إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الصراع اليهودي – الإغريقي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الصراع اليهودي – الإغريقي


    (الجزء 1)

    الصراع اليهودي – الإغريقي
    في عصر الرومان

    لقد نعم اليهود بالأمن والطمأنينة في أكثر فترات العصر البطلمي بمصر، فازدهرت جاليتهم وبصفة خاصة جالية الإسكندرية، وأصبحوا عنصرًا له خطره في حياة البلاد الاقتصادية والسياسية. وعندما أحسوا بأفول نجم البطالمة وبأن حكم مصر سيصير إلى روما أخذوا يعدون أنفسهم لاستقبال العهد الجديد وإظهار الولاء لأوكتافيانوس دون أن يقيموا وزنًا لمشاعر أغريق الإسكندرية، الذين اظهروا حنقهم على اليهود عملاء الاستعمار الروماني. وكان من الطبيعي أن تتأزم العلاقات بينهم خلال عهد الرومان الذين منحوا اليهود الكثير من الحقوق والامتيازات، ولم يعبأوا بمطالب الإسكندريين. وتعرض هذه الدراسة للصراع اليهودي – الإغريقي وسياسة الأباطرة (أوغسطس – تيبيريوس – كاليجولا – كلوديوس) نحو كل منهم

    مقدمة

    ترجع علاقة الإغريق Hellenes بمصر إلى عصور ضاربة في القدم توثقت بشدة في عهد الأسرة الصاوية التي سمحت للإغريق بالإقامة في مصر للعمل والتجارة والانخراط في سلك الجندية(1)، بل وأقامت لهم مدينة عُرفت باسم نوقراطيس(2) Navcrates. وعندما أتى الإسكندر (356 – 323 ق.م) لفتح مصر كان في ركابه مجموعة كبيرة من الإغريق اعتمد عليهم الملوك البطالمة في إقامة دولة قوية تكون محط الأنظار في المنطقة الهيللينية حول حوض بحر إيجة،(3) وقد حاول البطالمة استقطاب هؤلاء الإغريق وإغرائهم بالمجيء إلى مصر، وأغدقوا عليهم الامتيازات المادية والمعنوية، وهيئوا لهم سبل العيش في البيئة التي تعودوا عليها في بلادهم الأم “ونعني بذلك تأسيس مجموعة من الدويلات الحرة(4) Poleis“ يمارسون فيها حياتهم بمعزل عن السلطة الحاكمة.(5)
    الإسكندرية Alexandria أشهر وأعظم دولة هيللينية ظهرت في العالم قاطبة،(6) وقد نجح أحد الباحثين في تعداد الأجناس التي كانت تسكن هذه المدينة في عصر الرومان، فحصل على خليط من القوميات يبلغ حوالي العشرين قومية، واحدة منهم فقط هي التي كانت تتربع على قمة الهرم الطبقي وهم “الإغريق”، وكانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب هذه المدينة، فكانت لهم هيئة مواطنة كاملة الأهلية، وفضلاً عن ذلك؛ كانت لهم مؤسسات تبدو وكأنها مستقلة في الحكم عن الملك البطلمي، أو بمعنى أخر كأنهم دولة داخل دولة، فعلى سبيل المثال كان هناك: هيئة رياسة عليا – مجلس شورى – هيئات تعليمية – مؤسسات اجتماعية (تشرف على العلاقات بين المواطنين) – هيئات اقتصادية.

    غير أن ذلك لم يكن يمنع بعض الإغريق من الانخراط بالعناصر الأخرى القاطنة بالريف، يمارسون ما يمارسه غيرهم من العناصر التي تليهم في الوضع الاجتماعي من حيث التقاليد والعادات والأعراف.(8) بل إن بعضهم كان يتعلم اللغة المصرية القديمة ليستطيع التفاهم مع العناصر الغالبة في هذه المناطق “أي المصريون”، وكانوا يسمون أولادهم بأسماء مصرية. ومجمل القول؛ أن الإغريق (الهيللينيون) إذا كانوا شعبًا مترفًا بطبيعته استمر يحيى على نفس هذه الوتيرة، فإن بعضهم (الإغريق) على الأقل فضل الحياة البسيطة بين العناصر الأخرى دون أن يشعر بأي فرق.
    العبرانيون Hebrew هم شعب تنتمي لغته إلى مجموعة اللغات السامية Semitic وكانوا في الأصل قبائل بدو رحالة، هاجروا بقطعانهم نحو الشرق ليستقروا في الجزء المسمى البلاد الخصيبة وبالتحديد في أرض كنعان، وعرفوا لأول مرة كيف يعيشون في مدن مسورة (لها أسوار). والأدلة التاريخية تشير إلى أن علاقتهم بمصر قديمة، فكانوا يشدون الرحال إليها كلما ألمت بهم كارثة لاسيما إبان السبي البابلي الأول في القرن السادس على يد الكلدانيين، حيث سمح لهم ملوك العصر الصاوي بالإقامة والتجارة والانخراط في الجندية وأنشئوا لهم في مصر أول معبد في سيناجو Synagoge وعملوا على تكثيف منازلهم حوله، حتى أصبح لهم حي خاص بهم يسمى Jewry. وعندما دحر الإسكندر الإمبراطورية الفارسية جاء في ركابه بعض العبرانيين ينشدوا الحياة الآمنة في مصر، وعندما ألت مصر إلى البطالمة وانتهى إلى حكمهم جوف سوريا تفاءل اليهود العبرانيون وقامت حركة تهجير على قدم وساق للإقامة في وادي النيل.

    ويزعم المؤرخ اليهودي الكبير يوسف Iosipos “أن بني جلدته اتخذوا من الإسكندرية مقر منذ بدايته”. فتعداد العبرانيين في مصر مع أوائل حكم الرومان كان يقرب على مليون نسمة(9)، كان بعضهم يقطن المدن الحرة Poleis التي تم تشييدها خصيصًا للإغريق، ويسكن البعض الآخر عواصم الأقاليم Metropoleis وذاب البعض الثالث في المناطق الريفية Khore. ولا جدال؛ أن هؤلاء وأولئك كانوا بلا استثناء يخضعون لضريبة الرأس فضلاً عن الخدمات الإلزامية.
    كان يقود العاصمة الإسكندرية طائفة من الأثرياء الذين كونوا ثرواتهم من التجارة خاصةً العمل بالربا بفرض أعلى سعر للفائدة، وكذلك التزام جباية الضرائب بنسبة أكبر من المقرر المألوف، وكانوا يقيمون في الحي الرابع Delta القريب من الساحل حيث ضاق عليهم فزحف بعضهم للسكن في الحي الثاني Beta. وكانوا يطلقون على أنفسهم لقب السكندريون(10) Alexandries ولكن واقع الأمر أنه كان مجرد اصطلاح جغرافي بمعنى سكان الإسكندرية، سواء منهم المواطنين الإغريقPolitai (لهم حق الإقامة)، أو غيرهم من العناصر الأخرى التي لم يتم تسجيلها في هيئة المواطنة Politeia (لهم حق المواطنة) السكندرية، وبالتالي عدم أحقيتهم في ممارسة حقوقهم السياسة والاجتماعية. فقد صرح الملوك البطالمة لهم باستعاضة نظام الجالية القومية Politeuma (البوليتيوما)(11) كوسيلة مشروعة تمكن أعضائها من أن ينظموا حياتهم وفقًا لما يجري في بلادهم الأم، بالإضافة إلى أن رئيس هذه الجالية كان في استطاعته الحماية والدفاع عن أفرادها أمام السلطان.
    الباحثون الجدد يعتقدون أن جالية يهود الإسكندرية كانت مجتمع عبريًا يتمتع بالحكم الذاتي دون أي تدخل من السلطة الحاكمة أو الجاليات (العناصر) الأخرى المقيمة في الإسكندرية، ولا جدال أن هذه الجالية كان لها رئيس طائفة وهيئة دستورية ورجال دين. لكن السؤال المطروح الآن؛ هل كان في استطاعة يهود مصر الاحتفاظ طويلاً بمقومات مجتمعهم قوية بعيدة عن مؤثرات البيئة المصرية الإغريقية المحيطة بهم؟ الحقيقة أن الشعب اليهودي على وجه العموم لا يحاول التأقلم مع البيئة التي يحي فيها إلا بقدر بسيط بحيث لا ينفذ إلى أعماقه، فهو بطبيعته متقوقع ينظر إلى كل ما حوله كغرباء عنه حتى ولو كان يعيش وسطهم، والعكس صحيح أي أنه يلتمس الحماية من إخوانه حتى ولو كان نائيًا عنهم. وهكذا؛ فإنهم في شتى أنحاء العالم يفضلون السكنى متجاورين حتى يتكون لهم في النهاية حي مقصور عليهم يعرف بـ جيتو Ghetto.



    يتبع…


  • #2
    (الجزء 2)
    الصراع اليهودي – الإغريقي
    في عصر الرومان
    تؤكد المصادر الأدبية أنه رغم انغلاق اليهود على أنفسهم، إلا أنهم كانوا يتشبهون بحضارة العنصر الأقوى واضعين نصب أعينهم منفعتهم الخاصة، وقد تمثل ذلك في استخدام الأسماء
    الإغريقية والعبرية مثل: (ثيوخرسيوس – يعقوب)، (ثيودوروس – إيوداس)، (تريفينا – سالومس)، (أرسينس – ساوا).



    واستعمال اللغة اليونانية، في الأحداث بينهم ولتدوين تاريخهم، لدرجة أن بعضهم كان يجهل اللغة العبرية قراءة وكتابة. غير أن اليهود والحق يقال “شعب محافظ، يتمسك بأهداب الدين، ويسير على الصراط المستقيم، وبالتالي فقد كان الوضع الطبيعي هو أن يتم ترجمة كتابهم المقدس”. خلال القرن الثالث ق.م حتى يتمكنوا من إدراك محتوياته، وقد تم في غضون القرنين التاليين ترجمة الكتب الدينية الأخرى، وقد اشتهر ذلك كله باسم الترجمة السبعينية(1) Sptuaginta التي على حد قول أحد المؤرخين القدامى “كتاب عبري في ثوب إغريقي”.
    التردد على قاعات التدريب Gymastuica لمشاهدة التمرينات دون حرج بل أنهم كانوا يلحون في الانضمام إليها وهذا بالتأكيد يتعارض مع ما تحث عليه الشريعة اليهودية من عدم كشف العورة، ذلك لأن الصبية في هذه القاعات كانوا يتدربون عراة تمامًا،(2) فضلاً عن ذلك كانوا والعين بحضور التراجيديات الإغريقية(3) (المسرح الإغريقي) وإبداء الإعجاب بها لدرجة أن صفوة المثقفين اليهود وعلى رأسهم الفيلسوف فيلون Philon (25 ق.م – 41م) كانوا يجاهرون بتفوق الثقافة الإغريقية وضرورة التفاعل معها والإفادة منها.

    الارتداد الديني، حيث صبأ فريق منهم غير حافيين بالوصايا العشر(4) Dekalogoi فدخلوا المعابد المصرية والإغريقية كعابدين للأوثان، راكعين للأصنام، مشاركين في الاحتفالات والأعياد والمهرجانات السنوية التي تقام على شرف الآلهة المتعددة. التصاهر مع المصريين والإغريق، فتزوجوا منهم دون مبالاة بقيم شريعتهم، فضلاً عن ذلك فقد قلدوا عادات الإغريق في تناول أنواع من الأطعمة تضم لحم الخنزير، وأيضًا الخبز المختمر (مكتمل التخمير)، وكانوا يعملون أيضًا يوم السبت وهو ما يتعارض مع احد نصوص الوصايا العشر، والأهم من ذلك كله أنهم مارسوا عملية الختان. وهذه كلها عادات تتعارض مع المعتقدات الراسخة في نفوس اليهود. ممارسة العادات والتقاليد المصرية القديمة، التي مارسها أيضًا الإغريق آلا وهي تحنيط الجثث دون مبالاة بالقيم التي تفرضها شريعتهم والتي تقضي بتحلل الجسد البشري بعد الوفاة ليبرأ صاحبه من الأدناس والآثام والخطايا.
    لكن السؤال له شق آخر: هل تأثر كافة يهود مصر بالبيئة المصرية تأثراً أنساهم عاداتهم وتقاليدهم وشرائعهم الموروثة أب عن جد؟ النفي هو الإجابة؛ إذ أن الغالبية العظمى ظلت تتخبط طويلاً في دوامة هي كيف يتسنى له التسليم للفكر الهيلليني، وفي الوقت ذاته الحفاظ على الروح العبرية. وفي النهاية استقر رأي الغالبية العظمى من اليهود على أن التوفيق بين هذه المتناقضات شيء مستحيل، ومن ثَم آثر السلامة ودرأ بحزم ما لا يتفق مع طبيعته مثل: الشرك المتمثل في عبادة الآلهة المتعدد، والقتل المتمثل في عادة التخلص من الأطفال بإلقائهم أو بيعهم أو رهنهم، والشذوذ الجنسي المتمثل في العلاقات مع الرجال، والزنا المتمثل في اقتراف المحرمات مع النساء. وخلاصة القول؛ أنه إذا كان اليهود العقلاء المثقفون قد حاولوا الانسجام مع البيئة فأوجدوا نوعًا من الموائمة بين مجتمعهم العبراني وبين المجتمعات التي يعيشون وسطها، فاستطاعوا أن يخلعوا على حياتهم صبغة مصرية، فإن اليهود الغلواء المتطرفون – وهم الأكثرية – قد مالوا إلى المحافظة على جوهر قوميتهم، وصميم خاصيتهم، ورسوخ أعرافهم.

    تعليق


    • #3
      (الجزء 3)

      الصراع اليهودي – الإغريقي
      في عصر الرومان


      لاشك أن اليهود العبرانيين باستثناء الاضطهاد الذي نسبته الأسفار المشكوك في صحتها “Apokerepha” إلى الملك بطوليمايوس الرابع “فيلوباتوز”، قد نالوا الحظوة عند الملوك البطالمة بسبب التسامح الديني والعرقي الذي ساد في عصرهم، ورغم الدسائس والمؤامرات التي كانت تحاك في دهاليز القصور، والتي كان ينخرط فيها الإغريق واليهود لمؤازرة هذا الطرف أو ذلك من أفراد العائلة المالكة للوصول إلى العرش خلال القرنين الثاني والأول ق.م، رغم ذلك لم يكن هناك أثر لموجة العداء للسامية بالمعني العنصري أو العقائدي، بل كان يرجع إلى عوامل سياسية فتحت باب الكراهية بين الطائفتين بحيث لم يتعدوا التعبير عنه الجدل الشعري ومهاترات الأقلام. أما عصر الأباطرة؛ فقد كان من سوء حظ روما أنها اتصلت بحضارة أعرق من حضارتها وأرقى، ذلك أنها ابتليت بثلاث شعوب موهوبة (المصريون – الإغريق – اليهود) نشب الصراع بين اثنين منهم ووقف الثالث متفرج، وكانت النتيجة علامة واضحة خضبت بالدماء وجه التاريخ، ولا نظن أننا نجاوز الحقيقة إذا قلنا أن العامل الرئيس هذه المرة كان اجتماعيًا باحتًا.

      أول الأباطرة أوكتافيوس أوغسطس
      (27 ق.م – 14م):

      عندما فاق الإغريق السكندريون من الذهول الذي أصابهم من اللطمة التي كالها لهم أوكتافيوس Octavianus (أول الأباطرة الرومان)، وجدوا أن مدينتهم أُنزلت من عُليائها كعاصمة لمملكة مستقلة (البطالمة) وستغدو مجرد فصل تابع لروما أي جزء جغرافي خاضع له. وآية ذلك أن سياسة أوغسطس Augustus نحو مصر ولاسيما الإسكندرية كانت تتسم بالحزم، فقد عمل على تحطيم عناصر القوة فيها فلا تعود أبدًا إلى سابق مجدها مما يجعلها خطر جسيمًا يعجز الرومان عن درأه، أو على الأقل مصدر قلق لا ترضى عنه روما بحال. كانت أولى خطوات الإمبراطور كي يشعر شعب مصر بكافة أجناسه بسطوة روما أنه وزع حامية عسكرية ضخمة خصص منها للإسكندرية فرقة كاملة legio لتأمين السيادة الجديدة فيها. وكان من الممكن أن يكظم الهيللينيون غيظهم ويتقبلون الوضع الراهن، لو أن المسألة انتهت عند هذا الحد، ولكن الفاتح الروماني لن يكتفي بإذلال المدينة العتيدة التي تعلم الأمم قاطبة ما هو تراثها الثقافي ومركزها الحضاري، بل بدا وكأنه يتعمد أيضًا إذلال مواطنيها الإغريق. ومع ذلك؛ فإن أوغسطس لم يكن بالسوء الذي ظنه هؤلاء، فقد أثبت حسن نيته نحوهم بأن أقر لهم وضعهم الممتاز، إلا أنهم كانوا يشعرون تحت الحكم الروماني أنهم تقهقروا مثل مدينتهم للوراء فأصبحوا معها يقبعون في الدرجة الثانية وينهض على ذلك دليلاً أنهم أفسحوا مكانهم شاءوا أم رفضوا للوافدين الرومان الذين احتلوا قمة الهرم الطبقي، كما أن أوغسطس حرمهم من مجلسهم Boule لأن وجوده على حد قوله يتعارض مع سلطة نائبه في الولاية، ومع أن هذا المجلس لم يكن مسئولية الإمبراطور، إلا أنه برفضه السماح له بتشكيله كان يعتبر في عرفهم المسئول عن تجريدهم من تلك الهيئة الدستورية التي تعتبر أهم مقومات نظام البولس Poleis. وكان سوء الختام أن شريعتهم نحو اليهود كانت الحسنى، فلم ينتقص من امتيازاتهم التي اكتسبوها من عصر أسلافهم (الملوك البطالمة) بل زاد عليه فقضى بحقهم في ممارسة حياتهم داخل جاليتهم Politeumake طبقًا لتقاليدهم، وصرح لهم بإقامة مجلس شيوخ Gerousia على غرار المجلس الإغريقي الذي كان للسكندريين بنفس الاسم، وهكذا خلق لهم حيثية طمعوا بمقتضاها في المواطنة السكندرية المقصورة على الإغريق.والخلاصة؛ أن هذه الضربات الثلاث القاسمة أوغرت صدور الإغريق على أول الأباطرة وضد خلفاؤه من بعده، فشرعوا يناءون موظفي الإدارة المركزية ويناصبون المواطنين الرومان العداء وينددون بأن الاستبداد هو طابع الحكم الإمبراطوري، فكانت نقمتهم على روما تجب بالضرورة على اليهود باعتبارهم “صنائعها النجساء”، فكانوا يجدون في صب جام غضبهم على اليهود متنفسًا لهم عن غضبهم على الرومان، فضلاً عن الهجوم على أولئك كان أسمى عاقبة لهم من الهجوم على هؤلاء. وإذا كان العصر الروماني قد مرت بدايته بسلام(عصر أوغسطس تيبيريوس)، فإنه كان على وجه العموم يحمل في طياته لليهود مائة عام من المحن تجسدت في سلاسل من الاضطهادات العنصرية والمذابح الطائفية تتخللها فترات سكون.
      الإمبراطور تيبيريوس
      (14 – 37م)

      كان تيبيريوس –ابن أوغسطس بالتبني- في السادسة والخمسين من عمره حين تولى العرش، وكان أقرب إلى التعاسة منه إلى السعادة، فقد قست عليه الحياة في أحوال كثيرة. وفيما يتعلق بإدارة شئون الولايات، عرف عنه الحزم مع الولاة وتشدده في محاسبة جباة الضرائب، كما حسن نظام تحصيل الضرائب الأصلية في الولايات حتى راحت أكداس الذهب تتدفق على روما.

      وتشير الدلائل إلى أن الأمن الداخلي في ولاية مصر ظل مستتبًا حتى أواخر أيام حكم تيبيريوس، حيث قرر في عام 23م سحب فرقة من الفرق الرومانية الثلاث التي كان أوغسطس قد وضعها في مصر، غير أن هناك ما يشير إلى أنه في أواخر عهد تيبيريوس لاحت في الأفق نذر اضطرابات متوقعة في مصر. يتضح ذلك من وثيقة بردية تضمنت أمرًا أو منشورًا أصدره والي مصر أفيليوس فلاكوس يحظر فيه على الأهالي حمل السلاح أو إحرازه، وينذر المخالفين بعقوبة الإعدام، فإذا ربطنا بين هذه الوثيقة البردية وحديث الكاتب اليهودي فيلون عن تحامل الوالي على اليهود وقيامه بتفتيش منازلهم بحثًا عما قد يكون بها من سلاح دون أن يجد شيئًا، في حين وجد الكثير من السلاح المخبئ في منازل المصريين، استطعنا أن نفهم أن الاضطرابات المتوقعة ذات صلة بالوضع المتوتر في الإسكندرية بين اليهود والمواطنين السكندريين منذ ببداية الحكم الروماني، وهو وضع لم يلبث أن انفجر في أحداث عنف دامية بين الفريقين بعد موت تيبيريوس،الذي كان أجدر حاكم للإمبراطورية الرومانية على وجه الإطلاق بالإسكندرية في عصر الرومان






      تعليق


      • #4

        (الجزء 4)

        الصراع اليهودي – الإغريقي
        في عصر الرومان

        فجأة في صيف عام 38م أتيحت الفرصة لأبناء زيوس لينفثوا حقدهم في أبناء يعقوب، حدث ذلك عندما قرر الأمير أجريبا Agrippa أن يمر بالإسكندرية في بداية شهر أغسطس وهو في طريقه من روما إلى فلسطين لتولى حكم مملكته، وقد اندهش الإغريق لهذا الصعلوك الذي كان حتى الأمس لا يملك شَرْوَى نَقِيرٍ ثم أصبح ملكًا في لحظة. وساءهم الموكب الملكي الذي أعده اليهود لاستقباله ليشعرون الفريق العدو بما لهم من سند وظهر، فقرر هؤلاء بدورهم “الأغريق” أن ينكلوا باليهود في شخص ضيفهم، فأحضروا معتوهًا دميم الخلقة كان معروفًا باسم كراباسKarabas وألبسوه تاجًا من لحاء البردي وعباءة من السجاد البالي، ووضعوا في يده صولجان من فرع شجرة، وطافوا به شوارع المدينة بلفظ “مارن” Marain أي “الملك”، وبقدر ما كان الإغريق أشرار كانوا أيضًا دهاء، لأنه خشيةً من غضب الإمبراطور جايوس Gaius للإهانة التي لحقت بصديقه، فتفتق ذهنهم عن حيلة يوقعون بها بينه وبين اليهود.



        وكانت وسيلتهم في هذا هي كاليجولا Caligoula نفسه، فمن المعروف أنه فرض على رعاياه ألوهيته وتنصب تماثيله بجميع معابد الإمبراطورية (الإسكندرية ومصر) ونظرًا لأن اليهود إناس موحدون لا يؤمنون بغير الواحد الأحد إله آخر، فكان من المحال أن يعترفوا بجايوس رب أو يسمحوا بوضع تماثيل لأي بشر في أماكنهم المقدسة مهما جَل قدره ومهما علا شأنه. استغل الهيللينيون (الإغريق) ذلك وقاموا باقتحام المعابد اليهودية Synagoges عنوةً وزرعوا بها تماثيل الإمبراطور وعلقوا على جدرانها أيقونات Eikones وبالطبع استاء اليهود وعز عليهم انتهاك حرمة أماكن الصلاة، فلجئوا إلى الوالي فلاكوس Flaccus (والي مصر ومقره في الإسكندرية) يشكون له، لكنه بدل من إنصافهم فضل الانحياز إلى الإغريق، لأن ذلك يقربه من سيده، فاتهم بعدم الولاء لروما وأصدر منشورًا يحدد فيه وضعهم الدستوري بالإسكندرية بوصفهم “جالية أجنبية دخيلة”.
        وأقام فلاكوس من نفسه قاضيًا يحكم وجعل من الهيللينين جلاد ينفذ، فطردوهم من مساكنهم في الأحياء الأخرى وحصروهم في الحي الرابع Delta حيث نكلوا بهم ضربًا بالهروات ورجمًا بالحجارة، ودمروا متاجرهم ونهبوها، وفتشوا منازلهم ودكوها، وانتهكوا معابدهم وأحرقوها، ومنعوهم من الخروج للأسواق لتجويعهم، وكبلوا 38 شخص من كبرائهم Gerountes على باب المسرح وساطوهم، وساقوا فئة من النسوة إلى داخل المسرح ولقموهن قهرًا لحم الخنزير على مرأى من الجمهور المحتشد. وهكذا؛ شفى الإغريق بعض غليلهم بمشاهدة ألوان العذاب تنزل باليهود، بينما أصبح هؤلاء اليهود في حالة يرثى لها لدرجة أن أطفالهم كانوا يلتمسون في أكوام القمامة نفايات يسدون بها رمقهم ومثوى يأوون إليه للنوم.
        وما أن انقشعت الذوبعة في أول سبتمبر حتى استرد اليهود وعيهم وقرروا آلا يستكينوا على الهوان الذي حاق بهم، فرفعوا مظلمة إلى جايوس عن طريق صديقه أجريبا أنحوا فيها باللائمة على فلاكوس الذي يشهد به فيلون فيقول: “إنه لعنة سلطت على بني قومي، كان حكمه إبان عهد تيبريوس (ثاني الأباطرة) يتسم بالكفاءة والنزاهة، لكن ذمته فسدت وباع نفسه رخيصًا لأعدائنا، كما باعها من قبل لأعداء الإمبراطور”. وهكذا؛ استيقظت الذكريات عند جايوس فقرر إحضاره مكبلاً إلى روما، فيقول فيلون Philon أن ذلك حدث أثناء الاحتفال بعيد الهيكل بعد حوالي شهر من ميلاد الإمبراطور، الذي تعمد فلاكوس تعطيل برقية التهنئة التي أرسلها اليهود إلى جايوس في عيد ميلاده. وكانت هذه الليلة عاصفة من ليالي الشتاء عاني فيها فلاكوس من رحلة شاقة، وبعد محاكمته حُكم عليه بالنفي إلى جزيرة أندروس Andros وصودرت جميع ممتلكاته. وبين فيلون بطريقة مؤثرة الحالة النفسية لفلاكوس وهو في المنفي، ويقول أن شعور بالبؤس انتابه منذ وصوله وتشتت فكره وظل يناجي ذاته قائلاً: “بأن اللوم يقع عليه، وأن العقوبة التي قضى بها الإمبراطور هي حق”. وتأتي الخاتمة – كما يقول فيلون- عندما يقرر جايوس إعدامه لأنه رأى أن حياة المنفى تسير على ما يرام وكأنها لا تشكل عقاب، وتصف المقالة “ضد فلاكوس In Flaccus” الطريقة والوسيلة التي جرى بها تنفيذ الحكم، ويؤكد الكاتب أن “قدر الوالي أظهر بجلاء أن الله يرعى أمة اليهود”.
        وفي خلال عام نظم كل من الفريقين بعثة تمثلهم أمام الإمبراطور، ولم يعترض الوالي الجديد بوليو Pollu فوصلت البعثتان إلى روما خريف 39م وظلتا في انتظار المقابلة السامية حتى صيف سنة 40م. ويحكي فيلون في مقالته التالية “السفارة إلى جايوس Legatio Ad Gauim” عن المناقشات التي جرت حامية بين اليهود والوفد اليهودي برئاسته شخصيًا، وبين الوفد الإغريقي برئاسة أبيون Apion، وبين الإمبراطور، فكانوا يلاحقون الأخير صعودًا وهبوطًا على سلم القصر وهم يلهثون من الجري والكلام في وقت واحد. الوفد الأول، لم يتعدى مطلبه بالحق في إقامة شعائرهم الدينية بحرية تامة، والاعتراف بوضعهم كمواطنين Politui متساويين في الحقوق المدنية IsoPoliteia بينما كان دافع الوفد الأخر، أو بالأحرى مهمته الرئيسية هي عرقلت حصول هؤلاء على حقوق المواطنة السكندرية، أو حتى الاعتراف بهم كـ سكندريون Alexandreis .

        ويبدو أن الأقدار هي الأخرى كانت ضد بني يعقوب، فقد حدث – لسوء حظهم- أن يهود فلسطين في ذلك الوقت قاموا بتدمير مذبح أقامه الإغريق للإمبراطور في بلدة يامنيا Jamina فأصدر الإمبراطور أوامره لبترونويس Petronius والي سوريا، بأن يصنع تمثال ضخم له، ويتم تنصيبه ليس في معبد الإغريق، بل إلى جانب الهيكل داخل قدس الأقداس بمعبد سليمان في أورشليم. ولم يكتفي بهذا بل حَمل يهود الإسكندرية وزر يهود فلسطين، فكان رده على مطالبهم أن حرمهم من كافة امتيازاتهم التي كانت لهم منذ عهد جده الأكبر أوغسطس، لأنهم على حد قوله “أناس كفرة لا تؤمنون بألوهيتي”.
        ولنا أن نتصور كيف تزمرت سفارة وابتهجت سفارة أبيون، فوجدتها فرصة لنيل مأربها، فوجه رئيس الوفد قوله للإمبراطور: “مولاي إن بغضك لهم قد يزداد إذا علمت أن رعياك قد قدموا لك القرابين، بينما اليهود لا يؤدون لك واجب الاحترام، لأنهم لا يركعون لغير الله”. ويستطرد فيلون أن اليهود لم ينالوا من مناقشتهم مع جايوس أي طائل وأنه أخيرًا قام بطردهم من حضرته، فامتلئوا رعبًا عندما تصوروا ماذا عساه أن يحدث لو عادوا إلى الإسكندرية بخفي حنين حيث تكرر المأساة من جديد. وعلى الرغم من أن نهاية المقال مفقودة إلا أننا من السهل أن نستشف من بين السطور أن الخاتمة التي يمكن لفيلسوف عظيم مثل فيلون أن يضعها تكون على النحو التالي: “إن إلهانا Yahveh (الله) قد أنقذ شعبه المختار من ذلك المأْفونٌ باغتياله في بداية عام 41م

        تعليق


        • #5
          (الجزء 5)




          الصراع اليهودي – الإغريقي
          في عصر الرومان


          تبؤ كلوديوس العرش خلفًا لابن أخيه كاليجولا، فاستبشر اليهود خيرًا، وطلبوا من أجريبينا التوسط لديه لحل مشاكلهم، ويقص علينا جوزيفوس أن الإمبراطور استجاب لمساعي صديقه، فبعث للإسكندرية منشورًا أعاد به امتيازات اليهود التي كانوا يتمتعون بها قبل استشراء الفتنة، جاء به: “أن اليهود الإسكندرين كانوا شركاء السكندريين الإغريق في سكنى المدينة منذ الأزمنة الغابرة…” وإن إنزال جايوس بجنونه أمة اليهود إلى الضرب الأسفل يعد غورًا (ظلمًا) لا يرضى عنه (كلوديوس). وبالتالي أوصى بألا يحرموا من حقوقهم لأي سبب، وأن يستمروا في مراعاة عاداتهم وتقاليدهم بحرية، وأنه قرر منح كافة رعاياه من يهود الإمبراطورية نفس حقوق بني جلدتهم بالإسكندرية. وأنه يحذرهم في كل مكان من الاستخفاف بمشاعر غيرهم من الوثنيين (الإغريق) الذين يعيشون بين ظهرانيهم. ولكن إمعانًا في النكاية بالإغريق، جاء الملك أجريبا بنفسه للإسكندرية لقراءة المنشور في اجتماع رسمي، وهنا تراءت لأبناء يعقوب أن الفرصة حانت للثأر من أبناء زيوس، ذلك أنهم وطوال أربعة أعوام ظلوا يجمعون السلاح احتساباً لتجديد النزاع، وإنهم استقدموا يهود من فلسطين دخلوا مصر متسللين لشد أذرهم ضد الإغريق. وعندما علم الإمبراطور ببداية تجدد الأحداث أصدر أوامره لجوليو Jullioالوالي بقمع الفتنة بعنف قبل انتشارها. وفي خلال أيام هدأت الأحوال وبادر الفريقان إلى إرسال تهنئة، وقد كانت في ظاهرها تهنئة للإمبراطور لتولي العرش، وأما باطنها التماس مطلب محدد لكل منهما: إعادة البوليه Bouleمجلس الشورى (الإغريق)، اكتساب البولينيا Politeia(اليهود).

          على هذين المطلبين بعث كلوديوس رسالة إلى الإسكندرية قام الوالي بإذاعتها للسكان يوم 14 هاتور/ 10 نوفمبر من نفس العام، وهي الوثيقة المشهورة باسم “خطاب كلوديوس إلى السكندريين”، The Letter of Claudius to the City of the Alexandrians وينقسم هذا الخطاب لثلاثة أقسام، ويختص كل فريق بأحدهم، ويتعلق الأخير بمسألة تكريمه بالإلوهية. ويجدر بنا قبل أن نناقش الخطاب أن نذكر بعض الفقرات التي تعنينا فيه:
          “أما عن Boule فليس في وسعي أن أقول ما هي السنة التي درجتم عليها منذ عهد الملوك القدماء (الملوك البطالمة)، ولكنكم تعلمون جيدًا أنه لم يكن لديكم مجلس في عهد مَن سبقوني من الأباطرة (أوجسطس – جايوس)، وحيث أن ذلك الموضوع جديد يثار الآن لأول مرة ولا يتضح إذن ما كان سيعود بالفائدة على المدينة وحكومتي. وقد كتبت إلى الوالي إيميلوس ركتوس ليبحث المسألة، ويخبرني ما إذا كان من الضروري إنشائه وكيفية الوسيلة لإنشائه إذا تبين إنه ضروري، وأما عن المجموعة المسئولة عن حرب اليهود فعلى الرغم من أن سفرائكم ولاسيما ديونيسيوس ابن ثيون قد دافعوا دفاعًا مجيدًا إلا أنني لم أشأ أن أقوم بتحقيق دقيق مختزنًا في صدري سخطًا دفينًا على من يبدأ العدوان، وإنبائكم صراحة إنكم إن لم تتوقفوا عن تبادل العداء فسوف أضطر إلى أن أظهر لكم كيف يصير الحاكم الحكيم عندما يتملكه الغضب، ولهذا فإنني من ناحية أناشد السكندريين أن يظهروا روح التسامح والود لليهود الذي يعيشون في نفس المدينة منذ زمن طويل، ولا ينتهكوا شعائر عبادتهم الدينية، بل أن يدعوهم يمارسون تقاليدهم وأعرافهم التي اعتادوها منذ أيام أوغسطس المؤله والتي أقررتها أنا كذلك بعد أن سمعت أقوال الطرفين..
          ومن ناحية أخرى فإنني أأمر اليهود صراحة بألا يضيعوا جهودهم في السعي وراء امتيازات أكثر مما حصلوا عليها من قبل، وألا يرسلوا بعد اليوم بوفدين وكأنهم يعيشون في مدينتين، فذاك أمر لم يحدث أبدًا من قبل، وألا يقحموا أنفسهم جيمازيوم gymnosium (مباريات معاهد التربية) بل عليهم الانتفاع بما في حوزتهم من امتيازات، والتمتع في مدينة ليست مدينتهم بوفرة من الخيرات، وعليهم ألا يستدعوا يهود ممن يفدون من سوريا أو مصر من خلال النهر، حتى لا يثيرون في نفسي الشك والريبة تجاههم، وإن لم يمتثلوا لانتقمن منهم بكل الوسائل لوصفهم قوم ينشرون الوباء في أنحاء المعمورة. وأما إن كف كل منكم عن هذه الأعمال، ورضي أن يعيش في تسامح مع الآخر، فسوف أهتم من جانبي اهتمام كبير بالمدينة التي تربطها بنا صداقة تقليدية قديمة”.



          النص يحمل في طيه العديد من النقاط التي نستشف منها ما يلي:

          أولاً: أن كلوديوس استعمل لهجة الرجاء مع الإغريق، وبعض المصادر تعتقد أنه كان يتملقهم ويحثهم أحيانًا على استعمال النخوة بألا يسيئوا إلى إخوان موسى الذين عاشوا بجانبهم قرون طويلة منذ الفتح المقدوني خلال عصر الملوك البطالمة، فهو يستحلفهم أن يغضوا الطرف عن اليهود تاركين إياهم يقيمون الطقوس حسب ناموسهم السماوي. وفي نفس الوقت يقطب جبينه لليهود مستخدمًا لهجة الأمر والنهي أملاً في أن يتوقفوا عن الخبث والدهاء الذي يستفزون به الإغريق مما يحطم أعصابهم. وربما يقول القائل أن العاهل لم يكن محايدًا بين الفريقين، ولكن إذا عرفنا أنه رفض أن يقام له تمثال بالإسكندرية مراعاة لشعور اليهود الذين قد يتهمونه بالانحياز للإغريق، فإننا نكون قد أخطائنا في الحكم على هذا الرجل.
          ثانياً: التملص بلباقة من مطالب الإغريق بإنشاء مجلس الشورى Boule مدعيًا أن هذه المسألة تُطرح عليه لأول مرة، وأنه أوكل إلى الوالي إيميلوس راكتوس دراسة الموقف وكتابة تقرير وعرضه عليه، عما إذا كان من الممكن إعادة تأسيس المجلس المذكور، ولابد أن كلوديوس كان ماكرًا في معالجته لهذا الموضوع. فمن العسير تصور أنه كان يجهل أنه سبق وتقدموا بنفس المطلب لدى كل من أوجستس وربما تيبريوس وكاليجولا. ومن جهة أخرى؛ أن الإغريق لم يجول بخاطرهم شيء أخر سوى الـ Boule ولكن الإمبراطور تخلص من إلحاحهم وأدخلهم في متاهة لا يعرفون كنهها ولا كيانها، حيث أخذ يشير إلى الصلة الوسيطة التي تربط بين بعض أفراد البعثة مثل ارتميدورى، وليونيداى، وخايرموند بأسرة يوليوس كلوديوس.

          ثالثًا: إبداء الدهشة المشوبة بالاستياء منه بتوجيه اليهود بعثتين (وفدين) كما لو كانوا فئتين تقطنان جهتين مختلفتين من العالم. والباحثون يحتارون في تفسير تلك المعضلة، فمنهم مَن يعتقد أن المقصود بعثتي جايوس وكلوديوس وهو رأي غير صائب، ومنهم مَن يظن أن إحداهما تمثل المواطنين اليهود والأخرى لغير المواطنين منهم. ومنهم مَن يرى أن واحدة تختص باليهود الغلواء المتزمتين وأخرى المعتدلين المتحررين وهو الرأي الأصلح والأقرب إلى الصوب.
          وقد اتهم الإمبراطور اليهود بالطمع والتطفل والغيرة ونصحهم بأن يقنعوا بالامتيازات التي كفلتها لهم الإدارة الرومانية، فلا يلحون في تحريكها إلى حيز أوسع، وألا يزجوا بأنفسهم في نشاطات تظاهروا دومًا باستهجانها والنظر لها باشمئزاز، وأنظرهم من محاولات محاكاتها. فقد وصفهم صراحةً بلفظ إبسبين Epispaiein ومعناه أن يحكم الإنسان نفسه، ومن المؤكد أن كلوديوس كان يعني أن عادات وتقاليد الإغريق تتنافى مع ما تنص عليه الوصايا العشر اليهودية، وبالتالي فإن “حشر اليهود أنفسهم في المرحلة التعليمية الأولى المسماة عند الإغريق Gymnasion كان لابد للأولاد أن يتم تدريبهم على الرياضة البدنية وهم عراة تمامًا، ومن هؤلاء التلاميذ الصغار كان يبرز الأطفال الرياضيون الكبار الذين يتنافسون في المهرجانات العالمية وهم أيضًا عراة تمامًا“.

          الواقع أن هذه الرسالة تنم عن فطنة ولباقة دبلوماسية، ولكنها لم ترضي اليهود لأنها قضت على أملهم في الحصول على المزيد من الامتيازات، ولم ترضي كذلك الإسكندريين لأنها أقرت لليهود حقوقهم وامتيازاتهم القديمة.
          الآن يبدو واضحًا أن حجر الزاوية في هذه المرحلة كان حقوق المواطنة التي ثارت بشأنها جدلاً طويلاً، وهذا يجرنا إلى مناقشة النقطة الشائكة وهي، هل كان اليهود مواطنون سكندريون؟



          تعليق


          • #6
            شكرا على الموضوع المميز و المفيد
            تقبل اجمل تحية على العمل الرائع
            [CENTER][B][SIZE=4][B][FONT=arial black][COLOR=#333333]۞۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞
            ۞ *•.¸.•* بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيمِ •¸ .*• ۞
            ۞ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۞ اللَّهُ الصَّمَدُ ۞ لَمْ * • ۞
            ۞ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۞ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ * • ۞
            ۞ *•.¸.•**• *•.¸.•* *• ۞
            ۞۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞۩۩۞[/COLOR][/FONT][/B][/SIZE][/B]

            [/CENTER]

            [CENTER][FONT=Microsoft Sans Serif][SIZE=5][COLOR=red]حجاجي :
            [/COLOR][/SIZE][/FONT][FONT=Microsoft Sans Serif][SIZE=5][COLOR=blue][COLOR=red]أصل الكلمة:[/COLOR] هو القفيز اتخذه الحجاج ابن يوسف على صاع عمر بن الخطاب وهو مكيال إسلامي يستعمل في الوزن والكيل اثاء العصور الإسلامية.[/COLOR][/SIZE][/FONT][FONT=Microsoft Sans Serif][SIZE=5]

            [/SIZE][/FONT] [FONT=Microsoft Sans Serif][SIZE=5][COLOR=red]الحجاجي يساوي صاعاً حسب رأي أهل العراق وصاع وثلاث اخماس الصاع حسب رأي أهل الحجاز.[/COLOR][/SIZE][/FONT]
            [/CENTER]

            تعليق


            • #7
              اخى الكريم حجاجى

              شكرا لمرورك الذى زاد الموضوع نورا

              واشكرك على كلماتك الرقيقة

              تعليق

              يعمل...
              X