ولما كان الملاحدةُ من أعظمِ الناسِ جهلاً، وأكثرِ الناسِ في الاضطرابِ عقلاً، كان من تمامِ ذلك: أن حججَهم - كلَّها - التي يستندون إليها لتقريرِ ساقطِ كلامِهم، وفاسدِ مرامِهم ,من أضعفِ الحججِ وأدناها، بحيث لا تقفُ أمامَ وجهِ الحقِّ وسلطانِه، بل غايتُها السقوطُ والاضمحلالُ، بعونِ الملكِ المتعالِ.
فإن جئنا لمسألةِ الأمورِ الغيبية:
نجدُ أن اللهَ تعالى قد فصّلَ بعضاً منها في كتابه، وذكرَ شيئاً منها نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فقد جمع اللهُ تعالى في القرآن الكريمِ مع وجازةِ كلِمِه، وإحكامِ نَظمِه، وقواعدِ عِلمِه، وتناسُبِ آياتِه، والتئامِ كلماتِه: أضعافَ ما في الكتب السابقةِ من الحِكمِ والمواعظِ والآياتِ، وذكر بعضَ المغيّباتِ مع أنه معجزةٌ واحدةٌ تحتوي على أُلوفِ المعجزات، وفيه من المغيّباتِ ما أخبر تعالى بوقوعِه فوقع كما أخبر، وفيه من المغيّباتِ ما استأثرَ اللهُ تعالى بعلمِه، فلا يَطَّلعُ عليه أحدٌ من خلقِه، فسبحان الله العلي القدير.
فمما هو غيبٌ عنا:
حقيقةُ كيفية ذات اللهِ تعالى وصفاتِه، فنحن نعلمُها من حيث ما أخبرنا به سبحانه وتعالى كإخبارِه عن نفسِه تعالى أنه عليمٌ حكيمٌ خبير، متكلم، سميعٌ بصير، استوى على عرشِه بعد خلْقِ السمواتِ والأرضِ كما أخبرَ جل وعلا، فهذا كلُّه نؤمنُ به كما جاء ونفهمُه من حيث المحكمِ، وهو إخبارُه عن ذلك بكلامٍ عربيٍّ مفهومٍ لا شيَةَ فيه،
ونؤمن بمتشابِهِه: وهو إستئثارُه تعالى بحقيقةِ وكُنْهِ هذه الصفاتِ، فالرحمةُ من المخلوق ليست هي الرحمةُ من الخالقِ جلَّ وعلا، وإن كان المعنى مفهوماً من جهة لفظ "الرحمة"، ولكن علم كيفيةِ ذلك مما اختص اللهُ تعالى به ومما استأثر بعلمه,
وهكذا في سائرِ الصفات، فبَايَنَ الخالقُ المخلوقَ في صفاتِه، فكان هذا من الغيبِ المجهولِ الذي عَلِمنا ذِكرَه وخبرَه بالخبر الصادقِ عنه، وهو ما جاء في مُحكمِ كتابِه جلَّ وعلا أو في سنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فآمنا بمحكمِه وكففنا الكلامَ عن متشابِهه، فهذا غايةُ التمامِ في دين الإسلام.
-يُتبع-
تعليق