الإيمان بالقضاء والقدر
(معناه وأركانه وثمراته)
الشيخ عادل يوسف العزازي
الإيمان بالقدر:
قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقال تعالى: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [التغابن: 11].
وعن طاوس قال: (أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: "كل شيء بقدر"، قال: سمعت عبدالله بن عمر يقول: كل شيء بقدر، حتى العَجْزُ والكَيْسُ، أو الكَيْسُ والعَجْز)[1].
وسئل الإمام أحمد عن القدر فقال: (القدر قدرة الله)[2]، واستحسن هذا الكلام من الإمام أحمد؛ مما يدل على تبحره وفقهه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من لم يقل بقول السلف، فإنه لا يثبت لله قدرةً، ولا يثبته قادرًا؛ فالجهميةُ ومن اتبعهم، والمعتزلة المجبرة والنافية، حقيقة قولهم: أنه ليس قادرًا، وليس له الملك...)[3].
قلت: وثبت ما قاله الإمام أحمد موقوفًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد روى ابن بطة في "الإبانة" من طريق زيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "القدر قدرة الله؛ فمن كذب بالقدر، فقد جحد قدرة الله".
معنى القدر:
القدر لغة: القضاء والحكم ومبلغ الشيء، والتقدير: التروية والتفكر في تسوية الأمر[4].
واصطلاحًا: ما سبق به العلم، وجرى به القلم، مما هو كائن إلى الأبد، وأنه قدر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون.
الفرق بين القضاء والقدر:
للعلماء في الفرق بين القضاء والقدر قولان:
الأول: القضاء هو العلم السابق الذي حكم به في الأزل، والقدر وقوع الخلق على وفق الأمر المقضي السابق.
الثاني: عكس الأول: فالقدر هو الحكم السابق، والقضاء هو الخلق والإيجاد.
والقول الثاني هو الأرجح؛ فإن القدر اسم لما صار مقدرًا، والقضاء: إيجاده.
قال ابن بطال رحمه الله: (القضاء هو المقضي)[5]
.وقال الخطابي رحمه الله: (القدر اسم لما صار مقدرًا عن فعل القادر).
وأما القضاء فهو الخلق؛ كما قال تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [فصلت: 12]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 117].
أركان الإيمان بالقدر:
الإيمان بالقدر يتكون من أربع مراتب أو أربعة أركان، وهي:
(1) الإيمان بعلم الله السابق.
(2) الإيمان بكتابته قبل كونها.
(3) الإيمان بمشيئة الله النافذة.
(4) الإيمان بأنه خالق كل شيء.
وتفصيل هذه الأركان كالآتي.
• الركن الأول: الإيمان بعلم الله السابق.
فهو سبحانه وتعالى عالم بالعباد وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم، وأهل الجنة منهم، وأهل النار منهم قبل أن يخلقهم؛ قال تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ﴾ [النجم: 30]، وقال: ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ [النجم: 32].
ويقرر سبحانه ذلك بعلمه في الكافرين لو عادوا إلى الدنيا كيف يكون حالهم، فقال تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28].
وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))[6].
وقال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [الجاثية: 23].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: علم ما يكون قبل أن يخلقه.
قال ابن الجوزي رحمه الله: على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي.
قال ابن القيم رحمه الله: أضله الله عالمًا به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره قبل خلقه وبعده، أنه أهل للضلال وليس أهلًا أن يهدى، وأنه لو هدي لكان قد وضع الهدى في غير محله، وعند من لا يستحقه؛ فالرب سبحانه حكيم، إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها، فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر والحكمة التي لأجلها قدر عليه الضلالة، وذكر العلم إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضع الشيء في مواضعه، وإعطاء الخير من يستحقه ومنعه من لا يستحقه، فإن هذا لا يصح بدون العلم؛ فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه، وهو سبحانه كثيرًا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه أضل الكافر؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].
والله سبحانه وتعالى قد علم قبل أن يخلق عباده أحوالهم، وما هم عاملون، وما هم إليه صائرون، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومه، فاستحقوا المدح والذم، والثواب والعقاب، بما قاموا به من الأفعال والصفات المطابقة للعلم السابق، ولم يكونوا يستحقون ذلك، وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه إعذارًا إليهم، وإقامة للحجة عليهم؛ لئلا يقولوا: كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟! فلما أظهر علمه فيهم بأفعالهم جعل العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار، وكما ابتلاهم بأمره ونهيه، ابتلاهم بما زين لهم في الدنيا، وبما كتب فيها من الشهوات، فذلك ابتلاء بشرعه وأمره، وهذا ابتلاء بقضائه وقدره؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾ [الفرقان: 20])[7].
• الركن الثاني: الإيمان بكتابة الله للمقادير:
(أ) قال تعالى: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12]، والمقصود به اللوح المحفوظ، وهو "أم الكتاب"، وهو "الذِّكر" الذي كتب الله فيه كل شيء، وهذا يتضمن كتابة الأعمال قبل أن يعملوها، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها، وحفظه لها، والإحاطة بعددها، وإثباتها فيه.
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105].فالزَّبور جميع الكتب المنزلة من السماء، والذِّكر: أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ.
(ب) وكتابة الأعمال يدخل فيها خمسة تقادير:
الأول: التقدير الأزلي السابق قبل خلق السموات والأرض، وهذا ما تقدم دليله من الآيات، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟
قال: اكتب ما سيكون إلى يوم القيامة))[8].
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء))[9].
الثاني: التقدير عند أخذ الميثاق:
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 172 - 174].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحُمَمُ، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي))[10].
معنى: "الحُمَم" قال القرطبي: الفحم.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أعُلِمَ أهلُ الجنة من أهل النار؟
قال: ((نعم))، قال: ففيمَ يعمل العاملون؟ قال: ((كلٌّ ميسَّر لِما خلق له))[11].
قال الطحاوي رحمه الله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملَك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان؛ فالحذر كل الحذر من ذلك؛ نظرًا وفكرًا ووسوسة؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال تعالى في كتابه: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فمن سأل: لم فعل؟ رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين)[12].
الثالث: التقدير العمري:
وهو تقدير أرزاق العباد وآجالهم وأعمالهم وشقوتهم وسعادتهم وهم في بطون أمهاتهم؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))[13].
الرابع: التقدير الحولي السنوي:
وذلك في ليلة القدر:
قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ [الدخان: 3 - 5].
قال الحسن البصري رحمه الله: والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان، وإنها لليلة القدر، يُفرَق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها.وقال ابن عباس رحمه الله: (يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر، حتى الحجاج، يقال: يحج فلان، ويحج فلان)[14].
الخامس: التقدير اليومي:
وهو سَوق المقادير إلى مواقيتها التي قدرت لها فيما سبق؛ قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29].ومعنى الآية: من شأنه أن يحييَ ويميت، ويخلق ويرزق، ويُعِزَّ ويُذِلَّ قومًا، ويشفي مريضًا، ويفك عانيًا، ويفرج مكروبًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلًا، ويغفر ذنبًا، إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما شاء.
• الركن الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة:
فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 29]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40].قال الطحاوي رحمه الله: (وكل شيء يجري بتقديره، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم؛ فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلًا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلًا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحُكمه، ولا غالب لأمره، آمنَّا بذلك كله، وأيقنا أن كلًّا من عنده)[15].
ومعنى أنه متعالٍ عن الأضداد؛ أي: المخالفين، والمقصود أنه سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
والذين نفوا مشيئة الله هم القدرية؛ فإنهم آمنوا بمشيئة العباد، ونفَوا مشيئة رب الأرباب، وقابلهم في بدعتهم الجبرية، الذين جعلوا العبد مجبرًا على أقواله وأفعاله لا مشيئة له.
والذي عليه أهل السنة إثبات مشيئة الله النافذة، وأن للعباد قدرة على أعمالهم، ولهم مشيئة، والله خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم، وهو الذي منحهم إياها، وأقدرهم عليها، وجعلها قائمة بهم، مضافة إليهم حقيقة، وعلى ذلك كلفوا، وعليه يثابون ويعاقبون، ولم يكلفهم الله إلا وسعهم، ولم يحمِّلْهم إلا طاقتهم: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30].
• الركن الرابع: الإيمان بأن الله خالق كل شيء:
قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ [النجم: 43]، والإضحاكُ والإبكاءُ فعلانِ اختياريان؛ فهو سبحانه المُضحِك المُبكِي للعبد.
وهذا أمر متفق عليه في الكتب الإلهية، وفي الفِطَر والعقول والاعتبار، ولم يخالف في ذلك إلا القدرية مجوس هذه الأمة؛ حيث أخرجوا طاعات الملائكة والأنبياء والرسل والمؤمنين عن ربوبيته ومشيئته، وجعلوهم هم الخالقين لها، وأنها بمشيئتهم لا بمشيئته، وبقدرتهم لا بقدرته؛ تعالى الله عما يقولونه علوًّا كبيرًا!قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، وقال تعالى: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴾ [القمر: 52].
قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: (فكما لم يُوجِدِ العبادُ أنفسَهم لم يُوجِدوا أفعالهم؛ فقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم وأفعالهم تَبَعٌ لقدرة الله سبحانه وإرادته ومشيئته وأفعاله؛ إذ هو تعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأفعالهم، وليس مشيئتهم وإرادتهم وقدرتهم وأفعالهم هي عين مشيئة الله تعالى وإرادته وقدرته وفعله... فالله تعالى هادٍ حقيقةً، والعبد مهتدٍ حقيقة؛ ولهذا أضاف تعالى كلًّا من الفعلين إلى من قام به، فقال: ﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ [الإسراء: 97]؛ فإضافة الهداية إليه تعالى حقيقة، وإضافة الاهتداء إلى العبد حقيقة... وكذلك يضل الله تعالى من يشاء حقيقة، وذلك العبد يكون ضالًّا حقيقة، وهو سبحانه خالق المؤمن وإيمانه، والكافر وكفره؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾ [التغابن: 2]؛ أي: هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك كونًا لا شرعًا؛ فلا بد من وجود مؤمن وكافر، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال) [16].
الأمر الكوني والأمر الشرعي:
قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وأمر الله ينقسم إلى قسمين: أمر كوني، وأمر شرعي.فالأمر الكوني قدري متعلق بمشيئته بما يحب وبما يكره؛ فهو سبحانه خلَق الملائكة وهو يحبهم، وخلق إبليس وهو يُبغضه؛ فمشيئته سبحانه وتعالى عامة بما يحب ويُبغِض.وأما الأمر الشرعي فهو متعلق بأوامره التي يأمر بها عباده، وذلك كله محبوب لله؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7].
وعلى هذا، فالمؤمن بإيمانه وافق الأمر الكوني والأمر الشرعي، والكافر بكفره وافَق الأمر الكوني الذي هو مشيئة الله، ولم يوافق الأمرَ الشرعي الذي هو محبوب لله.
وعلى هذا، فإرادة الله تنقسم إلى إرادة كونية، وهي مشيئته، وإلى إرادة شرعية، وهي محبته.
الإيمان بالقدر لا يوجب الاتكالَ وتركَ العمل، ولكن يوجب الجد والاجتهاد.فقد اتفقت جميع الكتب السماوية والسنن النبوية على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال، بل يوجب الجد والاجتهاد، والحرص على العمل الصالح؛ ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف الأقلام بها، فقيل له: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟
قال: ((لا، اعملوا فكلٌّ مُيسَّر))، ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10]))[17].
فالله سبحانه قدر المقادير وهيأ لها أسبابًا، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسر كلًّا من خَلْقه لِما خُلق له في الدنيا والآخرة؛ فالعبد مهيأ له ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها، كان أشد اجتهادًا في فعلها والقيام بها أعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، من كون الحرث سببًا في وجود الزرع، والنكاح سببًا في وجود النسل، وكذلك العمل الصالح سببًا في دخول الجنة، والعمل السيئ سببًا في دخول النار.وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل))[18].
معنى قوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39].
في فهم ذلك إجابة على كثير من الإشكالات التي تشكل على بعض الناس؛ كإشكالية زيادة العمر أو الرزق المذكورة في الحديث الصحيح: ((من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصِلْ رحمه))[19].
وعمومًا، فقد أفاد شيخ الإسلام ابن تيمية الجواب على هذه التساؤلات بأن الأرزاق والأعمار نوعان:
(نوع جرى به القلم وكتب في أم الكتاب، فهذا لا يتغير ولا يتبدل، ونوع أعلم الله به ملائكته، فهذا هو الذي يزيد وينقص؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]، وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي قدر الله فيه الأمور على ما هي عليه، ففي كتب الملائكة يزيد العمر وينقص، وكذلك الرزق بحسب الأسباب؛ فإن الملائكة يكتبون له رزقًا وأجلًا، فإذا وصل رحمه زيد له في الرزق والأجل، وإلا فإنه ينقص له منهما)[20].
فوائد وثمرات الإيمان بالقدر[21].1
*- التوكل على الله تعالى عند فعل الأسباب، وعدم الاعتماد على هذه الأسباب؛ لأن كل شيء إنما هو بقدر الله.
2*- الإيمان بالقدر يجعل العبد لا يعجب بنفسه عند حصوله لمراده؛ لأن حصوله نعمة من الله تعالى قدرها له، وهيأ له أسبابها؛ فالفضل والمنة لله.
3*- الطمأنينة والراحة النفسية بما يجري عليه من أقدار الله تعالى، فلا يقلق بفوات محبوب أو حصول مكروه؛ لأن ذلك بقدر الله تعالى، وهو كائن لا محالة.
4*- تهون على العبد المصائب؛ لعلمه أن ذلك بقدر الله تعالى، وما كان من عند الله تعالى، فالرضا به والتسليم له شأنُ كل عاقل.
5*- الإيمان بالقدر[22] طريق التخلص من الشرك؛ لأن المؤمن بالقدر مقر بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد ومعبود واحد، ومن لم يؤمن بهذا فإنه يجعل من دون الله آلهة وأربابًا.
بعض الألفاظ الدارجة على ألسنة الناس تتنافى مع الإيمان القدر:
• قولهم: (آدي الله وآدي حكمته)، وفيه التلميح بالتسخط بالقدر وعدم الرضا به، والصحيح أن يقول: قدر الله وما شاء فعل.
• ومن ذلك قول بعضهم: (قدرٌ أحمق الخطى)، وفي هذا وصف لقدر الله بالحمق، وهذا باب من أبواب الكفر، نعوذ بالله من الخذلان.
• ومن ذلك قولهم: (لعبة القدر)، أو (لعب به القدر).
• ومن ذلك قول بعضهم تسخطًا على قدر الله: (ليه كده يا رب؟)، (أنا عملت إيه في دنيتي؟)، أو (ما فيش غيري؟).
• ومن ذلك قولهم: (ينساك الموت)، أو (هو ربنا نسيك ليه)، وهذا لا يليق أن يقال عن الله؛ فالله تعالى لا ينسى؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64].
• ومن ذلك قولهم: (قليل الحظ يلاقي (يجد) العظم في الكرشة)، وفيها اعتراض على تقدير الله.
• ومن ذلك قولهم: (يدي الحلق للي ما لهاش ودان)، وفي هذه العبارة الاستهانة والاحتقار لتقدير الله.
• ومن ذلك قولهم: (هو فيه إيه عدل؟)، وهذا تسخط على قدر الله.
• قول بعضهم عند موت قريب له: (سيبنا لمين)، (بدري من عمرك)، (مات قبل يومه)، وهذا كله يتنافى مع الاعتقاد بما قدره الله من الآجال.
• ومن ذلك قولهم: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه).
وأفاد الشيخ ابن باز خطأ هذه الكلمة؛ لأنه لا شيء في أن يسأل العبد ربه أن يدفع عنه البلاء؛ فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء، ثم إن سؤال التخفيف في القضاء دون إزالته هو تضييق لرحمة الله، (من كتاب تنبيهات شرعية).
[1] رواه مسلم (2655).
[2] منهاج السنة النبوية لابن تيمية (3/ 254)، وشفاء العليل لابن القيم (1/ 28).
[3] مجموع الفتاوى (8/ 30).
[4] القاموس المحيط (ص591).
[5] انظر فتح الباري (11/ 149).
[6] البخاري (1383)، ومسلم (2660).
[7] شفعاء العليل (1/ 35).
[8] رواه أبو داود (4700)، والترمذي (3319)، وأحمد (5/ 317) عن عبادة بن الصامت، وإسناده صحيح.
[9] رواه مسلم (2653).
[10] رواه أحمد (6/ 441)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (49).
[11] رواه البخاري (7551)، ومسلم (2649).
[12] العقيدة الطحاوية (32).
[13] رواه البخاري (3208)، (3332) (6594)، ومسلم (2643).
[14] تفسير ابن أبي حاتم (12/ 213).
[15] انظر شرح الطحاوية (ص153* 156).
[16] معارج القبول (3/ 942).
[17] البخاري (1362)، ومسلم (2647).
[18] رواه مسلم (2664)، وابن ماجه (4168)، وأحمد (2/ 366).
[19] البخاري (2067) (5985) (5986)، ومسلم (2557).
[20] مجموع الفتاوى (8/ 540)، وانظر كذلك (8/ 517)، وانظر فتح الباري (11/ 488).
[21] من كتاب الثمرات الزكية (ص251) بتصرف، وقد عزاها إلى رسائل في العقيدة لابن عثيمين (39)، وشرح حديث الولي للشوكاني (313، 414).
[22] من كتاب القضاء والقدر، للدكتور عمر سليمان الأشقر.
تعليق