قصة الطوفان في القرآن الكريم:
ذكرت قصة نوح في عدة سور بشيء من التفصيل في الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر وسورة نوح، وتختلف الآيات بالألفاظ بحسب ما تكون الغاية من إيراد الآيات والمراد من معناها، سنكتفي بإيراد ما يفيد هذا البحث عن الطوفان. جاء في سورة نوح:
(إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم(1) قال يا قومِ إني لكم نذير مبين(2) أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون(3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجلٍ مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون(4) قال ربي إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً(5) فلم يزدهم دعائي إلا فراراً(6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً(7) ثم إني دعوتهم جهاراً(8) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً(9) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً(10) يرسل السماء عليكم مدراراً(11) ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً(12) ما لكم لا ترجون لله وقاراً(13) وقد خلقكم أطواراً(14) ألم تروا كيف خلق الله سبع سماواتٍ طباقاً(15) وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً(16) والله أنبتكم من الأرض نباتاً(17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً(18) والله جعل لكم الأرض بساطاً(19) لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً(20) قال نوح ربِّ إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً(21) ومكروا مكراً كباراً(22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودّاً ولا سواعاً ولا يغوثَ ويعوقَ ونسْرا(23) وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً(24) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً(25) وقال نوح ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً(26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً(27) ربِّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً(28)".
نلاحظ من سورة نوح، أن الله اختاره رسولاً لينذر قومه قبل أن يأتيهم العذاب الأليم فيؤدي نوح رسالته، ويبذل كل ما بوسعه لهدايتهم، يقدم لهم الأدلة والبراهين الكونية على وحدانية الله ليتركوا عبادة الآلهة الوثنية، فلم يستجيبوا له، فيطلب نوح من ربه أن لا يذر على الأرض من الكافرين دياراً، ويستجيب الله لدعائه، ونوح عليه السلام في القرآن الكريم كما ذكرنا مرسل من الله بينما في التوراة رجل صالح لم يكلف بالرسالة، فالله في التوراة يقرر هلاك البشرية والحياة على الأرض، بينما في القرآن لا يتخذ الله هذا الموقف إلا بعد إنذارهم وعدم إيمانهم واستكبارهم استكباراً.
وفي سورة هود حوار بين نوح وقومه، يريد هدايتهم ولكنهم في ضلالهم يعمهون فيقص القرآن الكريم: "وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون(36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون(37) ويصنع الفلك وكلما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون(38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلُّ عليه عذاب مقيم(39) حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومَنْ آمن وما آمن معه إلا قليل(40) قال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومُرْساها إنَّ ربي لغفور رحيم(41) وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزلٍ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين(42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين(43) وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين(44) ونادى نوح ربه فقال ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين(45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين(46) قال ربي إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاَّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين(47) قيل يا نوح اهبط بسلامٍ منا وبركات عليك وعلى أممٍ ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منّا عذاب أليم(48).
في الآيات السابقة من سورة هود، تأكيد أن صناعة الفلك كان بأمر من الله ووحي منه، وهذا يتفق مع نص التوراة في المضمون، كما هناك اتفاق بين حمل الأحياء والأزواج، وإن كانت التوراة أكثر تفصيلاً للأصناف، ورست سفينة نوح (التابوت) على جبل آرارات بينما استوت سفينة نوح في القرآن على الجودي، وجبل آرارات يقع حالياً في أرمينيا بينما الجودي شمال العراق.
ولا يتسع المجال لإيراد كافة الآيات التي تناولت رسالة نوح والطوفان، ومن مجملها نخلص إلى الإرشادات التالية:
أولاً: لا يوجد قرار إلهي مسبق بتدمير الحياة على الأرض كما ورد في الأساطير والتوراة.
ثانياً: الرجل الصالح المختار هو نوح، وهو رسول إلى قومه قبل قرار الطوفان، بينما كان اختيار الرجل الصالح في الأساطير بعد قرار الطوفان.
ثالثاً: تفاصيل الحدث غير واردة في القرآن، كما هي مفصلة في التوراة بالأيام والأشهر والأرقام فحجم الفلك في القرآن غير محدد ولكن وصف (بالفلك المشحون) بينما في التوراة وبعض الأساطير ترد أرقام تثير ملابسات عديدة.
رابعاً: لم يفصل القرآن في مدة الطوفان وارتفاع المياه بالأذرع، ولكن وصف أمواج الطوفان كالجبال، كما لم يشر إلى إطلاق الطيور للاستطلاع.
خامساً: حمل نوح في السفينة من كلٍّ زوجين اثنين لاستمرار التناسل، وحمل أهله باستثناء زوجته(11) التي لم تؤمن، وهذا يخالف ما ورد في التوراة وبعض الأساطير.
سادساً: تحدد التوراة أولاد نوح، سام وحام ويافث، ولم يحدد القرآن ذلك ولكن يفهم من آيات مختلفة أن ذريته هم الباقون.
هل الطوفان حقيقة؟
لا مجال لإنكار الطوفان، إذ أجمعت الأساطير والكتب المقدسة على وقوع هذا الحدث الكوني.
واختلاف الدوافع والغايات والنتائج في الروايات المختلفة عن الطوفان، ليس دليلاً على عدم وقوع الطوفان. فأي حدث بهذا الحجم تقادم عليه العهد سيكون عرضة للتأويل والتحريف. وقد فصلت التوراة في قصة الطوفان فلم تترك مجالاً للتأويل، بغض النظر عن مصداقية المواصفات والأرقام التي وردت في السفينة ومدة الطوفان، وهل ذلك ممكن من الناحية العملية؟.
أما القرآن الكريم فقص على محمد (() قصة نوح "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين".
فلم يوضح أين كان نوح، ومن هم قومه؟ متى كان ذلك؟ وكم بقي الطوفان؟ وهل كان عاماً على كامل الأرض؟ واستواء السفينة (الفلك) على الجودي لا يعني بالضرورة المسمى بهذا الاسم حالياً، لذلك كان أمام المفسرين والمؤرخين والمسلمين، مجال واسع للتأويل والاختلاف بما لا يتعارض مع المراد بالبيان الإلهي.
فأخذوا من التوراة، ومن روايات أشخاص لا علم لهم بما سلف، بدليل أن الرسول (() لم يعرف قصة نوح إلا بالوحي فكيف عرف أولئك تفاصيل الأحداث؟
وأذكر على سبيل المثال ما ورد في تفسير ابن كثير عن أبعاد الفلك: "وقال قتادة كان طولها ثلاث مائة ذراع في عرض خمسين ذراع، وعن الحسن طولها ستمائة ذراع، وعرضها ثلاث مائة، وعنه مع ابن عباس طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة، وقيل طولها ألفا ذراع وعرضها مائة ذراع فالله أعلم، وقالوا كلهم كان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع"(12).
وهناك تباين في الآراء حول تخصيص الطوابق الثلاثة لأصناف الأحياء، ففي رواية ابن كثير "الطبقة السفلى للدواب والوحوش، والوسطى للأنس، والعليا للطيور"(13).
وفي رواية ابن الأثير "وجعل نوح الطير في الطبق الأسفل من السفينة، وجعل الوحش في الطبق الأوسط، وركب هو ومن معه من بني آدم في الطبق الأعلى"(14)
وفي رواية اليعقوبي "فصعد هو (يقصد نوح) وولده إلى مغارة الكنز فاحتملوا جسد آدم فوضعوه في وسط البيت الأعلى في السفينة يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من آذار وأدخل الطير في البيت الأوسط وأدخل الدواب والسباع البيت الأسفل وأطبقها حين غابت الشمس"(15).
ويتضح التباين أكثر بالمقارنة التالية:
الطابق السفلي
الطابق الأوسط
الطابق العلوي
1-رواية ابن كثير:
الوحوش
الأنس
الطيور
2-رواية ابن الأثير:
الطيور
الوحوش
الأنس
3- رواية اليعقوبي:
الوحوش
الطيور
الأنس
وقد لجأ المفسرون إلى روايات مختلفة، بعضها نسب إلى الرسول (r)، ولا أظن أن الرسول (r) فصل في القصص حيث أجمل القرآن ولم يعرفها من قبل، وأذكر هنا قصة أم الصبي "روى الإمام أبو جعفر بن جرير والحبر أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيرهما من حديث يعقوب بن موسى الزمعي عن قائد مولى عبيد الله بن أبي رافع بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرته أن النبي (r) قال: "لو رحم الله من قوم نوحٍ أحداً لرحم أم الصبي" قال رسول الله (r): "كان نوح (عليه السلام) مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعلها سفينة، ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ قال: سوف تعلمون. فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك. خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي". وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد روى كعب الأحبار ومجاهد ابن جبير قصة هذا الصبي وأمه بنحو من هذا"(16).
لو صحت هذه الرواية في مضمونها فكيف تتمكن هذه المرأة العزلاء من صعود الجبل في جو عاصف ماطر؟ وكيف تمكنت من الثبات على قمة الجبل حتى وصل الماء إلى رقبتها؟ روايات كثيرة من هذا القبيل شوهت حقيقة الطوفان، وجعلته أقرب إلى الأساطير، وترسخت في أذهان عامة الناس، وأصبحت في حكم المسلمات التي لا تدحض ببرهان.
"قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح، كاتب الليث، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن رسول الله (r) قال: (لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه وكيف تطمئن المواشي ومعها الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى فكانت أول حمى نزلت في الأرض، ثم شكوا الفأرة فقالوا الفوسيقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله إلى الأسد، فعطس فخرجت الهرة منه، فتخبأت الفأرة منها"(17)
والرأي الشائع عند عامة الناس عن طوفان نوح هو جماع ما ورد في الأساطير والتوراة وروايات المفسرين والمؤرخين، وبقيت الحقيقة غائبة، وملخص الرأي الشائع:
أولاً: طوفان نوح عمَّ كامل الكرة الأرضية، قبل ستة آلاف سنة تقريباً، فأهلك كل البشر والأحياء البرية، باستثناء ما حمله نوح في السفينة، فالبشر الحاليين هم من سلالة نوح "أبو البشر الثاني".
ثانياً: رست سفينة نوح على جبال آرارات في اعتقاد أهل الكتاب، وعلى الجودي في اعتقاد المسلمين، والموقعان هما في شمال بلاد الرافدين من الناحية الجغرافية. فهل هذا الرأي صحيح؟
الإجابة تقودنا إلى مناقشة الرأي على ضوء الواقع، والاكتشافات الأثرية التي تدل على حدوث الطوفان أم عدم حدوثه.
ذكرت قصة نوح في عدة سور بشيء من التفصيل في الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر وسورة نوح، وتختلف الآيات بالألفاظ بحسب ما تكون الغاية من إيراد الآيات والمراد من معناها، سنكتفي بإيراد ما يفيد هذا البحث عن الطوفان. جاء في سورة نوح:
(إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم(1) قال يا قومِ إني لكم نذير مبين(2) أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون(3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجلٍ مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون(4) قال ربي إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً(5) فلم يزدهم دعائي إلا فراراً(6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً(7) ثم إني دعوتهم جهاراً(8) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً(9) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً(10) يرسل السماء عليكم مدراراً(11) ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً(12) ما لكم لا ترجون لله وقاراً(13) وقد خلقكم أطواراً(14) ألم تروا كيف خلق الله سبع سماواتٍ طباقاً(15) وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً(16) والله أنبتكم من الأرض نباتاً(17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً(18) والله جعل لكم الأرض بساطاً(19) لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً(20) قال نوح ربِّ إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً(21) ومكروا مكراً كباراً(22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودّاً ولا سواعاً ولا يغوثَ ويعوقَ ونسْرا(23) وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً(24) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً(25) وقال نوح ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً(26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً(27) ربِّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً(28)".
نلاحظ من سورة نوح، أن الله اختاره رسولاً لينذر قومه قبل أن يأتيهم العذاب الأليم فيؤدي نوح رسالته، ويبذل كل ما بوسعه لهدايتهم، يقدم لهم الأدلة والبراهين الكونية على وحدانية الله ليتركوا عبادة الآلهة الوثنية، فلم يستجيبوا له، فيطلب نوح من ربه أن لا يذر على الأرض من الكافرين دياراً، ويستجيب الله لدعائه، ونوح عليه السلام في القرآن الكريم كما ذكرنا مرسل من الله بينما في التوراة رجل صالح لم يكلف بالرسالة، فالله في التوراة يقرر هلاك البشرية والحياة على الأرض، بينما في القرآن لا يتخذ الله هذا الموقف إلا بعد إنذارهم وعدم إيمانهم واستكبارهم استكباراً.
وفي سورة هود حوار بين نوح وقومه، يريد هدايتهم ولكنهم في ضلالهم يعمهون فيقص القرآن الكريم: "وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون(36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون(37) ويصنع الفلك وكلما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون(38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلُّ عليه عذاب مقيم(39) حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومَنْ آمن وما آمن معه إلا قليل(40) قال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومُرْساها إنَّ ربي لغفور رحيم(41) وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزلٍ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين(42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين(43) وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين(44) ونادى نوح ربه فقال ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين(45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين(46) قال ربي إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاَّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين(47) قيل يا نوح اهبط بسلامٍ منا وبركات عليك وعلى أممٍ ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منّا عذاب أليم(48).
في الآيات السابقة من سورة هود، تأكيد أن صناعة الفلك كان بأمر من الله ووحي منه، وهذا يتفق مع نص التوراة في المضمون، كما هناك اتفاق بين حمل الأحياء والأزواج، وإن كانت التوراة أكثر تفصيلاً للأصناف، ورست سفينة نوح (التابوت) على جبل آرارات بينما استوت سفينة نوح في القرآن على الجودي، وجبل آرارات يقع حالياً في أرمينيا بينما الجودي شمال العراق.
ولا يتسع المجال لإيراد كافة الآيات التي تناولت رسالة نوح والطوفان، ومن مجملها نخلص إلى الإرشادات التالية:
أولاً: لا يوجد قرار إلهي مسبق بتدمير الحياة على الأرض كما ورد في الأساطير والتوراة.
ثانياً: الرجل الصالح المختار هو نوح، وهو رسول إلى قومه قبل قرار الطوفان، بينما كان اختيار الرجل الصالح في الأساطير بعد قرار الطوفان.
ثالثاً: تفاصيل الحدث غير واردة في القرآن، كما هي مفصلة في التوراة بالأيام والأشهر والأرقام فحجم الفلك في القرآن غير محدد ولكن وصف (بالفلك المشحون) بينما في التوراة وبعض الأساطير ترد أرقام تثير ملابسات عديدة.
رابعاً: لم يفصل القرآن في مدة الطوفان وارتفاع المياه بالأذرع، ولكن وصف أمواج الطوفان كالجبال، كما لم يشر إلى إطلاق الطيور للاستطلاع.
خامساً: حمل نوح في السفينة من كلٍّ زوجين اثنين لاستمرار التناسل، وحمل أهله باستثناء زوجته(11) التي لم تؤمن، وهذا يخالف ما ورد في التوراة وبعض الأساطير.
سادساً: تحدد التوراة أولاد نوح، سام وحام ويافث، ولم يحدد القرآن ذلك ولكن يفهم من آيات مختلفة أن ذريته هم الباقون.
هل الطوفان حقيقة؟
لا مجال لإنكار الطوفان، إذ أجمعت الأساطير والكتب المقدسة على وقوع هذا الحدث الكوني.
واختلاف الدوافع والغايات والنتائج في الروايات المختلفة عن الطوفان، ليس دليلاً على عدم وقوع الطوفان. فأي حدث بهذا الحجم تقادم عليه العهد سيكون عرضة للتأويل والتحريف. وقد فصلت التوراة في قصة الطوفان فلم تترك مجالاً للتأويل، بغض النظر عن مصداقية المواصفات والأرقام التي وردت في السفينة ومدة الطوفان، وهل ذلك ممكن من الناحية العملية؟.
أما القرآن الكريم فقص على محمد (() قصة نوح "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين".
فلم يوضح أين كان نوح، ومن هم قومه؟ متى كان ذلك؟ وكم بقي الطوفان؟ وهل كان عاماً على كامل الأرض؟ واستواء السفينة (الفلك) على الجودي لا يعني بالضرورة المسمى بهذا الاسم حالياً، لذلك كان أمام المفسرين والمؤرخين والمسلمين، مجال واسع للتأويل والاختلاف بما لا يتعارض مع المراد بالبيان الإلهي.
فأخذوا من التوراة، ومن روايات أشخاص لا علم لهم بما سلف، بدليل أن الرسول (() لم يعرف قصة نوح إلا بالوحي فكيف عرف أولئك تفاصيل الأحداث؟
وأذكر على سبيل المثال ما ورد في تفسير ابن كثير عن أبعاد الفلك: "وقال قتادة كان طولها ثلاث مائة ذراع في عرض خمسين ذراع، وعن الحسن طولها ستمائة ذراع، وعرضها ثلاث مائة، وعنه مع ابن عباس طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة، وقيل طولها ألفا ذراع وعرضها مائة ذراع فالله أعلم، وقالوا كلهم كان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع"(12).
وهناك تباين في الآراء حول تخصيص الطوابق الثلاثة لأصناف الأحياء، ففي رواية ابن كثير "الطبقة السفلى للدواب والوحوش، والوسطى للأنس، والعليا للطيور"(13).
وفي رواية ابن الأثير "وجعل نوح الطير في الطبق الأسفل من السفينة، وجعل الوحش في الطبق الأوسط، وركب هو ومن معه من بني آدم في الطبق الأعلى"(14)
وفي رواية اليعقوبي "فصعد هو (يقصد نوح) وولده إلى مغارة الكنز فاحتملوا جسد آدم فوضعوه في وسط البيت الأعلى في السفينة يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من آذار وأدخل الطير في البيت الأوسط وأدخل الدواب والسباع البيت الأسفل وأطبقها حين غابت الشمس"(15).
ويتضح التباين أكثر بالمقارنة التالية:
الطابق السفلي
الطابق الأوسط
الطابق العلوي
1-رواية ابن كثير:
الوحوش
الأنس
الطيور
2-رواية ابن الأثير:
الطيور
الوحوش
الأنس
3- رواية اليعقوبي:
الوحوش
الطيور
الأنس
وقد لجأ المفسرون إلى روايات مختلفة، بعضها نسب إلى الرسول (r)، ولا أظن أن الرسول (r) فصل في القصص حيث أجمل القرآن ولم يعرفها من قبل، وأذكر هنا قصة أم الصبي "روى الإمام أبو جعفر بن جرير والحبر أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيرهما من حديث يعقوب بن موسى الزمعي عن قائد مولى عبيد الله بن أبي رافع بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرته أن النبي (r) قال: "لو رحم الله من قوم نوحٍ أحداً لرحم أم الصبي" قال رسول الله (r): "كان نوح (عليه السلام) مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعلها سفينة، ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ قال: سوف تعلمون. فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك. خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي". وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد روى كعب الأحبار ومجاهد ابن جبير قصة هذا الصبي وأمه بنحو من هذا"(16).
لو صحت هذه الرواية في مضمونها فكيف تتمكن هذه المرأة العزلاء من صعود الجبل في جو عاصف ماطر؟ وكيف تمكنت من الثبات على قمة الجبل حتى وصل الماء إلى رقبتها؟ روايات كثيرة من هذا القبيل شوهت حقيقة الطوفان، وجعلته أقرب إلى الأساطير، وترسخت في أذهان عامة الناس، وأصبحت في حكم المسلمات التي لا تدحض ببرهان.
"قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح، كاتب الليث، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن رسول الله (r) قال: (لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه وكيف تطمئن المواشي ومعها الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى فكانت أول حمى نزلت في الأرض، ثم شكوا الفأرة فقالوا الفوسيقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله إلى الأسد، فعطس فخرجت الهرة منه، فتخبأت الفأرة منها"(17)
والرأي الشائع عند عامة الناس عن طوفان نوح هو جماع ما ورد في الأساطير والتوراة وروايات المفسرين والمؤرخين، وبقيت الحقيقة غائبة، وملخص الرأي الشائع:
أولاً: طوفان نوح عمَّ كامل الكرة الأرضية، قبل ستة آلاف سنة تقريباً، فأهلك كل البشر والأحياء البرية، باستثناء ما حمله نوح في السفينة، فالبشر الحاليين هم من سلالة نوح "أبو البشر الثاني".
ثانياً: رست سفينة نوح على جبال آرارات في اعتقاد أهل الكتاب، وعلى الجودي في اعتقاد المسلمين، والموقعان هما في شمال بلاد الرافدين من الناحية الجغرافية. فهل هذا الرأي صحيح؟
الإجابة تقودنا إلى مناقشة الرأي على ضوء الواقع، والاكتشافات الأثرية التي تدل على حدوث الطوفان أم عدم حدوثه.
تعليق