إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ديوتيما .... معلمة سقراط

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ديوتيما .... معلمة سقراط


    ديوتيما .... معلمة سقراط

    في محاورة المأدبة يأتي الخادم الذي ذهب في طلب سقراط ليقول للحاضرين: إن سقراط واقف في رواق مجاور غير ملق بالاً لأحد ، ولم يستمع لندائي! كما أن سقراط كان يصف حديث ديوتيما في المحاورة نفسها بأنه حديث يقطر حكمة، ويقول لها: لعلك بلغت من الحكمة غايتها، وعندما تطرح عليه سؤالاً تكون إجابته:لو كنت أستطيع يا ديوتيما الجواب ما أعجبت بحكمتك كل هذا الإعجاب، وما كنت أقف منك موقف التلميذ من الأستاذ لأقتبس منك، وأتلقى عنك معرفة الحب.

    عندما جاء دور سقراط للحديث عن الحب في محاورة المأدبة قال:سأروي لكم حديثاً عن الحب سمعته من امرأة من مانتينا، اسمها ديوتيما وهي صاحبة أعمال جليلة ...الخ.
    فهل كانت هذه المرأة شخصية حقيقية تعلم عنها سقراط فن الحب كما يقول، أم أنها شخصية أسطورية خيالية ابتكرها ذهن أفلاطون؟ من المهم الإجابة على هذا السؤال.
    الرأي الأول: ديوتيما شخصية خرافية

    سوف نبدأ أولا بعرض الحجج التي يرى أصحابها أنها تؤيد بقوة القول بأن ديوتيما ليست شخصية تاريخية حقيقية، وإنما هي شخصية خرافية. وهذه الحجج تتلخص في النقاط التالية:

    أ-ليس من طبيعة أفلاطون الزج بامرأة لتقوم بدور رئيسي في الحوار، كما فعل مع ديوتيما في محاورة المأدبة

    ب- لا يمكن أن نأخذ ما يقوله سقراط مأخذ الجد ، فهو لم يتعلم شيئا قط من أية امرأة ، و الأرجح أن تكون أراء ديوتيما هي نفسها أراء سقراط

    جـ-لابد أن ننظر إلى محاورة المأدبة على أنها نموذج رائع لمواهب أفلاطون الأدبية بوصفه روائياً، وذلك يعني أن شخصية ديوتيما خلقها أفلاطون الأديب، واختفى وراءها ليقول ما يريد

    د-ليس هناك ذكر لشخصية ديوتيما في المصادر القديمة يمكن أن نرجع إليه سوى محاورة المأدبة

    هـ- ربما كانت شخصية ديوتيما من خلق سقراط نفسه، أو أن تكون نموذجاً أخر لتهكم سقراط الشهير!

    فسقراط عندما يصف ديوتيما بأنها كاهنة وصاحبة أعمال جليلة ، استطاعت أن تدفع الطاعون عن الأثينيين عشر سنوات، لم يكن سوى تهكم ، أعني أننا لابد أن نفهم ذلك كله، على أنه ضرب من السخرية، ولون من التهكم السقراطي الشهير. فسقراط المتهكم العظيم كان يؤمن بآراء ديوتيما عندما كان شاباً، ثم تخلى عنها في مرحلة النضج، ومن هنا فقد أراد بضرب من التهكم أن ينسب آراءه المبكرة إلى شخصية أخرى.

    الرأي الثاني: ديوتيما ... شخصية حقيقية

    الحجج السابقة هي التي يدعم بها أصحاب الفكرة القائلة بأن "ديوتيما" شخصية خرافية – موقفهم ، وينتهون إلى نتيجة هامة هي أنه ليس ثمة امرأة بهذا الاسم ، وبالتاي فإن ما قيل من آراء في فلسفة الحب إما أنها كانت لسقراط في شبابه ، أو هي آراء أفلاطون .
    ويذهب الفيلسوف الأفلاطوني تيلور إلى القول بأن سقراط أراد في الواقع ، أن يحول الحديث نفسه إلى جدل أو حوار أو فكر أصيل، بأن يضعه على لسان امرأة اسمها ديوتيما،وهي كاهنة من مانتينيا ،وهو يروى مسار السؤال والجواب الذي دار بينه وبين هذه الكاهنة ، وهو الحوار الذي فتحت فيه عينيه ليفهم الأسرار الحقيقية للحب.
    ويستطرد تيلور ليرد على فكرة ديوتيما الشخصية الخرافية التي خلقها خيال أفلاطون الأديب فيقول من ناحية أخرى، ليس في استطاعتي أن أتفق مع كثير من الباحثين المحدثين الذين ينظرون إلى ديوتيما على أنها شخصية خرافية؛ ذلك لأن إدخال شخصيات خرافية أو أسماء وهمية في المحاورة هو في رأيي حيلة أدبية مجهولة تماماً لأفلاطون – كما سبق أن ذكرنا في فصل سابق.
    أكانت كاهنة أم فيلسوفة ، فهو قول يمكن الرد عليه ، ودحضه من أفلاطون نفسه الذي هو مصدر ثقة للمعلومات عن تاريخ سقراط ، فهو يبين لنا في كثير من المحاورات أن سقراط كان شخصية متدينة بعمق، وأنه كان صاحب تاريخ طويل في الإصغاء إلى صوت العرافة أو الكهانة . ونحن مرة أخرى نستشهد بتيلور، الذي يقول في هذا السباق: منذ قدم لنا سقراط قصة صديقه شريفون مع كاهنة دلفي كدليل في دفاعه أثناء المحاكمة ، ونحن نستطيع أن نزعم أن سقراط لم يكن يمانع قط في استشارة الكاهنات ، بل إنه كان يؤمن إيماناً كاملاً بتعاليمهن وفضلاً عن ذلك فإن استشارة شريفون لكاهنة دلفي، وقعت خلال السنوات العشر التي نزعم أن لقاء سقراط وديوتيما قد تم فيها.

    وفضلاً عن ذلك فإن عادة استشارة سقراط للمرأة وأخذ النصيحة من الكاهنة وردت أيضاً في محاورة مينون حيث يقول: ولقد سمعت عن رجال ونساء حكماء متبحرين في الأمور الإلهية. وهم طائفة من الكهنة والكاهنات الذين بذلوا جهوداً مضنية لفهم مبرر راشنل ما يقومون به من سلوك. ومن هنا فإن تيلور ينتهي إلى أن المعلومات التي يزودنا بها أفلاطون عن سقراط لا مبرر أن نأخذها على أنها وقائع تاريخية.
    ولقد قام عالم اللغة الألماني كرانتس في مقالة له عن ديوتيما برسم خط مواز تماما لشخصية ديوتيما الحديثة عند الشاعر الرومانسي المرهف هلدرلين، فسقراط وهلدرلين كلاهما تلميذ يتعلم من أستاذته الحب والحكمة . والفرق بينهما هو الفرق بين الفيلسوف الماكر الساخر المتسامح ، العجوز الأفطس الأنف ، والشاعر القلق الوحيد الرائع في جماله وشبابه . والفرق بين المعلمتين هو كذلك الفرق بين عرافة وكاهنة تفتي بالقول الفاصل بعد اختلاف الآراء في شأن الحب، ولابد أنها كانت عجوز حتى تؤتى هذه الحكمة وبين شابة هادئة رقيقة تغيض عيناها وقلبها بالطيبة والحنان والفهم للشاعر الذي ألقت به المقادير في طريقها ، وشاءت أن يعيش في بيتها ، ويروي عطشه الأبدي من نبعها ، ويغرق كذلك أخر الأمر فيه.

    دليل من الآثار

    في المتحف القومي بنابلي صندوق صغير من البرونز وضعت فيه نسخة أثرية من محاورة المأدبة ، وقد نقشت صورة جميلة على غطاء الصندوق ، ويصف أوتوجان أحد المتخصصين في النقوش الكلاسيكية القديمة الزخارف التي نقشت على هذه الصورة على النحو التالي : ت
    تعبر الصورة عن منظر بسيط ليس فيه سوى مقعد بلا ظهر ، جلست عليه امرأة اتشحت بثوب طويل فضفاض، كما طرحت على جسدها رداء يغطي الجزء الأسفل منه . ووضعت على رأسها تاجاً يشبه الخوذة لا يكشف إلا عن جبهتها . ومن الواضح أن المنظر يصور امرأة منهمكة في الحديث، وقد استغرق انتباهها كله الموضوع الذي تتحدث فيه . وفي استطاعتنا أن نقول – دون أن نخشى الوقوع في الخطأ إن ذهن المرأة كان مستغرقاً تماماً وهي توجه حديثها إلى رجل يقف أمامها .
    أما الرجل فهو يقف مرتدياً رداءً بسيطاً يلتف أحد أطرافه حول ذراعه الأيسر ، أما الصدر ، والكتفين ، والذراع الأيمن فهي عارية تماماً ، وهو يميل برأسه قليلاً إلى اليمين ، وهو حاسر الرأس ، عاري القدمين ، أفطس الأنف ، وعيناه غائرتان تحت حاجب كث وشفاه غليظة .. الخ ، وبعد أن يقارن أوتوجان بين هذا النقش البرونزي، ونقوش أخرى من عصر أفلاطون ، وبعد أن يصف شخصية الإروس الحب الذي يبدو ظاهراً بين الرجل والمرأة يختتم حديثه قائلاً : لست أشك في أننا هنا أمام سقراط الذي تركزت عيناه وشد انتباهه إلى كلمات ديوتيما التي راحت في حديث حي تعلمه طبيعة الحب ، أو كما قالت هي نفسها أسرار الحب. وبينما يستحوذ عليهما هذا التأمل المقدس يقترب منهما إله الحب نفسه الإله إيروس في رداء كهنوتي يرتديه رجال الدين أثناء تأديتهم للطقوس والشعائر الدينية.
    وهذا الصندوق البرونزي يقدم لنا دليلاً أثرياً هاماً يدعم بقوة القول بوجود "ديوتيما" وأنها شخصية حقيقية وليست خرافية .


يعمل...
X