المعجزات الحسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
الثبوت والدلالة
إن نبوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد دلت عليها براهين نقلية وعقلية كثيرة، من أهمها المعجزات الباهرة التي أيّده الله تعالى بها. وقد اشتهر عند كثير من الناس أن لمحمد – صلى الله عليه وسلم – معجزة واحدة، هي: القرآن الكريم؛ فغفلوا عن المعجزات الحسية الكثيرة التي تداولها علماء المسلمين في كتبهم، مع أنها لا تقلّ عن المعجزات التي أتى بها الأنبياء السابقون.
فمن المعجزات الثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: تكثير الطعام، ونبع الماء بين أصابعه الشريفة، وحنين الجذع، وانشقاق القمر، وتسليم الحجر، وشفاء بعض أصحابه، وغير ذلك.
بل إن معجزات محمد – صلى الله عليه وسلم - تفوق في التفصيل معجزات الأنبياء السابقين. كما قال الإمام الشافعي: "ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا" قال تلميذه الربيع: "أعطى عيسى إحياء الموتى" فقال الشافعي: "أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك"(1).
والغاية من هذا المقال: توضيح أمرين اثنين:
الأمر الأول: إثبات المعجزات الحسية
إن المعجزات الحسية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثابتة عنه بطريق الاستفاضة والتواتر، فقد رواها جمع من الصحابة الذين شهدوها، وعنهم جمع من التابعين، وعن هؤلاء جمع من تلامذتهم، إلى أن يصل الأمر إلى المصنفات الحديثية المتداولة.
والمقصود هنا أصل حصول المعجزات المادية، لا أفرادها. وبعبارة أخرى، فقد ينازع بعض الناس في تواتر معجزة معينة، ولكن إذا جمعت الروايات المختلفة في هذا الباب، فإنها تدل - دون شك - على وقوع المعجزات إجمالا(2).
والتواتر هو "خبر جمع عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم"(3).
وللقارئ أن يسأل هنا: هل تواترت رواية المعجزات الحسية فعلا؟
وله بعد ذلك أن يسأل أيضا: إن تواترت، فما الذي يفيده تواترها من العلم؟
أما السؤال الأول: فأجيبُ عنه بجواب إجمالي، هو: الإحالة على أهل الاختصاص. ولست أظن عاقلاً منصفاً ينكر الرجوع إليهم في هذا السياق، كما لا يمكن أن ينكر تصديق الأطباء أو المهندسين مثلا إن أخبروا بما يدخل في مجال تخصصهم!
فإن قيل: أليست هذه دعوة إلى التقليد وتعطيل العقل؟ فالجواب: بل هذه المسألة آلية تطبيقية، تقوم على إتقان تطبيق القواعد المقررة، وليست استدلالا عقليا مبنيا على الاجتهاد ويمكن أن يؤثر فيه الاختلاف الفكري! ولذلك فإن كلام أهل الاختصاص مقبول هنا دون تردد، ولا يكون ذلك من التقليد المذموم.
على أن الاستدلال على التواتر يحتاج إلى استقصاء الروايات المختلفة من مصادرها التراثية، وهو شيء لا سبيل إليه في هذا المقال المختصر، مع كونه لن يعدو تكرار ما بحثه العلماء المتخصصون من قبل وانتهوا منه!
إذا علم هذا فقد نص كثير من العلماء المتخصصين على التواتر المعنوي للمعجزات المادية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بل على تواتر بعض أفرادها أيضا.
قال الإمام o وكيف تعد من دلائل النبوة عقلا؟ كيف تثبت هذه المعجزات نقلا؟ البيهقي: "وأما في المعجزات وفي فضائل واحد من الصحابة وقد رويت فيهما أخبار آحاد في ذكر أسبابها، إلا أنها مجتمعة في إثبات معنى واحد، وهو ظهور المعجزات على شخصٍ واحد وإثبات فضيلة شخصٍ واحد، فيحصل بمجموعها العلم المكتسب، بل إذا جمع بينها وبين الأخبار المستفيضة في المعجزات والآيات التي ظهرت على سيدنا المصطفى، دخلت في حد التواتر الذي يوجب العلم الضروري .."(4).
قال السعد التفتازاني: ".. نقل عنه من الأمور الخارقة للعادة ما بلغ القدر المشترك منه – أعني ظهور المعجزة - حد التواتر وإن كانت تفاصيلها آحاداٍ، كشجاعة على وَجودِ حاتم فإن كلا منهما ثبت بالتواتر وإن كان تفاصيلها آحادا، وهي مذكورةٌ في كتب السير"(5).
وقال القاضي عياض: "قال بعض أئمتنا ويجرى هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه -صلى الله عليه وسلم- آياتٌ وخوارق عادات إن لم يبلغ واحد منها معينا القطع فيبلغها جميعها"(6).
وقال ابن القيم: "ومعجزاتُه وآياتُه تزيد على الألف والعهد بها قريب، وناقلوها أصدقُ الخلق وأبرُّهم، ونقلُها ثابت بالتواتر قرناً بعد قرن"(7).
وهنالك نقول أخرى كثيرة، لا أطيل بذكرها(8).
ومن أفراد المعجزات التي نصوا على تواترها: الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، وشق الصدر، وحنين الجذع، وغيرها(9).
وأما السؤال الثاني، فجوابه أن التواتر يفيد العلم اليقيني عند جماهير العقلاء، السالمين من آفة السفسطة(10).
وبيان ذلك إجمالا: أن الأخبار إنما تُرد لوهم رواتها أو لتعمدهم الكذب فيها.
فأما إمكان الغلط والوهم فيجبر بالكثرة، إذ يمتنع في بديهيات العقل أن يتفق العدد الغفير من الناس على الغلط أو السهو أو النسيان في نقل الخبر!
وأما احتمال تعمّد الكذب فيجبر باشتراطنا في تعريف المتواتر أن يستحيل تواطؤ رواته على الكذب، لاختلاف مذاهبهم وبواعثهم الفكرية، وتنوع طبقاتهم وأماكن وجودهم.
وفي خصوص المعجزات الحسية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فإن المتأمل لأحوال الرواة، يجزم باستحالة اتفاقهم على الوهم، أو تواطئهم على الكذب.
والعقلاء يجدون نفوسهم مطمئنة بوجود البلدان البعيدة التي لم يسافروا إليها، وبوجود الأشخاص الذين ماتوا قبلهم، طمأنينة لا يخالطها أدنى تردد؛ وما وصلهم خبر ذلك إلا بطريق التواتر.
والذي يجوّز عقله الشك في مثل هذا، فإنه يجوّز التشكيك في المحسوسات كلها، وينتقل إلى مرتبة السفسطة وهدم أسس المعرفة كلها!
فلعل الفلسفة اليونانية لم توجد قط، ولعل الثورة الفرنسية ما كانت أبدا، ولعل الحرب الأهلية في أمريكا حديث خرافة، وهكذا في سلسلة من التشكيكات التي لا يحدها ضابط!
والذين يرفعون راية العقل ويدّعون التحاكم إليه في كل شيء، لا يصح أن يشككوا في البدهيات، فإن الشك المنهجي هدمٌ مجرد، يريح العقول من عناء البحث، كما يقول هنري بوانكاريه:
"الشك في كل شيء، والإيمان بكل شيء: حلان مريحان، يغنياننا عن التفكير"(11).
***
وها هنا شبهتان، تحتاجان لشيء من البيان، إحداهما نقلية والأخرى عقلية.
فالنقلية:
زعم بعضهم أن للنبي - صلى الله عليه وسلم – معجزة وحيدة هي القرآن الكريم. وقد يستدلون بقوله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها. وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (الإسراء:59).
والحق أن الآية الكريمة خاصة بآيات الاقتراح، أي بالمعجزات التي يطلب المشركون حدوثها. فبين الله سبحانه أن هذه المعجزات إن وقعت ولم يؤمنوا بها، كانوا مستحقين للهلاك العاجل في الدنيا. والله تعالى شاء أن تكون هذه الأمة مخالفة لمسالك الأمم السابقة، فلا يلحقهم هلاك دنيوي يستأصلهم.
يقول ابن جزي رحمه الله: " الآيات يراد بها هنا التي يقترحها الكفار، فإذا رأوها ولم يؤمنوا أهلكهم الله. وسبب الآية أن قريشاً اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فأخبر الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذبوا فيهلكوا .."(12).
فليس في الآية عدم إرسال الآيات مطلقا، وإنما هي خاصة بنوع مخصوص منها.
ويستدلون أيضا بالحديث الصحيح: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.
والحديث لا يدل على نفي المعجزات الحسية، ولكن يدل على المنزلة العظيمة لمعجزة القرآن الكريم، فإنها معجزة خالدة على مر الدهور، يستمر انتفاع الناس بها إلى قيام الساعة، خلافا للمعجزات المادية التي أوتيها الأنبياء السابقون، وانقطع النفع بها بعد موتهم.
فحصر المعجزات في القرآن - كما دل عليه لفظ (إنما) – ليس على ظاهره، بل هو لبيان تميزه عن سائرها. ومما يشبه هذا التعبيرَ قولُه تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} (الأنفال:2) أي: إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان، وقوله سبحانه: {إنما أنت منذر} (الرعد:7) أي: بالنسبة لمن لا يؤمن(13).
وأما العقلية:
فقول بعضهم: إن المعجزات الحسية مخالفة لقوانين الطبيعة المادية، فهي إذن غير مقبولة في موازين العلم الحديث!
والحق أن هذه الشبهة ضعيفة جدا، ويمكن الجواب عنها من أوجه:
أولها: أن عقول الناس مختلفة في قبول مثل هذه الخوارق. فإذا كان عقل الملحد يرفضها، فإن عقول الملايين من المؤمنين لا تجد غضاضة في قبولها! فإن قال اللاديني: أنت - أيها المتدين – تقبلها لأن طمأنينة الإيمان تمنعك من التكذيب بها؛ فإن المتدين يجيب: وأنت ترفضها لأن غشاوة الإلحاد تحجب عقلك عن تقبلها! فإلى أي عقل نحتكم إذن؟
والثاني: أن العقل لا مدخل له – على التحقيق – في إنكار الخوارق والمعجزات، وإنما مرجع ذلك إلى العادة. فما ألِف الناس وقوعه في عاداتهم اليومية المطردة استبعدوا أن يتخلف وقوعه يوما ما. أما العقل فلا يمكن أن يرفض خرق العادة، فإن ذلك ليس ميدانه!
والثالث: أن المقرّ بوجود الخالق سبحانه – وهذا شيء للاستدلال عليه موضع آخر – لا يصعب عليه التصديق بالمعجزات المخالفة للقوانين الطبيعية المطّردة. والسبب أن الذي خلق هذه القوانين هو نفسه القادر على تغييرها متى شاء. فلا معنى للإيمان بأن الله خلق الكون، مع القول بأنه لا يقدر على تغيير بعض المعتاد في أحوال مخصوصة!
والرابع: أن القوانين التي تسير عليها الطبيعة لا يزال الكثير منها مجهولا، والإنسان يكتشف من ذلك أشياء جديدة كلما زادت معارفه العلمية. فالجزم بأن معجزة معينة مخالفة لقوانين الطبيعة غير مقبول من جهة المنهج العلمي الصحيح(14).
الأمر الثاني: دلالة المعجزات الحسية
إذا ثبتت هذه المعجزات الحسية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وهي ثابتة كما سبق بيانه، فإنها تستلزم صدق من جاء بها، وتدل بوضوح على نبوة الحبيب -صلى الله عليه وسلم -، وذلك من أوجه مختلفة:
أولها: أن أخص خصائص المعجزات امتناع معارضتها من أفراد النوع البشري، فإن هذا مقتضى الإعجاز بها، أي أن الناس يعجزون عن الإتيان بمثلها. فتكون حينئذ خاصة بالأنبياء، لا تتعداهم إلى غيرهم.
والمتأمل في معجزات رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، سواء منها القرآن الكريم أو المعجزات الحسية، يجزم بأنها سالمة من المعارضة، فإنه لم يستطع أحد قط أن يأتي بمثلها.
والثاني: أن اجتماع المعارضين على تكذيب النبي، وحرصهم على إبطال دعواه، ثم عجزهم عن الإتيان بمثل ما أتى به، دليل على أنه لم يأت بهذا من عند نفسه، بل هو مؤيد من الله سبحانه. وذلك أن الذي يستطيع تعطيل قوانين الطبيعة المعتادة، إنما هو خالق الكون وواضع قوانينه.
فيكون ظهور المعجزة على يد النبي، بمثابة التصديق من الله تعالى له في دعواه أنه مرسل من عند الله.
والثالث: أن هذه المعجزات مقترنة بدعوى النبوة. فلا يخلو صاحبها من حالين:
إما أن يكون كاذبا في دعواه، دجالا لا يتورع عن الكذب على الله سبحانه؛
وإما أن يكون نبيا كريما، ورسولا صادقا في دعواه.
وبين مفهومي النبي والدجال كالذي بين السماء والأرض!
فلا يلتبس هذا بذاك إلا على جاهل مغرق في الجهل، لا يستطيع التمييز بين صلاح النبي وأحواله السَّنية وخصاله الحميدة؛ وبين فساد الدجال وأحواله القبيحة وصفاته الذميمة.
والرابع: أن المعجزات النبوية لا يمكن أن تختلط بسحر السحرة وتدجيلهم. وإذا لم تكن سحرا، فلا يبقى إلا أنها آيات يؤيد الله بها نبيه، فتكون دليلا على صدق صاحبها.
وأما عدم التباس المعجزات بالسحر، فلأسباب كثيرة، منها:
منها: أن السحر يمكن تعلمه والإتيان بمثله، بخلاف المعجزة فإنها ناتجة عن محض اصطفاء من الله تعالى، لا يد للمخلوق في اكتسابها.
ومنها: أن معارضة السحر بمثله ممكن ووارد، أما المعجزة فسبق أنها تمتنع معارضتها.
ومنها: أن السحر أغلبه تخييل وخداع، وأما المعجزة فهي تغيير للحقائق والماهيات.
ومنها: أن غاية الساحر – في الغالب – تحصيل الدنيا، وغاية النبي هداية الناس.
ومنها: أن للنبي حالا عظيمة من العبادة والتقوى والصدق والعدل، وغير ذلك من المكارم والصفات الحسنة. وأما الساحر فهو بمعزل عن ذلك كله، فالغالب عليه اقتراف المنكرات، والوقوع في الشركيات، والاستهانة بالمحرمات!
ومنها: أن النبي يأمر الناس بما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم، وينهاهم عما فيه فساد أديانهم ومعايشهم، ولا يأتي إلا بما يوافق الفطرة البشرية السوية. والساحر عمله في إذاية الناس، وتزيين الشرك والكذب والظلم في عيونهم.
إلى غير ذلك من وجوه التمييز بين الأمرين.
ومن هذه الأوجه نتبين أن أمر المعجزات المادية عظيم، وأن الحجة تقوم بها على الناس كافة، لاعتمادها على المدركات الحسية الواضحة التي يستوي الناس في فهمها وقبولها والإذعان لها، إن لم يقف في وجه ذلك مانع من جهل أو عناد.
ولكن لا ينبغي الغلو في شأنها إلى درجة حصر دلائل النبوة فيها، فشأن النبوة أعظم من أن تحصر طرق العلم بها في دليل واحد، بل هذه المعجزات المادية تدخل ضمن منظومة كاملة من براهين النبوة.
وللحديث عنها بتفصيل مجال آخر.
الثبوت والدلالة
إن نبوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد دلت عليها براهين نقلية وعقلية كثيرة، من أهمها المعجزات الباهرة التي أيّده الله تعالى بها. وقد اشتهر عند كثير من الناس أن لمحمد – صلى الله عليه وسلم – معجزة واحدة، هي: القرآن الكريم؛ فغفلوا عن المعجزات الحسية الكثيرة التي تداولها علماء المسلمين في كتبهم، مع أنها لا تقلّ عن المعجزات التي أتى بها الأنبياء السابقون.
فمن المعجزات الثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: تكثير الطعام، ونبع الماء بين أصابعه الشريفة، وحنين الجذع، وانشقاق القمر، وتسليم الحجر، وشفاء بعض أصحابه، وغير ذلك.
بل إن معجزات محمد – صلى الله عليه وسلم - تفوق في التفصيل معجزات الأنبياء السابقين. كما قال الإمام الشافعي: "ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا" قال تلميذه الربيع: "أعطى عيسى إحياء الموتى" فقال الشافعي: "أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك"(1).
والغاية من هذا المقال: توضيح أمرين اثنين:
الأمر الأول: إثبات المعجزات الحسية
إن المعجزات الحسية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثابتة عنه بطريق الاستفاضة والتواتر، فقد رواها جمع من الصحابة الذين شهدوها، وعنهم جمع من التابعين، وعن هؤلاء جمع من تلامذتهم، إلى أن يصل الأمر إلى المصنفات الحديثية المتداولة.
والمقصود هنا أصل حصول المعجزات المادية، لا أفرادها. وبعبارة أخرى، فقد ينازع بعض الناس في تواتر معجزة معينة، ولكن إذا جمعت الروايات المختلفة في هذا الباب، فإنها تدل - دون شك - على وقوع المعجزات إجمالا(2).
والتواتر هو "خبر جمع عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم"(3).
وللقارئ أن يسأل هنا: هل تواترت رواية المعجزات الحسية فعلا؟
وله بعد ذلك أن يسأل أيضا: إن تواترت، فما الذي يفيده تواترها من العلم؟
أما السؤال الأول: فأجيبُ عنه بجواب إجمالي، هو: الإحالة على أهل الاختصاص. ولست أظن عاقلاً منصفاً ينكر الرجوع إليهم في هذا السياق، كما لا يمكن أن ينكر تصديق الأطباء أو المهندسين مثلا إن أخبروا بما يدخل في مجال تخصصهم!
فإن قيل: أليست هذه دعوة إلى التقليد وتعطيل العقل؟ فالجواب: بل هذه المسألة آلية تطبيقية، تقوم على إتقان تطبيق القواعد المقررة، وليست استدلالا عقليا مبنيا على الاجتهاد ويمكن أن يؤثر فيه الاختلاف الفكري! ولذلك فإن كلام أهل الاختصاص مقبول هنا دون تردد، ولا يكون ذلك من التقليد المذموم.
على أن الاستدلال على التواتر يحتاج إلى استقصاء الروايات المختلفة من مصادرها التراثية، وهو شيء لا سبيل إليه في هذا المقال المختصر، مع كونه لن يعدو تكرار ما بحثه العلماء المتخصصون من قبل وانتهوا منه!
إذا علم هذا فقد نص كثير من العلماء المتخصصين على التواتر المعنوي للمعجزات المادية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بل على تواتر بعض أفرادها أيضا.
قال الإمام o وكيف تعد من دلائل النبوة عقلا؟ كيف تثبت هذه المعجزات نقلا؟ البيهقي: "وأما في المعجزات وفي فضائل واحد من الصحابة وقد رويت فيهما أخبار آحاد في ذكر أسبابها، إلا أنها مجتمعة في إثبات معنى واحد، وهو ظهور المعجزات على شخصٍ واحد وإثبات فضيلة شخصٍ واحد، فيحصل بمجموعها العلم المكتسب، بل إذا جمع بينها وبين الأخبار المستفيضة في المعجزات والآيات التي ظهرت على سيدنا المصطفى، دخلت في حد التواتر الذي يوجب العلم الضروري .."(4).
قال السعد التفتازاني: ".. نقل عنه من الأمور الخارقة للعادة ما بلغ القدر المشترك منه – أعني ظهور المعجزة - حد التواتر وإن كانت تفاصيلها آحاداٍ، كشجاعة على وَجودِ حاتم فإن كلا منهما ثبت بالتواتر وإن كان تفاصيلها آحادا، وهي مذكورةٌ في كتب السير"(5).
وقال القاضي عياض: "قال بعض أئمتنا ويجرى هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه -صلى الله عليه وسلم- آياتٌ وخوارق عادات إن لم يبلغ واحد منها معينا القطع فيبلغها جميعها"(6).
وقال ابن القيم: "ومعجزاتُه وآياتُه تزيد على الألف والعهد بها قريب، وناقلوها أصدقُ الخلق وأبرُّهم، ونقلُها ثابت بالتواتر قرناً بعد قرن"(7).
وهنالك نقول أخرى كثيرة، لا أطيل بذكرها(8).
ومن أفراد المعجزات التي نصوا على تواترها: الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، وشق الصدر، وحنين الجذع، وغيرها(9).
وأما السؤال الثاني، فجوابه أن التواتر يفيد العلم اليقيني عند جماهير العقلاء، السالمين من آفة السفسطة(10).
وبيان ذلك إجمالا: أن الأخبار إنما تُرد لوهم رواتها أو لتعمدهم الكذب فيها.
فأما إمكان الغلط والوهم فيجبر بالكثرة، إذ يمتنع في بديهيات العقل أن يتفق العدد الغفير من الناس على الغلط أو السهو أو النسيان في نقل الخبر!
وأما احتمال تعمّد الكذب فيجبر باشتراطنا في تعريف المتواتر أن يستحيل تواطؤ رواته على الكذب، لاختلاف مذاهبهم وبواعثهم الفكرية، وتنوع طبقاتهم وأماكن وجودهم.
وفي خصوص المعجزات الحسية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فإن المتأمل لأحوال الرواة، يجزم باستحالة اتفاقهم على الوهم، أو تواطئهم على الكذب.
والعقلاء يجدون نفوسهم مطمئنة بوجود البلدان البعيدة التي لم يسافروا إليها، وبوجود الأشخاص الذين ماتوا قبلهم، طمأنينة لا يخالطها أدنى تردد؛ وما وصلهم خبر ذلك إلا بطريق التواتر.
والذي يجوّز عقله الشك في مثل هذا، فإنه يجوّز التشكيك في المحسوسات كلها، وينتقل إلى مرتبة السفسطة وهدم أسس المعرفة كلها!
فلعل الفلسفة اليونانية لم توجد قط، ولعل الثورة الفرنسية ما كانت أبدا، ولعل الحرب الأهلية في أمريكا حديث خرافة، وهكذا في سلسلة من التشكيكات التي لا يحدها ضابط!
والذين يرفعون راية العقل ويدّعون التحاكم إليه في كل شيء، لا يصح أن يشككوا في البدهيات، فإن الشك المنهجي هدمٌ مجرد، يريح العقول من عناء البحث، كما يقول هنري بوانكاريه:
"الشك في كل شيء، والإيمان بكل شيء: حلان مريحان، يغنياننا عن التفكير"(11).
***
وها هنا شبهتان، تحتاجان لشيء من البيان، إحداهما نقلية والأخرى عقلية.
فالنقلية:
زعم بعضهم أن للنبي - صلى الله عليه وسلم – معجزة وحيدة هي القرآن الكريم. وقد يستدلون بقوله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها. وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (الإسراء:59).
والحق أن الآية الكريمة خاصة بآيات الاقتراح، أي بالمعجزات التي يطلب المشركون حدوثها. فبين الله سبحانه أن هذه المعجزات إن وقعت ولم يؤمنوا بها، كانوا مستحقين للهلاك العاجل في الدنيا. والله تعالى شاء أن تكون هذه الأمة مخالفة لمسالك الأمم السابقة، فلا يلحقهم هلاك دنيوي يستأصلهم.
يقول ابن جزي رحمه الله: " الآيات يراد بها هنا التي يقترحها الكفار، فإذا رأوها ولم يؤمنوا أهلكهم الله. وسبب الآية أن قريشاً اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فأخبر الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذبوا فيهلكوا .."(12).
فليس في الآية عدم إرسال الآيات مطلقا، وإنما هي خاصة بنوع مخصوص منها.
ويستدلون أيضا بالحديث الصحيح: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.
والحديث لا يدل على نفي المعجزات الحسية، ولكن يدل على المنزلة العظيمة لمعجزة القرآن الكريم، فإنها معجزة خالدة على مر الدهور، يستمر انتفاع الناس بها إلى قيام الساعة، خلافا للمعجزات المادية التي أوتيها الأنبياء السابقون، وانقطع النفع بها بعد موتهم.
فحصر المعجزات في القرآن - كما دل عليه لفظ (إنما) – ليس على ظاهره، بل هو لبيان تميزه عن سائرها. ومما يشبه هذا التعبيرَ قولُه تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} (الأنفال:2) أي: إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان، وقوله سبحانه: {إنما أنت منذر} (الرعد:7) أي: بالنسبة لمن لا يؤمن(13).
وأما العقلية:
فقول بعضهم: إن المعجزات الحسية مخالفة لقوانين الطبيعة المادية، فهي إذن غير مقبولة في موازين العلم الحديث!
والحق أن هذه الشبهة ضعيفة جدا، ويمكن الجواب عنها من أوجه:
أولها: أن عقول الناس مختلفة في قبول مثل هذه الخوارق. فإذا كان عقل الملحد يرفضها، فإن عقول الملايين من المؤمنين لا تجد غضاضة في قبولها! فإن قال اللاديني: أنت - أيها المتدين – تقبلها لأن طمأنينة الإيمان تمنعك من التكذيب بها؛ فإن المتدين يجيب: وأنت ترفضها لأن غشاوة الإلحاد تحجب عقلك عن تقبلها! فإلى أي عقل نحتكم إذن؟
والثاني: أن العقل لا مدخل له – على التحقيق – في إنكار الخوارق والمعجزات، وإنما مرجع ذلك إلى العادة. فما ألِف الناس وقوعه في عاداتهم اليومية المطردة استبعدوا أن يتخلف وقوعه يوما ما. أما العقل فلا يمكن أن يرفض خرق العادة، فإن ذلك ليس ميدانه!
والثالث: أن المقرّ بوجود الخالق سبحانه – وهذا شيء للاستدلال عليه موضع آخر – لا يصعب عليه التصديق بالمعجزات المخالفة للقوانين الطبيعية المطّردة. والسبب أن الذي خلق هذه القوانين هو نفسه القادر على تغييرها متى شاء. فلا معنى للإيمان بأن الله خلق الكون، مع القول بأنه لا يقدر على تغيير بعض المعتاد في أحوال مخصوصة!
والرابع: أن القوانين التي تسير عليها الطبيعة لا يزال الكثير منها مجهولا، والإنسان يكتشف من ذلك أشياء جديدة كلما زادت معارفه العلمية. فالجزم بأن معجزة معينة مخالفة لقوانين الطبيعة غير مقبول من جهة المنهج العلمي الصحيح(14).
الأمر الثاني: دلالة المعجزات الحسية
إذا ثبتت هذه المعجزات الحسية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وهي ثابتة كما سبق بيانه، فإنها تستلزم صدق من جاء بها، وتدل بوضوح على نبوة الحبيب -صلى الله عليه وسلم -، وذلك من أوجه مختلفة:
أولها: أن أخص خصائص المعجزات امتناع معارضتها من أفراد النوع البشري، فإن هذا مقتضى الإعجاز بها، أي أن الناس يعجزون عن الإتيان بمثلها. فتكون حينئذ خاصة بالأنبياء، لا تتعداهم إلى غيرهم.
والمتأمل في معجزات رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، سواء منها القرآن الكريم أو المعجزات الحسية، يجزم بأنها سالمة من المعارضة، فإنه لم يستطع أحد قط أن يأتي بمثلها.
والثاني: أن اجتماع المعارضين على تكذيب النبي، وحرصهم على إبطال دعواه، ثم عجزهم عن الإتيان بمثل ما أتى به، دليل على أنه لم يأت بهذا من عند نفسه، بل هو مؤيد من الله سبحانه. وذلك أن الذي يستطيع تعطيل قوانين الطبيعة المعتادة، إنما هو خالق الكون وواضع قوانينه.
فيكون ظهور المعجزة على يد النبي، بمثابة التصديق من الله تعالى له في دعواه أنه مرسل من عند الله.
والثالث: أن هذه المعجزات مقترنة بدعوى النبوة. فلا يخلو صاحبها من حالين:
إما أن يكون كاذبا في دعواه، دجالا لا يتورع عن الكذب على الله سبحانه؛
وإما أن يكون نبيا كريما، ورسولا صادقا في دعواه.
وبين مفهومي النبي والدجال كالذي بين السماء والأرض!
فلا يلتبس هذا بذاك إلا على جاهل مغرق في الجهل، لا يستطيع التمييز بين صلاح النبي وأحواله السَّنية وخصاله الحميدة؛ وبين فساد الدجال وأحواله القبيحة وصفاته الذميمة.
والرابع: أن المعجزات النبوية لا يمكن أن تختلط بسحر السحرة وتدجيلهم. وإذا لم تكن سحرا، فلا يبقى إلا أنها آيات يؤيد الله بها نبيه، فتكون دليلا على صدق صاحبها.
وأما عدم التباس المعجزات بالسحر، فلأسباب كثيرة، منها:
منها: أن السحر يمكن تعلمه والإتيان بمثله، بخلاف المعجزة فإنها ناتجة عن محض اصطفاء من الله تعالى، لا يد للمخلوق في اكتسابها.
ومنها: أن معارضة السحر بمثله ممكن ووارد، أما المعجزة فسبق أنها تمتنع معارضتها.
ومنها: أن السحر أغلبه تخييل وخداع، وأما المعجزة فهي تغيير للحقائق والماهيات.
ومنها: أن غاية الساحر – في الغالب – تحصيل الدنيا، وغاية النبي هداية الناس.
ومنها: أن للنبي حالا عظيمة من العبادة والتقوى والصدق والعدل، وغير ذلك من المكارم والصفات الحسنة. وأما الساحر فهو بمعزل عن ذلك كله، فالغالب عليه اقتراف المنكرات، والوقوع في الشركيات، والاستهانة بالمحرمات!
ومنها: أن النبي يأمر الناس بما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم، وينهاهم عما فيه فساد أديانهم ومعايشهم، ولا يأتي إلا بما يوافق الفطرة البشرية السوية. والساحر عمله في إذاية الناس، وتزيين الشرك والكذب والظلم في عيونهم.
إلى غير ذلك من وجوه التمييز بين الأمرين.
ومن هذه الأوجه نتبين أن أمر المعجزات المادية عظيم، وأن الحجة تقوم بها على الناس كافة، لاعتمادها على المدركات الحسية الواضحة التي يستوي الناس في فهمها وقبولها والإذعان لها، إن لم يقف في وجه ذلك مانع من جهل أو عناد.
ولكن لا ينبغي الغلو في شأنها إلى درجة حصر دلائل النبوة فيها، فشأن النبوة أعظم من أن تحصر طرق العلم بها في دليل واحد، بل هذه المعجزات المادية تدخل ضمن منظومة كاملة من براهين النبوة.
وللحديث عنها بتفصيل مجال آخر.
هوامش المقال
1- نقله ابن حجر في فتح الباري: 6/603.
2- هذا ما يسمى عند المحدثين والأصوليين: التواتر المعنوي، وهو أن تنقل وقائع مختلفة، ولكن بينها قدر مشترك، فيكون هذا القدر متواترا وإن كانت رواية كل واقعة وحدها غير متواترة. وأنبه على أن من أفراد المعجزات الحسية ما تواتر أيضا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
3- إرشاد الفحول: (1/128). وهنالك تعريفات أخرى تراجع في كتب أصول الفقه.
4- دلائل النبوة: 1/33.
5- شرح العقائد النسفية (بحاشية الكستلي): 168.
6- الشفا للقاضي عياض: 1/253-254. قال الشهاب في الحاشية: '' أي مجموعها وهذا يسمى التواتر المعنوي''.
7- إغاثة اللهفان: 2/347.
8- خصص جماعة من المحدثين مؤلفات لسرد أدلة النبوة، منها: دلائل النبوة للبيهقي والفريابي وأبي نعيم والطبراني، وأعلام النبوة لأبي داود وغيرها. كما عقد المحدثون في تصانيفهم الحديثية أبوابا لدلائل النبوة، كالذي صنعه الإمام البخاري في صحيحه، وسماه: (علامات النبوة)، ولتراجع الكتب المخصصة لشرح الأحاديث.
9- يراجع مثلا كتاب (نظم المتناثر من الحديث المتواتر) لمحمد بن جعفر الكتاني.
10- نقل الأصوليون عن السمنية والبراهمة قولهم: إن التواتر لا يفيد العلم. وهو قول مدفوع لا تقبله العقول السليمة.
11- من كتاب: '' La Science et l'Hypothèse ''، لـ'' Henri Poincaré '' عن دار '' Flammarion ''، ص2. والتعريب منّي.
12- التسهيل لعلوم التأويل (تفسير ابن جزي): 458.
13- يراجع فيض القدير للمناوي (5/595). وفيه أمثلة أخرى.
14- لكن يبقى جانب الإعجاز فيها قائما، من جهة عدم قدرة الإنسان على تكرارها في أحوال وظروف مخالفة.