ما لا يسع المسلم جهله
لفضيلة الشيخ /الوليد بن سيف النصر-حفظه الله-
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإنه فرض على المسلم أن يتعلم أموراً مهمة في دينه، بحيث لا يسعه ألبتة جهلها، وأنه يأثم بترك تعلمها،
بل قد يضل بسبب إهمالها، وقد بينها أهل العلم.
قال الإمام الآجري رحمه الله تعالى: "فإن قال قائل: فإن العلم كثير لا يدركه كل أحد فيفرض على كل مسلم طلبه!.
قيل له: العلم على وجوه كثيرة فمنه علم لا يسع المسلم جهله غنياً كان أو فقيراً، صحيحاً أو زَمِناً حراً أو عبداً، إذا كان عاقلاً بالغاً في كل وقت وفي كل زمان مما ينبغي أن يكون مصحوبه في الحضر والسفر وعند كل حال.
وذلك: معرفة الله عز وجل بصفاته بصحة توحيده وإخلاصه فيه ومعرفة عدوه إبليس، ومعرفة نفسه الأمَّارة بالسوء، ومعرفة طهارته وصلاته كيف يؤدي خمس صلوات لله عز وجل في كل يوم وليلة، وكمال الطهارة، والغسل من الجنابة، هذا ما لا يسع كل مسلم جهله، بل فرض على كل من ذكرنا علمه والعمل به، وعلم معرفة ما بني عليه الإسلام، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
»بني الإسلام على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت على من استطاع إليه سبيلاً«([1])، ليس يسع المسلم أن يجهل ذلك وفرض عليه علمه حتى يكون مصحوبه في كل وقت، حتى إذا رزقه الله الكريم مالاً علم كيف يؤدي زكاته، وإذا ورد شهر رمضان علم كيف يصومه، وما يحل له، وهكذا إذا أراد الجهاد([2]) طلب علم ما وجب عليه من أحكام الجهاد ولا يسعه أن يجاهد بجهل، فصار فرضاً عليه، وهكذا إذا تجر بالأموال وهو لا يعلم الحلال من المكاسب ولا ما المحرمات منها وجب عليه فرضاً طلب علم ذلك، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"لا يتجر في سوقنا إلا من فقه وإلا أحل الربا"([3]).
وصدق عمر رضي الله عنه، إذا كان الإنسان لم يتقدم في طلب العلم لما يحل من البيع وما يحرم منه ولا الصحيح منه ولا الفاسد أكل الربا، وأكل الباطل.
وهكذا إذا أراد الدخول في أمر واجب عليه أو مباح له أجده لم يسعه الدخول فيه حتى يطلب علم ذلك فصار فرضاً عليه طلب العلم بهذه الصفة وما يشبهها من أمور الدنيا والآخرة، ولا يقدم عليها إلا بعلم، وإذا لم يكن معه علم ففرض عليه طلب العلم لذلك العمل الوارد عليه، وهذا يطول شرحه والله الموفق لمن أحب.
قال الآجري: "لاينفك (أي المسلم) أبداً من طلبه العلم لينتفي عنه الجهل بما أوجب الله عز وجل عليه من فرض عبادته في نفسه، وفي أهله، وفي ولده، وفي جميع سعيه فرضاً لازماً يسعى إلى العلماء بإتعاب نفسه، وإنفاق ماله، وتغربه عن وطنه ولو إلى الصين إذا كان لا يوجد العلم إلا بالصين.
وقال أيضاً: ونحن نعلم والحمد لله أن العلم موجود في كثير من مدائن المسلمين من طلبه وجده، واستغنى عن الخروج إلى الصين" ا-هـ من "كتاب فرض العلم".
وقال ابن القيم رحمه الله: "إن المفروض على الأعيان، وهو ما لا يسع مسلماً جهله وهو أنواع:
الأول: علم أصول الإيمان، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فالإيمان بهذه الأصول فرعُ معرِفَتِها والعلمُ بها، قال تعالى: ]فاعلم أنه لا إله إلا الله[.
الثاني: علم شرائع الإسلام واللازم منها علم ما يخصُّ العبدَ من فعلها، كعلمِ الوضوء والصلاة والصيام والحجِ والزَّكاةِ وتوابعها وشروطها ومبطلاتها.
الثالث:علم المحرمات من المآكل والمشارب، والمناكح، وغيرها مما نطق به الكتاب والسنة.
الرابع: علم أحكام المعاشرة، والمناكحة وتربية الأولاد، وعلم أحكام المعاملة التي تحصل بين الناس خصوصاً وعموماً، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته، كالواجب على الرجل مع أهله وجيرته، وليس الواجب على من نصّب نفسه لأنواع التجارات من تعلٌّم أحكام البياعات كالواجب، على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجةُ إليه"([4]).
قلت: وأهم ما سبق هو تعلم العقيدة والتوحيد الذي هو أول واجب على العبيد.
إذن فيجب على كل مسلم أن يتعلم التوحيد أولاً وقبل كل شئ، وأن يتعلم أسباب الفرار من نواقضه، وما يضاده من الشرك، إذ شرف العلم بشرف المعلوم.
ولا يجوز لأحد أن يقدِّمَ شيئاً عليه لا من العلوم، ولا غيرها.
وفي الحديث: لما بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له:
«إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله». [متفق عليه].
وفي الرواية الأخرى: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله». [متفق عليه].
وعن إبراهيم التيمي أنه قال: "كانوا يستحبون أن يلقنوا الصبي الصلاة، ويعرب أول ما يتكلم يقول: لا إله إلا الله ، سبع مرات، فيكون ذلك أول شئ يتكلم به".
(لا بأس به)، رواه عبدالرزاق (7977)، وابن أبي شيبة (1/348).
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: "وأول واجب على المكلَّف: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما في الحديث:
«أُمِرتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»"([5]).
وقال أبو محمد عبدالله الخليدي في كتابه: شرح اعتقاد أهل السنة لأبي علي الحسين بن علي الطبري قال: "فإن معرفة الله هي أول الفرض الذي لا يسع المسلم جهله، ولا تنفعه الطاعة وإن أتى بجميع طاعة أهل الدنيا"([6]).
صغار العلم قبل كباره
قال تعالى: ]ولكن كونوا ربّانين بما كنتم تُعَلِّمون الكتابَ وبما كنتم تدرسون[.
مما لا شك فيه أن طلب العلم يراعى فيه تقديم ما قدمه الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم، وأن هذا العلم دين فليس لأحد أن يتكلم فيه بالتشهي والهوى، وإنما الدليل من الكتاب والسنة على تقديم هذا العلم أو ذاك، ودراسة هذا الفن أو نحو ذا.
لذلك قال البخاري رحمه الله تعالى: "ويقال الربَّاني الذي يُرَبِّي الناسَ بصغار العلمِ قبلَ كِبارِهِ".
قال الحافظ في "الفتح" (1/195): "والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دقَّ منها".
فأول ذلك على الإطلاق هو التوحيد، فلا شئ أوضح منه ولا أبين ولا أوجب من تعلمه، قال البيهقي رحمه الله: "باب أول ما يجب على العبد معرفته والإقرار به قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
]فاعلم أنه لا إله إلا الله[، وقال تعالى:
]فاعلموا أن الله مولاكم[". (الاعتقاد/ص120).
وقال الحافظ ابن رجبرحمه الله قال:
"فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام: أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية، وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر، واجتناب ما ينهى عنه، فيكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره، وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة"([7]).
البحث عن أولويات العلم الشرعي
نجد من طلاب العلم من يهديه الله تعالى للعلم الشرعي، فيبدأ بحفظ القرآن حفظاً متقناً، ويتعلم تجويده، ويقيم حروفه وهذا خير، لكنَّ كثيراً منهم يغرقون في ذلك ويغالون في هذا الأمر على ما بينه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس".
ثم بدلاً من أن يبحث عن معاني القرآن، والتفقه فيه، نجده ينتقل من قراءة إلى قراءة حتى يختم القراءات العشر، ويحفظ في ذلك المتون الطويلة الكثيرة، وما عسى أن يكون حكم تعلم تلك القراءات؟
غايته أن يكون فرض كفاية في الأمة.
وهو مع ذلك لم يَقُمْ بتعلم الواجبات العينية من معرفة ما يعينه على تدبر وتفهم القرآن، والفقه في عباداته اللازمة، وكذا من السنة مثل ذلك، بل لم يتقن عقيدته.
([1]) متفق عليه: رواه البخاري (8)، ومسلم (16).
([2]) حتى يعلم من يزعم في زماننا هذا أنه يريد الجهاد في سبيل الله أنه لا يجوز له ولا يحل أن يقدم عليه حتى يتعلم أحكامه، وإلا وقع في غلط وخلط، واستباح ما حرمه الله تعالى، وفعل من الأمور المخالفة الكثير كما هو مشاهد، فليرجعوا إلى أهل العلم لا إلى أصحاب الحماسات والسياسات والحماقات من المتهورين، والمثقفين من الحركيين ونحوهم فإن من أشراط الساعة أن يتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، كما جاء في الصحيحين، وقد قال صلى الله عليه وسلم عمن سأل من ليس بعالم فأفتوه بجهل، قال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما كان شفاء العي السؤال»، فلا حول ولا قوة إلا بالله من زمان قليل فقهاؤه، كثير جهاله!!.
([3]) إسناده صحيح: رواه الترمذي (487): "لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين"، ثم قال: "هذا حديث حسن غريب" .
([4]) الإفادة من مفتاح دار السعادة (1/260).
([5]) مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى(ص69).
([6]) ينظر القول المفيد في أول واجب على العبيد لعلي بن مشبب (ص17).
([7]) إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم (ص141).
تعليق