهما هناك سعيدتين. في أبريل/نيسان بدأ فينسينت فان غوخ في مجال التعليم في مدرسة القس وليام ب. ستوكس في رامسجيت. كان مسؤولاً عن 24 ولداً تتفاوت أعمارهم ما بين 10 إلى 14 سنة. واصل فان غوخ في وقت فراغه بزيارة المعارض وتقديم الاحترام للعديد من القطع الفنية العظيمة هناك. كرّس نفسه أيضاً لدراسة التوراة، فأمضى العديد من الساعات يقرأ ويعيد قراءة الإنجيل. كان صيف 1876 وقتاً دينياً بالنسبة لفينسنت فان غوخ. بالرغم من أنه تربى عند عائلة دينية، لم يبدأ بتكريس حياته إلى الكنيسة بجدية إلا عند هذا الوقت.





      من أجل التحول من معلم إلى رجل دين، طلب فينسنت من القس جونز بأن يعطيه المزيد من المسؤوليات المعينة لرجال الدين. وافق جونز، وبدأ فينسنت بالحديث عند اجتماعات الصلاة في أبرشية تيرنهام غرين. هذا الحديث عمل كوسيلة لتهيئة فينسنت للمهمة التي انتظرها لمدة طويلة وهي خطبته الأولى في يوم الأحد. بالرغم من أن فينسنت كان متحمساً ليحصل على فرصه بأن يكون وزيراً، إلا أن خطبه كانت باهتة وغير حيوية بشكل كبير. اختار فينسينت فان غوخ البقاء في
      هولندا بعد زيارة عائلته في عيد الميلاد. بعد العمل لمدة قصيرة في مكتبة في دوردريخت في أوائل العام 1877، توجه فينسنت إلى أمستردام في 9 مايو/مايس لتهيئة نفسه لفحص دخول الجامعة لدراسة علم اللآهوت. تلقى فينسنت دروس اللغة اليونانيةواللاتينيةوالرياضيات هناك، ولكن بسبب قلة براعته أرغم في النهاية على ترك الدراسة بعد 15 شهراً.

      وصف فينسنت هذه الفترة لاحقاً بأنها أسوأ فترات حياته. في نوفمبر/تشرين الثاني أخفق فينسنت في التأهل للمدرسة التبشيرية في
      لايكين، ولكن أوصت الكنيسة في النهاية على أن يذهب إلى منطقة التنقيب عن الفحم في بوريناجببلجيكا.

      في يناير/كانون الثاني من عام 1879، بدأ فينسنت بوصاية عمال مناجم الفحم وعوائلهم في قرية التعدين واسميس . شعر فينسنت بارتباط عاطفي قوي نحو عمال المناجم. تعاطف مع أوضاع عملهم المخيفة وفعل ما بمقدوره، كزعيم روحي، وذلك لتخفيف عبء حياتهم. هذه الرغبة الإيثارية أوصلته إلى مستويات كبيرة جداً عندما بدأ فينسنت بإعطاء أغلب مأكله وملبسه إلى الناس الفقراء الواقعين تحت عنايته. على الرغم من نوايا فينسنت النبيلة، رفض ممثلو الكنيسة زهد فان غوخ بقوة وطردوه من منصبه في يوليو/تموز. رافضاً تركه للمنطقة، انتقل فان غوخ إلى قرية مجاورة تدعى كيوسميس (Cuesmes)، وبقى هناك بفقر كبير. في السنة التالية كافح فينسنت من أجل العيش، ورغم أنه لم يكن قادراً على مساعدة سكان القرية بأي صفة رسمية كرجل ديني، اختار بأن يبقى أحد أعضاء جاليتهم على الرغم من ذلك. في أحد الأيام شعر فينسنت بالاضطرار إلى زيارة بيت جولز بريتون، وهو رسام فرنسي كان يحترمه كثيراً، وتطلب ذلك مشي لسبعين كيلومتراً إلى كوريير (Courrières) بفرنسا، مع أنه لم يكن في جيبه سوى 10 فرنكات. لكن فينسنت كان خجولاً جداً لأن يدق الباب عند وصوله، فعاد إلى كيوسميس فاقداً الثقة بشكل كبير. في ذلك الوقت اختار فينسنت فان غوخ مهنته اللاحقة بأن يكون فناناً.

      بدايته كفنان

      في خريف العام 1880، وبعد أكثر من عام من العيش بفقر في بوريناج، توجه فينسنت إلى بروكسل لبدء دراساته الفنية. تشجع فينسنت على بدء هذه الدراسات نتيجة للعون المالي من أخيه ثيو. كان فينسنت وثيو قريبين من بعضهما البعض على الدوام في طفولتهما وفي أغلب حياتهما التالية، حيث بقيا يراسلان بعضهما البعض باستمرار. عدد هذه الرسائل أكثر من 700، وهي تشكل أغلب معرفتنا بتصورات فان غوخ حول حياته الخاصة وحول أعماله.

      قدم فينسنت طلباً للدراسة في إكول دي بو آرت (École des Beaux-Arts) في بروكسل لمدة قصيرة. بعد ذلك واصل فينسنت دروس الرسم لوحده بأخذ الأمثلة من بعض الكتب مثل "Travaux des champs" لجوان فرانسوا ميلي و"Cours de dessin" لتشارلز بارغ. في فصل الصيف عاش فينسنت مع أبويه مرة أخرى في إتين، وخلال تلك الفترة قابل ابنة عمه كورنيليا أدريانا فوس ستريكير (تسمى "كي"). أصبحت كي (1846 - 1918) أرملة مؤخراً وكانت تربي ابنها الصغير لوحدها . وقع فينسنت في حب كي وتحطمت مشاعره حينما رفضته، فأصبحت تلك الحادثة إحدى أبرز الحوادث في حياة فان غوخ. بعد ذلك قرر فينسنت مواجهتها في بيت أبويها. رفض أبو 'كي' السماح لفينسنت برؤية ابنته فقرر فينسنت وضع يده على قمع مصباح زيتي ليحرق نفسه متعمداً قائلا: "اجعلوني أراها قدر ما أستطيع وضع يدي في هذا اللهب" . كان هدف فينسنت أن يضع يده على اللهب حتى يسمح له برؤية كي، ولكن أبوها قام بسرعة بإطفاء المصباح، فغادر فينسنت البيت مذلاً.

      على الرغم من النكسات العاطفية مع كي والتوترات الشخصية مع أبيها، وجد فينسنت بعض التشجيع من أنتون موف (1838 - 1888)، ابن عمه بالزواج. صنع موف من نفسه فناناً ناجحاً، ومن بيته في لاهاي زود فينسنت بمجموعته الأولى من الألوان المائية، وهكذا بدأ فينسنت بالعمل بواسطة الألوان. كان فينسنت معجباً كثيراً بأعمال موف وكان ممتناً له. وكانت علاقتهما جيدة، لكنها توترت عندما بدأ فينسنت بالعيش مع مومس.
      قابل فينسينت فان غوخ كلاسينا ماريا هورنيك (1850 - 1904) في أواخر فبراير/شباط 1882 في لاهاي. كانت هذه الامرأة (الملقبة بـ "سين") حاملاً بطفلها الثاني عندما قابلها فان غوخ، لكنها انتقلت للعيش معه بعد فترة قصيرة لسنة ونصف السنة. نمت مواهب الفنان بشكل كبير بمساعدة سين وأطفالها في تلك الفترة. رسومه المبكرة لعمال مناجم الفحم في بوريناج فسحت له المجال لأعمال أفضل، محملة بالكثير من العواطف. في لوحة "سين جالسة على السلة مع فتاة"، صور فينسنت الحياة العائلية الهادئة بمهارة، مع بعض الإحساس باليأس، وهي المشاعر التي عرف بها في الأشهر التسع عشرة التي عاش فيها مع سين.

      كانت السنة 1883 مرحلة انتقالية أخرى بالنسبة لفان غوخ في حياته الشخصية وفي دوره كفنان. بدأ فينسنت الرسم الزيتي في عام 1882. مع تقدم مهاراته الرسومية، تدهورت علاقته مع سين فافترقا في سبتمبر/أيلول. ترك فينسنت لاهاي في منتصف شهر سبتمبر/أيلول للسفر إلى درينتي في هولندا. عاش فينسنت في الأسابيع الست التالية حياة البداوة، حينما انتقل في كافة أنحاء المنطقة ورسم المناظر الطبيعية البعيدة مع سكانها.
      عاد فينسنت مرة أخرى إلى بيت أبويه في نوينين في أواخر العام 1883. واصل فينسينت فان غوخ حرفته طوال السنة التالية، وأنتج عشرات الرسوم أثناء تلك الفترة، مثل لوحات الحياك والغزالون وغيرهما. أصبح الفلاحون المحليون مواضيع اهتمامه لأنه شعر بصلة قوية نحوهم، وجزئياً كان سبب ذلك إعجابه بالرسام ميليه الذي أنتج بنفسه لوحات تعطف على العمال في الحقول. كانت مارجوت بيجيمان (1841 - 1907)، التي عاشت عائلتها إلى جوار أبوي فينسنت، كانت تعشقه، وقادتها علاقتها العاطفية إلى محاولة الانتحار بالسم. كان فينسنت مذهولاً جداً لتلك الحادثة. تعافت مارجوت في النهاية، لكن الحادثة أزعجت فينسنت كما أشار إليها في رسائله في العديد من المناسبات.


      يتبع


      تعليق


      • #4
        ظهور أعماله الناجحة الأولى
        في الأشهر الأولى من العام 1885، واصل فان غوخ إنتاج سلسلة اللوحات حول الفلاحين. نظر فينسنت إلى تلك اللوحات كدراسة تستمر في تطوير حرفته لتحضير أعماله الأكثر نجاحاً حتى الآن. عمل فينسنت طوال شهري مارس وأبريل على هذه الدراسات، وقد صرف انتباهه عنها لفترة وجيزة حينما رحل أبوه في 26 مارس/آذار. كانت علاقة فينسنت مع أبيه متوترة جداً في خلال السنوات القليلة الأخيرة، إلا أنه بالتأكيد لم يكن سعيداً بشأن موته، لكنه منفصل عاطفياً عنه، مما سمح له بمواصلة العمل بشكل اعتيادي.



        لوحة آكلوا البطاطا (أبريل 1885)


        بعد العمل الشاق وتطوير الأساليب باستمرار في السنوات الماضية استطاع إنتاج لوحته العظيمة الأولى وهي " آكلوا البطاطا". عمل فينسنت على لوحة آكلوا البطاطا طوال شهر أبريل/نيسان من العام 1885. أنتج مسودات مختلفة لتحضير النسخة الزيتية الكبيرة الأخيرة على الجنفاص. تعرف لوحة آكلوا البطاطا بأنها أول قطعة حقيقية نادرة لفينسنت فان غوخ، فتشجع إثر ردود الفعل بشأنها. ولكن صديقه وزميله الفنان أنتون فان رابارد
        (1858 - 1892) لم يعجب بعمله، وأدت تعليقاته حول لوحته إلى نهاية صداقتهما. بالرغم من أن فينسنت يغضب وينزعج من نقد أعماله، إلا أنه كان مسروراً من النتيجة عموماً، وهكذا بدأ مرحلة أفضل من حياته. واصل فان غوخ العمل طوال العام 1885، لكنه أصبح قلقاً مرة أخرى وبحاجة للتشجيع من جديد. انضم لفترة وجيزة إلى الأكاديمية في
        أنتويرب في بداية العام 1886، لكنه تركها بعد حوالي أربع أسابيع لاستيائه بصارمة المدرسين. كما تظاهر كثيراً في طوال حياته، شعر فينسنت بأن الدراسة الرسمية هي بديل سيئ للعمل. عمل فينسنت لخمس سنوات صعبة بشحذ مواهبه كفنان، ومع إنشاء لوحة أكلة بطاطة أثبت لنفسه أنه رسام من الطراز الأول. لكنه أراد باستمرار أن يحسن أوضاع نفسه، وذلك لاكتساب الأفكار وليستكشف التقنيات الجديدة حتى يصبح الفنان الذي يتطلع حقاً لأن يكون. أنجز في هولندا بقدر ما استطاع، فتركها وذهب إلى باريس.

        في باريس

        أخذ فينسينت فان غوخ يتراسل مع أخيه ثيو طوال بداية العام 1886 في محاولة لإقناعه بالانتقال إلى باريس. كان ثيو مدركاً لشخصية أخيه القاسية. وصل فينسنت إلى باريس في أوائل شهر مارس/آذار. كانت فترة فان غوخ في باريس مميزة بالنسبة لحياة الفنان. السنتان اللتان قضاهما فينسنت في باريس هما أيضاً أحد الفترات غير الموثقة من حياته بشكل كبير، لأن كتاب السير كانوا يعتمدون على الرسائل بين فينسنت وثيو لمعرفة الحقائق، وقد توقفت الرسائل عندما عاشا الأخوان سوية في شقة ثيو، في منطقة مونتمارتريه بباريس.




        صورة بيري تانغاي (1887 - 1888)


        كان لثيو كتاجر فني العديد من الاتصالات، فأصبح فينسنت مألوفاً لدى الفنانين الرائدين في باريس في ذلك الوقت. كان فان غوخ في خلال السنتين اللتين تواجد فيهما في باريس يقوم بزيارة بعض المعارض المبكرة للانطباعيين، حيث عرضت أعمال بواسطة ديغاس، ومونيه، ورينوار، وبيسارو، وسيورا، وسيسلي. تأثر فان غوخ بدون شك بطرق الانطباعيين، لكنه بقى مخلصاً لأسلوبه الفريد على الدوام. كان فان غوخ في طوال تلك السنتين يستخدم بعضاً من تقنيات الانطباعيين، لكنه لم يدع تأثيرهم القوي بأن يكتسحه.
        تمتع فينسنت بالرسم في ضواحي باريس طوال العام 1886. بدأت لوحاته بالابتعاد عن الألوان الداكنة وبدأت تأخذ ألوان الانطباعيين الأكثر حيوية. وما أضاف من تعقيد أسلوب فان غوخ أنه حينما كان في باريس أصبح مهتماً بالفن الياباني. فتحت اليابان موانئها مؤخراً للدول الغربية بعد قرون من الحصار الثقافي، وكنتيجة لتلك الانعزالية الطويلة سحر العالم الغربي بالثقافة اليابانية. بدأ فان غوخ باكتساب مجموعة كبيرة من الطبعات الخشبية اليابانية الموجودة الآن في متحف فان غوخ في أمستردام، وعكست لوحاته في أثناء ذلك الوقت الاستعمال الحيوي للألوان المفضلة عند الانطباعيين والألوان اليابانية المنعكسة.
        بالرغم من أن فان غوخ أنتج ثلاث لوحات يابانية فقط، إلا أن التأثير الياباني على فنه كان موجوداً بشكل دقيق في طوال بقية حياته.

        كان العام 1887 في باريس مرحلة تطور أخرى لفينسنت كفنان، لكنها أيضاً سببت له خسائر فادحة، عاطفية وجسدية. عندما أصر فينسنت على الانتقال والعيش مع ثيو، قام بذلك على أمل أن يحسن الاثنان من إدارة نفقاتهما وليتمكن فينسنت بسهولة أكثر من أن يكرس نفسه إلى الفن. ولكن عيشه مع أخيه أدى كذلك إلى الكثير من التوتر بينهما. كما كان الحال في طوال حياته، جعل الطقس السيئ في أثناء فصل الشتاء فينسنت عصبياً ومكتئباً. لم يكن فينسنت أكثر سعادة من حينما انسجم مع الطبيعة وعندما كان الطقس أفضل. في أثناء الشهور الشتائية الكئيبة في باريس - في عامي 1887 و1888 - أصبح فان غوخ أكثر قلقاً لأن الصور والألوان الكئيبة نفسها ظهرت مرة ثانية. سنتا فان غوخ في باريس كانتا أكثر تأثيراً على تطوره المستمر كفنان. لكنه حصل على ما كان يريد، فحان وقت الانتقال. لم يكن فينسنت سعيداً أبداً في المدن الكبيرة، فقرر ترك باريس نحو الجنوب.
        الانتقال إلى الجنوب



        لوحة "غرفة نوم في آرل" التي رسمها سنة 1888.


        انتقل فينسينت فان غوخ إلى آرل في بداية العام 1888 لعدة أسباب منها كرهه لباريس وللشهور الطويلة من الشتاء فيها. السبب الآخر كان حلم فينسنت بتأسيس نوع من المطارحات للفنانين في آرل، حيث يلجأ إليه رفاقه في باريس، ويعملون سوية، ويدعمون بعضهم البعض نحو هدف مشترك. استقل فان غوخ القطار من باريس إلى آرل في 20 فبراير/شباط 1888 وهو متطلع لمستقبل ناجح. لا شك في أن فان غوخ كان خائب الأمل في آرل في أسابيعه الأولى هناك. وجد فينسنت آرل باردة بشكل غير اعتيادي. لا بد وأن يثبط ذلك من عزيمة فينسنت الذي ترك كل شخص يعرفه وراءه ليبحث عن الدفء في الجنوب. كان الطقس القاسي قصيراً فبدأ فينسنت برسم بعض من أفضل أعماله.

        عندما ارتفعت درجة الحرارة، لم يهدر فينسنت فرصة البدأ بالعمل في الطبيعة، وقام بعدة أعمال من بينها رسمة "منظر طبيعي لطريق وأشجار مشذبة"، ولوحة "الطريق عبر حقل الصفصاف". أنتجت الرسمة في مارس/آذار حيث تبدو الأشجار والمنظر الطبيعي كئيبة جداً بعد فصل الشتاء. أما اللوحة فقد رسمت بعد شهر وهي تعرض البراعم الربيعية على نفس الأشجار. في تلك الأثناء رسم فان غوخ سلسلة من لوحات البساتين المنفتحة. كان فينسنت مسروراً بما أنتج، وشعر بالتجدد. كانت الشهور التالية أكثر سعادة بالنسبة إليه. حجز فينسنت غرفة في مقهى دي لاغار في أوائل مايو/مايس، واستأجر بيتاً أصفراً كمكان يرسم فيه ويضع لوحاته. في الحقيقة لم ينتقل فينسنت إلى البيت الأصفر حتى سبتمبر/أيلول، حينما أسسه كقاعدة لما سماه بإستوديو الجنوب.

        عمل فينسنت بجد في طوال فصلي الربيع والصيف، وبدأ بإرسال بعض أعماله لثيو. تمتع برفقة الناس وفعل ما بمقدوره أثناء تلك الشهور للحصول على الأصدقاء. بالرغم من أنه كان وحيداً جداً في بعض الأحيان، صادق فينسنت بول يوجين ميلي وجندياً آخراً، كما رسم صورهما. لم يفقد فينسنت الأمل أبداً في إمكانية تأسيس مطارحة للفنانين، وبدأ بتشجيع بول غوغان للانضمام إليه في الجنوب، لكن الفرصة لم تكن محتملة، لأن انتقال غوغان يتطلب الكثير من العون المالي من ثيو، الذي لم يعد يتحمل المزيد. في أواخر يوليو/تموز توفي فينسنت (عم فان غوخ) وترك إرثاً لثيو. مكن ذلك المال ثيو من تبني انتقال غوغان إلى آرل. شعر ثيو بأن فينسنت سيكون أكثر سعادة واستقراراً برفقة غوغان، كما أمل ثيو في أن تكون لوحات غوغان مربحة بالنسبة إليه. بخلاف فينسنت حقق بول غوغان درجة أصغر من النجاح. وصل غوغان إلى آرل بالقطار في وقت مبكر من يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول.

        يتبع

        تعليق


        • #5



          لوحة عباد الشمس (1889)



          الشهران التاليان كانا محوريين وكارثيين لفينسينت فان غوخ ولبول غوغان. في البداية كان فان غوخ وغوغان جيدين سوية، حيث قاما بالرسم في آرل، كما ناقشا الفن والتقنيات المختلفة. ولكن مع مرور الأسابيع، تدهور الطقس ووجد الاثنان أنفسهما مرغمين على البقاء في الداخل كثيراً. مثلما هو الحال على الدوام، تقلب مزاج فينسنت لمجاراة الطقس. بسبب انجبار فينسنت على العمل في الداخل، أدى ذلك إلى التخفيف من كآبته. بعث فينسنت إلى ثيو رسالة قائلاً فيها أنه قام برسم لوحات لعائلة كاملة وهي عائلة رولن. تلك اللوحات بقت من بين أفضل أعماله.
          تدهورت العلاقة بين فان غوخ وغوغان في ديسمبر/كانون الأول، فأصبحت مجادلاتهما الساخنة كثيرة الحدوث. في 23 ديسمبر/كانون الأول أصيب فينسنت فان غوخ بنوبة عقلية جنونية، فقطع الجزء الأوطأ من أذنه اليسرى بواسطة شفرة حلاقة، ثم انهار. اكتشفته الشرطة ثم أدخل إلى مستشفى هوتيل ديو في آرل. بعد أن أرسل غوغان برقية إلى ثيو، اتجه فوراً إلى باريس دون أن يزور فان غوخ في المستشفى. تراسل فان غوخ وغوغان لاحقاً لكنهما لم يجتمعا شخصياً مرة أخرى. كان فينسنت وهو في المستشفى تحت عناية الدكتور فيليكس راي (1867 - 1932). عانى بعد أسبوع من الكثير من فقدان الدم. كان ثيو الذي أسرع بالمجيء من باريس على يقين من أن فينسنت سيموت، لكنه تعافى كلياً مع نهاية ديسمبر/كانون الأول وبداية الشهر التالي.

          الأسابيع الأولى من العام 1889 لم تكن سهلة بالنسبة لفينسينت فان غوخ. عاد فينسنت بعد تعافيه إلى بيته الأصفر، لكنه واصل زياراته إلى لدكتور راي لإجراء الفحوصات ولتغيير ضمادات رأسه. كان فينسنت متحمساً بعد التوقف، لكن مشاكله المالية استمرت، كما شعر باكتئاب جزئي عندما قرر صديقه المقرب جوسف رولن (1841 - 1903) لقبول موقع أفضل للعيش فانتقل مع عائلته إلى مارسيليا. كان رولن صديقاً عزيزاً ومخلصاً لفينسنت في معظم وقته في آرل. أصبح فينسنت كثير الإنتاج طوال يناير/كانون الثاني وبداية الشهر التالي، فرسم بعضاً من أعماله المعروفة مثل لوحتي "لابيرسوز" و"عباد الشمس". في 7 فبراير/شباط عانى فينسنت من نوبة أخرى تخيل فيها نفسه بأن مسمم. نقل فينسنت مرة أخرى إلى مستشفى هوتيل ديو للمعالجة، ومكث هناك 10 أيام، لكنه عاد مرة أخرى إلى البيت الأصفر بعد ذلك.

          أصبح بعض مواطني آرل قلقين في ذلك الوقت بسبب سلوك فينسنت، فوقعوا عريضة بخصوص مخاوفهم. أرسلت العريضة لرئيس بلدية آرل ثم لمدير الشرطة الذي أمر فان غوخ بدخول المستشفى مرة أخرى. بقى فينسنت في المستشفى للأسابيع الست التالية، ولكن سمح له بالمغادرة تحت الإشراف في بعض الأحيان لكي يقوم بالرسم ولوضع أملاكه في المخزن. كان ذلك وقتاً منتجاً لكن فان غوخ كان مثبط العزيمة عاطفياً. كما كان الحال قبل سنة، عاد فان غوخ لرسم البساتين المنفتحة حول آرل. ولكن بينما كان ينتج بعضاً من أفضل أعماله، أدرك فينسنت بأن موقفه غير ثابت، وبعد المناقشات مع ثيو وافق على اللجوء إلى مستشفى سان بول دي موسول النفسي في سان ريمي دي بروفانس طوعاً. ترك فان غوخ آرل في 8 مايو/مارس.


          المستشفى النفسي

          عند وصوله إلى المستشفى، وضع فان غوخ تحت عناية الدكتور ثيوفيل زشريي أوغسطي بيرون (1827 - 1895). بعد فحص فينسنت ومراجعة حالته، اقتنع الدكتور بيرون بأن مريضه كان يعاني من الصرع. بعد أسابيع، بقيت حالة فينسنت العقلية مستقرة وسمح له بالاستمرار في الرسم. وفي منتصف الشهر يونيو/حزيران أنتج فان غوخ عمله الأفضل وهو لوحة "ليلة النجوم".



          لوحة ليلة النجوم (1889)


          حالة فان غوخ العقلية الهادئة نسبياً لم تدم طويلاً، فأصيب بنوبة أخرى في منتصف الشهر يوليو/تموز. حاول فينسنت ابتلاع لوحاته الخاصة ولذلك وضع في المستشفى ولم يسمح له بالوصول إليها. رغم أنه تعافى سريعاً من الحادثة، أصيب فان غوخ بالإحباط بعدما حرم من الشيء الوحيد الذي يحبه وهو فنه. في الأسبوع التالي، سمح الدكتور بيرون لفان غوخ باستئناف الرسم. تزامن ذلك الاستئناف مع حالة عقلية جيدة. أرسل فينسنت رسائل لثيو تفصل حالته الصحية غير الثابتة. كما أن الأخير كان مريضاً أيضاً في بداية العام 1889. لم يستطع فان غوخ مغادرة غرفته لمدة شهرين، لكنه في الأسابيع التالية تغلب على مخاوفه مرة أخرى واستمر بالعمل. في أثناء ذلك الوقت بدأ فينسنت بالتخطيط لمغادرته النهائية من المستشفى النفسي في سان ريمي. طرح ذلك على ثيو الذي بدأ بالاستعلام عن البدائل المحتملة لعناية فينسنت الطبية.

          بقت صحة فان غوخ العقلية والجسدية مستقرة جداً في بقية العام 1889. تعافت صحة ثيو أيضاً وكان مستعداً للانتقال إلى بيت مع زوجته الجديدة، كما ساعد أوكتافي موس الذي كان ينظم معرضاً (اسمه Les XX) في بروكسل حيث عرضت فيه ست من لوحات فينسنت. بدا فينسنت متحمساً منتجاً في طوال ذلك الوقت. فصلت المراسلات المستمرة بين فينسنت وثيو العديد من الأمور حول عرض لوحات فينسنت ضمن المعرض. في 23 ديسمبر/كانون الأول من العام 1889 وبعد مرور سنة على حادثة قطع الأذن، عانى فينسنت من نوبة أخرى استمرت لأسبوع، لكنه تعافى منها بسرعة واستمر في الرسم. كما عانى من المزيد من النوبات في الشهور الأولى من العام 1890. من المحتمل أن تكون تلك الفترة الأسوأ بالنسبة لحالته العقلية اليائسة. بعد الاستعلام، شعر ثيو بأنه من الأفضل لفينسنت أن يعود إلى باريس ويوضع بعد ذلك تحت عناية الدكتور بول غاشي (1828 - 1909). وافق فينسنت على اقتراح ثيو وأنهى أموره في سان ريمي. في 16 مايو/مايس 1890 ترك فينسينت فان غوخ المستشفى النفسي وذهب ليلاً بواسطة القطار إلى باريس.

          حياته الأخيرة
          كانت رحلة فينسنت إلى باريس هادئة، واستقبله ثيو عند وصوله. بقى فينسنت مع ثيو وزوجته جوانا ومولودهما الجديد، فينسنت ويليم (الذي سمي على اسم فينسنت) لثلاث أيام. لكن فينسنت شعر ببعض الإجهاد فاختار ترك باريس والذهاب إلى أوفير سور أوايز. اجتمع فينسنت بالدكتور غاشي بعد فترة قليلة من وصوله إلى أوفير. استطاع فينسنت إيجاد غرفة لنفسه في إحدى المباني الصغيرة التي ملكها آرثر غوستاف رافو، وبدأت بالرسم على الفور.






          قبر فينسنت وثيو فان غوخ في فرنسا

          كان فينسنت مسروراً من أوفير سور أوايز التي أعطته الحرية التي لم يحصل عليها في سان ريمي، وفي نفس الوقت زودته بالمواضيع الكافية لرسمه. أسابيع فينسنت الأولى هناك انقضت بشكل هادئ. في 8 يونيو/حزيران، قام ثيو وجو وطفلهما الرضيع بزيارة فينسنت وغاشي ليقضوا يوماً عائلياً ممتعاً. بقى فينسنت طوال يونيو/حزيران في حالة نفسية جيدة وكان كثير الإنتاج، فرسم بعض أعماله المعروفة مثل "صورة الدكتور غاشي" ولوحة "الكنيسة في أوفيرس". علم فينسنت بعد ذلك بخبر غير جيد وهو أن ابن أخيه أصبح مريضاً جداً. كان ثيو يمر بأكثر الأوقات صعوبة منذ الشهور السابقة. بعد تحسن الطفل الرضيع، قرر فينسنت زيارة ثيو وعائلته في 6 يوليو/تموز فذهب إليهم مبكراً بواسطة القطار ثم عاد إلى أوفيرس. في أثناء الأسابيع الثلاث التالية، استأنف فينسنت الرسم وكان سعيداً.

          في مساء يوم الأحد الموافق 27 يوليو/تموز 1890 أخذ فينسينت فان غوخ مسدساً وأطلق على صدره رصاصة. استطاع فينسنت العودة إلى رافو وهو يتمايل حيث انهار على السرير ثم اكتشفه رافو. تم استدعاء الدكتور مازيري وكذلك الدكتور غاشي، وتم الإقرار على عدم محاولة إزالة الرصاصة من صدر فينسنت، ثم كتب غاشي رسالة طارئة إلى ثيو. لم يكن لدى الدكتور غاشي عنوان بيت ثيو وكان لا بد من أن يكتب إلى المعرض الذي كان يعمل فيه. لكن ذلك لم يتسبب في تأخير كبير، فوصل ثيو في عصر اليوم التالي.
          بقى فينسنت وثيو سوية حتى الساعات الأخيرة من حياته. ذكر ثيو لاحقاً بأن فينسنت أراد الموت بنفسه، فعندما جلس إلى جانب سريره قال له فينسنت
          ."أن الحزن يدوم إلى الأبد". مات فينسنت فان غوخ في الساعة الحادية والنصف صباح يوم 29 يوليو/تموز 1890 عن سن الـ 37. الكنيسة الكاثوليكية في أوفيرس رفضت السماح بدفن فينسنت في مقبرتها لأنه انتحر، لكن مدينة ميري القريبة وافقت على الدفن والجنازة، وتم ذلك في 30 يوليو/تموز.
          توفى ثيو فان غوخ في أوفر سور أوايز بفرنسا بعد رحيل فينسنت بست شهور. دفن في أوتريخت لكن زوجته جوانا طلبت في عام 1914 بإعادة دفن جسده في مقبرة أوفيرس إلى جانب فينسنت. طلبت جو أيضاً بأن يتم زراعة غصين النبات المعترش من حديقة الدكتور غاشي بين أحجار القبر. تلك النباتات هي نفسها موجودة في موقع مقبرة فينسنت وثيو حتى هذا اليوم.

          أعماله

          حاول فينسنت فان غوخ في أعماله بأن يلتقط أكبر قدر ممكن من الضوء، كما عمل على إبراز تماوج طيف الألوان في لوحاته المختلفة: الطبيعة الصامتة، باقات الورد (دوار الشمس)، للوحات الشخصية، اللوحات المنظرية (جسور لانغلوا، حقل القمح بالقرب من أشجار السرو، الليلة المتلألئة).
          يعتبر فان غوخ من رواد المدرستين الانطباعيةوالوحشية. تعرض أهم أعماله في متحف أورساي بباريس (مخيم البوهيميون، لوحات شخصية)، وفي متحف فان غوخ الوطني في أمستردام بهولندا

          تعليق


          • #6

            فان جوخ





            اسم عظيمً في عالم الفن التشكيلي فهو الفنان الذي استطاع أن يحظى باحترام و تقدير وإعجاب مؤرخي و نقاد و عشاق الفن التشكيلي في كافة أرجاء العالم.. مما جعل أعماله تحتل مكاناً بارزاً ومتميزاً في متاحف العديد من الدول، و لعل أشهرها متاحف موسكو و لينجراد .. وغيرها. بالإضافة إلى تلك الشعبية العارمة التي يتمتع بها في كافة دول أوربا وأمريكا وكذلك دول العالم الثالث التي لا توجد فيها لغة واحدة لم ينشر بها كتاب أو أكثر عن " فان جوخ" بغلاف الأفلام السينمائية والروائية والتسجيلية التي تناولت حياة هذا الفنان، و ربما هذا الشغف كان السبب الأول في استمرار نشر و استنساخ لوحاته. ف
            من هو هذا الفنان صاحب تلك الجماهيرية الواسعة؟ ..
            خلال الأسطر القادمة نحاول عرض لمحات سريعة من حياة "فان جوخ" المليئة بالأحداث و المآسي التي أثرت بلا شك في فنه وربما كانت سبباً قوياً في شهرته. ولد "فان جوخ" في بلدة " زونديت " بهولندا عام 1853م لأب يعمل قسيساً بكنيسة البلدة، وهو الأب الذي زرع في أعماق هذا الصغير من خلال الجو الديني الصارم الذي أحاط بالأسرة مثلاً علياً ربما كانت تصطدم كثيراً جداً بالواقع طوال حياة " فان جوخ". و عندما بلغ "فان جوخ" السادسة عشرة من عمره أصطحبه عمه إلى مدينة "لاهاي" ليعمل معه في القاعة التي يديرها والمتخصصة في بيع الأعمال الفنية سواء من الآثار القديمة أو من إنتاج الفنانين المعاصرين، وهي القاعة التي كانت تتبع مؤسسة "جوبيل" الشهيرة والتي يقع مركزها الرئيسي بباريس. و من خلال هذا العمل تعرف فان جوخ على عالم الفن وتحمس لبعض الأعمال ولبعض الفنانين، و لهذا بذل جهده في إقناع عملائه بشراء أعمال هؤلاء الفنانين وبلغ من نجاحه أن قررت المؤسسة نقله إلى لندن ليدير فرعها هناك. و استمر هذا النجاح الذي صاحبه اهتمام " فان" بمظهره وأناقته الشخصية إلى أن أحب إحدى الفتيات وتدعي " أرسيولا " و لكنه عندما طلب منها الزواج هزأت به وصدته في خشونة شديدة مما جعله يصاب بما يشبه الهوس الديني، فبدلاً من أن يناقش العملاء عن جماليات اللوحات المعروضة بالقاعة التي يديرها أخذ يحثهم علي الدين.. مما جعل الشركة تنقله إلى باريس حيث تدهورت حالته النفسية وانطوى على نفسه وأصابته الكآبة ..



            زهرة الخشخاش (1889)

            و قبل أن تقرر الشركة فصله كان قد قدم استقالته عازماً على تكريس حياته للخدمة الدينية بعد أن اتجه إلى لندن ليعمل كمدرس للغة الفرنسية، و لكن جو لندن المظلم الكئيب و ذكريات جرحه العاطفي جعلت حالته النفسية تزداد سوءاً فعاد إلى هولندا حيث التحق بمعهد لاهوتي في "أمستردام" و عكف على الدراسة الجادة ستة أشهر حتى أصابه الملل وقرر أن يعمل واعظاً بين عمال المناجم والفلاحين في إحدى قري بلجيكا حيث عايش المرضى بحمي التيفود وحاول تخفيف آلام الاحتضار عليهم، وسهر مع الفقراء و الجرحى، متخطياً بذلك الحدود المرسومة له كمبعوث ديني إلى نوع من الامتزاج والتوحد الكلي، حيث يقضي أيامه ولياليه بين هؤلاء لا يأكل إلا معهم ولا يخصص الوقت الكافي لراحته ونومه .. بل و وزع عليهم ملابسه وأغطيته وأصبح يعاني من البرد والجوع إلى الحد الذي جعل مظهره يتدهور .. مما زاد من تعلق هؤلاء العمال به حتى طردته السلطات الدينية قبل أن يمر عام واحد على تسلمه لهذا العمل، و ذلك لعدم اقتناعهم بطريقته في تطبيق التعاليم المسيحية على هذا النحو. و هو الأمر الذي زاد من أزمته النفسية حيث شعر بالفشل في كل ما أسند أليه من أعمال بجانب فشله في حبه، ولكنه قرر ألا يستسلم.. فما لبث أن كتب لأخيه " تيو " ليقول له " أنني بالرغم من كل شيء سوف أنهض ثانية .. سوف أتناول من جديد ريشتي التي تخليت عنها في أيام انكساري، و سأعود للرسم ، و الآن يبدو لي كل شيء و قد تغير" .




            لوحة ليلة النجوم (1889)


            و منذ ذلك الحين آمن " تيو "بأخيه فان جوخ وسنح له الفرصة ليخرج أعظم الأعمال الفنية .. حيث لم ينقطع تيو طيلة السنوات العشر التالية عن بذل المعونة المالية لأخيه و تشجيعه و مساعدته بكل ما استطاع توفيره من دخله المتواضع .. و ببلوغ " فان جوخ " السابعة والعشرين من عمره التحق بأكاديمية الفنون في مدينة " انفري " حيث بدأ حياته في عالم الألوان. عكف على رسم الفلاحين الهولنديين و عمال المناجم والبؤساء مسجلاً ما نقش في مخيلته من ذكريات في مجموعة من اللوحات الحزينة القاتمة القوية التعبير و هي المرحلة التي يطلق عليها في فنه "المرحلة الهولندية" التي امتدت ما بين عامي 1854 ، 1855 و في العام التالي رحل " فان جوخ" إلى باريس للإقامة مع أخيه في أستوديو بحي" مونمارتر" حيث كان أخوه تيو من تجار الصور المهتمين بتتبع الاتجاهات الحديثة في الفن، فقد كان مديراً لفرع إحدى المؤسسات الفنية. هذا الفنان العبقري لم يكن يرسم كثيرا فقط ، بل كان يكتب أيضا بنفس الحرارة والتوهج كمًا هائلا من الرسائل والخواطر إلى شقيقه ( تيو ) والتي جُمعت في كتاب من ثلاثة مجلدات تضمنت آرائه في الرسم وفي النقد والمجتمع و المرأة وعن نفسه في اغلب الأحيان. و سعد "فان جوخ" كثيراً بصحبة أخيه بعد ما قاساه من وحشة وحرمان و كذلك سعد بحياته الجديدة في باريس .. فما لبث أن تغيرت ألوانه القاتمة و حلت محلها الألوان الزاهية البراقة التي ربما عكست رؤيته للحياة في تلك الفترة، والتي اتجه فيها إلى دراسة النظريات والأساليب الفنية الجديدة و مناقشتها مع أصحابها بل وتجربتها في لوحاته، كما تعرف خلال هذه الفترة على عدد من الفنانين الشباب ومنهم " تولوزلوتريك" و " بول جو جان" .

            كما تأثرت لوحاته بالرسوم اليابانية المطبوعة .. ثم ظهرت تأثيرات تجارب زملائه المعاصرين علي فنه، و بعد مضي عام آخر كان قد استوعب كل ما حوله من تجارب ليصبح مهيئاً لمرحلة ناضجة استغرقت بقية حياته.. و استمرت إقامة " فان جوخ" الأخيرة في باريس لمدة عامين إلى أن قرر فجأة في فبراير عام 1888 السفر إلى بلدة " أرل" بمقاطعة " بروفانس" في جنوب فرنسا حيث الشمس الساطعة طوال النهار والألوان المتوهجة، و عكف خلال العامين التاليين على الرسم في سعادة و حماس لدرجة أن لوحاته في تلك الفترة تشع حيوية في ألوانها و شكلها.. و مع أنه كان يرسم بأسلوب لمسات الفرشاة المتعددة الألوان إلا أن لمساته في تلك الفترة كانت أعرض وأقوي .. وقد شرح طريقته في خطاب لأخيه يقول فيه: " أنني بدلاً من محاولة نقل الطبيعة بأمانة استخدمت الألوان بحريه و دون تقيد من أجل التعبير عن نفسي تعبيراً قوياً" .

            و في هذه المرحلة دعا " بول جوجان" إلى الإقامة معه وهو يحلم بإنشاء رابطة للفنانين وبأن يكون منزله هو نواة تحقيق هذا الحلم .. إلا أن وصول "جوجان"أعقبته المتاعب، فالمناقشات احتدمت والخلاف في الرأي اتسع والصخب الذي يثيره "جوجان" أينما حل أدي إلى توتر أعصاب " فان جوخ" حتى كان الانفجار عندما سخر " جوجان" من فكرة إنشاء رابطة للفنانين وعندئذ قذف " فان جوخ" محتويات كأسه من النبيذ في وجه "جوجان" ثم أغمى عليه، فحمله "جوجان" من المقهى إلى المنزل وأرقده في الفراش، و في الصباح ندم "فان جوخ" و طلب من زميله الصفح، ولكنهما ما لبثا أن عادا إلى الشجار بعد منتصف الليل، وتطور غضب " فان جوخ" لدرجة جعلته يخرج موس الحلاقة و يشهره في وجه " جوجان" بل و جرى وراءه في الشوارع محاولاً قتله، ولكنه عاد إلى بيته بعد أن أفاق و هو يشعر بحالة تمزق عنيف.

            و رحل "جوجان" تاركاً " فان جوخ" التي ظلت حالات الهياج الجنوني تعاوده من حين لآخر حتى قام في إحداها بقطع آذنه و ربط رأسه المصاب ثم قدم الأذن المقطوعة في لفافة إلى محبوبته التي طلبت منه أذنه خلال إحدى مداعباتها له ، وعندما عاد إلي بيته أغمي عليه و لم يفق إلا في المستشفي، و عندما استرد صحته طاردته أنظار أهل البلدة و صيحات أطفالها.. فانهارت أعصابه و لم يجد أخوه بداً من نقله إلى مستشفي للأمراض العقلية بالقرب من " أرل"، وهي المستشفي التي مكث فيها عام، و سمح له بالرسم فيها فظهر في لوحاته بهذه المرحلة شيء من عنف نوبات الصرع التي تعرض لها.. و عندما نجح أخوه في بيع إحدى لوحاته بمبلغ 400 فرنك .. اقترح أن يستخدم هذا المبلغ في الاستشفاء بمصحة خاصة قرب باريس يشرف عليها طبيب يدعي "دكتور جاشيت" و هو من هواة الفن، و قد أمضي هذا الطبيب أوقاتاً طويلة في صحبته، و لكن نوبات الصرع راحت تتوالى بانتظام وسئم جوخ الحياة.. فخرج إلى حقل مجاور وأطلق على نفسه الرصاص و لكنه لم يمت على الفور حيث نقله " تيو " إلى المستشفي التي مات بها بعد يومين وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره بعد أن رسم أكثر من 700 لوحة وحوالي 1000 رسمة . مات معدما، هزيلا، نحيلا، مهووسا، بعد أن طارده المرض وقذف به إلى مصحة عقلية، مات فان كوخ ليبدأ العالم تذكره وكتابة اسمه في قائمة الخالدين بأعمالهم .. الآن لوحاته لا تقدر بملايين الدولارات .. وهو كان يعيش أياما بأكملها



            تعليق


            • #7
              شارك حوالي 30 طبيبا دولياً من أطباء الأعصاب، والأطباء النفسيون، وإخصائيو الطب الباطني، في المؤتمر الذي استمر ليومين في أمستردام، في محاولة لتحديد التشخيص الطبي "النهائي" للرسام الهولندي فان جوخ بعد التشخيص الأولي، وقالوا أنه من المرجح أن الفنان كان يعاني من مشكلة في إدمان الكحول.بحسب تقرير نشرته صحيفة
              التليغراف البريطانية، الخميس 15 سبتمبر/أيلول 2016.



              فقد حاولوا موازنة الأدلة، بما في ذلك رسائله العديدة، ودرسوا النظريات المتضاربة حول أنه كان يعاني من عدة أمراض مثل مرض الصرع، والذهان، والهوس الاكتئابي، والفصام أو اضطراب الشخصية الحدية.

              وبحسب ما قاله أركو أودرفارد، مشرف وأستاذ في الأخلاقيات الطبية، لصحيفة التليغراف:
              "أحد الأشياء التي نبغضها في ثقافتنا، هو أن الأشياء تحدث ببساطة. نعم، كان شخصاً ذا صفاتٍ صعبة، إلا أن هذا لا يعد مرضاً".

              قسّم الخبراء حياة الفنان إلى فترتين - قبل وبعد انهياره الموثّق في 23 ديسمبر/أيلول عام 1888 في آرل بجنوب فرنسا، عندما تنازع الفنان مع صديقه بول غوغان، وقطع أذنه بنفسه، وأهداها إلى فتاة اسمها غابرييل كانت تعمل في بيت دعارة، وعانت لعدة سنوات من لقب "عاهرة" بسبب اتصالها بجوخ.

              وكان هذا أول انهيار في سلسلة طويلة من الانهيارات العصبية، وكان يتردد على المستشفى إلى أن مات متأثراً بجراحه إثر طلق ناريّ في 29 يوليو/تموز عام 1890 فيما بدا أنه حادث انتحار.

              وأضاف أودرفارد:
              "قبيل 23 ديسمبر/كانون الأول من عام 1888، ليس من الممكن أن نقول إنه كان مصاباً بمرضٍ ما أو بداء، رغم أن باستطاعتك الإشارة إلى أشياء بعينها تجعلك تستنج وجود مشكلة ما. ولكن الاستنتاج كان، بشكلٍ مفاجئ، أنه كان مصاباً بمرض الذهان".

              وتابع بقوله:"يمكن أن يرجع هذا إلى الإصابة بتسمم الكحول، وقلة النوم، وضغوط العمل، وشجاراته مع غوغان، الذي كان على وشك أن يهجره، فالتعلق كان إحدى متاعبه في الحياة. وقد تكررت نوبات الذهان بالفعل، لكنه قد تعافى تماماً فيما بينها".

              وقال أودرفارد:"إنه على الرغم من أن فان جوخ كان قد شُخّص بالإصابة بالصرع في ذلك الوقت، إلا أن المسميات قد اختلفت."
              وأضاف في النهاية "لا يمكن لشيء واحد فقط أن يفسر الصورة الكاملة لما حدث لفان جوخ".
              وقال تيو ميديندورب، كبير الباحثين في متحف فان جوخ في أمستردام، إن النتائج ستُقدّم في ورقة بحثية.




              تعليق

              يعمل...
              X